المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ربـــــــــــــــــــــاب



د. حسين علي محمد
14-02-2006, 04:23 AM
رباب

قصة قصيرة، بقلم: د. حسين علي محمد
..........................................

(1)
قطعةُ السكرِ التي تذوبُ سريعاً ـ ولا تترك بعدها إلا الحرقة والمرارة ـ تجربةٌ أولى تُشعلُ الجمرَ في ذاكرةِ المؤرَّقِ بغيابٍ وعذاباتٍ:
أنا العشرينيُّ وربابُ أبناءُ قريةٍ نائيةٍ واحدةٍ.
يدثِّرُنا الفقرُ بعباءتهِ المثقوبة، ويُغطينا الحلمُ بخيمتِه المزركشة الفضفاضة.
هانحن في بداية العام الثالث من دراستنا الجامعية في كلية الهندسة.
نلتقي بين حين وآخر..
نقطعُ جسْر الفقْر بتشابكاتِ الأصابعِ.
ونحلمُ ببناء مساكن آدمية بعد أن تختفي عشوائيات «عُلب الصفيح» التي خرجنا منها!
حاولْتُ أن أحذرَ نفسي من أطرافَها المسكونةَ بالحبِّ والعذابِ والتمرُّدِ الجميل، أوْ أتجنبها؛ لكنها أقنعتْني أن الليْلَ للحلم، ولأطيافِ البحْرِ وعرائسِهِ المسكونة بالترقبِ لطفولةٍ ثانية، وبدايةٍ جديدةٍ، نحن ـ وأبناء جيلنا ـ قادرون على صناعتها.
أتذكَّرُ الدقائقَ الفارة، وهي تلفظ الأنفاسَ.
وحدي ورباب ـ هل قلتُ عبلةَ؟ ـ في كتب التاريخِ، والشعر، والعشق!
لم تمنعنا الدراسةُ العلمية من أن نكون فارسيْن مُبحريْن في قراءة الشعر والفلسفة والحلم بالغد الجميل.
صرختْ ذات مرة، وكنّا واقفيْن في محطة مصر ننتظر القطار الذي سيحملنا إلى الزقازيق في نهاية أسبوع:
ـ رباب .. لا تناسب مساكن علب الصفيح!
ضحكتُ:
ـ اقترحي اسماً آخر.
قالت وعيناها تبرقان بوميض غريب:
ـ عبلة!
ضحكتُ من كلِّ قلبي، وأنا أردد مستغرباً:
ـ عبلة؟!!
ـ أجل!
قلتُ مبتسماً:
ـ امسحي إذن عبد الستار.
وهي تجاريني:
ـ بم أناديك؟
ـ عنترة!
...
نجترحُ الحلمَ، ونصنعُ سفائنه!
في كتبِ هذا الليلِ أستنطقُ تذكارات طفولتي، والسكرُ في الفمِ النّائمِ، وأمي تحكي لي ما فعله السلطان فيمن اقتحم خلوة حريمه!
قلتُ وأنا أعاني من زحامِ الحافلة:
ـ مسي جبهتي بيسارك، التي بجانبي.
ـ .. أنت محموم!
(2)
أفقتُ من نوْمٍ طويلٍ في عيادةِ طبيبٍ جارٍ لنا، لأكتشف موتَ رباب، بعد أن ضربتْنا سيارةٌ مجنونة، ونحنُ نسيرُ مُتشابكي الأيدي في ظهيرةٍ يومٍ صائفٍ مجنون.
قالت أمي في ثبات أحسدها عليه:
ـ رباب ماتتْ .. لمْ تتحمّل الصدمة.
صرخْتُ:
ـ ربابُ لم تمتْ!
هلْ كانتْ أمك تُحبها أم تكرهها؟
سؤال لا يؤرقك!
لكن الذي سيؤرقك طويلاً .. هو غياب رباب!
(3)
في حكاياتي المُقبلة، سأتكئ على التاريخ، لأثبتَ أن الفقير يُمكنه أن يُقابل السلطان، ويقول له ما لا يُحب سماعه؟
فعنترةُ يحتوي عبلة في أضلعه!
وعبدُ الستار ماتَ يوم أن ماتتْ رباب!
...
