تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : الطلقة الثانية .... عندما تموت الملائكة ..!!!



صابرين الصباغ
16-01-2006, 04:16 PM
الطلقة الثانية

أعود للبيت ..
تقابلني أمي .. تفتح لي جعبة أذنيها ؛ لأملأها بما سمعت - رأيت بيومي الأول .
تبتسم وهي تسمع ما شاهدتُ - أنام ، أهيم بعبق الطفولة الذي شممته هناك مع الزائر الجديد ، الذى قابلته في أول هبوط له بممر الدنيا ..
في الصباح ..
أدخل لأرتدي المعطف الأبيض ، الذي عشت عمري كله أحلم بإرتدائه ، كم كنتُ أجمع نسيجه خيطاً - خيطاً ، كل سنة دراسية تمنحني جزءً منه ، حتى وصلت للثانوية العامة ، تلك الطامة الكبرى ، ليست عنق الزجاجة ، بل عنق ثعبان ، ابتلع كل طموحاتي ..
ألقى في أحد المعاهد ، كما قالت أمى ( شهادة والسلام ) ستتزوجين ولن تحتاجيها ، كأن العمر - قطار مجنون - والأيام – محطات يتيمة - لا يقف فيها قطاري بالكاد ؛ أعرف ملامحها وأذكرها ..
أستلم ورقة ، أعلقها على جدران بطالتي ، أنتظر أن تتغير فصولي ، أتنقل من عمل إلى عمل ، راتب بالكاد يفي بعض مطالبي ، أعطي أمي بعضه تنفقه على دنيانا البخيلة ..
كنتُ أعمل بمحل لتأجير أفلام الفيديو ، أجلس طوال اليوم ، يدخل زبون يأخذ ما يريد ، يعقبه زبون آخر ، وهكذا ..
بين الوقت والآخر ، أقرأ عناوين الأفلام ، أحلم وأنا أرى الممثلات الجميلات ، أحلق عالياً لأسقط على صوت أحدهم يناديني ..
- مرحبا ..
- أريد أحدث فيلماً رومانسياً ، أو فيلم رعب ، أو فيلم ..
- فيلم عن ماذا ..؟
- أفلام ، ألا تفهمين ..؟ فيلم من نوع آخر ، تعملين هنا منذ مدة ..؟
- كم راتبكِ ..؟
اندهشتُ من سؤاله ، خجلتُ أن أخبره ، فصَمتْ ، ضحك ، يذبح صمتي بقهقهاته القاسية ، أخبرني أنه يمتلك شركة استيراد وتصدير ، يرغب في أن أعمل لديه ، سيجزل لي العطاء ..
انتهى اليوم .. أحمل فرحتي وهي سعيدة ، أهرع إلى البيت لألقيها في حِجْر أمي ، تتلقفها تنفض من حِجرها حزنها ، وهمها من عبء الحياة ..
- صباح الخير دكتور حسين ..
- صباح الخير ..أنت سميه ..؟ لم أقابلكِ أمس ، كان أول يوم لكِ بالمستشفى ، هل أخبروكِ عن نوع العمل هنا ..؟
- ممرضة ..
يضحك وهو يفتح فاهه ، أرعبني موت بعض أعضائه ، أتشاح الباقي منهم بالسواد ، قال : لا .. التي تعمل عندي بالمستشفى ، تعمل كل شيء ، علامات الإندهاش تكسو وجهي كجلده ..!! كل شيء ، ممرضة ، إدارية ، عاملة ، غسالة ، طباخة ، تنظف آبار ، تُصلح صنابير ، كل شيء - كل شيء ، إذهبي الآن للدور الرابع ، هناك يعملن البنات ساعديهن ..
قلت في نفسي لعله يمزح ..
صعدتُ للدور الرابع ، هذه أول مرة أبرح الدور الأرضي ، مررت بالأدوار .. لا صوت – لا ضجيج - سوى موسيقى ناعمة هادئة تنساب عبر سماعات بالأركان ..
سرت كفراشة أحلق على صوت الموسيقى ..
يسقطني من تحليقي رائحة غريبة بالدور الثالث ، سددت أنفي لكن يد الرائحة كانت تجذب يدي لأشمها عنوة ..!!
أسرعتُ في الصعود ، حتى لا تلحق بي تلك الرائحة ، تستعمر حواسي ..
