المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : برق في خريف



د. حسين علي محمد
02-02-2006, 07:15 AM
برق في خريف

قصة قصيرة، بقلم: د. حسين علي محمد
.................................................. .......

عندما رآها مصادفةً على مدخل محطة مصر، رجعت إلى ذاكرته ثلاثون سنةً من الوجْدِ والانتظار. صاح في قلبه توق قديم إلى وجهها الأبيض الجميل الذي لم يُغيره الزمن:
ـ نادية حمدي؟! .. غير معقول!
أشرقت في عينيها ذكرى قديمة، أن تُخرج له مسرحيته الفصيحة «الثائر» في «بيت القاضي» بين الدور الأثرية المُغلقة، بعد تجاربها في إخراج مسرحيات أخرى بالعامية لنعمان عاشور، وسعد الدين وهبة.
صاح في ملامح صوتها حب قديم:‏
ـ محمود عماد؟!!
ما اضطربت ابنةُ الثالثة والخمسين، وهي تقول في جرأة حسدت نفسها عليها:‏
ـ ظللتُ أنتظرك عشرة أعوام .. فلماذا تأخرت عشرين سنة؟!‏
قال ابن الخامسة والخمسين في هدوء:
ـ بل افترقنا ثلاثين!
تقدّمت إلى شباك التذاكر ـ دون أن تسأله عن مقصده ـ وحجزت تذكرتين للإسكندرية!
.. وعندما لاذت به، وتلاشت المسافة بينهما، وجلسا بجوار بعضهما في القطار المتجه إلى الإسكندرية، كان يريد أن يصيح:‏
ـ غبتُ عنكِ ثلاثين سنة .. لأن المسرحية الفصيحة ـ التي لم تخرجيها أبداً ـ ضاعت مني في سيارة أجرة ..
ـ ياه!‏ .. أين؟
.. وبلع ريقه:
ـ في بور سعيد، حينما زرتُها في بداية الانفتاح السعيد!
أخلت للحيرة مكانا في ملامحها، فأضاف ضاحكاً:
ـ لعلي كنتُ أريد أن أُغيِّر نهاية مسرحية «الثائر» التي لم تعجبك.
.. لكن صوتها انبعث فجأة:
ـ ما كان يجب أن تبتعد عني .. انتظرتُك حتى مللتُ الانتظار!
تلاشت ملامح السعادة في وجهه، وترقرقت في عينيها دمعتان!‏
وقال كأنه يحدث نفسه:
ـ أضاعت مني بور سعيد «الثائر» إلى الأبد!!
***‏
أخرجتْ ديوان شعر.
أخذت تقرأ قصيدة حزينة بصوت تمثيلي يبهره كما كان قديماً!
تيقن أنها هي .. نادية حمدي!‏!
لم تشرق الشمس منذ الصباح.
أضاء برق مفاجئ ـ تكرر عدة مرات ـ الظلمة التي اكتنفت عربات القطار ساعة الغروب!
استرق نظرة إليها، ما بالها لم تشخ؟!
أخذ قلبه يدق، كما كان يدق كلما تذكّرها..‏
أغمض عينيه، وتذكر رحلاتهما في قاهرة أواخر الستينيّات وأوائل السبعينيّات، من حدائق الدرّاسة إلى حدائق الأورمان، ذكرياتهما السعيدة في حديقة الحيوان، رحلاتهما للمسارح في مساءات القاهرة المضاءة بلون أزرق عقب هزيمة يونيو الحزين، مظاهرات الطلبة في نهايات عبد الناصر وبدايات السادات، فرحتهما بانتصارات أكتوبر و«سينا يا سينا باسم الله .. باسم الله»، مشاركتهما في انتفاضة الخبز (التي كان يسميها السادات انتفاضة الحرامية)، أغاني الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم، الشاي الأخضر، الحسين، .. المطار: يودعها وهي مسافرة إلى فرنسا في ندوة عن التجريب المسرحي، وهي تُداعبه في إلقاء تمثيلي فاردة ذراعيْها:
لكني مهما كنتُ أُحبك أعشقُ فني أكثرَ منكْ
فوداعاً يا ثغراً مهما افترّ لغيري ..
يذكرُ قبلاتي .. أو يتلو شعري
وسأسألُ نجمَ الغربةِ عنكْ
وسأسألُ ريحَ المرفأ عنكْ!
وهو يكملُ:
حتى إن عُدتِ وجدْتِ شبابكَ في صدْري( )
الأتوبيس النهري، والسياحة الفقيرة ـ كما كانت تُسميها ـ إلى الأهرام، ومكتبة جامعة القاهرة، ومشاغبات الشحاذين لهما وهما يصعدان القلعة، وفرحتهما بليلة الرؤية، وليالي رمضان، وزياراتهما المتكررة لسور الأزبكية للتقليب في الكتب القديمة.
ها هو قد وجدها، ولن يدعها تُفلت منه!
...‏
غاب في عناق الماضي الذي كان وتذكُّر تفاصيله الصغيرة ..‏
أغمض عينيْه ..
.. حين وقف القطار في محطة الرمل..
أغلقت «نادية حمدي» ديوان الشعر .. وضعته في حنو ـ كأنه طفل صغير ـ في حقيبتها، وكانت فتاتان دون العشرين على الرصيف في انتظارها.
عانقت الفتاتين.
قالت في همس لمحمود عماد:
ـ ابنتاي سما .. ورنا ..
وابتعدن.
أشار لسيارة أجرة ..
ووجد نفسه ـ ثانيةً ـ وحيداً في شقته الواسعة!.‏.