رأيتُ فيما يرى النائم أنهم قادوني إلى سراي النيابة: قلتُ لهم إن هذا النص .. (الذي أكتبه عن تجليات فمِ المُغنِّيةِ رباب وعجائب شدوه) أكثرُ منْ معجزةٍ، لأنه يجعل القرية النائيةَ المُغَيَّبةَ تولد من جديد، فوقَ الكراسي العالية، التي لا يصلُ إليها أحد! وأن الأولاد الحفاةُ العراةُ يُمكنهم أن يكونوا اللاعب الأول ـ الذي يملك كل أوراق اللعبة! ـ في منطقة المساجلة!
ـ ماذا تعرف عن رباب؟
ـ شاعرة من قريتي!
ـ ماذا تحفظ من أشعارها؟
ـ أحفظها، وأعرف خرائطها، لكني لا أحفظ أشعارها.
ـ أغانيها مسجلة عندنا، فلماذا تنفي معرفتك بأغانيها؟
ـ لماذا تسألونني إذن؟
ـ إنها تُهاجم الجميع في أغانٍ ثوريةٍ بذيئة.
ـ إنها تُغني للحياة وللمستقبل .. ولم أسمعها تُهاجمْ أحداً.
ـ من الذي قتلها؟
ـ لم يقتلها أحد .. لأن الجميع يحبها .. حتى الأشجار والعصافير.
(4)
سأخبركم ـ بلا فخرٍ!! ـ أنني أحكم الطوق حول رقاب الذين يريدون غياب رباب!
ولن أجعل الحمى تدخل بيتي، أو الوهم يخترقُ جدرانَ حبي للجميلة، ولنْ يحتويَها الغيابُ!
رغم الثقل الذي أشعر به في جسدي وفي أطرافي!
...
وإذا كان الفجر مظلماً في الدروبِ
فبإمكان غنائها أن يضيء طرقاتكم!
ولا مانع ـ في فعلِ الغناءِ الجميلِ ـ من أن يجعل الفيلم الصامتَ فصيحاً، مُفجِّراً طاقاتِ شعوركمْ، محققاً أمانيكم ومكبوتَ ضمائركم!
ألا يكفيكم أن تروْا بسمة رباب؟!!
ألا يكفيكم أن تسمعوا غناءَ رباب؟!!
(5)
فتحتُ الكراسةَ التي أكتبُ فيها خواطري فصرخت أمي:
ـ هل مازلت تقرأ شعر رباب؟! ..
أجبتُ ضاحكاً:
ـ ربابُ لا تكتبُ شعراً .. هذا شعري.
وقرأت:
ربـاب
يا من تقفين في آخر الطريق، وتُنادين
ـ لست وحدك هناك أيتها الحبيبة القديمةُ!
...
أنا أوقن أن بجانبي ألف نخلة
ترتفع فوق وجع السنين الطويلة!
وتناجيني من خلال حزنها
لغيابك
...
الشطآن المراوغة تتراجع تحت قدميَّ
وألف وردة تشتعلُ نارها في شراييني
فالرباب ما مات لحنها!
...
(قلَّبتُ صفحات الكراسة، وفزعت أمي:
ـ كأنه لا يكتب إلا لها!.
(6)
تلك الحياةُ الصامتةُ.
تلك البهجةُ المكبوتةُ في عيونكم.
لا تنبئُ عن حبِّ رباب!
أخبرتني أختي الصغيرةُ (سُها ) أنها رأتها في شاشة الأخبار ـ قبلَ عرضِ الفيلم، وكانتْ واقفةً مع فارسٍ، لا يُشبهُ أحداً من الناس!
كأنَّه رجلٌ سماوي.
وأن النخاس أخذ يقلبها، ويُعري أطرافاً من ثوبها!
و...
لا تُكملي فريتَكَ يا سُها، فلن أُصدِّقكَ!
فربابُ ..
لا تُباعُ ـ أو تُعرضُ ـ في سوقٍ للرقيق،
فلماذا .. أيُّها المتقولون .. تتربصون بسيدةِ نصوصي التي تقولون عنها إنها ماتتْ غيلةً؟
وأنا ..؟
لا أبصرُ القضبان
حول خطواتي،.
أو في رحابةِ أفقي،
أو عائقةً عنْ قدومِ فجري بعودة «رباب»؟!!

