تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : شخصيات مصرية .. أسرت النبوغ



محمد جاد الزغبي
19-02-2006, 10:37 AM
الشخصيات المصرية والنوابغ التى أخرجتها مصر .. أكثر من أن تحصي .. وأكبر من أن تقدرها الرواية ..
فعلى مدى العصور السالفة .. نبغ بمصر عشرات العلماء والأدباء والسياسيين والمفكرين والكتاب .. حتى فى مجال الأمن .. خرجت منها أساطير حفرت سجلا من ذهب فى ميادين القتال .. فى الحروب الساخنة .. والباردة على حد سواء ..
وان كنت سأكتب عن بعض هذه الشخصيات اليوم ..
فليس هذا حصرا لهم .. فكما سبق القول هم أكثر من ذلك ..
وليس هذا برد لما بسطوه من أعمالهم .. فهم أكبر من هذا أيضا ..
هم بعض الشخصيات ذات الأثر غير العادى على مصر والبلاد العربية بل والعالم أجمعه ..
وفيما أعتزمه من طرح لهذه الشخصيات سأقوم بالتركيز على الشخصيات المغماه بالرغم من رسالتها نحو أوطانها .. والشخصيات الشهيرة التى يدرك مجال نبوغها القلائل ..
تلك الشخصيات التى اكتسبت الشهرة غير أن رسالتها لم تكتسب ذات الشهرة لبعد مجال الادراك عن العامة ..
وأتمنى أن تغفروا مسبقا أى تقصير تلمحونه فى هذه الدراسة التى أكتبها لكم كخاطرة وحديث سامر فى ليالى الأدب ..

الشخصية الأولى
عملاق الصحافة العربية " محمد حسنين هيكل "

يعد محمد حسنين هيكل من أنبغ عمالقة الصحافة والسياسة على مستوى العالم ..
فقد اكتسب مكانته الى جوار الرواد فى مجال الصحافة والتحليل السياسي
وكتاباته تعد المرجع الرئيسي لطلاب الخفايا فى السياسة والتاريخ السياسى ..
ومظاهر نبوغه لا تؤذن بحصر أبدا ..
فهو الصحفي والسياسي الوحيد الذى عايش أزمات العالم الكبري عبر القرن الماضي وكتب عنها من خلال نافذة الرؤية التى توفرت له ..

حتى فى كتاباته التحليلية التى يتناول فيها أحد الجوانب التاريخية البعيدة عن حضوره .. فهو يعوض عدم المعايشة والمعاصرة بالجسد الى معايشة بالفكر والوثائق..
ومن المشهور عنه أنه كنز الأسرار الذى لا ينضب أبدا ..
فما ان يشرع فى التصدى لحادثة ما .. يقضي قرابة العام أو أكثر فى التنقل والسفر والبحث ومقابلة الحضور لهذا الحدث .. ويجمع عبر شبكة علاقاته المهولة كل الأدلة والوثائق والشهود مستعينا فى ذلك بصداقاته المتعددة لنجوم العالم فى السياسة والأدب والفكر ..
ثم يبدأ فى الكتابة والتحليل لما تحت يده من معلومات غزيرة ..
ولذلك فقد عرف عنه عالميا .. أنه الكاتب الوحيد الذى لا تستطيع الطعن فى حقيقة الوقائع والأحداث لما يضمنه فى كتاباته من وثائق وشهادات
غير أنه يمكن الاختلاف معه فى زاوية الرؤية والتحليل


البداية

كانت بداية الكاتب والسياسي الكبير محمد حسنين هيكل فى قريته البسيطة بالريف المصري مع مكتبة ذاخرة متوارثة جيلا بعد جيل من الأجداد الى الأحفاد ..
وبدافع النبوغ المبكر طرقها الطفل الصغير ليبدأ رحلته مع الثقافة والفكر ..
وعندما شب الطفل وبلغ أوائل العشرينات من عمره .. انطلق الى القاهرة حيث الأضواء والأحداث مع نهاية أربعينيات القرن الماضي ..
وفى جريدة " الاجيبشيان جازيت " الناطقة بالانجليزية فى القطر المصري بدأ عمله الصحفي متدربا على يد رئيس تحريرها هو بعض الصحفيين المصريين والعرب ليصبح كل منهما علم فى مجاله فيما بعد ..
وفى ميدان المراسلة الحربية انطلق هيكل بحماس الشباب الوافر .. ولغة وأسلوب بارع يحلل وينقد الأوضاع الساخنة فى بؤر الأزمات المشتعل فى ذلك الوقت فى جميع أنحاء العالم ..
ومع بدء حركات التحرر فى العالم العربي .. وصعود نجوم جدد لساحة العمل السياسي واشتعال الصراع بين الاخوان المسلمين والملك فى مصر وأزمة حزب الوفد مع القصر .. ونشأة حركة الضباط الأحرار فى الجيش المصري العائد من رحى حرب فلسطين وحريق القاهرة ..
كل هذا الزخم فى الأحداث .. وبدافع القدر وحده وجد هيكل نفسه فى قلب الأحداث مشاركا لا مشاهدا ..
وتوثقت علاقاته بالضابط المصري زعيم تنظيم الأحرار البكباشي " المقدم " جمال عبد الناصر حسين " ورفاقه أنور السادات وعبد الحكيم عامر وغيرهم ..
ولم تمض على علاقته بعبد الناصر أكثر من عام .. الا وكانت مصر على موعد مع انقلاب يوليو 1952 الذى تحول فيما بعد الى مسمى الثورة ..
ونقطة علاقته بعبد الناصر كانت نقطة فاصلة فى حياة الصحفي الناشئ الذى انتقل من الجازيت الى آخر ساعة واحتك بمؤسسها الكبير محمد التابعى .. حيث قامت علاقته بعبد الناصر على الاحترام والاعجاب المتبادل ..
وانتقل هيكل الى مؤسسة أخبار اليوم .. بعد أن انتقلت ملكية آخر ساعة من محمد التابعى الى الأخوين مصطفي وعلى أمين .. ولم يكن عمر هيكل فى ذلك الوقت أكثر من ثلاثة وعشرين عاما عندما أصبح رئيسا لتحرير آخر ساعة .. وواصل قلمه الصعود حتى تمكن عبد الناصر فى أحداث عام 1954 م .. من اقصاء محمد نجيب عن السلطة ليتولى الحكم رئيسا للجمهورية ..
وهنا كانت النقلة والنقطة التالية من النقاط الفرقة فى حياة هيكل

فى جوارالسلطة

عندما تولى جمال عبد الناصر سلطة الحكم فى مصر كانت علاقته بهيكل قد اكتسبت عرى الصداقة والثقة التى لا تنفصم .. فكان صديقا ومستشارا لعبد الناصر .. وكان أحد نجوم معركة السويس التى تفجرت فيها قنبلة التأميم ..
وفى ذلك الوقت كانت أخبار اليوم كمؤسسة صحفية كبري قد اكتسبت معظم نجوم الجيل من الصحفيين وعلى رأسهم هيكل .. والى جوارها كانت الأهرام أعرق المؤسسات الصحفية فى حالة أشبه بالاحتضار على النحو الذى دفع أصحابها اللبنايين من ورثة " آل تقلا " الى اللجوء لهيكل طمعا فى موافقته على الانتقال للاهرام واقالتها من عثرتها .. ونظرا للعلاقة الحميمة التى كانت بين هيكل وبين أصحاب أخبار اليوم مصطفي وعلى أمين رفض هيكل الانتقال تماما .. وشيئا فشيئا استجاب للضغوط وقرر الانتقال للأهرام .. غير أن الخبر تسرب الى آل أمين الذين ضيقوا الخناق على هيكل وفى وسط جلسة عاطفية شديدة عاد هيكل لرفض طلب الأهرام ..
الا أن هيكل وبعد عام من هذه الواقعة وتحت تأثير المتغيرات قبل العرض القديم وانتقل فى سرية تامة الى الأهرام ولم يعرف أحد بشئ عن الخبر الا بعد أن أصبح هيكل رئيسا لتحرير الأهرام بالفعل ..
وتمضي السنوات .. وتتألق الأهرام فى ثوبها الجديد .. ثم يصدر عبد الناصر قانون تنظيم الصحافة والذى أمم به الصحف وانتقلت ملكيتها نهائيا الى الدولة فى صدمة فكرية للجميع قبل أن تكون مادية مع ما يعنيه القانون بخضوع الصحافة لمكتب الرقيب التابع للدولة مما يعنى قطعا بزوال حرية النقد والرأى ..
وعارض هيكل القانون واحتج لدى صديقه عبد الناصر .. غير أن عبد الناصر نفذ القانون بوعد شخصي منه لهيكل ألا يعتبر القانون حجر عثرة فى طريق حرية الرأى .. وهو ما لم يحدث للأسف ..!!
ولم تكن تلك الواقعة آخر المفاجآت .. حيث لم يمض الوقت الكثير حتى تفجرت قضية أثارت الزوابع فى الوسط الصحفي على مستوى العالم العربي ..
فقد ألقت المخابرات العامة المصرية القبض على مصطفي أمين صديق هيكل ورئيس تحرير أخبار اليوم متلبسا بالتجسس على مصر لحساب المخارات المركزية الأمريكية عن طريق ضبطه بنقل المعلومات أثناء جلوسه فى فيلته بضاحية المعمورة بالاسكندرية الى رجل المخابرات الأمريكية " بروس تايلور أوديل "
ولما كان عبد الناصر يدرك عمق العلاقة بين هيكل وبين مصطفي أمين بعث اليه قبل القبض على الأخير وطلب اليه التوجه الى مدير مكتبه سامى شرف فهناك أشياء يحب أن يطلعه عليها .. ثم أشار لهيكل وقال " بعد أن تطالع ما هو موجود تعال الى فورا "
وتعجب هيكل جدا .. غير أنه هرع الى مكتب سامى شرف والذى دعاه للجلوس فى احدى الحجرات الملحقة بمكتبه .. وعندما جلس هيكل أتى له سامى شرف بملف بالغ الضخامة قرابة الألف صفحة وعددا من أشرطة التسجيل وطلب اليه مطالعة محتواها ..
وقضي هيكل الليلة كاملة يطالع ويستمع وكادت الصدمة تودى بعقله .. غير أنه عاد لعبد الناصر مدمرا نفسيا فطلب اليه عبد الناصر تولى مسؤلية دار أخبار اليوم مع الأهرام ..
ولأن القصة ليس هذا مكانها .. فلن أغرق فى التفاصيل ومن يرغب فى الاستزادة عليه بمطالعة انكار مصطفي أمين ودفاعه عن نفسه فى كتبه سنة أولى سجن وسنه تانية سجن .. ومطالعة دفاع هيكل عن نفسه وبيانه الحقيقة كاملة بالمستندات فى حياة أصحابها حتى يكفل لهم حق الرد وذلك فى كتابه القنبلة " بين الصحافة والسياسة " والذى صدر عام 1985م .. ليكتم مصطفي أمين لسانه .. وكان هيكل يتوقع منه رفع قضية رد شرف أو قضية سب وقذف الا أنه لم يفعل ..

سنوات الغضب

وتأتى سنوات الغضب فى حياة الصحفي الكبير بعد أحداث 1967م وما أعقبها من وفاة عبد الناصر وظهور مطامع خلفائه فى الحكم وهم مراكز القوى كما أطلق عليهم أنور السادات وهم

سامى شرف وزير شئون رياسة الجمهورية
الفريق محمد فوزى وزير الحربية
اللواء شعراوى جمعه وزير الداخلية
على صبري رئيس اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكى
محمد فائق وزير الاعلام

بمعنى أن مراكز القوى كانت تملك سلطة البلاد ومؤسساتها الكبري ولم يكن السادات يمتلك شيئا الا وجود محمد حسنين هيكل الى جواره .. وتأمل هيكل الوضع وقام باعداد الخطة لمواجهة الموقف العصيب .. وشيئا فشيئا بدأت الخطة باستمالة اللواء الليثي ناصف قائد الحرس الجمهورى .. والفريق محمد صادق رئيس الأركان بالقوات المسلحة .. وقامت الخطة على أساس متين وهو مقولة هيكل " يجب أن يكون الأمر أمام الشعب صراعا على الديمقراطية لا صراعا على السلطة "
ونجحت الخطة الى أبعد مدى وتم القاء القبض على مراكز القوى جميعا لينجح السادات فى الصعود لسدة الحكم على أكتاف هيكل
واستمرت العلاقة بين الاثنين على أحسن ما يكون وكان هيكل مستشار السادات الأمين وأحد القلائل والندرة الذين عرفوا بموعد حرب أكتوبر وشاركوا فى رسم خطته الاستراتيجية والاعلامية ..
ولم يدر بخلد هيكل قبل الحرب أن السادات كأول رئيس سياسي بالمفهوم الصحيح لمصر قد رسم لنفسه خطا مختلفا تمام الاختلاف عن سلفه .. وظهرت بوضوح بعد أكتوبر التى منحت السادات الثقة فبدأ الحركة فى اتجاه هدم صورة عبد الناصر وانتهاج الخط الأمريكى دون علم مستشاره وصديقه هيكل ..
وفوجئ هيكل بالأمر .. ورأى الهجوم الضارى والفضائح الأمنية والمهازل العسكرية التى حدثت أيام عبد الناصر كلها تظهر فى حملة شبه منظمة من المستحيل أن تتم دون سماح مسبق من السلطة فى دولة بوليسية ..
وقبل أن يفكر هيكل فى الرد .. فوجئ أيضا بقرار نقله من وظيفته كرئيس لمؤسسة وتحرير الأهرام .. لينتقل وفقا للقرار الجمهورى المفاجئ الى قصر عابدين مستشارا سياسيا لرئيس الجمهورية على درجة نائب رئيس وزراء ..
وكان رفض هيكل قاطعا ..

