المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : بـــــــــــلا دموع ...!



د. حسين علي محمد
25-02-2006, 05:18 PM
بـــــــــــلا دموع ...!

قصة قصيرة، بقلم: د. حسين علي محمد
.................................................. ......

دعا حسام الله أن تكون خطيبته هند مع أمها فقط في البيت، وأن يكون أخوها عمر مدرس الفيزياء في مدرسة القرية الثانوية ـ الذي يكبرها بعامين قد ذهب لحصة دروس خصوصية صيفية، وتمنى أن تفتح هي الباب، حتى ينعم بنظرتها التي يُحب أن يراها دائماً.
أما والدها المهندس عثمان فهو متأكد أنه لن يراه، فهو يعمل في شركة بترول بالصحراء الشرقية، ولا يعود إلا كل شهر مرة ليُمضي مع أسرته عشرة أيام، وهو قد سافر منذ عشرة أيام لا غير.
لكن الله لم يستجب دعاءه، فقد فتحت له الحاجة عنايات (أو أم عمر) الموجهة المالية والإدارية بإدارة الزقازيق التعليمية.
***
قدّمت أم عمر الشاي لحسام وابن خالته صدقي ـ وهو محاسب بإدارة المنصورة الهندسية، وأشيب، وفي الخامسة والأربعين ـ ولاحظ حسام أن أم عمر متوترة، وأن بريق دمعتين منطفئتين في عينيها.
قال:
ـ أين هند؟
ـ في الإسكندرية.
ـ لماذا سافرت وحدها؟ .. اعتادت ألا تسافر إلا معي أو مع الأستاذ عمر.
قالت أم عمر في آلية:
ـ الإسكندرية قريبة.
بلع ريقه في صعوبة:
ـ ومتى ستعود إن شاء الله؟
ـ قبل نهاية الإجازة بأسبوع.
نحن في أول الإجازة .. فهل ستُمضي شهريْن عند خالها في الإسكندرية؟ .. وكيف سيقضي هو هذه الفترة العصيبة؟
***
دخلت أم عمر إلى الحجرة المُجاورة، وعادت وهي تحمل حقيبة يد سمراء كم رأى هند وهي تحملها في كتفها، وكم وضع لها بعض الورود فيها، وهما يمشيان معاً في الزقازيق.
خطبها منذ عام، وقدّم شبكة متواضعة من دبلتين: ذهبية لها وفضية له، وابتدأ يجمع القرش إلى القرش حتى يُؤثث شقته المتواضعة ـ التي تتكوّن من حجرتين ـ في الزقازيق.
كانت هند غير راضية بها، لكنها تعرف أن العين بصيرة واليد قصيرة وسيستأجران ـ فيما بعد ـ شقة أخرى تكون أوسع من تلك التي كجحر الثعلب، ولا تزيد عن سبعين متراً.
حسام وهند من قرية لا تبعد كثيراً عن الزقازيق، كانا في مدرسة واحدة منذ المرحلة الابتدائية، فالإعدادية، فالثانوية. وكانا يتنافسان دائماً على المركز الأول. والتحقا بكلية التجارة، وهاهما قد تعيّنا معيديْن منذ ثلاثة أعوام.
كانت حكاية حبهما على كل لسان منذ نهاية المرحلة الثانوية.
***
جلست أم عمر على الكنبة، ووضعت الحقيبة بجانبها.
قال حسام:
ـ لم تقل لي هند أنها ستُسافر لزيارة خالها الباشمهندس محمود في الصيف.
جو القرية خانق .. يحس برائحة خانقة .. لعلها رائحة يد حلة محروقة، تختلط برائحة سمك نفّاذة .. يبدو أنها منبعثة من البيت المواجه الذي يبعد ثلاثة أمتار فقط عن الحجرة التي يجلسون فيها.
قال صدقي لحسام وهو يميل على أذنه:
ـ عجِّل .. أحس برائحة غير طيبة تملأ المكان!
يبدو أن أم عمر قد سمعت المُلاحظة، فبدا على وجهها ما يشير إلى الامتعاض.
قال حسام:
ـ ولماذا لم تقض الصيف هنا؟
قالت أم عمر:
ـ ابن خالتها الدكتور محسن عاد من أمريكا .. وذهبت لتسلم عليه .. وأنت تعلم أن شقة الدكتور محسن تُواجه شقة خالها محمود.
كان محسن يكبره بأربعة أعوام تقريباً، وكان الأول على مدرسة القرية دائماَ.
تذكَّر أنه حينما توجه لخطبتها منذ عام سمع من أحد فلاحي القرية أن هنداً على علاقة بمحسن ابن خالتها.
قال ـ وهو يبلع ريقه بصعوبة ـ ولا يكاد هو نفسه يسمع صوته:
ـ لقد عاد من أمريكا بسرعة!
قال صدقي وهو يبتسم:
ـ بل الأيام هي التي تجري بسرعة!
قالت أم عمر وهي تؤكد على حروف كل كلمة، وتهش بيدها اليسرى ذبابة تُصر أن تقف على أنفها:
ـ نال الدكتوراه في زمن قياسي.
رأته ينظر في الأرض ويفرك أصابعه، فأضافت:
ـ حصل على الشهادة في عامين ونصف، وكانت جامعة الإسكندرية قد أوفدته في بعثة لخمسة أعوام.
سأل صدقي الذي يُقيم في المنصورة من خمسة وعشرين عاماً ـ وهو من جيل أم عمر، ولا يعرف معظم أبناء القرية:
ـ الدكتوراه في الطب؟
قالت الموجهة المالية:
ـ لا .. في علم الاجتماع السياسي.
***
تذكر حسام أن هنداً في لقاءاتهما الأخيرة كانت تكلمه عن ابن خالتها «محسن» كثيراً، وأنها كفَّت عن غناء أغنية أم كلثوم الأثيرة «الأطلال» التي كانت تغني مقاطع منها كلما تُقابله في حديقة الجامعة، وتشتبك أيديهما معاً.
رفع حسام كوب الشاي فوجده بارداً، وكان ابن خالته «صدقي» قد انتهى من كوبه.
قال للسيدة أم عمر وهو يهم بالقيام:
ـ لقد تأخَّرنا .. تُصبحين على خير .. سلمي لي على الأستاذ عمر حينما يجيء.
قالت في آلية:
ـ سيأتي بعد قليل .. ألا تنتظره؟
ـ الوقت متأخر كثيراً ..
وأضاف وكأنه يتخلص من الكلمات:
ـ سأراه في زيارة تالية إن شاء الله.
مدَّ يده ليسلم عليها، ولكنها كانت مشغولة بفتح الحقيبة السوداء، التي أخرجت منها علبة قطيفة حمراء .. علبة لا يجهلها، وفتحتها قليلاً فرأى دبلته لهند.
أغلقت العلبة، ووضعتها في ظرف أبيض، وقالت ـ وكأنها تؤدي مهمة رسمية ـ بلا مشاعر:
ـ هذه رسالة من هند لك.
أغمض «صدقي» عينيه وتحرك خطوتين إلى الأمام ليُغادر الحجرة، ولم يسألها «حسام» ماذا في هذه الرسالة؟ ومدَّ يده أمام أم عمر ليخلع دبلته الفضية، ويضعها في الظرف نفسه، ويُمرر لسانه على حافة الظرف ليلصقه بهدوء، ويضعه في جيب بنطلونه الخلفي .. بلا دموع!