الرياض 7/9/2002م

عادل العاني
02-02-2006, 09:02 AM
الأخ د. حسين محمد علي

قرأتها وتصور أنني تخيلت نفسي في ذلك القطار ,
أجلس قبالتهما وأنظر إليهما عصفورين يتناغيان ,
وهما يستذكران عمراً , ثلاثين سنة , ضاعت منهما ,

ما تحمله القصة من معانٍ كبير جدا ,
واستعراض لتاريخ مصر وما ضاع وما تبقى ,
وكنت رائعا في سبك الصور ومداخلتها مع الأحداث السياسية.

تقبل خالص تحياتي وتقديري

صابرين الصباغ
02-02-2006, 09:08 AM
مرحبا د/ حسين

بعد رحيل الشباب

يدفن هناك في قبور الذكريات

بخيرها وشرها

بحبها وبغضها

لكنها تبقى هادئة احيانا

صارخة دوما

رحلت معك في خريف حروفك

رأيت برقك الأبيض

وقد ضرب برق ذكرياتي

كل مساحاتي

دمت مبدعا أخي

ملحوظة .........

لأني سكندرية .........

فلا قطار يقف في محطة الرمل

لك كل التحايا العطرة

د. حسين علي محمد
02-02-2006, 12:32 PM
شكراً للأستاذ عادل العاني على تعقيبه..

د. حسين علي محمد
02-02-2006, 12:33 PM
شكراً للأستاذة صابرين الصباغ على تصحيحها، مع التحية والود.

عبلة محمد زقزوق
02-02-2006, 02:58 PM
ربما كنت ظلهما الذي رافقهما طوال تلك الرحلة ، وأسفت لفراقهما .

قصة ممتعة الحوار والسرد .

فهكذا نحن عندما نلتقي فنكون للفراق أسرع وكأننا وأياه دوماً على موعد .


http://pic.alfrasha.com/data/media/18/215.jpg

خالص الشكر لجميل اللقاء وأسف الفراق

د . حسين علي محمد

سحر الليالي
02-02-2006, 03:27 PM
سيدي د.حسين علي عماد:

قصة رائعة ....بحق جميلة

سلم قلمك وبإنتظار روائعك دوما

لك خالص تقديري مع باقة ورد

د. حسين علي محمد
02-02-2006, 03:56 PM
شكراً للأستاذة الأديبة عبلة محمد زقزوق التي تغمرني ـ دائماً ـ بفضلها، مع تحياتي وودي.