ومع القرار الغبي الذى اتخذه السادات بمنع هيكل من الكتابة بمصر .. أعلن هيكل رفضه على صفحات جريدة " الصنداى تايمز " البريطانية قائلا

" ان الرئيس السادات يستطيع أن يقول لى اخرج من الأهرام .. لكنه لا يستطيع أن يقول لى أين أذهب بعد ذلك .. هو اختار لى القصر الجمهورى .. وأنا اخترت بيتى وكتبي "

واتسعت الهوة بمراحل مع استمرار سياسة السادات فى قلب المائدة على رأس عبد الناصر وسياسته الخارجية اللصيقة بالولايات المتحدة .. ليعتكف هيكل ويتفرغ لكتبه التى كانت تنشر خارج مصر وتمنع من التداول فى وطنه ..
وبلغت الأزمة ذروتها مع قرارات سبتمبر 1981م والتى قام السادات باعتقال حوالى 2100 شخصية من كبار الشخصيات السياسية والدينية فى مصر وكان على رأسهم هيكل .. ومن ضمنهم عبد القادر حاتم رئيس الحكومة السابق والبابا شنوده وشيخ الأزهر وغيرهم
ووضح للجميع أن السادات قد غلبته عصبيته وتخلى عنه ذكاؤه اللامحدود ويكفيه فى ذلك اعتقال هيكل وحده .. مخزن الأسرار وقنبلة الأفكار ..
ومع اغتيال السادات .. كان أول قرار لرئيس الجمهورية الجديد حسنى مبارك قرار افراجه عن المعتقلين فى حوادث سبتمبر واستقبل صفوة شخصياتهم فى القصر الجمهورى ..
وبعد سنوات أربع .. تم رفع الحظر عن هيكل لتصدر كتبه فى مصر ويبدأ فى الرد على الهجوم الكاسح الذى استمر لعشر سنوات تقريبا بتحريض من السادات وقيادة الأخوين أمين بعد أن تم الافراج عن مصطفي أمين افراجا صحيا ضمن قرار الافراج عن العديد من جواسيس اسرائيل وأمريكا !!
وقد تعمد السادات الافراج عن مصطفي أمين بهذا الشكل حتى لا جرؤ على رفع عينه كما قال لهيكل قبيل قرار الافراج ..
وكانت أولى ضربات هيكل الصاعقة .. ضربته للسادات .. والتى صارت مثلا مشهودا لقوة ناب هيكل ومدى فداحة خطأ السادات باستعدائه
وهذا ما سأتناوله معكم فى رحلة الكتابة لهيكل

رحلة الكتابة

الكتابة عند هيكل فن راق .. وانجازات فكرية لا تقدر بثمن أبدا .. وله فلسفته الخاصة جدا فى الرواية التاريخية والسياسية ..
فهو العملاق الذى اذا تناول موضوعا ما .. لا يجرؤ غيره على الكتابة فى ذات الموضوع لما عرف عن هيكل من قدرات خارقة فى البحث والتقصي بالشكل الذى لا يدع مجالا لغيره فى الحديث
وكما سبق القول ..
من الممكن أن نختلف مع هيكل فى التحليل والرؤية لحدث معين .. لكننا لا نستطيع التشكيك مطلقا فى صحة الحدث ذاته ..
ولذلك فلا عجب أن هيكل بكنوزه التى يمتلئ بها عقله وذاكرته من وقائع الأحداث وأطنان الوثائق السرية التى لا تتوافر لجهاز مخابرات كامل .. لا عجب اذا أنه تبوأ مكانة كبري بين رواد السياسيين والمفكرين على مستوى العالم أجمع ..
ومن المعروف أن محمد حسنين هيكل يكتب مؤلفه بالانجليزية للطبعة الدولية وتتولى نشر أعماله أكبر دار نشر فى العالم وهى دار " هابر كولينز " بالولايات المتحدة الأمريكية .. والتى تملك حق توزيع كتبه بكل لغات العالم ..
وقبل عام 1982 م ..
كان هيكل يكتفي بكتابة المؤلف بطبعته الانجليزية ثم تصدر الطبعات فى دول العالم بلغات مختلفة مترجمة على يد متخصصين .. بما فى ذلك الطبعة العربية
الا أنه مع مقدم عام 1982 م وشروع هيكل فى كتابة قنبلته " خريف الغضب " ذلك الكتاب الذى تناول فيه قصة أحداث العصر فى مصر ونيران الغضب التى صاحبت عصر السادات للرد على هذا الأخير ,
توقف هيكل كثيرا أمام اسناد الترجمة لغيره خاصة للعربية .. فالموضوع الذى يتناوله الكتاب حساس للغاية وبالتالى اتخذ قراره بترجمة الكتاب الى طبعته العربية بنفسه وهو المنهج الذى اتخذه بعد ذلك فى جميع اصداراته بعد خريف الغضب

عيون كتاباته

كتابات هيكل متنوعة وبالغة الثراء بين المقالات والبحوث والكتب الا أننا سنتوقف عند عيون هذه الكتب التى تعد بحق التراث التاريخى السياسي للوطن العربي والشرق الأوسط مثل

(1) كتاب " ايران فوق بركان "

وهو الكتاب الذى صدر عقب ثورة محمد مصدق رئيس الوزراء الايرانى الذى اتخذ قرار تأميم صناعة البترول فى ايران لضرب الولايات المتحدة وكيفية فشل ثورة مصدق بعد تدخل الولايات المتحدة مباشرة لحماية رضا بهلوى رجلها الأثير فى المنطقة ..

(2) كتاب " مدافع آية الله "

وهو الكتاب الذى عالج ثورة الخمينى الناجحة فى ايران عام 1979 م وهو كتاب رهيب تعرض للتفاصيل الدقيقة فى الثورة التى قادها الامام الشيعى " آية الله الخمينى " من باريس ونجح فى الاطاحة بحكم الشاه محمد رضا بهلوى واعلان الدولة الشيعية فى ايران وهى الوقائع التى تمثل تحليلا دقيقا لدوافع الثورة وكيفية نجاحها من المهجر .. والأهم من ذلك أنه يوضح بالاستدلات المنطقية كيف أن الدول العربية لا يمكن أن تسمح تركيبتها السياسية بمثل نجاح ثورة مماثلة لثورة الخمينى

(3) رباعية "حرب الثلاثين سنة "

وهى المراجع الأربعة التى تتناول تاريخ المنطقة العربية سياسيا فى الفترة من نهاية الحرب العالمية الثانية حتى حرب أكتوبر .. حيث صدر الجزء الأول تحت عنوان " ملفات السويس " ويتناول فيه هيكل قصة حرب 1956م وتأميم قناة السويس مع التعرض للقلاقل السياسية التى ضربت الامبراطورية البريطانية اثر انسحاب " ونستون تشرشل " من الحكم بعد الحاح من رجال حزبه ليصعد لمقعد رياسة الحكومة " أنتونى ايدن " الذى كان يشغل منصب وزير الخارجية وهو رئيس الوزراء البريطانى الذى تحالف مع " جى موليه " رئيس الحكومة الفرنسية " و" دافيد بن جوريون " رئيس الحكومة الاسرائيلة ليخرج الى النور عدوان الثلاثي الغاشم فى حرب السويس .. أما الجزء الثانى والثالث وهما على التوالى كتاب " سنوات الغليان " وكتاب " الانفجار " فهما اللذان تناولا قصة حرب 1967م وفيهما من الحقائق والوثائق ما هو كفيل بقتل روح التفاؤل فى جميع شعوب الدول العربية مع المهازل التى كانت تحدث باسم العروبة أما الجزء الرابع والأخير فهو كتاب " السلاح والسياسة " والذى تناول فيه قصة حرب أكتوبر كاملة .. مع ضرورة الأخذ فى الاعتبار أن كتاب الانفجار الذى انتهى عند حدوث واقعة النكسة 1967م لم يرو شيئا عن فترة الاستنزاف .. والجزء الرابع بدأ فعليا من يوم السادس من أكتوبر مباشرة ولم يكن هذا قصورا من هيكل بل منع تكرار لأنه تناول قصة حرب الاستنزاف واعادة بناء الجيش فى كتاب منفرد صدر عام 1975م بعنوان " الطريق الى رمضان "

(4)ثلاثية المفاوضات السرية بين العرب واسرائيل

وقد صدرت فى التسعينيات فى ثلاثة أجزاء الجزء الأول منها تحت عنوان " الأسطورة والامبراطورية والدولة اليهودية " يتناول فيها الفكرة الأساسية التى قامت عليها اسرائيل ومن صاحب الفكرة الأولى فى اختيار فلسطين موضعا لدولة اليهود ويكشف هيكل هنا معلومة غائبة عن الكثير وهى أن الفكرة بدأ بالفعل على يد نابليون بونابرت .. وليس كما هو معروف أن وعد بلفور هو البانى الحقيقي لفكرة الدولة اليهودية اذ أن وعد بلفور وزير الخارجية البريطانى فى حكومة الحرب العالمية الأولى كان هو اللبنة الأخيرة فى فكرة الدولة اليهودية
والجزء الثانى من الثلاثية العملاقة صدر تحت عنوان " عواصف الحرب وعواصف السلام " وفيه يعالج الفترة الحرجة من الخمسينيات الى منتصف السبعينيات وكيفية الرفض العربي لمبدأ التفاوض ثم كيفية التورط فى التفاوض بعد ذلك مضمنا كتابه حقائق الحكام العرب وأدوارهم التى لعبوها وفى أذهانهم مصالحهم الشخصية حتى ولو كانت على حساب العروبة التى تغنوا بها ليلا ونهارا .. ثم الجزء الثالث بعنوان " سلام الأوهام " والتى يتعرض فيها للفترة من الثمانينيات حتى منتصف التسعينيات ووقائع اتفاقية سلام الأوهام فى أوسلو وما كان فيها ومنها من كوارث تسبب فيها من كانوا مناضلين بالأمس وتحولوا الى أداة لابتلاع الأموال والمناصب فحسب

(5) كتاب " حرب الخليج "

والذى يتعرض فيها لحرب الخليج الثانية التى انفجرت عقب دخول الجيش العراقي الى الكويت .. تحث فيها عن تاريخ المنطقة الخليجية وتاريخ حكامها وقبائلها بالتفصيل الفاضح فى بعض الأحيان وعلى الرغم من وجوزد أكثرهم على قيد الحياة وقت صدور الكتاب الا أنه وكالعادة مع هيكل لم يجرؤ أحد على اعتراض طريق الكتاب أو التشكيك فيه خاصة مع كشفه لطبيعة الفخ الأمريكى للعراقوالذى ابتلعه صدام حسين ليقوم بمغامرته الحمقاء

(6) كتاب " العروش والجيوش "

وهى عبارة عن يوميات حرب فلسطين عام 1948 م .. وأنصح كل من يعانى من ضغط الدم المرتفع ألا يلقي نظرة واحدة على الكتاب ففيه من البلايا ما يملأ الأرض فضاء وسماء بالحسرة .. عندما يكشف هيكل يوميات الحرب وفخ الجيش العربي الذى وقع فيه بتعمد كامل من قادة لم يكونوا على مستوى القيادة بل على مستوى القوادة

(7) كتاب " الامبراطورية الأمريكية والحرب على العراق "

وأحذر من هذا الكتاب نفس التحذير الذى ألقيته على الكتاب السابق ففيه التفاصيل الكاملة لحرب العراق الأخيرة ودوافعها الخفية ودور الحكومات العربية فى المساعدة حينا .. وفى الاستسلام للامبراطورية الأمريكية فى أحيان أخرى

هذا ببساطة وايجاز .. سرد غير مفصل عن عملاق العروبة محمد حسنين هيكل ذلك الذى تجاوز حدود النبوغ الى التفرد ..


والى اللقاء مع الشخصية القادمة

خليل حلاوجي
19-02-2006, 11:53 AM
من قبل ان اقرأ ماسطرته شاكرا"ايها الحبيب
اقول
لاشك ان عملاق الصحافة هيكل له المرتبة العلية في مجال عمله
ولاشك أنه يمتلك ذاكرة عجيبة
ولكنها ذاكرة رجل صحافي وليس باحث او مفكر
وانت تعلم الفرق بين الاثنين
انا اعتمد على بعض مايورده كوثيقة ولكني لاأؤمن بان كل مايورده صحيح

التوثيق الحقيقي عندي أستقيه من مراكز البحث الاستراتيجي بعد ان اقارن ماآخذه من معلومة عند مراكز اخرى غير حكومية
كمركز الاهرام
ومركز بن خلدون

\
سأقرأ ماكتبت ايها الاخ المكرم
وسأعقب أن شاء الله
تباعا"


دمت للمحبة وللعلم ولنا

العربي
19-02-2006, 01:41 PM
إني أثمن جهدك في إخراج صفحة ناصعة البياض لبعض المصريين مما يدور حولهم لغط واسع ليس في الشارع المصري فحسب بل في الشارع العربي ككل

بخصوص هذا الرجل - أي هيكل - لا أستطيع أن أدلي برأي جازم حوله لأن علامات الاستفهام كثيرة جدا !!!

بل لعل أكثرها ريبة تلك العلاقات المزعومة له مع جهات أجنبية ( غير بريئة ) الذي حرص دوما على نفي هذه الاتهامات...
المضحك في هذا الرجل حقا انه كفر بعبدالناصر وتبرأ منه الآن على برنامجه في قناة الجزيرة وكلنا يعلم أن مذابح و( مسالخ) الإخوان في عهد عبدالناصر كانت تحت مسمعه وهو وزير في ذلك الوقت

بعيدا عن هيكل يا صديق .... اعتقد أن كثيرا من هذه الشخصيات التي تصمها بالنبوغ ...شيدت نبوغها على حساب خلق الله ...

مثل البرادعي الذي يتفاخر بجائزة نوبل التي استلمها بعد أن وقع على الفاتورة ... والفاتورة كما تعلم أنت ( الفوسفور الأبيض والقنابل العنقودية ) التي يضرب بها العراق تحت مسمع الأخ البرادعي في حين لم ينبس ببنت شفة حول مفاعل ديمونة الاسرائيلي !!

اقترح - لو سمحت لي - أن نفرد جانبا من النقاش حول كل شخصية ممن تختارها أنت لعلنا نسلط الضوء على بقع مظلمة لا يراها كثيرون ....

محمد جاد الزغبي
20-02-2006, 01:25 AM
فهد المخابرات الأسمر " محمد نسيم "

هذه الشخصية الفريدة .. اللواء محمد نسيم .. وكيل المخابرات العامة الأسبق بمصر .. ووكيل أول وزارة السياحة المصرية فى نهاية الثمانينات
هذا الرجل الأسطورة المجهول دورا وعظمة لدى الكثرة الغالبة من أبناء مصر .. مصر التى فداها وذاد عن حياضها كأكمل ما يكون الجهاد ..
رحمه الله من فارس .. ورحمه الله من عقلية جبارة ..

من هو .. ؟!!