الدور الرابع .. تقيأ محتويات غرفه ، ضوضاء ، أسرة ، دواليب ، وسائد ، مراتب ، بقايا أدوات طبية هنا وهناك ، أسمع ضحكات تناديني لأدخل صوب الصوت..
- صباح الخير ..
- أنتِ الممرضة الجديدة ..؟
- نعم ..
ضحكن ، يغمزن لبعضهن ، لم أعرهن اهتماماً ، حتى يدركن أن ما يفعلنه لا يؤثر فيَّ ..
يخلعن الثياب البيضاء ، يرتدين ثياباً ملوثة ملونة ،كأنهن عمال طلاء ..
- ماذا تفعلن ..؟
- رددن ألم يخبركِ دكتور حسين عن طبيعة العمل هنا ..؟
- وما الذي يجبركن على تحمل هذا ..؟
- نفس الذي أتى بكِ إلينا ..؟ دعكِ مما تقولين ، تعالي لتساعدينا ..
خَلعتْ الحاجة الغلاف الأبيض ، الذي عشتُ أحلم به ، قذفته بعيداً ، بدأت أساعدهن في لصق ورق الحائط ، تذكرت صورة شهادتي ألصقت فوقها الورق ، زدت صمغ حزني وكآبتي ..
ضاعت دهشتي ؛ هن يلصقن ورق ابتاسماتهن فوق حوائط وجهى ..!!
عدتُ لمنزلي ، أخفي عن أمي صديقاتى اللاتي أتين معي للبيت ، رغماً عني ..
استطعتُ ببعض المهارة ، ألا أجعل أمي ترَهُنَّ ، نهضتُ في الصباح ، زال عني همهما أستعدت بعض قوتي..
ذهبتُ حيث الشقاء ، لم نكمل عملنا أمس ، استبدل ثيابي ، قلت :..
الحمد لله .. فما رأيت هنا أفضل مما رأيته في نصف ساعة ، كانت ستستنفد قوة عمري كله ..
- ها هو العنوان لا تنسي ، شركة رشيد للإستيراد و التصدير ، سأنتظرك يوم الخميس مساءاً ، لا تتأخري ..
أحمل العنوان ..كأنه قارب نجاةٍ نراه أنا وعائلتي من بعيد ، ونحن يضربنا موج الحاجة - العوز ، ننادي على رُبانه أن ينتشلنا من الغرق ، أخيراً سمعنا ، أتى لينقذنا..
أحتضن العنوان ، أرجو الأسبوع أن يُسرع بإرسال أحد أبنائه الذي أنتظره بشوق ..
يأتي هادئاً كليلة صيف ، برغم شتاء انتظاري القارس ..
أرتدي أجمل ما عندي ، أذهب للموعد المنتظر ..
- مرحباً .. سميه ..
- أراكِ تأخرتِ ..
- كلا جئت منذ برهة ، كنتُ أبدل ثيابي ، لا ترتدي البالطو فالدور الرابع ينتظرنا ، كم أكره العمل بهذه المستشفى لكن ( المحتاجة غناقة )..
نصعد لنكمل ورق الحائط ، وبعدما انتهينا منه ، هممت بالإنصراف قالت إحداهن : ..
- إلى أين ..؟
- ألم ننتهي ..؟
ضَحكتْ بصراخ ، نعم ، لكننا لم ننتهي من تنظيف الغرفة ، سنمسح الأرضيات ، غداً ندهن النوافذ بالطلاء ، تصرخ أعضائى من التعب ، تنهار أمامي على أحد الكراسي ، لم أستطع إيقاظها ، الجميع يضحك ..
أجمع أعضائي المتفرقة داخل كيس جسدي ، أعود للبيت منهكة الكرامة ، مبعثرة الكبرياء ، تخيلت أن عملي كممرضة سيفي ببعض أحلامي القتيلة ..
تراني أمي ، تسرع إليَّ لتحمل جسدي الذي سيتفكك ، إلي قطع متناثرة ، تضعني على فراشي ، وهى تصرخ ..
- ما بكِ ..؟
- لاشيء .. العمل ..
- أيُ عمل ..؟ ما الذي تفعلينه هناك ليفعل بكِ هذا ..؟
تُصِرُ على أني ، لن أذهب إلى العمل مرة أخرى ، أناشدها ، إنى سعيدة ..
لكنها ترى حالتي ترفض ، أصر على العمل ، توافق أن أعود للمستشفى ..
يموت قلبي الأخضر ، وهو يُغلف بورق حائط غامض – متوحش ، يمنعه من أن يتنفس ، تتغير ملامح الدنيا بعيني ، لتكون مرعبة جبارة ، لا كما رأيتها بعين شبابي ، كأننا خُلقنا لنشقى ، وخُلق غيرنا ليستعذب شقائنا .....