د. حسين علي محمد
02-02-2006, 04:05 PM
.. وشكراً للأديبة سحر الليالي على تعليقها الجميل.

سعيد أبو نعسة
07-02-2006, 07:45 PM
الأخ العزيز د حسين علي محمد
رغم واقعية القصة و تسميتها الأشياء بأسمائها فإن دلالاتها السياسية المختبئة بين السطور أعمق و لا تخفى على ذي لبّ .
ذكّرتني بالقاهرة الحبيبة وبأوائل السبعينات يوم كنت أدرس في إحدى جامعاتها و بالقطار المجري الذي أقلّني إلى الإسكندرية و من سرعته الجنونية لم أستطع تمييز ملامح الطريق .
هذا ما ننادي به دوما لتكن القصة عابقة بالمعاني و الأفكار و الإحالات ولنبتعد بها عن الرمزية المغرقة في الضبابية لأنها في النهاية تكتب من أجل المتعة و لذة المعرفة وليست من أجل فك الطلاسم و الأحاجي .
ملاحظة مكانية : لم أشاهد في أوائل السبعينات حدائق في الدرّاسة فهل أنا مصيب ؟
دمت في خير و عطاء

حسنية تدركيت
07-02-2006, 09:18 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لقد تابعتها وتمنيت لو انها لم ترحل..
رائعة..

د. حسين علي محمد
09-02-2006, 03:10 PM
شكراً للأديبة ندى الصبار على اعليقها اللطيف.

محمد عصام
09-02-2006, 03:19 PM
أخى د / حسين . . يعجز لسانى عن شكرك يا غالى فكل الذين علقوا على قصتك لا أدرى ماذا اكون انا بجانبهم واعلم انهم معلمين, ومعلمين غاليين وحبيبين وأحييك وأشجعك على قصصك سلم قلمك وانا والواحة بانتظار كتابات قلمك وشكرا لك وفقك الله دائما نودمت بصحة وسلامة.

د. حسين علي محمد
10-02-2006, 11:33 AM
شكراً للأديب الدكتور محمد عصام، مع مودتي وتقديري.

د. حسين علي محمد
20-03-2006, 10:10 AM
هذه واحدة من القصص التي تلامس فينا هم الكتابة وهم السياسة وهم الحب وينجح دائما دكتور حسين في بناء نص محكم مثل هذا النص ليأخذنا إلى عالمه هذا العالم الذي نجد لأنفسنا فيه دوراً وموضعا لقدم،
شكرا للدكتور حسين علي محمد.

مجدي محمود جعفر.

أسماء حرمة الله
20-03-2006, 08:19 PM
سلام اللـه عليك ورحمته وبركاته

تحيـة تقطرُ عطراً وورداً

أديبـنا د. علي حسين محمد،

فارقتُ زمني ومكاني وأنا أرشفُ قصتكَ رشفاً، وأنا أرتحلُ مع كل حدثٍ فيها، حتى صرتُ بكوكبٍ آخرَ غير الأرض..بزمانٍ كانا فيه معاً، يتنزّهانِ في الذاكرة وبين الأحلام والآمال، ويوقّعان في كتابِ القادم الأجمـل..
وكأنّني كنتُ قُربَهما، أستمعُ إلـى شدوهما الحزين وعتابهما الرقيق، وإلى لحنِ ذكرياتهما وهو يُعزَفُ شوقاً وحنيناً..
حتّى الأحداث التاريخية التي مرّت بها مصر الشقيقة، كانتْ هي الأخرى مشاطِرةً للعاشقيْنِ ذكرياتهما وأزمنتهما الراحلـة أيضا..

رائـعةٌ بِحـقّ..
سعدتُ بالقراءة لك كما أسعدُ دوماً..

دمتَ لنا
تقبّل خالصَ تقديري واعتزازي :0014:
وألف باقة من الورد والمطر

د. حسين علي محمد
20-03-2006, 08:46 PM
شكراً للأديبة الأستاذة أسماء حرمة الله على هذا التعليق الجميل،
مع موداتي.