هو أحد ضباط الجيش المصري الذين انضموا لتنظيم الضباط الأحرار .. وشارك ضمن الصف الثانى من رجال الثورة ..
ومع بدء التفكير فى انشاء جهاز مخابرات مصري فى أوائل عام 1954م .. قام الرئيس المصري جمال عبد الناصر بتكليف أحد رجال الثورة وهو فتحى الديب بتولى هذا الأمر فنشأت لجنة تابعة للجيش تقوم بأعمال التجسس والتخابر .. ثم تطور الأمر مع ازياد الحاجة الى جهاز مخابرات محترف على نفس النسق العالمى الذى ظهر فى الحرب العالمية الثانية .. والذى كانت لأجهزة المخابرات الفضل الأول ان لم يكن الوحيد فى انهائها لصالح الحلفاء ..
أسند الرئيس جمال عبد الناصر الأمر اى زكريا محيي الدين وعلى صبري .. ليخرج الى الوجود جهاز المخابرات المصري .. ولكنه ولأنه جهاز ما زال يبحث عن هوية الاحتراف .. لذا تكلف انشاؤه من الجهد والوقت ما يفوق التصور فى وسط أجهزة معادية عملاقة كالموساد الذى تأسس قبل اعلان دولة اسرائيل أساسا وكان رجاله وضباطه من المحترفين الذين خاضوا غمار الحرب العالمية الثانية واكتسبوا الخبرة الطاغية التى افتقد اليها المصريون ..
لكن .. ولأن المقاتل المصري بطبعه كاره للهزيمة والاستسلام ولا يعرف معنى المستحيل .. تمكن الرعيل الأول من الضباط الذين كونوا لبنة الجهاز الأولى من جمع الكثير من المراجع وكتابات الخبراء وعكفوا بصبر مدهش على دراستها واستخلاص ذلك العلم الغزير نحتا فى الصخر ..
وكان هذا الرعيل .. عدد من ضباط القوات المسلحة الشبان من من يمتلكون شجاعة وجسارة المقاتلين مع الذكاء الفطرى ..

ومنهم على سبيل المثال .. فتحى الديب .. وعبد المحسن فائق .. وحسن بلبل .. وعبد العزيز الطورى .. وصلاح نصر
وبطلنا .. البكباشي " المقدم " فى ذلك الوقت .. محمد نسيم
الفهد الأسمر ..

كان محمد نسيم من ذلك الطراز من الرجال الذى يمتلك قلب أسد كما أطلق عليه رفاقه .. وعقل الثعلب .. وصبر الجمال .. واصرار الأفيال ..
كان نادرا بحق .. رحمه الله وطيب ثراه ..

وعندما تولى اللواء صلاح محمد نصر الشهير بصلاح نصر رياسة جهاز المخابرات العامة كان محمد نسيم أحد مديري العمليات بالجهاز ورجل المهام الصعبة ويكفي لبيان مدى سمعته الخرافية أن رئيس الجمهورية كان يتصل به مباشرة فى عدد من العمليات فائقة الحساسية وما أكثرها فى ذلك الوقت ..
وفى بداية الستينيات كان جهاز المخابرات العامة مكتمل البناء .. وخاض العديد من العمليات العملاقة فى تاريخه ضد المخابرات الاسرائيلية والأمريكية .. وللحق ..
فان انشاء الجهاز على صورته تلك .. كان لجهود رجاله وادارة صلاح نصر رئيس الجهاز على الرغم من انحرافه فيما بعد نتيجة للسلطة المطلقة التى تمتع بها فى ظل حماية المشير عبد الحكيم عامر نائب رئيس الجمهورية وقائد الجيش المصري وبطل فضيحة النكسة المريرة ..

وكانت أولى عمليات محمد نسيم التى أكسبته سمعته الرهيبة بين رفاقه .. اعادة تأهيل العميل المصري الأشهر " رفعت الجمال " الشهير باسم " رأفت الهجان "

كان رفعت الجمال قد سافرالى اسرائيل فى منتصف الخمسينيات واستقر بها بعد أن نجح فى زرعه رجل المخابرات العتيد اللواء " عبد المحسن فائق " المعروف باسم " محسن ممتاز فى المسلسل الشهير الذى حكى قصتة .. ومنذ أن تم زرعه فى اسرائيل وحتى بداية الستينيات لم تستفد منه المخابرات المصرية شيئا الا المعلومات التى أرسلها فى حرب العدوان الثلاثي .. وللحق فلم يكن هذا تقصيرا من رفعت الجمال .. أو معلمه عبد المحسن فائق .. بل كانت الظروف أقوى منهما لضعف الامكانيات التدريبية التى تلاقاها رفعت وكان جهاز المخابرات لم يزل وليدا فى ذلك الوقت ..
وعلم المخابرات تطور تطورا مدهشا وسريعا عبر السنوات الخمس التى أمضاها رفعت فى اسرائيل فكانت الحاجة ماسة الى رجل مخابرات من طراز فذ يتمكن أولا من السيطرة على رفعت الجمال صاحب الشخصية شديدة العناد ويقوم بملئ الفراغ الذى تركه اللواء عبد المحسن فائق فى أعماقه .. وذلك حتى يتمكن من اقناعه بمواصلة التدريب والعمل ..
وكان ضابط الحالة الذى تولى عملية الجمال هو عبد العزيز الطورى الشهير باسم " عزيز الجبالى " .. وبعد دراسة عميقة لشخصية رفعت .. ومع استحالة عودة اللواء عبد المحسن فائق من مقر عمله فى الولايات المتحدة فى ذلك الوقت .. لم يجد عبد العزيز الطورى الا قلب الأسد محمد نسيم المعروف بصرامته وشخصيته القوية ونبوغه الفائق وهو النموذج المماثل لعبد المحسن فائق ..
وتم اللقاء بين قلب الأسد وبين رفعت .. ولم تمض ساعات على لقائهما الا وكان محمد نسيم وهو بالمناسبة الشهير باسم " نديم هاشم " فى مسلسل " رأفت الهجان .. وقام بدورة باقتدار بالغ الفنان المصري نبيل الحلفاوى فى واحد من أعظم أدواره على الاطلاق لا سيما وأن نبيل الحلفاوى كان يشبه اللواء محمد نسيم فى الشكل والأداء الى درجة مذهلة ..
لم تمض ساعات على اللقاء بين العملاقين رفعت ونسيم .. الا وكان نسيم قد ألقي بغياهب شخصيته الفريدة فى وجه المتمرد النابغة رفعت الجمال ..
وكان رفعت الجمال قد أبصر بعيونه عبر المعايشة لليهود . كيفية التقدم المدهش هم فى مجال الأمن .. وكان فى أمس الحاجة الى من يريه تفوق بلاده .. وقد كان .. تمكن نسيم عبر التدريبات المكثفة من اقناع رفعت بمدى التقدم المدهش الذى أحرزه المصريون على الاسرائيليين فى المواجهات المباشرة بينهما ..
وبعد أسبوعين من التدريب المستمر والشاق ..
خرج رفعت الجمال فى مستوى ضابط حالة وهو المستوى الأعلى لأى عميل مدنى فى نظم المخابرات .. ووقع تحت الاشراف المباشر لعبد العزيز الطورى وللتدريب على يد محمد نسيم لتكتسب مصر كما رهيبا من المعلومات باغة السرية التى أرسلها رفعت لا سيما بعد تمكنه من بسط علاقاته ونفوذه فى مجتمع تل أبيب بتعليمات نسيم عبر شركة " سي تورز " والمعروفة باسم " ماجى تورز "
وفى قلب تل أبيب واصل نجم المجتمع الاسرائيلي " جاك بيتون " وهو الاسم المستعار
لرفعت الجمال وهو الاسم الذى عرف فى المسلسل بـ " دافيد شارل سمحون " .. وبلغت علاقاته حدا جعله صديقا شخصيا للجنرال موشي ديان وجولدا مائير رئيسة الوزارة الشهيرة ..
كل هذا بفضل نبوغ رفعت الشخصي .. وبراعة معلمه الفذ " محمد نسيم " .. ومن قبل هذا وذاك النصرة الالهية لأناس نصروا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم


الصدمة ..


كانت نكسة 67 .. مدمرة فى آثارها الى حد رهيب على العالم العربي أجمع ..
الا أنها كانت ذات تأثير صاعق على الأسود الرابضة فى عرين المخابرات العامة المصرية الكائن فى حى حدائق القبة بالقاهرة الواقع خلف قصر القبة الشهير ..
ولكى تتأملوا الأثر وتقدروه ..
يكفي أن تعلموا أن مصر كلها ذاقت الهزيمة الا هذا الجهاز كان هو المنتصر على أى مقياس منطقي ..
فقد تكفل رجاله ونجومه وعلى رأسهم رفعت الجمال بمعرفة كل التفاصيل الدقيقة والخرائط لخطة الحرب العسكرية فى 67 .. وقاموا بارسالها الى قيادتهم السياسية المغيبة .. ليفاجئ الأبطال بالنكسة وهم الذين كادوا يعطون قياداتهم أسماء الجنود والقادة من العدو اسما اسما لو طلبوا اليهم ذلك ..
ولكن لعوامل كثيرة .. ليس هذا مكانها وقعت الواقعة وانهزمت مصر هزيمة ساحقة كادت تعبر بها حافة اليأس لولا توفيق الله والارادة الفولاذية التى قدت من الصخر ..
وبدأت معارك الاستنزاف .. وتزلزلت القوات الاسرائيلية بكم العمليات الصادمة التى انتقت عيون أسلحة ورجال العدو مع المعلومات الغزيرة التى تولاها الرجال فى المخابرات العامة .. وذلك بعد تطهير الجهاز من قياداته المنحرفة ..
وتولى محمد نسيم وأمين هويدى مسئولية اعادة الأمور الى نصابها فى جهاز المخابرات العامة عقب النكسة ..
وأرسل عبد الناصر الذى كاد الندم يقتله .. الى محمد نسيم .. وتواعدا بالحديث وتقاسما الهم سويا ليتذكر عبد الناصر مدى قدرة الأسد الرابض أمامه وذكره باحدى عملياته التى لاقت شهرة واسعة على الرغم من سرية أعمال المخابرات فى العادة ..

عملية عبد الحميد السراج ..
ولكن ما هى تفاصيل تلك العملية ..


عملية عبد الحميد السراج ..


على عبد الحميد السراج .. ضابط جيش سورى .. معروف جدا .. فهو أحد الضباط الوطنيين النوابغ فى سوريا والذى نأى بنفسه عن كم الانقلابات الرهيبة التى تتابعت فى سوريا على يد حسنى الزعيم .. وأدب الشيشيكلى .. وسامى الحناوى .. ومصطفي حمدون .. وغيرهم من نجوم انقلابات سوريا العسكرية فى الفترة التى أعقبت التحرير على يد شكرى القويتلى ..
وبدأ ظهور عبد الحميد السراج عقب التزامه بالخط الوطنى .. قبيل الوحدة مع سوريا .. ولمع اسمه فى مصر عند عبد الناصر نفسه عقب قيامه باسداء جميل العمر الى مصر كلها .. وهو الجميل الذى لم تنسه له مصر وقيادتها ..
فعبد الحميد السراج هو رجل المخابرات العسكرية السورى الذى تولى تدمير خطوط أنابيب البترول الممتدة من العراق عبر سوريا الى سواحل البحر المتوسط لتصب فى الناقلات البريطانية لتغذية احتياجات بريطانيا من البترول ... وكانت هذه العملية أثناء تعرض مصر للعدوان الثلاثي .. ليصبح تدمير خطوط أنابيب البترول الشعرة التى قصمت ظهر البعير وكان البعير هنا هو أنتونى ايدن رئيس الحكومة البريطانية والذى قدم استقالته عقب فشل عدوان السويس عام 56 ..
وكان طبيعيا مع بدء الوحدة المصرية السورية عام 1959م .. أن يلمع نجم عبد الحميد السراج أكثر وأكثر فتدرج فى السلطة حتى ولاه عبد الناصر نيابة القسم الشمالى وهو سوريا ليصبح نائبا لرئيس الجمهورية السورية ومع العلاقة الوثيقة التى جمعته بعبد الناصر خاصة بعد عملية أنابيب البترول وأيضا كشفه للمؤامرة التى استهدفت حياة عبد الناصر أثناء زيارته لسوريا عقب الوحدة ..
من هذا كله تمكن عبد الحميد السراج من السيطرة ليس فقط على الأمن الداخلى كوزير للداخلية فى الاقليم الشمالى وتولى نيابة الرياسة بل سيطر أيضا على المخابرات وأجهزة الاقتصاد والتنظيم السياسي الوحيد وهو الاتحاد الاشتراكى ليصبح عبد الحميد السراج أقوى رجل فى سوريا بأكملها ..
ولأن السلطة المطلقة مفسدة فى كل الأحوال .. فقد تغلبت أجواء السلطة على نقاء السراج .. لتتدهور الأمر أكثر وأكثر خاصة بعد فشل الوحدة المصرية السورية عام 1961 م .. وأتت نهاية عبد الحميد السراج على يد الانقلاب الذى أطاح به من قمة الحكم السورى .. عندما غفل عن ضابط الجيش السورى ومدير مكتب عبد الحكيم عامر الذى كان يتولى الرياسة فى الاقليم الشمالى للوحدة وكان هذا الضابط هو عبد الكريم النحلاوى .. والذى استهان به السراج فتمكن النحلاوى من قيادة تنظيم سري فى الجيشش ضده وأطاح به وطرد عبد الحكيم عامر من سوريا فى فضيحة مدوية .. ليتم اعتقال السراج فى أبشع المعتقلات السورية وهو " سجن المزة "
وكان وقع الصدمة مدمرا على عبد الناصر ..
الا أنه سلم بالأمر الواقع ونفض موضوع الوحدة مؤقتا وألقي بصره على مصير السراج المظلم فى أيدى خصومه المتعدديبن ..

فالسراج كان له أعداء فى القوات المسلحة السورية وهى منفذة الانقلاب عليه ..
وله عداوات رهيبة فى لبنان نتيجة لتدخله فى الشأن اللبنانى عندما اقتضت الظروف ذلك
وله عداء قديم وثأر رهيب عند أصحاب مؤامرة اغتيال عبد الناصر ..
اضافة الى عداء تقليدى من الموساد والمخابرات الأمريكية ورجالهما بلبنان ..
فلك عزيزى القارئ أن تتخيل كيفية المصيدة التى وقع فيها السراج .. ولك أن تتخيل أكثر .. كيف يمكن تحقيق المستحيل وانقاذه منها ..