ديرب نجم 26/8/2003م

د. محمد حسن السمان
14-02-2006, 07:55 AM
سلام الـلـه عليكم
الاخ الحبيب الغالي الاديب الرائع
الدكتور حسين علي محمد

لا اعرف لماذا اجدني مشدودا دون وعي مني لاكتب لك ,
هذه هي المرة الاولى التي اقرأ فيها قصة او قطعة ادبية بمثل
هذه القوة , جمالا وفكرا وادوات ادبية .

وساكتب دوما بفخر , انني قرأت ذات يوم اعمالا , للاديب
الكبير الدكتور حسين علي محمد .

تقبل محبتي واعجابي الكبيرين بك ايها الاديب الكبير .

اخوكم
السمان

د. حسين علي محمد
14-02-2006, 02:07 PM
شكراً للأديب الدكتور محمد حسن السمان على هذا الإطراء الذي لا أستحقه.
تحياتي وموداتي لنبل خلقك.

سحر الليالي
14-02-2006, 07:03 PM
أستاذي الفاضل د.حسين :

قصة رائعة !!

إعذرني أستاذي فالصمت في حرم الجمال جمال

تقبل خالص إحترامي وتقديري

د. حسين علي محمد
15-02-2006, 01:37 PM
شكراً للأستاذة الأديبة سحر الليالي على تعليقها الجميل.

د. حسين علي محمد
30-10-2006, 05:15 PM
أخي الرائع ألمتني بهذه القصة اغتيال روحين
لأنه عندما يحب شخص ما فروحة وروح حبيبة تندمجان
وعندما يموت أحد ما تموت روحين
أنحني أجلالا وأحتراما لروعة نصك أدهشتني
بارك الله فيك وفي قلمك سلمت همسات حرفك الدافئة
تقبل احترامي وتقديري .........تحيتي
عالمة المستقبل.
منتديات أنهار
الرابط:
http://anhaar.com/vb/showthread.php?p=94468#post94468

د. حسين علي محمد
30-10-2006, 05:22 PM
قراءة في قصة "رباب"

بقلم: أ.د. خليل أبو ذياب
..............................