محمد الدسوقي
16-01-2006, 06:43 PM
صابرين المصابرة

كم جميلة ورائعة تلك التعابير والأستعارات ،، ممتعة ..!

أما عن هذا الشقاء ، وتلك المعاناه فهي تصنع من الإنساء كل مقومات البقاء .
من المرّ ...نتذوق الحلو ، ومن الجهاد.... فرحة النصر ، ومن الحاجة ... نتلذذ بالوفرة ...ومن العلم نحصد المعرفة .

مرحلة تمر على كل منا .....ولا ضير ، أنها تقوي وتحطم أغلال القهر .

بلغ الحسن في ذلك الجزء مرحلة .

تقبلي أجمل المنى ,,.

( المحتاجة غناجة )

قد شارف حبري على النفاذ .

لك الريادة ولنا الدعاء

سحر الليالي
16-01-2006, 09:57 PM
صابرين الصباغ :

عذرا ...

فالصمت في محراب الجمال جمال

لك خالص إعجابي وحبي

دمت رائعة

الصباح الخالدي
17-01-2006, 06:22 AM
رقية الدسوقي تلاحقني
صابرين انت مبدعة في التصوير انتقل معك الى حيث تصفين
انسى ماحولي فجاة اجدني في غير ما كنت اقرأ
كلماتك ممزوجة بالسحر
شكرا لك

صابرين الصباغ
17-01-2006, 02:59 PM
صابرين المصابرة

كم جميلة ورائعة تلك التعابير والأستعارات ،، ممتعة ..!

أما عن هذا الشقاء ، وتلك المعاناه فهي تصنع من الإنساء كل مقومات البقاء .
من المرّ ...نتذوق الحلو ، ومن الجهاد.... فرحة النصر ، ومن الحاجة ... نتلذذ بالوفرة ...ومن العلم نحصد المعرفة .

مرحلة تمر على كل منا .....ولا ضير ، أنها تقوي وتحطم أغلال القهر .

بلغ الحسن في ذلك الجزء مرحلة .

تقبلي أجمل المنى ,,.

( المحتاجة غناجة )

قد شارف حبري على النفاذ .

لك الريادة ولنا الدعاء

الكفاح يلاحق الجميع

فالأنسان خلق في كبد

محمد تشتاق صفحاتي لحرفك الزاهي

دمت مبدعا في ردودك الجميلة

صابرين الصباغ
17-01-2006, 03:00 PM
صابرين الصباغ :

عذرا ...

فالصمت في محراب الجمال جمال

لك خالص إعجابي وحبي

دمت رائعة

ساحرة دوما

بثورتك وبهدوئك الجميل

دمت رحيقا حبيبتي الساحرة

معاذ الديري
19-01-2006, 10:50 PM
تصوير دقيق لمعاناة الملايين ..
تحية كبيرة لهذا الاحتراف .

محمد عسران
20-01-2006, 05:18 PM
صابرين الصباغ

اسم لا ينسى فى قاموس

الأدب والشعراء

سلمت اناملك الرقيقة

والساحرة على ما تكتبين

محمد

براءة الجودي
06-06-2013, 07:49 PM
نعم هناك أناس بلا ضمائر يستعذبون شقاء غيرهم ويستغلون فقرهم فيزيدون عنائهم بالإهانة في العمل
قصة جدا رائعة

ربيحة الرفاعي
27-06-2013, 10:54 PM
واقعية في الفكرة وبراعة في التصوير وضعت ملامح للمعاناة الإنسانية على طاولة التشريح القصّي بقلم إبداعي متمكن

دمت مبدعتنا بألق

تحاياي

آمال المصري
18-07-2013, 07:02 AM
كأننا خُلقنا لنشقى ، وخُلق غيرنا ليستعذب شقائنا

بل لكل شقاء على قدر تحمله يأتيه
من أروع ماقرأت اليوم أديبتنا الفاضلة
قد نقلت لنا بأسلوب فاخر ونص متين البيان والبنيان صورة من واقع يعتاشه الكثير
بوركت واليراع
وكل عام وأنت للرحمن أقرب
تحاياي

ناديه محمد الجابي
18-07-2013, 02:10 PM
ما أجمل تعابيرك وصورك وسردك أيتها الأديبة الرائعة المتمكنة
أرهقتني تلك الصغيرة بكم المعاناة التي تعيشها , وبكم الألم والوجع
الذي ينقله لنا واقعية قلمك الفذ.
بوركت ـ وبورك هذا القلم النازف أبداعا
وكم أتمنى أن تعودي لتمتعينا بأدبك من جديد.