أرسل عبد الناصر الى محمد نسيم وكلفه بانقاذ السراج مهما كان الثمن ..
وكلمة مهما كان الثمن فى عرف العمل المخابراتى تعنى أنه لا مستحيل ..
وسافر نسيم منفردا الى لبنان لهذا الغرض .. وفى تلك اللحظة كان السراج يهرب من سجن المزة الرهيب بمعاونة عدد من ضباط الجيش الذين كانوا لا يزالون على ولائهم للسراج .. وانتقل فيما يشبه المعجزة وعبر رحلة شاقة ووعرة الى لبنان ليلقي خبر هروبه قد سبقه الى لبنان وعشرات الذئاب الجائعة فى انتظاره ..
وكشف الموساد وجود نسيم فى لبنان .. وكذلك كشفه اللبنانيون .. وغيرهم ..
وتعرض فى تلك المهمة فقط لتسع محاولات اغتيال نجا منها جميعا كان آخرها عن طريق وضع قنبلة فى أنبوب العادم بسيارته وكانت تلك المحاولة غير قابلة للفشل لأن تلغيم السيارات كان من المعروف أنه يكون عن طريق تلغيم المقعد أو المحرك أو جسم السيارة السفلى ..
أما وضع القنبلة فى أنبوب العادم فهو الابتكار غير قابل للكشف .. ومع ذلك فقد اكتشفها نسيم .. وفشلت المحاولة .. بل ونجح فى الخروج بالسراج من لبنان الى مصر وللأسف الشديد فكيفية الخروج ما زالت قيد السرية الى يومنا هذا ..
ونال السراج مكانه فى مصر آمنا مطمئنا ..

تذكر عبد الناصر قصة هذه العملية وهو يتحدث الى نسيم .. وكان نسيم يتساءل عن سبب استدعائه ليقول له عبد الناصر أنه رقد طريح الفراش بعد اعلان اسرائيل عن بدء عمليات التنقيب عن البترول فى سيناء فى اشارة واضحة الى أن سيناء قد أصبحت اسرائيلية لتذل القيادة المصرية ..
وبرقت عينا نسيم غضبا .. وعاجله عبد الناصر وهو يقول له فى مرارة .. " الحفار يا نسيم " ..
فنهض نسيم واقفا .. وقال له فى حزم " أمرك يا سيادة الرئيس " ..
وبدأت عملية الحج ..


عملية الحج
..

كانت واقعة نية اسرائيل التنقيب عن البترول فى سيناء كما سبق القول نية سياسية لا اقتصادية .. وقد بعثت الى احدى الشركات الكندية لاستقدام أحد أكبر الحفارات فى العالم لاستخدامه فى التنقيب وهو الحفار " كينتج " ..
وقد خططت اسرائيل بدقة لهذه العملية .. وقامت عمدا باستيراد هذا الحفار الكندى والذى تجره قاطرة هولندية وعليه بحار بريطانى .. لكى تعجز مصر عن ضرب الحفار بالطيران عند اقترابه من البحر الأحمر .. لأن مصر اذا غامرت بضرب الحفار علانية فمعنى هذا أنها استعدت عليها ثلاث دول كبري على الأقل ..
ولأنها تعلم تماما أن المخابرات العامة لن تترك الحفار .. فقد احتاطت للأمر وقامت بتأمين الخطوط الملاحية للحفار القادم عبر المحيط الأطلنطى الى رأس الرجاء الصالح ثم البحر الأحمر .. وقامت بانتقاء خطوط سير ملاحية بالغة السرية وغير مألوفة .. كما جند الموساد رجاله وأجهزته بمعاونة المخابرات المركزية الأمريكية لمصاحبة الرحلة وحماية الحفار ..
لكن من قال ان المصريين يعرفون المستحيل ..
شكل محمد نسيم فريق عمل من أفضل رجال المخابرات العامة وخبراء الملاحة وضباط القوات البحرية .. لتبدأ عمليه الحج .. وكان سبب تسميتها مزامنه أحداثها لموسم الحج
وقام محمد نسيم بتجنيد عملاء المخابرات العامة فى الدول التى سيمر الحفار عبر سواحلها وأعطى أوامر بضرورة التفرغ لهذه العملية .. وقام باستقدام فريق من أكفأ رجال الضفادع البشرية التابع للبحرية المصرية .. حيث استقرت الخطة على زرع متفجرات شديدة التدمير فى قلب البريمة الرئيسية للحفار لابطال مفعوله ..
وبدأت لعبة القط والفأر بين نسيم ورجال الموساد ..
وهناك .. فى أبيدجان الميناء الشهير لدولة ساحل العاج .. كان الحفار قد ألقي مراسيه بأمان للراحة .. وعلى الفور وبناء على الاستنتاجات المسبقة بعقله الفذ الذى أدرك أن أبيدجان هى الميناء المثالى الذى سيرسو عنده الحفار .. قام بحمل المتفجرات بنفسه ودار بها عبر أوربا وساحل افريقيا الشمالى وحط رحاله فى أبيدجان ولا أحد يعرف كيف تمكن من عبور مطارات خمس أو ست دول وهو يحمل هذه المتفجرات ..
وكان فريق العمل أبطال البحرية قد سلك طريقا مماثلا عبر عدة عواصم أوربية حتى أبيدجان .. وفى فجر يوم العملية وصل الفوج الأول من الضفادع البشرية .. وبينما الكل فى انتظار الفوج الثانى علم محمد نسيم من مصادره فى أبيدجان أن الحفار فى طريقه لمغادرة ساحل العاج صباح اليوم التالى .. ليطير عقل محمد نسيم .. ويتخذ قراره بتنفيذ العملية بنصف الفريق فحسب .. وكان الحل السريع أن يكتفي نسيم بزرع المتفجرات تحت البريمة الرئيسية وأحد الأعمدة فحسب بديلا عن الخطة الرئيسية بتفجير البريمة والأعمدة الثلاثة
وفى الفجر .. تسلل الأبطال تحت اشراف نسيم الى موقع الحفار وخلال ساعة واحدة كانت المتفجرات فى أماكنها .. ومضبوطة التوقيت على السابعة صباحا .. وخلال هذه الفترة أشرف نسيم بسرعة فائقة على سفر مجموعة العمل خارج ساحل العاج واستقبال المجموعة التى كان مقررا وصولها فى الصباح لتحط فى أبيدجان بطريقة الترانزيت وتكمل رحلتها خارج أبيدجان ..
وبقي نسيم وحده ينتظر نتيجة العملية .. ومن شرفة فندقه المطل على البحر أخذ يعد الدقائق والثوانى التى تمضي ببطء قاتل .. حتى التقا عقربا الساعة عند السابعة صباحا ليتعالى دوى الانفجارات من قلب البحر .. ويصبح الحفار أثرا بعد عين فى الانفجار الذى هز أبيدجان ..

لكنه كان كالموسيقي الكلاسيكية فى أذنى نسيم ...
والذى تأمل الحفار المحطم .. لترتسم ابتسامة نصر مشرقة ومألوفة على الوجه الأسمر الصارم ..
وبعدها توجه نسيم الى أحدى مكاتب البريد ليرسل تلغرافا الى جمال عبد الناصر يقول له كلمتين فحسب " مبروك الحج "

هذا هو محمد نسيم أو نديم هاشم كما عرفه المشاهدون العرب فى المسلسل التليفزيونى الشهير " رأفت الهجان " والذى كتب قصته الأديب الراحل صالح مرسي وأخرجه المخرج يحيي العلمى .. لتنفجر الحماسة فى الشعوب العربية من المحيط الى الخليج
اعجابا بهؤلاء الأبطال الذين قدموا لأوطانهم أسمى معانى الفداء ولم ينتظروا حتى مجرد كلمة شكر ..
أسود المخابرات العامة المصرية الأفذاذ .. العاملون فى صمت .. النائمون فى قلب الخطر .. رواد العظمة ..
ونجمهم رجل المستحيل محمد نسيم الذى اتخذ دوره الى جوار زملائه فى حرب أكتوبر ليتمكن جهاز المخابرات العامة من احاطة ترتيبات الحرب بالسرية الكاملة حتى ساعة الصفر القاتلة للعدو ..
لتخرج المراجع العالمية معترفة بانتصار المخابرات العامة المصرية على جهاز المخابرات الأمريكى والسوفياتى والاسرائيلي والبريطانى ..


عندما يترجل الفارس
..

ومع بداية الثمانينيات .. وبعد عشرات العمليات الناجحة وشهرة واسعة .. نالها الفهد الأسمر المصري اللواء محمد نسيم .. اعتزل البطل العمل السري ليخرج من جهاز المخابرات الى وظيفة مدنية كوكيل لوزارة السياحة المصرية ..
وفى عام 1998م ..
أسلم الفارس البطل .. روحه وجاد بأنفاسه الأخيرة بعد رحلة مثمرة فى محراب البطولة تتوارى الى جوارها صفحات التاريخ خجلا ..
وتقدم جنازة البطل كبار رجال الدولة .. والعامة فى ميدان التحريرالذى يقع فيه مسجد عمر مكرم الذى خرج منه جثمان البطل ..
وتساءل العامة فى فضول .. وهم يلقون نظرة على اللافته التى يحملها الجنود فى مقدمة الجنازة وتحمل اسم البطل


ترى من يكون محمد نسيم

زاهية
20-02-2006, 02:19 AM
جزاك الله الخير على هذه المعلومات القيمة التي تقدمها لنا في هذه الصفحة وكلنا يعرف محمد حسنين هيكل وماله من فكرٍ وقاد وقدرة على التغلغل في أعماق الحدث
وما قال عنه البعض لايسلم منه أحد هذا هو التاريخ يجد الشخص فيه المؤيد والمعارض 00
تابع الكتابة

أختك

بنت البحر

محمد جاد الزغبي
21-02-2006, 04:10 PM
جزاك الله الخير على هذه المعلومات القيمة التي تقدمها لنا في هذه الصفحة وكلنا يعرف محمد حسنين هيكل وماله من فكرٍ وقاد وقدرة على التغلغل في أعماق الحدث
وما قال عنه البعض لايسلم منه أحد هذا هو التاريخ يجد الشخص فيه المؤيد والمعارض 00
تابع الكتابة

أختك

بنت البحر

الاختلاف فى الرأى لا يفسد للود قضيا أبدا ..
فقط .. اذا كان الخلاف موضوعيا خاليا من الاتهامات سابقة التجهيز يا عزيزتى ..
أنا أواصل الكتابة .. وشكرا لدعمك وتحيتى لكل من قرأ وشارك

خليل حلاوجي
22-02-2006, 07:37 AM
ايها الحبيب

لقد فتحت عيني بملء الحدق

وأنتظرت العمالقة
اقف معهم ومعك ومع مرحلة حاسمة من تاريخنا الذي يكتب الان على ساحات اضخم مواجهة عرفتها الانسانية
بين محور الخير
ومحور الشر

ولن تضر الحقيقة مزاعم مخالفينا اننا صرنا شياطين وهم الملائكة
فهذه خدعة لن ينصت اليها التاريخ طويلا"
طالما وجدت واولدت امتنا عمالقة من طراز من تكتب عنهم ايها الحبيب

من قلبي ايها الحبيب محبة أمل
وشكرا" لجهدك السخي

محمد جاد الزغبي
22-02-2006, 07:56 PM
أعود فأقدر بشدة ..
حرصك الدائم واسعى خلف مشاركاتى لتقييمها ..
كل الشكر أيها الحبيب للمناصرة المحمودة ..
دمت بخير

محمد جاد الزغبي
19-03-2007, 07:36 PM
مصطفي محمود..
بحـــّـــــــــار العلم والإيمان

من هو ..
هو الطبيب والأديب والمفكر المصري مصطفي محمود .. صاحب الرصيد الضخم من الأعمال الروائية والفكرية التى أكسبته مكانته فائقة التميز بين مفكرى عصره ..
بدأ رحلته مع الحياة العملية طبيبا متخصصا فى طب وجراحة الأعصاب . ومع بداية الستينات اتجه لنشاطه الروائي على نحو أكثر تركيزا فقام بالتفرغ تماما للأعمال الأدبية وصدرت أعماله المتنوعة فى أكثر من اتجاه .. بدء من القصة القصيرة والرواية والمسرحية وأدب الرحلات والأعمال الفكرية المختلفة خاصة مع اتجاهه الى قلعة دار أخبار اليوم ودار المعارف .. لا سيما بعد أن اكتسب الشهرة الواسعة كشخصية متعددة الأبعاد ومفكر من طراز خاص جدا ..