في قصة "رباب" يطرح القاص الدكتور حسين علي محمد مبدأ التحول السياسي الذي يمارسه البطل ودوافع ذلك التحول .. ويستطيع القارئ أن يلاحظ تحولا أساسيا في موقف الشخصيتين: "رباب / عبلة ، وعبد الستار / عنترة "؛ حيث بدأ الموقف ينجلي أو يتحول من خلال التمرد على الواقع الذي ألفته رباب / عبلة لا يناسبها عندما قالت لصاحبها عبد الستار: رباب لا تناسب مساكن علب الصفيح"! ويبدو أن هذه العبارة كانت تشي بشيء كثير من الرفض والتمرد والنقد لأجهزة الدولة، وإن لم يفصح القاص ولا عبد الستار عن هذا الأمر الذي فهمناه من جريمة قتل رباب تحت عجلات سيارة مجنونة إن لم تكن الصدفة وحدها وراء هذه المأساة .. ومهما يكن فقد انتهت حياة رباب ووضعت تلك السيارة حدا لطموحاتها، وخلفت عبد الستار / عنترة وحيدا يصارع الواقع محاولا التمرد عليه .. وقد تمخض عن غياب رباب موقفان متشابهان إلى حد ما بالنسبة لتأثيره على شخصية البطل: أحدهما موقف الأم التي كانت تنتظر اكتمال فرحتها بزواج ابنها من الحبيبة المنتظرة التي دمرتها السيارة المجنونة .. ثم ما أصاب هذا الموقف من تغير هائل بعد موت الحبيبة؛ فقد هالها ما آلت إليه حال ابنها الذي لم يستطع نسيان الحبيبة التي غيبها الموت، وظل يتواصل معها نفسيا وشعوريا مما أزعج الأم وأقلقها فانقلب شعور الحب القديم الذي كانت تكنه لرباب إلى ضرب من الكراهية؛ وهذا ما طفح على لسان عبد الستار وهو يتساءل: "هل كانت أمك تحبها أم تكرهها؟ "والجواب المباشر أنها كانت تحبها قبل مصرعها، ثم صارت تكرهها بعد ذلك لما وجدت من حال ابنها واستمرار حبه لها وتعلقه بها وتغلغلها في تلافيف نفسه وعدم ظهور بوادر لنسيانها والتحول عنها إلى أخرى مما ينذر بتحطّم آمال الأم في فرحتها بابنها .. وهذا ما جعلها تصرخ في وجهه عندما رأته يقرأ في الكراسة التي كان يكتب فيها خواطره ظنا منها أنه يقرأ شعر رباب: هل ما زلت تقرأ شعر رباب؟ ومع أنها صدقته في اعترافه بأنه كان يقرأ من شعره هو لأن رباب لم تكن تكتب الشعر، إلا أنها لم تخف موقفها الرافض لتلك العلاقة الغريبة المنعقدة بينه وبينها خاة بعد موتها، وفاهت بعبارة تطفح لوما وتبكيتا له على ذلك: كأنه لا يكتب إلا لها!".
أما الموقف الآخر فهو موقف السلطة المترصدة له والرافضة لما آل إليه بعد مصرع رباب حيث أخذ يمارس منهج الرفض والتمرد ، ويعلن حرصه الدائم على تعرية السلطة وكشف مساوئها والتنبيه على مفاسدها غير عابئ بما يمكن أن ينزل به من عقاب أو عذاب لا يطاق حتى لو بلغ حد التصفية الجسدية .. ومع أن البدايات المبكرة أو الأولى للقصة إلى حين مصرع رباب لا توحي بهذا التغيّر ولا تشي بهذا التحول الجذري في موقف البطل خصوصا وأنه لم يكشف عن شيء من الأسباب التي يمكن أن توحي بذلك أي إيحاء ـ إذا ما تجاوزنا اتهام السيارة بجريمة قتل رباب وتصفيتها برغم سكوت البطل عن كشف شيء من الدوافع وراء هذه الجريمة ـ مما يجعلنا معاشر القراء والمتلقين نلوذ بالصمت ونتوقع احتمالات كثيرة ممكنة .. المهم، ابتدأت مرحلة الرفض والتمرد على السلطة في موقف البطل منذ أن أفاق من غيبوبة الصدمة التي أصابته من السيارة وعلم بموت رباب، أو قل تغييبها وتصفيتها جسديا حتى لو كان ذلك عن طريق الاختفاء وراء الحلم حيث يقول: "رأيت فيما يرى النائم" وما تبع ذلك من تحقيق النيابة معه ... إلخ
وهكذا بدأ التحول في مسار القصة أو قل في موقف البطل مع الخطوات الأولى للتحقيق معه حول نص كتبه عنها مؤكدا أهميته لما يدعو إليه ويحققه من تغيير جذري في سلم السلطة من خلال الدور الذي يمكن أن تلعبه القرية النائية المغيبة والأولاد العراة الحفاة الذين كان يعوّل عليهم كثيرا في هذه الأمور باعتبارهم "اللاعب الأول الذي يملك كل أوراق اللعبة في منطقة المساجلة"!
وتتواصل مسيرة الحلم معلنا رفضه اتهامات السلطة لرباب بأنها تهاجم الجميع في أغان ثورية بذيئة مؤكدا أنها إنما تغني للحياة وللمستقبل، ولم يسمعها تهاجم أحدا " .. بل إنه ينفي أن يكون مصرعها مقصودا لانتفاء الدوافع لذلك "حيث يحبها الجميع حتى الأشجار والعصافير"! وواضح أن البطل هنا يحاول أن يطمس الحقيقة ويغالط الواقع ويتناسى موقف السلطة منها ورفضها أغانيها الثورية واتهامها بالتمرد والرفض للسلطة .. وكل ذلك من أوضح الدوافع والمبررات لتصفيتها جسديا وتغييبها .. وكأن البطل يريد أن يتسامى على دوافع السلطة وجبروتها وقدرتها على تصفية أعدائها وخصومها مؤكدا عجزها عن كل ذلك ..
ويتواصل حب البطل للجميلة المغيبة مكرسا آثارها البالغة في الجميع لأنها تنطق عن مكنونات ضمائرهم ، وتجسد آمالهم وأحلامهم .. كذلك يتواصل حبه لها من خلال رفض مختلف الشائعات التي أخذت تلاحقها حتى بعد تغييبها، كما يجسد ذلك رفضه ادعاءات أخته "سهى" من أنها كانت تُعرَض قي سوق الرقيق!!
هكذا صارت "رباب" سيدة نصوص البطل القاص الشاعر مكررا رفضه لادعاءات الآخرين موتها غيلة، واتهاماتهم لها مؤكدا عودتها الوشيكة، وبزوغ فجرها الآتي لتحقق أحلامه وأمنياته بالتغيير إلى الأفضل!