رحلة الفكر والايمان ..
فى بداية نشاط الدكتور مصطفي محمود الفكرى فى مطلع الستينيات .. كانت الأمواج قد تجمعت خلف السدود فى العالم أجمع مع الصراعات العنيفة الساخنة والباردة بين أقطاب العالم الجديد الذى انخرط الى أبعد مدى ممكن فى محاولة فرض المذاهب واستقطاب الدول تبعا للفكر الاستعمارى الجديد القائم على الاستعمار المذهبي والاقتصادى ..
كانت الساحة تحتدم بالصراع بين الشيوعية الممثلة فى الاتحاد السوفياتى .. والرأسمالية المتمثلة فى الفكر الأمريكى .. اضافة الى الصحوة اليهودية بدعوتها الصهيونية المتمثلة فى المؤسسة اليهودية أو ما يعرف باسم المجلس الصهيونى العالمى الذى أسسه تيودور هيرتزل وتبنى بناء الحلم على أرض الواقع .. لتخرج الى الوجود دولة بنى صهيون على الفكر العقائدى الموظف لأغراض سياسية فى مزيج لم يتحقق الا لاسرائيل .. والتى نبتت كشوكة فى ظهر العالم العربي ..
وفى العالم العربي .. ومصر المعبرة عنه بصفتها التاريخية والقيادية الطبيعية .. كان الصراع على أشده بين الاشتراكية التى نادى بها عبد الناصر متبعا خطوات الشيوعية نوعا ما .. وان كان قد حاول ابعاد تلك الفكرة بقيامه بمحاصرة الأحزاب اليسارية المصرية وضربها ..
وطرف الصراع الآخر الممثل فى دعوة الأصولية الاسلامية والتى قامت بها فى ذلك الوقت جماعة الاخوان المسلمين ..
وكما هو معروف كان الصراع دمويا رهيبا .. لا سيما وأن الدعوة الأصولية التى انتهت الى الاخوان كانت تجد الفكر الاسلامى قد انحصر فى دور العبادة وغاب غيابا تاما عن ساحة العمل السياسي المحتدمة بين الشيوعية والرأسمالية ..
وكان مجمل نظرة الاخوان الى تلك الدعاوى كلها بما فيها الدعوة العلمانية التى استقطبت كبري الدول الاسلامية .. وموضع الخلافة العثمانية .. والتى احتلتها علمانية أتاتورك
فى ظل هذه الظروف كان الفكر مشتتا .. والمفكرين الشبان الجدد والذين مثلوا طليعة الفكر المصري مثل مصطفي محمود وخالد محمد خالد .. وجدوا أنفسهم فى قلب البحث عن هوية ضائعة بين ما هو عربي وما هو اسلامى بعد انفصال المفهومين بفعل التنابذ بين أطراف الحكم العربي ..
ومع تراجع الفكر الاسلامى المستنير الذى بدأ مع القرن الماضي .. وكان سبب التراجع منطقيا بتداعى الحوادث لغياب رواد التجديد مثل محمد عبده وجمال الدين الأفغانى اضافة الى تراجع قوة الاخوان المسلمين بفضل ضربات النظام الحاكم التى لم تهن ضدها ..
ولم يبق من رواد الفكر الاسلامى المستنير الا عملاق الفكر عباس محمود العقاد .. ولم يكن باستطاعة الرجل فى مناخ العداء الحادث أن يتفوه الا رمزا .. وحصر نفسه فى الحديث عن التاريخ الاسلامى القديم دون اسقاط على الواقع الحال ..
وان كانت بعض كتاباته المميزة والنادرة أعطت دفعه مناسبة الى حد ما فى الدفاع عن الدولة الاسلامية وطعن المذاهب التى نادى بها من يطلقون على أنفسهم تقدميون .. مثل كتابه .. " لا شيوعية ولا استعمار "
الا أن المفكرين الجدد .. وجدوا أنفسهم رغما عنهم فى ظل الصراع الضباب الحادث .. ينزلقون الى معترك التدافع عن الاسلام والتماس الدعاوى القائلة بعدم صلاحية هذا الفكر للعالم المتقدم ..
فوقع خالد محمد خالد فى بداياته أسيرا للفكر الشيوعي .. وخرجت بعض كتاباته تطعن دون قصد فى الفكر الاسلامى وفكرة الدولة الاسلامية وهى الكتابات التى تبرأ منها فيما بعد بعد أن عاد لجادة الصواب .. وأصبح أحد أنبغ رموز الفكر الاسلامى فى تاريخه ..
وكذلك مصطفي محمود .. وان كان انزلاقه تمثل فى هاوية العقيدة والوجود الالهى ...
ومع تزمت الردود والاتهامات ..
انفرد مصطفي محمود بنفسه وفكره وخض أصعب رحلاته على الاطلاق .. من الشك الى الايمان وهى التجربة التى خرج منها ليصبح عملاق العلم والايمان وعبر عن مرارة التجربة وقسوة الرحلة فى كتاباته .. منها " رحلتى من الشك الى الايمان " و" حوار مع صديقي الملحد " و " الوجود والعدم " و" الله " ..
ونجا مصطفي محمود من أخطر مزالق حياته على الاطلاق ..


مفكر .. نسيج وحده ..
المتأمل فى هذا المفكر العبقري .. والنصف حقيقة لمكانته .. يجده واحدا من أندر العقول المصرية والعربية على الاطلاق .. مفكر من طراز شديد الخصوصية .. يطالع بعين الباحث ما حوله .. ويخرج ما لديه الى القراء وجموع مشاهديه .. فيستوعب البعض .. ويعجز البعض الآخر ..
فمن ناحية براعته الروائية والقصصية .. لا حاجة بنا الى اطالة الحديث عنها .. فهى مجال قابل للاستيعاب .. ومدى تمكنه وموهبته فى الصياغة تشهد بذلك ..
كما فى كتابه " حكايات مسافر " أو " أكل عيش " .. أو روايته " رجل تحت الصفر "
أما ما يستدعى التوقف عنده فهو أعماله .. فهو ما أخرجته جعبة الفيلسوف والمفكر الاسلامى فى شخصية مصطفي محمود ..
فان راعينا الانصاف عند الحكم على رحلة الرجل فى الكتابة والدفاع عن الاسلام .. لوجدناه قد أخرج لنا أثرا لا يقل بأى حال من الأحوال ان لم يزد على أثر كبار المجاهدين ودعاة الاسلام المميزون ..
فبداية .. تمكن مصطفي محمود وباعتراف الشيوعيين والماركسيين أنفسهم من زلزلة الحركة اليسارية العالمية والمصرية على وجه الخصوص بعد ضربات قاصمة تدرعت بالمنطق الأخاذ فى هدم تلك الدعاوى .. ولم يكن ذلك عسيرا مع الطريقة التى اتبعها مصطفي محمود فى ضرب الشيوعية فقد عكف أولا على دراستها باستفاضة وسعة صدر وعبر كتابها أنفسهم ليستخرج منها الباطل الذى تزيي بزى الحق وأعجزهم عن الرد تماما .. ولم يجدوا أمامهم الا الوقوف فى صف المواجهة القذرة ضده فشنوا عليه حربا من نوع آخر لا صلة لها بالفكر ..
وهى حرب التشنيع واتهام العمالة المألوف فى العالم العربي .. فاتهموه بالعمالة للولايات المتحدة غير أنهم فشلوا وسقطوا سقوطا ذريعا .. كان أهم أسبابه أنهم افتقروا الى الذكاء تماما فى انتقاء الشائعة .. لأن مصطفي محمود ضرب الرأسمالية الأمريكية وسياسة المال والأعمال فى حكم العالم والهيمنه المطلقة بنفس المقدار الذى هاجم به الشيوعية وربما أشد ..
اضافة الى الشعبية الجارفة التى يتمتع بها الرجل فى وطنه وبين قرائه ..
وتعد كتاباته ضد الماركسية علامات كبري لمن يريد الفائدة واكتشاف التناقض التى وقعت فيه .. منها على سبيل المثال " الماركسية والاسلام " و" لماذا رفضت الماركسية "
وتأتى مجموعة مقالاته المجمعة والمنشورة عن دار أخبار اليوم كمثال صادق على مهاجمته للغرب السياسي الأمريكى مثل كتابه " الغد المشتعل " و " على حافة الانتحار "

وبالتزامن مع هجومه الدائم على المذاهب الفكرية المعادية أخرج مصطفي محمود للمكتبة العربية علامات كتاباته فى الدعوة والتبصير بالاسلام .. مثل كتابه " القرءان كائن حى " وكتابه " القرءان .. محاولة لفهم عصري " وكتابه " الله والانسان "
أضف لذلك برنامجه الشهير بالتليفزيون المصري " العلم والايمان " فحلقاته تقف شاهدة على رسالة الرجل الذى كان من أوائل دعاة المسلمين تبصيرا بمدى التطابق القرآنى بمعجزات العلم الحديثة فيما عرف باسم الاعجاز العلمى للقرءان .. ذلك البرنامج الذى حاز شعبية ساحقة لما يتميز به العالم والمفكر مصطفي محمود من سلاسة فى الشرح .. وعذوبة فى الالقاء .. وبراعة فى التعليق على المواد الفيلمية التى يضمنها برنامجه ..

ذلك البرنامج الذى توقف لسبب مجهول !!
واستكمالا لدعوته .. مزج مصطفي محمود كتاباته الاسلامية بالفكر السياسي وأسلوب الخروج من عنق الزجاجة التى أمسكت برقبه التقدم العربي .. فقدم العديد من المقالات التى تعالج قضايا السياسة العربية وتقدم حلولا خلاقة لمأزق السياسة العربية .. ولو حان الحين لاستيقاظ العرب من سباتهم فستكون كتابات هذا الرجل هى النجم والدليل الذى يهتدى به المصلحون ..
هذا بالطبع ان خلصت النوايا ..
تلك الكتابات التى تقدم حلولا عملاقة .. وتبسط الطريق لمن يريد الخروج من دوامة العبودية .. وكان مصطفي محمود .. من أوائل وأكثر المفكرين تشجيعا للعرب على استخدام الردع النووى فى أسلوب التفاوض والدفاع ..

تلك الدعوة التى لو تحققت لما احتاج العرب الى استخدام هذا السلاح قط .. فالقوى الدولية تدرك تماما أن السلاح النووى لا يصلح بأى حال من الأحوال كسلاح حربي .. بل خلف فقط للردع ..
وقدم الرجل فكره على أساس واقعى عندما ساق الدليل على هذه القاعدة الدولية غير المعلنة فالسلاح النووى تم استخدامه لمرة وحدة فقط .. وكان استخدامه فوق هيروشيما ونجازاكى للمرة الأولى والأخيرة للتبصير ليس أكثر ..
ومن الولايات المتحدة انتقل السلاح الى الاتحاد السوفياتى عبر أحد علماء الطاقة الذرية الأمريكية المعروف باسم " روزنبرغ " فى القضية الشهيرة التى حملت اسم الرجل..
ثم انتقل لفرنسا .. وبعدها انجلترا .. واسرائيل .. والصين وهم أكبر أعضاء النادى اللنووى
ثم تداعت الحوادث وانكسر الحجاب السري عن الشيطان النووى ولم يعد أحد بحاجة الى معرفة سر الختم لاستخراجه من قمقمه .. فقامت الهند بتجربتها النووية لاخافة وردع باكستان التى ردت باجراء تجربتها النووية أيضا ..
ولم تعد التحذيرات والمقاطعات الحروب تمارس ضد من يحوز الأسلحة النووية .. بل ضد من تريد القوة العظمى تلفيق هذا الاتهام له لضربه ..
أما من يمتلك السلاح النووى بالفعل .. فلا تجرؤ الدعاوى العظمى على الاقتراب منه فعليا أو استفزازه عسكريا .. وكوريا الشمالية تلك الدولة الصغيرة .. ذات الارادة خير شاهد على ذلك لأنها امتلكت السلاح النووى بالفعل وأعلنته .. فلم تستطع اللبؤة الأمريكية الاقتراب منها

كانت هذه القضية احدى قضايا المصير لمصطفي محمود ..
لكنها لم تصادف للأسف الشديد أدنى استجابة من أولى الأمر .. وعلى العكس تفاعل معها الجمهور العريض فى المحيط العربي المقهور ..


الأزمة والاعتزال
من الصعب أن ينزلق مفكر عبقري مثل الدكتور مصطفي محمود فى أزمة مثل تلك التى كادت تقضي على شعبيته ومكانته وتاريخه نهائيا ..
كانت أزمة والحق يقال صادمة وقاتلة لمحبيه ومريديه وتلاميذه الذين تعودوه منطقيا ومبارزا فكريا دوما يتمنطق بسيف المنطق .. ويدافع بمجن القناعة ..
تعودوه لا يوغل أبدا فى معركة فكرية الا وقد أشبعها دراسة وتمحيصا ليتمكن من الرد والدفاع عن وجهة نظره فيما بعد ..
الا أن أزمته الأخيرة والمعروفة باسم أزمة كتاب الشفاعة والتى وقعت عام 2000م ..
كانت المعركة التى لم يحسن الدكتور مصطفي محمود الاستعداد لها .. فأتت الهزيمة مؤلمة وصادمة
كانت البداية مع صدور كتاب بعنوان " الشفاعة " للمفكر الاسلامى الكبير مصطفي محمود .. وتلقفه القراء والناقدون .. وطالعوا فكرة الكتاب التى تتلخص فى أن الشفاعة التى سوف يشفع بها رسول الله عليه الصلاة والسلام لأمته .. لا يمكن أن تكون على الصورة التى نعتقدها نحن المسلمون ويروج لها علماء وفقهاء الشريعة والحديث !!
حيث أن الشفاعة بهذه الصورة تمثل دعوة صريحة للتواكل الممقوت شرعا .. وتدفع المسلمين الى الركون الى وهم حصانة الشفاعة والتى ستتحقق لنا لمجرد الانتساب الى رسول الله صلوات الله وسلامه عليه ..
وعليه ظهر مصطفي محمود وكأنه منكر لوجود الشفاعة من أساسها .. !!
وانفجرت الثورة فى وجه مصطفي محمود من جميع الاتجاهات ..
وكان الريح كلها تصب فى غير صالحه لعدة عوامل جوهرية ..
الأول ..
أن مصطفي محمود لم يكن ذلك المفكر الذى يتعرض بالنقد لمجال عميق كالسنه المطهرة وهو خال من التأسيس المعرفي الكامل بجوانبه .. لكنه ارتكب اخطأ على حين غفله وأغلقت أمامه أبواب الرجوع مع الغضب العارم الذى قاده المفكرون الاسلاميون والفقهاء ..
فعلم الحديث لم يكن مذهبا انسانيا يحتوى أوجه القصور الطبيعية التى تتواجد فى أى عمل انسانى ,, كالشيوعية مثلا .. بل كانت السنة مذهبا دينيا وتشريعا سماويا كان الرسول عليه الصلاة والسلام قائما فيها بدور الناقل المعبر فحسب .. وبالتالى فان تناولها يجب أن يكون ممن قضي عمره فى دراستها .. وهو مالم يتحقق لمصطفي محمود مهما تأتت له قدرة الاطلاع .. لأن الاطلاع منفردا وان زاد لا يفيد أمام التخصص بأى حال من الأحوال
الثانى ..
قام مصطفي محمود بمناقشة منطقية الأحاديث النبوية الشريفة التى تناولت الشفاعة وأخضعها للمنطق واللامنطق .. وعليه فهو يبدى عدم اقتناعه بصحة هذه الأحاديث ناسيا أن مسألة الجزم بصحة الأحاديث علم مستقل بذاته .. وله قواعده القاسية فى تصنيف الأحاديث اعتمادا على التصنيفات الثلاث المعروفة .. وهى الأحاديث المتواترة وهى مجزوم بصحتها .. وأحاديث الجمهور وهى الأقل مرتبة وان كانت تغلب عليها الصحة ,وأحاديث الآحاد وهى التى تتأرجح بين الصحة والبطلان .. ويأتى أخيرا فرع مستقل للأحاديث الغير صحيحة أو الضعيفة ..
كل هذه القواعد لم تكن وليدة الساعة .. بل هى علم متواتر ومعتمد على الصحاح الست لكبار فقهاء الدين الاسلامى كالبخارى ومسلم وبن ماجه والترمذى والنسائي .. اضافة الى عالم الأحاديث الضعيفة العلامة الألبانى رضي الله عنهم ..
الثالث..
كان مصطفي محمود فى معاركه الفكرية يكتسب الى جواره العشرات من تلامذته وقرائه ورفاق الفكر .. غير أن هؤلاء انقلبوا عليه جميعا بواقع الحال بعد صدور الكتاب الأخير الذى تضمن ما لم يكن كافيا لاكتساب جمهوره لجبهته ..
وهكذا كانت المعركة ضارية .. وبالقطع خسر فيها مصطفي محمود بحكم الجمهور الذى تأمل ردود علماء الشريعة الكبار على كتابه .. وكانت الردود قد تجاوزت أربعة عشر كتابا أهمها على الاطلاق كتاب الأستاذ الدكتور محمد فؤاد شاكر أستاذ الشريعة الاسلامية بجامعة عين شمس والمفكر الاسلامى الشهير والذى رد على انكار الشفاعة ردا مفحما وقاسيا للغاية على المفكر ..
وحاول مصطفي محمود الصمود والانتصار لفكره .. غير أن الدفاع فى معركة خاسرة لم يكن ليجدى
وحاول التراجع الا أن هذا التراجع تأثر كثيرا .. بالرغم من أنه لم يكن يقصد اساءة للدين الذى قضي جل عمره حاملا راية الدفاع عنه .. مع الضوضاء المثارة والجو العام ضده ..
وفيما بعد .. كشف مصطفي محمود خطأه فى التناول الدقيق لعلم ليس خبيرا به .. ودافع عن تصرفه بحرية الفكر والرد والاعتراف بالخطأ .. الا أن تواجد الكثيرين من أعدائه أغلقوا عليه هذا الباب .. ونسي الجميع فى حمى الهجوم على الرجل .. أنهم بصدد خطأ حقيقي بيد أن الخطأ مردود .. ولا وجود لكتم حرية السؤال والاجتهاد .. طالما أن طريق العودة مفتوح الى الصواب لا سيما وأن المخطئ رجل فى حجم مصطفي محمود وتاريخه المشرف فى الدفاع والذود عن الاسلام وفكره وتاريخه وبطولاته ورسالته ..
وكانت المعركة كما لو كانت موجهة الى داعية شيوعية أو صهيونية ..
نسي الجميع أن الفارق ضخم بين الخطأ والجريمة ..
فالخطأ مغفور بتصير المخطئ لأنه كان حسن النية لا سيما فى الفكر الذى يعج بالتساؤلات الحرجة
أما الجريمة فهى تعمد الخطأ والترصد فيه بدافع خصومة قائمة كما فعل دعاة المذاهب الفكرية
المضادة للاسلام وكما فعل المستشرقون فى دراستهم للاسلام طمعا فى الوصول الى نقطة ضربه من داخله ..

وللأسف .. أدركت الدكتور مصطفي محمود العلة الشديدة من ضراوة الهجوم وجحود التراجع عن الخطأ .. وزاد من ذلك عوامل الزمن وتقدم العمر وذبول حيوية التأليف والكتابة ..
فاعتزل تقريبا الا من قليل من المقالات المحدودة فى مجلة " الشباب " المصرية وبجريدة الأهرام القاهرية ..
ومما لا شك فيه .. أنه خسارة فادحة والله لرجل بلغ القمة فى نبل الفكر وصدق النية ومضاء العزيمة والارادة والابداع ..
هذه لمحات بسيطة عن الرجل الذى أثار الدنيا .. ووهب نفسه فداء لعقيدته وفكره .. وأثري مجالات العلوم الانسانية بما لا يستطيع انكاره الا أعمى أو مكابر ..
بارك الله فيك ولك أيها العالم الكبير .. والمفكر القدير .. وغفر لك زلتك .. وجعل تاريخك فى ميزان حسناتك .. يوم تلقي الجزاء الحسن ان شاء الله عند من لا يظلم .. ولا يقسو ..

حسن صلاح حسن
19-03-2007, 11:05 PM
أخى الأستاذ / محمد جاد الزغبى
بوركت يا أخى .. نحن جميعا فى حاجة ماسة لمعرفة نواحى عظمة بعض العقول المصرية والعربية .. ولا يفوتنا أننا بشر .. وكل إنسان له مزاياه وعيوبه , ولكننا فى هذه الأيام نبحث عن العيوب وعن هفوات هؤلأ العمالقة لنقلل من أحجامهم ناسين أنه رب رجل ذو همة يغير الله به أمة
أود أن أبارك لك هذه الخطى وأنا فى إنتظار المزيد من هذه الدرر الماسية التى تثري صفحات الواحة
جزاكــــــــ اللـــــــــه خيــــــــــرا

محمد جاد الزغبي
19-03-2007, 11:26 PM
بارك الله فيك أخى الكريم حسن
وشكرا جزيلا لمرورك واشادتك
وان هذه الخميلة ان هى الا بعض طرح واحتكم الوارفة
شكرا جزيلا

محمد جاد الزغبي
28-03-2007, 10:25 PM
- عباس محمود العقاد ..
النجم الذى لم تقو العيون على استيعاب دليله

عندما أسعى للحديث عن رجل مثل العقاد .. فيجب أن أستعيد فى أعماقي وأستوعب أن هذا المفكر الأسطورة .. كان ولا زال نجما يشع بما لا طاقة لعيون العقول باستيعابه ..
ولا يمكننى حين أتناول شخصيته أو شخصية من سبقه من عمالقة الفكر المصريين
أن أدعى أننى بصدد تأريخ حياتهم ..
بل هى مجرد خواطر ونظرات الى هؤلاء الكوكبة التى شغلت الدنيا ولم تنشغل بالدنيا ..
وعلى رأس هؤلاء .. يقبع العقاد متربعا نسيج وحده .. عالم من الفكر .. وجامعة من العلوم لا يتطرق الى مدرجاتها الا من كان قادرا على استيعاب شرف الجلوس تلميذا الى الأستاذ..


البداية
ولد العقاد فى أقصي الجنوب المصري .. بمحافظة أسوان .. ومن المعروف عنه أنه نال من الشهادات .. شهادة الابتدائية فقط .. وهى الدراسة الأولية بأى نظام تعليمى وتقتصر على تعليم القراءة والكتابة .. ولم يكمل تعليمه ..
وبغض النظر عن متاهات الحياة التى منعته من اتمام دراسته .. فان العقاد أثبت بتجربته الفريدة أن العلم يكون بقدر المعلوم لا بقدر الاعتراف ..
وقد وهب الله تعالى للعقاد مفتاح التميز الأبدى للبشر .. وهى موهبة القراءة .. تلك الموهبة التى تكفل للمتمتع بها طرق دروب من العلم يحار بها المتخصصون ..
ولست أقصد بموهبة القراءة أن يميل المرء مجرد ميل أو هواية الى القراءة وشغل وقت الفراغ بشيئ مفيد .. بل أعنى بها أن تكون القراءة هى الحياة نفسها لمن يتمتع بها .. لا يمنعه عنها .. فالذين يميلون الى القراءة كثير .. والذين يرون فيها هوايتهم .. كثير أيضا .. لكن قلة فقط وندرة تلك الزمرة التى تكون القراءة بالنسبة لهم هى العين التى يبصرون بها .. والروح التى يعيشون بها ..ينكبون على الكتاب ويتخذون منه الخليل الذى لا يعيب ولا يعاب ..

وعلى رأس هؤلاء العباقرة يأتى العقاد ..
وقد سري بدمه حب القراءة والولع بها الى حد الجنون ..
ومنذ سنوات صباه الأولى ومع بداية معرفته بكيفية فك لاسم الحرف واستيعاب الجمل وتراكيبها .. بلغ النهم الى القراءة حدا لم يبلغه قبله أحد فى العصر الحديث الا الندرة مثله مثل الأستاذ محمد حسنين هيكل والامام محمد متولى الشعراوى وراهب الفكر توفيق الحكيم ..
وللايضاح .. فان العباقرة والعلماء كثر ..
لكن هذه الزمرة وأمثالها لم تكن تقرأ فى مجالاتها العلمية سعيا للمزيد من النبوغ فى تلك المجالات ..
بل كانت تسعي للقراءة فى المطلق ..
للعلم والثقافة والخوض فى شتى مناهل المعرفة بغض النظر عن التخصص الذى يصنع عالما نابغا ..
لكنه لا يصنع مفكرا عبقريا ..
وقد خرج العقاد من تجربة الدراسة الرسمية كما سبق القول عارفا بكيفية القراءة .. وبدأت همته العالية تستعد لتعليم نفسه علما حرا وبدون معلم الا الكتاب ..
وهناك ..
بأسوان حيث درج العبقري النابغ .. كانت الظروف المعيشية تدفعه دفعا الى محاولة البحث عن الرزق والكسب .. مما كان يمثل عائقا أمام ممارسته لموهبته .. اضافة الى المال الذى لم يجد له مصدرا يغطى نفقاته المعشية فما بالنا بثمن الكتب التى كانت تستعصي على أمانيه ..

ولأن الحكمة الدارجة تقول
" الحاجة أم الاختراع ..."
لذا توصل العقاد الى حل توفيقي بسيط .. وتكمن عبقريته فى بساطته لحل كل تلك المعضلات دفعة واحدة ..
حيث سعى الى العمل لدى أحد أصحاب المكتبات الكبيرة .. كبائع للكتب وعرض على الرجل أن يعمل عنده بأقل أجر ممكن لقاء شرط واحد .. فقبل الرجل وسأل العقاد عن الشرط فأجابه .. " سأعمل عندك طيلة النهار بأى أجر تريده ..
"نظير أن تسمح لى بالمبيت بالمكتبة بعض أيام الأسبوع ,. وتغلق على الباب لتطمئن على مكتبتك .. " فدهش الرجل من هذا الفتى المجنون .. وعندما عرف هدف العقاد من ذلك .. وافق وكله دهشة من هذه الرغبة الحارقة فى الاستزادة من الثقافة والعلوم ..
وبالفعل استمر العقاد فى عمله هذا وكان فى الأيام التى يبيت لياليها بالمكتبة يفترس الكتب الضخمة والمجلدات من حوله حتى يأتى عليها كلها ثم ينتقل الى مكتبة غيرها فيعمل بها بذات الأسلوب حتى ينتهى من قراءة كل ما فيها وهكذا دواليك ..
وفى سنه الصغيرة تلك .. كان العقاد قد انتهى من كل ما حوته مكتبات المدينه من كتب ومراجع لم يحط علما بها الا شيوخ المثقفين ..
وانتقل العقاد فى شبابه الى القاهرة بدأت رحلته مع الابداع ..


رحلة الابداع

كان صعود نجم العقاد بالقاهرة فى ذلك الوقت ..
لافتا بكل تأكيد الى هذا العبقري غير العادى الذى تمكن من طرق أبواب الصحف
ودور النشر والتألق بكتاباته فى شتى مناحى الفكر .. وبعصر ..
هو عصر العباقرة بكل تأكيد ..
ففي الشعر كان البارودى و شوقي وحافظ وخليل مطران .. وغيرهم
وفى الأدب كان طه حسين وتوفيق الحكيم ومحمود تيمور ..ومى زيادة وغيرهم
وفى الفكر كان عبد الرحمن بدوى .. وزكى نجيب محمود .. والسنهورى .. وغيرهم
وفى الفقه والتاريخ كان الأفغانى ومحمد عبده وعبد الرحمن الرافعى والكواكبي وغيرهم
وفى السياسة كان سعد زغلول ومصطفي النحاس ومصطفي كامل ومكرم عبيد وغيرهم
وفى الفنون كان محمود مختار ومحمد عبد الوهاب وأم كلثوم والسنباطى ومحمود الشريف وغيرهم

أى أن نبوغه وسط تلك الكوكبة كان أمرا بحق هو جد المستحيل ..
لكن ما أفاد العقاد أن عصر الفكر فى مصر بذلك الوقت لم يكن يعترف الا بالابداع بغض النظر عن مكانة صاحبه ..
ولذا نشر العقاد مقالاته وكتبه ولاقت القبول الواسع واتسعت صالونات الفكر والأدب لهذا النجم البازغ .. وأفردت له المكانة الأولى
وواصل العقاد صعوده بسرعة خرافية وان بقي على حاله لا يهادن أحدا بثوابت العقيدة والفكر عنده لا سيما أنها كانت تنبعث من الاسلام عقيدة وتاريخا ..
وفى وسط هذا البحر الهائج من الصراعات بشتى المجالات ..
كان العقاد هناك يدافع عن ثوابته .. تلك الثوابت التى ظهرت عداءات التيارات الجديدة لها ..
وصارت معاركه الفكرية وهو يمثل جيش القيمة فى مواجهة الغث مائدة مستديمة على صفحات الصحف والمجلات ..
ففي الأدب خاض حروبه ضد التشويه المتعمد باسم المنهج اللامعقول أو الحداثة
وفى الفنون خاض معاركه ضد العبثية وما يسمى بالتجريد
وفى السياسة خاض معاركه ضد المذاهب الجديدة الماركسية والرأسمالية
وفى الفلسفة خاض المعركة ضد المذهب الوجودى المنادى بهدم العقيدة وثوابت الايمان لله تعالى والتسليم له
وفى التاريخ الاسلامى خاض معاركه ضد تشويه نظام الحكم الاسلامى وتاريخ صحابته الأجلاء ورسوله صلى الله عليه وسلم على يد العلمانية ودعاتها

وصار صالون العقاد الأدبي ببيته بمصر الجديدة احدى ضواحى القاهرة الهادئة فى ذلك الوقت منجما ونبعا لا يغيب عن تلامذته من عمالقة العصر فيما بعد
وكانت معاركه تستقطب اليه طلاب الحقيقة من كل حدب وصوب لا سيما فى المجال السياسي ضد الشيوعية التى كانت آفه العصر بذلك الوقت ..
وضد العلمانية والتشويه والتشكيك العقائدى باسم حرية الفكر ..
ومن مثيرات الحسرة أن يقف من أطلقوا عليه عميد الأدب العربي " طه حسين "
فأطلق عليه العقاد عمى الأدب العربي
وواحد من شيوخ الأزهر
" على عبد الرازق " موقف الداعين الى التشويه بنظم وثوابت التاريخ الاسلامى
فقد خرج طه حسين على الناس بكتاب الشعر الجاهلى الذى شكك فيه بقصة سيدنا ابراهيم وسيدنا اسماعيل وكيف أنه لا يقتنع بصحتها لأنه لا دليل عليها الا القص القرآنى !!
وكذلك تشكيكه فى نسبه الشعر الجاهلى لروافد ذلك العصر من شعراء العرب .. وأن القصائد المنسوبة الى عنترة العبسي وامرؤ القيس وطرفة بن العبد وغيرهم لا تخص هؤلاء الغارقين فى البداوة !!
وعلى عبد الرازق الذى خرج بكتاب " الاسلام وأصول الحكم " والذى دعا فيه الى أن الاسلام لم يكن الا رسالة دينية ولا شأن له بنظم الحكم .. والتى يراها عبد الرازق رهنا بتطورات المجتمع مختصرا دعوته فى أن الاسلام دين لا دولة كذلك خاض العقاد معركة شرسة ضد من استبشروا بقدوم الألمان والطلاينة الى مصر بعد هزيمتهم للانجليز فى معارك شمال افريقيا بالحرب العالمية الثانية .. وكان الوحيد تقريبا الذى دعا الناس الى عدم اللهاث خلف السراب بظن الخلاص من الانجليز على يد الألمان لأن الانجليز والألمان وكل النظم الاستعمارية انما هم دعاة انتهاك لا حرية .. وأن الألمان لن ينتصروا فى حربهم مع الانجليز لأن الألمان مهما كان توفقهم لا شك أنه تفوق سيكون فى اثره السقوط لأنهم يعتمدون على الديكتاتورية بالمذهب النازى وأن أمنية العقاد بهزيمة الجبهتين .. الحلفاء والمحور لأنهم كما سبق القول ذئاب تتدثر برداء الحملان
وبلغ العقاد من التأثير درجة .. دفعت القائد الألمانى الشهير " أدوين روميل " الى الاعلان من خلف خطوط النار أن الألمان فور وقوع مصر بقبضتهم ستكون أول مهمة لهم هى

اعدام المفكر المصري عباس العقاد
وكل تلك المعارك التى خاضها العقاد وكسبها .. كانت خلفها العقيدة التى لا تتزعزع .. فقد كان العقاد واحدا من الندرة الذين أسسوا علمهم وفكرهم على الخلفية الاسلامية النقية الخالية من كل غرض .. فى عصر بلغ به الانبهار بالحضارة الغربية الأوربية حدا تضاءلت الى جواره قيمة الاسلام وتاريخه فى أعماق أبنائه ..
فمعظم مثقفي العصر .. درسوا وتأسسوا فى أوربا لا سيما فى جامعات فرنسا وتأثروا بهم الى درجة مفزعة ودفعهم الاعجاب الى محاولة التقليد ورفض احياء الحضارة العربية
لكن العقاد .. بما حباه الله من رجاحة الفكر ونقاء البصيرة ..
لم تدفعه الثقافة الغربية الى الانبهار ..
وذلك على الرغم من بلوغه ما لم يبلغه غيره من الاطلاع ودراسة وقراءة عباقرة الفكر والفلسفة الغربية القدامى والمحدثين .. مثل سارتر وهوجو ونيتشه وهيجل ..
لكنه أدرك الخط الفاصل بين قراءة الفكر الغربي وتقدير رجاله وقيمة حضارته وبين الانبهار الأعمى بالنحو الذى اندفع اليه معاصروه ومناجزوه ....


رسالة العقاد وأثره الفكرى
من الصعوبة بمكان .. ادراك مدى الأثر الذى تركه العقاد للحضارة العربية ..
فهذا المفكر الأسطورة ترك ميراثا يستعصي ادراكه على كل ذى قدرة وفكر ..
عشرات بل مئات الكتب والدراسات والمقالات والأشعار ..
تمثل الحجة لدى كل ساع للحقيقة حريص عليها ..
وهناك خط فاصل بين كتابات العقاد قبل الثورة المصرية فى يوليو 1953م ..

وبعدها ..
فقبل الثورة كان العقاد طارقا شتى مجالات الكتابة لا سيما الكتابة السياسية التي تستعصي مؤلفاته فيها على الادراك لصعوبة تواجدها ..
والحادث أن العقاد مع غياب حرية الفكر والكتابة والتعبير فى عصر القهر الذى تلى الحكم العسكرى بعد قيام الثورة ..
استشعر العقاد أن الحكام الجدد ليس لديهم أدنى تقدير لأحد من روافد الفكر وعمالقته ولن يستعصي عليهم أن يكون العقاد مهما كانت قيمته الفكرية نزيلا بأحد المعتقلات مغيبا فيها ..
ولما كان العقاد يدرك أن المعارك لابد أن تكون بين خصوم عقلاء وليس بين من يدركه العقل وخصمه يصاحبه الجنون .. لذا آثر الابتعاد لعدم قدرته على مسايرة النظم الجديدة التى تتطلب النفاق للوصول ... أو الدخول الى سراديب المجهول اذا حاول التصدى منفردا لما هو حادث .,
وقد أحس العقاد مبكرا جدا بفداحة ما ينتظر مصر بعصر التغيب ..

منذ كانت حادثة جمال عبد الناصر بالمنشية والتى وقف فيها عبد الناصر بعد فشل محاولة اغتياله هاتفا بأنه علم مصر الشرف وعلمها الكرامة وأنه اذا مات عبد الناصر فلن يموت ما علمه للشعب ..
يومها كان العقاد ببيته وسط صالونه سمع الكلمات عبر المذياع ..
فاحمر وجهه بغضب مكتوم وعلق

" علمنا الشرف والكرامة !! ألم نكن نعرفها قبل أن يجيئ هذا القائل الى الدنيا .. "
ثم فاحت مرارته من كلماته وهو يقول

" ان شعبا يستمع الى تلك الكلمات .. ولا يقوم على قائلها ..
فيقتله فى مكانه .. لحرى به أن يضربه ذلك الفتى وأمثاله بالنعال "

واعتزل العقاد ..
وتفرغ لرسالته فى الكتابة فأخرج درر الفكر الاسلامى من جعبته ..
ومن عينه كتاباته السياسية التى توقفت بعد الثورة يبرز كتابه " لا شيوعية ولا استعمار " كعلامة حقيقية فى هذا المضمار ..
وتعد العبقريات أشهر ما أخرج العقاد لفكر الاسلامى وهو لم يكن يكتب تاريخا للأشخاص أو الوقائع فحسب ..
بل كان يصب الفكر فى قوالب كتبه محللا للأحداث ومواقف الشخصيات التى يتناولها عن طريق معالجته ومناقشته لأمهات الكتب التاريخية ومراجعها الكبري ..
وهناك سير لشخصيات لم تضمها العبقريات والتى قصرها على علامات الصحابة وفى البداية كانت عبقرية محمد صلى الله عليه وسلم ..
وكتاب " مطلع النور أو طوالع البعثة المحمدية "
وكان كتاب " عبقرية محمد " هو ذلك الكتاب الذى اعترض فيه الامام محمد متولى الشعراوى على عنوانه لأنه رأى فيه نسبة العبقرية الى شخص الرسول عليه لصلاة والسلام ..

فى حين أن الواجب رد تلك العبقرية نقاء الرسالة الى فلسفة اختيار الله عز وجل لمحمد عليه أفضل الصلاة والسلام لأداء الرسالة ..

ثم كانت " عبقرية الصديق " ثم " عبقرية عمر " ثم " عبقرية عثمان " ثم
" عبقرية الامام" ثم عبقرية خالد " رضي الله عنهم جميعا
ثم كتب السيرة الشخصية المتمثلة فى العديد من الصحابة مثل
كتاب " عمرو بن العاص " وكتاب " معاوية بن أبي سفيان
" وكتابه عن السيدة عائشة رضي الله عنها " الصديقة بنت الصديق "
وكتابه عن السيدة فاطمة الزهراء " فاطمة الزهراء والفاطميون " رضي الله عنها
ثم تناوله لشخصيات قديمة وحديثة مثل
كتابه " جحا الضاحك المضحك "
وكتابه " الأستاذ الامام " عن الامام محمد عبده ..
وكتابه عن بن الرومى " بن الرومى .. حياته وشعره "
وكتابه عن السياسي المصري سعد زغلول " سعد زغلول "

وهذه كلها مجرد أمثلة .. فاسهاماته عن الشخصيات التاريخية لا تؤذن بحصر ..
اضافة الى كونه المؤسس الرئيسي لمدرسة الديوان فى الشعر العربي التابعة للمدارس الرومانسية التى أسس حركتها الأولى شاعر القطرين خليل مطران
ومن بين كتبه يبرز كتابه النقدى المشع " أشتات مجتمعات فى اللغة والأدب "
اضافة الى دواوينه الشعرية وان كانت قليلة .. ورواية واحدة هى " سارة "
اضافة الى كتبه النقدية عن الفكر الغربي مثال ذلك كتابه عن شكسبير " التعريف بشكسبير "
مع الكتب التى تمثل السيرة الذاتية مثل كتابه " أسوان "
وكما سبق القول ان هذه الأمثلة ..
تضم تحت كل مجال منها عشرات البحوث والكتب والدراسات ..
مما أعطى للعقاد أثرا لم سبقه اليه غيره فى عالمنا المعاصر ..
فرحمه الله من مفكر ساطع .. مات وميراثه المحابر والأقلام ..
فنأمل من الله تعالى أن يكون ممن قال فيهم الرسول عليه الصلاة والسلام

" من مات وميراثه المابر والأقلام .. دخل الجنة .. "

وقد توفي العقاد رحمه الله ومصر تحت تأثير هزيمة النكسة القاسية والتى أحس العقاد بمقدمها يوما ما قبل أن تطويه عزلته عن السياسة مع شعب من حوله كان بين مطرقة الخوف .. وسندان النفاق ..
انطوى معتزلا عندما وجد دعوته السياسية وهو بها جدير .. لن تصل ولن يفوح عطرها الى أحد مع جو الكتم والحرية ..
فآثر السكوت عن السياسة .. لأنه حتى لو تكلم بها ..
لم يكن ليسمحوا لصوته بأن يكون مسموعا مهما علا .
ليس لأن كلامه ورؤاه ستكون غير ذات حقيقة ..
بل على العكس لأنها ستكون صدمة الحقيقة مع عقول آثرت الزيف .
وكم من مفكر .. وكم من مبدع .. دعا الناس الى صلاحها فأبت ..
فحق عليهم الجهل حيث هم ..
رحمك الله أيها الأستاذ .. وغفر لك .. وولاك مكانة بجنته برحمته ..
وأعطاك ما منعك غيره ..
ووصل صحبتك برمز الدعوة ومؤدى الأمانة صلى الله عليه وسلم.

محمد جاد الزغبي
01-04-2007, 02:40 AM
عبد الله النديم ..
قطعه الطين النبيلة من أرض مصر


أمرهُ عجيب ..
هو الشعب المصري ..
ولا مفر من القول أنه من أغرب وأقدر شعوب العالم فى صفاته
وما أصدق وصف الرسول عليه الصلاة والسلام ..
حين وصف مصر بأرض الكنانه .. وأوصي عليه الصلاة والسلام أن يُـتخذ منه الجند الكثيف لأنه خير أجناد الأرض
نعم ..
خير أجناد الأرض .. أكثرهم صمودا واصرارا وعزيمة .. وقدرة على النهوض من وسط الرماد كالعنقاء اذا لاح فى الأفق أنه شعب مات .. أو استسلم
وكل من ظن بمصر أنها من الممكن أن تستجيب للنوائب فتنهار عزيمتها .. كان له ألف عذر بظنه هذا .. !!
لأن الشعب المصري تمرس على الصبر طويلا ..
حتى صار الصبر أسلوبه المعهود عبر تاريخه كله .. حتى اذا استرخت العزائم المعتدية ..
هب الشعب فجأة باحدى الجذوات المتمثلة فى زعاماته التى تخرج لتقود الهمه وتثير الأمه ..
يرضخ الشعب طويلا .. حتى يأت موعد النهوض .. ولابد أن يأتى هذا النهوض على يد أحد أبطال المصرين الذى أذهلوا حروف التاريخ بعبقرية التضحية والفداء
من أيام الفراعنه .. واحتلال الهكسوس الذين استولوا على مصر قاطبة .. لكم يتبق شبر واحد فى واديها العريض الا ووضع الهكسوس بقواتهم أيديهم عليه غضبا وعدوانا ..
وفرت الأسرة الحاكمة أسرة " سيقنن رع " الى بلاد النوبة ( السودان حاليا ) وعبر السنوات الطوال تجرى الاستعدادات فى صبر خرافي وصمود وعزيمة لا تلين حتى يستعيد الجيش المصري عنفوانه وتصميمه وينفض عن نفسه غبار الهزيمة وينطلق تحت قيادة الملك " كاموس بن سيقنن رع " لتبدأ رحلة التحرير ..
وتندفع الجحافل المصرية ويستشهد فى طريق الكفاح الملك نفسه .. فيتولى القيادة ابنه القائد الشاب والداهية العسكرى " أحمس " ...
والذى يواصل القيادة محاربا ومناضلا حتى تمام تحرير العاصمة أواريس " لقاهرة حاليا " ليستسلم الهكسوس وينزحوا عن أرض بلاده
وتتابع السنون والشعب المصري تنهض همته بتأثير عاملين ..
تزايد الظلم والقهر .. وخروج قيادة توحد رؤي هذا الشعب الفريد ..
وتتكرر الأمثلة عشرا ومئات المرات أيامك الرومان والبطالمة ثم تفتح مصر صدرها للعهد الاسلامى .. وتندفع الحوادث التاريخية واحدة تلو الأخرى حتى العصر الحديث ..
ويبرز عمر مكرم نقيب الأشراف ليولى محمد على الجندى الألبانى حكم مصر .. ثم تنقلب التولية الى احتكار ويبطش محمد على بكل خصومه وأولهم عمر مكرم ورفاقه ..
لكن يحسب لمحمد على النهضة التى قادها ..
ويخلفه على كرسي الحكم أبناءه عباس الذى اغتيل بأيدى خدمه ...
ثم يأتى بعده اسماعيل الذى كان عصره هو عصر النهب الأول لمصر
حيث أغرق اسماعيل نفسه فى الديون الربوية من المرابين الأوربيين تحت زعم بناء مصر وجعلها قطعه من أوربا ..بيد أن الأموال الخرافية التى استدانها الخديو لم يصرف الا القليل منها على المشروعات لتستنزف البقية الباقية فى أمور اللهو والحفلات والبذخ اللامتناهى ..
كل هذا والشعب فى أحط ألوان القهر ... حيث كان الجـُباه لا يجدون الا الشعب المصري لاشباع حاجة الحاكم الى المال
وعانى المصريون قحطا لم يسمع بمثله من قبل
وتولى الخديو توفيق حكم مصر بمساعدة البريطانيين والفرنسيين وأطاح بوالده فى واقعه خيانه شهيرة حتى أنه لم يسمح له بمجرد الموت على أرضها ..
وتتواصل الجباية ويتواصل الانهيار بمستوى المعيشة للفلاحين والبسطاء ..
وعند تلك اللحظة ..
آن للبركان أن ينفجر ليظهر أبطال هذا العد وفى مقدمتهم هذا الفريد بعصره وأوانه
عبد الله النديم الشهير بخطيب الثورة العرابية ..
فهلموا بنا الى رحابه ..




12
كانت البداية بحى الجمرك بالأسكندرية المصرية حيث ولد البطل المصري عبد الله النديم
عايش فساد عصر اسماعيل وقحط المصريين .. ثم تواصل مع عهد توفيق
وكان يثيره أشد ما يثيره ..
السكون والصمت المطبق من المصريين على هذا العدوان
ثم تفتح ذهنه وعقله وعاطفته على بدايات تحرك الجذوة الوطنية التى قادها أحمد عرابي الضابط الوطنى المصري ورفاقه البواسل الذين ضجوا بالفساد والافساد وبالمناصب التى بات حكرا بالجيش على غير المصريين من الجراكسة وعلى رأسهم وزير الحربية نفسه عثمان رفقي ..
اشتعلت الأمور بمصر عقب اعتقال أحمد عرابي ورفيقيه عبد العال حلمى وعلى فهمى ..
ليهب البكباشي محمد عبيد أحد رجال عرابي فيقود كتيبته ويعتقل قائده الجركسي لتنتصر الثورة العرابية أولى انتصاراتها على الاطلاق وأقواها بعد أن تم تعيين الوطنى الشهير محمود سامى البارودى وزيرا لحربية وهو الشاعر الأصيل الذى كان ربا للسيف والقلم بعد أن تزعم حركة الاحياء والبعث لاعادة الشعر العربي لجزالته المعروفه ..
وتتواصل الثورة العرابية .. فيقود أحمد عرابي الجيش المصري بكتائبه الى قصر عابدين الشهير حيث مقر الحكم ..
ويقابله على بوابته الخديو توفيق وعلى يمينه ويساره الوزيران الأجنبيان فى الحكومة وهما " كلفن " و" أوكلسن "
ويدور بين عرابي والخديو هذا الحوار التاريخى الذى هتف به عرابي ردا على كلمات الخديو المستفزة ..
" لقد خلقنا الله أحرارا .. ولم يخلقنا تراثا أو عقارا ... ووالله الذى لا اله الا هو لن نورث بعد اليوم .. "
ويخضع الخديو لمطالب الأمة ويتولى شريف باشا الشهير بأبي الدستور وزارة مصر ليصبح الدستور الذى طالب به المصريون رهن أمرهم ..
والذى صدر فى السابع من فبراير من عام 1882 م ..
وفى قلب تلك الأحداث
كان النديم قد شمر عن ساعديه وترك الهوان الذى ضرب فى صدور من حوله وانطلق بمواهبه الخرافية فى الخطابة والكتابة وتناول كل الأوضاع المزرية والأساليب الاستعبادية بالنقد والثورة عبر مجلة الطائف ثم مجلته الساخرة " التنكيت والتبكيت " وهى المجلة التى سببت صداعا دائما فى رأس السلطة وألقت بالمرارة فى حلوق الشعب المصري التى رضخ وصمت ..
ولم ينج من لسان النديم كبير ولا صغير بدء من الخديو نفسه وحتى أصغر الظالمين والمتعاونين معهم ..
وانضم الى رفاقه فى الثورة العرابية وأصبح خطيبها الأول بلا منازع ومع شجاعته التى لا تقف عند حد .. قام بالطواف شرقا وغربا يخطب بلسان يبعث الحياة فى قلب الحجر بكلمات من نار تهيج المشاعر وتوقظ النفوس التى استمرأت العبودية ..


فى قلب المعركة ..
من الذى أوقظ النديم .. ؟!
الواقع أنه اضافة الى طبيعته الأبيه وعنفوانه المدهش .. كان للمصلح الاجتماعى الفذ جمال الدين الأفغانى صاحب مجلة " العروة الوثقي " هو والاصلاحى الشهير الامام محمد عبده ..
كان لهذا الرجل تأثيرا مذهلا على المصريين عامة والنديم بصفة خاصة ..
وفى قلب القاهرة على أحد المقاهى الشهيرة كان يجلس الأفغانى يلقي بكلمات كالسياط تمزق قلوب سامعيها قبل أن تخترق آذانهم منها ..
" أنتم معشر المصريين قد نشأتم على الاستعباد وتربيتم فى حجر الاستبداد .. وتناولتكم أيدى الغزاة من فرس ورومان وأكراد ومماليك .. وكل يُعمل فى أرضكم مبضع نهمه وأنتم غافلون
أيها الفلاح الذى تشق قلب الأرض لتسنبت ما يسد الرمق .. وتترك خير أرضك منهوبا
لما لا تشق قلب ظالمك .. لماذا لا تشق قلب الذين يأكلون أتعابك ؟!! "

على تلك الكلمات القوارع تربي النديم ..
وعندما أخذ مكانه الى جوار عرابي وثورة المصريين .. كان أشجع تلاميذ الأفغانى فى التعبير ..
لم يترك شرقا ولا غربا الا وخف الى المصريين فيه حاملا معه كلمات خطبه البليغه شديدة البلاغه .. والساخرة شديدة السخرية .. سخرية مريرة كفلت له أن تندفع الناس خلفه كالطوفان مطالبة بحقها المسلوب ومؤمرات الخديو وأعوانه من الدول الكبري للفتك بما حققته الأمة من انتصارات
وتندبلع الحرائق المدبرة بالقاهرة حتى يتسنى للخديو اعلان الأحكام العرفية التى تبيح له الضرب بيد الحديد على من أقضوا مضجعه وأولهم النديم ..
ومع انفجار المعركة ..
ازاداد النديم نشاطا واشتعالا وتحوت كلماته الى دموع ملتهبة تكوى قلوب الصامتين حتى هب الجميع خلفه وانطلقوا خلف عرابي فى التل الكبير لرد القوات البريطانيه عن البلاد بعد أن دعاها الخديو المتواطئ ..
وما ان يلمح النديم متهاونا حتى يهتف

" أيها المصريون ..
لا حياكم الله .. ولا نجاكم .. ما دمتم تعيشون كالسائمة .. تأكل من حشائش الأرض وتقبلون أيديكم المتشققه ظهرا لبطن
أيها المصريون ..
شموا رائحه أجسادكم .. انها نتنه ونيل الله يجري بأرضكم
استمعوا الى أنين أمعائكم .. وواديكم يملؤه الخير ..
أنصتوا الى صوت الله يلعنكم مع أنكم حفظة كتاب الله وحملة رسالته
أيها المصريون ..
لعن الله من يكره الحرية ..
لعن الله من منع عن نفسه أطيب الطعام وهى حل له
لعن الله من يقعد متفرجا ملوما محسورا
لعن الله من لا يتبعنا "

انطلق الجيش وخلفه الشعب يمده بالعتاد والمؤن والسلاح البدائي دفاعا عن الحرية
وتحت تأثير الخيانه المعرفة التى تعرض لها جيش عرابي من البدو وتمكن " فرديناند ديلسبس " من خداع عرابي عندما أوهمه أن قناة السويس لن يستخدمها الجيش الانجليزى وهو ما لم يحدث ليواجه الجيش المصري معركة غير متكافئة وينسحب عرابي وأخاه وبعض رفاقه وفيهم النديم ويصلون الى القاهرة فجرا
ويتم القبض على معظم قيادات الثورة التى تم قهرها وكوفئ المتواطئون على أعمالهم وانطلقت أعمال الانتقام تنال كل من ساعد وتكاتف من أجل وطنه فوقع عرابي ورفاقه بين أيديهم .. وتم نفيه ..
لم ينج من هذا المصير الا عبدالله النديم والذى استفاد من كونه خبيرا بحياة الصعاب والتشرد وما كانت بجديدة عليه
وفشلت جميع الجهود فى القبض عليه .. وفر نحو تسع سنوات كاملة
لأنه لم يكن حتمل عقوبة النفي ولو ليوم واحد خارج تلك الأرض التى درج على أن أنه قطعه من طينها النبيل ..
وامتدت عشرات الأيدى تريد أن تنال النديم طمعا فى مكافأة القبض عليه
وفى المقابل امتدت مئات وآلاف الأيدى الى النديم تساعده وتشد أزره وتحميه بأرواحهم .. هؤلاء الذين بذل لأجلهم روحه واستقراره .. فحموه لتسع سنوات فشلت قوات الاحتلال فى العثور على شعرة واحدة منه
ومن أجل الأمثلة على عظمة ما فعله الندم وعظمة تأثيره ما حدث عندما التجأ الى الشيخ محمد الهمشري عمدة احدى القري المصرية واسمها " العتوة " من أعمال محافظة الغربية .. والذى كتم الرجل سره فيها الا عن زوجته الصالحه
ثم مر عام وتوفي الشيخ الهمشري
فجاءت زوجته الى النديم ومعها أكبر أبنائها .. وتوجهت الى ولدها الأكبر بكلمات ان دلت فانما تدل على الأم المصرية الحقيقية
قالت الأم ..
" يا ولدى .. هذا هو عبد الله النديم الذى رصدت الحكومة لمن يدل عليه ألف جنيه ( وهو مبلغ خرافي بمقاييس تلك الأيام )
فهل تريد أن تؤويه كما فعل أبوك أن تسلمه وتقبض المكافأة فأكون برية منك الى يوم الدين "
فرد الفتى فى صلابة
" حاشا لله أن أفعل .. سترين أننى سآويه وأحافظ عليه محافظتى على عرضي وأرضي .. "



السطور الأخيرة من ملحمة النديم ..
وبعد تسع سنوات طويلة .. مرت ومصر واقعه تحت سنابك الاحتلال .. وقع النديم فى قبضه الحكومة .. لكن بعد أن صار حال مصر أفضل كثيرا عن تلك الأيام التى كانت فيها تئن من الألم دون أن تمتلك القدرة على الصراخ
فخلال سنوات الاحتلال وبعد ما فعله النديم ورفاقه تفجر الوعى القومى وأهمية المواطنه حتى أن الثمانين عاما التى استغرقها الاحتلال مرت عليه مرور الموت بعد طول حشرجة
انطلق الفدائيون والطلبة والنساء المختمرات فى مظاهرات وكفاح مسلح ومقاومة مسميته بلغت بريطانيا ذاتها فاهتزت من أثرها الجكومات المتعاقبة ..
وقع النديم بعد تلك السنوات التسع ..
وحملوه الى وكيل النائب العام للتحقيق فاذا به قاسم أمين الاصلاحى الشهير والذى عرف جيدا رسالة النديم وأثره فأكرم وفادته وعامله معاملة حسنة حتى الأوامر من القاهرة بشأنه ..
ونفي النديم الى يافا .. غير أن موت توفيق أتاح له العودة بعد أن أتى الوالى الجديد فأصدر أمره بالعفو عنه ..
وعاد المجاهد الكبير الى مصر ليجد أزمة مشتعله بين اللورد كرومر والخديو عباس حلمى ويستشعر النديم سكونا فى الحركة لم يعهده فى الشعب المصري بعد أن أشعلت الثورة العرابية غمار المقاومة ..
وتساءل بينه وبين نفسه هل عادت النفوس لسابق عهدها ..
غير أنه حمد الله بعد قليل على بقاء الجذوة عندما طرق بابه شاب فى مقتبل العمر متحمس ثائر ..
جاء الى النديم يرجوه أن يقص عليه القصة الحقيقية للثورة بعد أن ضاعت ملامح الكفاح بالروايات المغلوطة ..
وتأمله النديم فى صمت .. ثم سأله عن اسمه
فأجابه الفتى الثائر " مصطفي كامل "
وكان هذا الشاب هو الزعيم الشهير مصطفي كامل الذى أوقظ الحمية بعد خمودها وقلب الأمر رأسا على عقب بعد أن أوصل قضية مصر الى المحافل الدولية وكان هو بطل حادثة دنشواى الشهيرة والتى انتقم فيها مصطفي كامل للأبرياء الذين أهدر دمهم بلا ذنب جنوه .. فسقط وزير المستعمرات وصدرت الأوامر بترحيل كرومر
استمع مصطفي كامل الى النديم .. ونجح النديم فى التأثير على وتشكيل عقلية الشاب الجالس أمامه
وينطلق مصطفي كامل وجيله العبقري ليؤسس الحزب الوطنى
" بالطبع هناك الحزب الوطنى الحالى ولا يمت بصلة الى الحزب الذى أسسه مصطفي كامل قديما
فما أبعد الفارق بين حزب أسسته هموم الوطن ..
وحزب ورث الاسم ويسعى لتوريث الاثم !!! "

وعلى الرغم من أن النديم كان على أبواب عامه الخمسين وقد أدى رسالته وبلغ أمانته ..
الا أنه لم يهمد ولم يصمت ..
فأسس مجلة " الأستاذ " وكانت تختلف عن مجلته القديمة " التنكيت والتبكت " التى كانت تزاوج بين الفصحى والعامية لأن الأستاذ جاءت رصينه الكلمة بالفصحى الوقورة ..
فثار رفاق النديم القدامى على صاحبهم ودعوه الى العودة للعهد القديم ..
وعاد النديم .. ليشعلها نارا بحق ..
وبدأت الخواطر تهيج شاهدة على القدرة الفائقة لهذا المجاهد ..
وتصرخ الجرائد والصحف البريطانية وعلى رأسها التايمز التى بضرورة اسكات هذا الرجل .. وتدخل الباب العالى " الحاكم الاسمى للأقطار العربية تحت مسمى الخلافة العثمانية "
وقام السلطان عبد الحميد باستدعائه الى استنبول وومنعه من الذهاب لمصر وقام باكرامه وتعيينه فى لجنه مستشاريه الا أن النديم يضيق بالقفص الذهبي الذى نسجه حوله السلطان فيوجه نقده اللاذع الى السلطان نفسه ويهرب منه
وعاد النديم الى مصر
ولم يلبث الا فترة قصيرة ..
ووافته المنية .. فى يوم 10 أكتوبر عام 1896 م ..

وكانت جنازته المهيبة عبارة عن محفل وطنى كامل ..
تقدمها شيخ مهيب الطلعه ..
غمرت وجهه دموعه الآسية ...
وهى ترثي بطلا قل أن يجود الزمان بمثله ..
كانت دموع الامام جمال الدين الأفغانى