ديرب نجم 17/8/2003م

د. سلطان الحريري
25-02-2006, 09:27 PM
مبدع يا دكتور حسين فس كل ما تكتب ، وأجدني مشدودا إلى قصصك التي تنم عن كاتب كبير يستحق الاحترام والتقدير.
دكتور حسين : أدعوك للمشاركة في المسابقة الأدبية التي أعلنا عنها على هذا الرابط:
https://www.rabitat-alwaha.net/showthread.php?t=12274
ولك خالص ودي وتقديري

د. محمد حسن السمان
25-02-2006, 10:31 PM
سلام الـلـه عليكم
الاخ الحبيب الغالي الاديب القاص الدكتور حسين علي محمد

جميلة مشوّقة هذه القصة , استخدمت فيها البساطة والمباشرة
في السرد ومتابعة الاحداث , ثم جاءت العقدة بعفوية خفيفة ,
ومن ثمّ اختتمت القصة بنفس العفوية , وخلف تلك البساطة
والعفوية , تتعرض بشكل ذكي ناجح لمشكلة اجتماعية , في
نموذج رائع للعمل الادبي الهادف .

بارك الـلـه بك .

اخوكم
السمان

د. حسين علي محمد
26-02-2006, 10:01 AM
شكراً للدكتور سلطان الحريري، مع تحياتي.

د. حسين علي محمد
26-02-2006, 10:02 AM
شكراً للدكتور محمد حسن السمان على تعليقه الجميل، مع موداتي.

حوراء آل بورنو
27-02-2006, 03:45 PM
بارعة كبيرة في القص أغبطك عليها ، و فكرة اجتماعية مؤثرة .

بوركت جهودك أيها الفاضل .

د. حسين علي محمد
27-02-2006, 09:55 PM
شكراً للأديبة الأستاذة حرة، مع التحية والتقدير.

أسماء حرمة الله
01-03-2006, 11:40 PM
سلام اللـه عليك ورحمته وبركاته

تحية تعبَقُ بالورد

الأخ المبدع والأديب د. حسين علي محمد،

اغرورقتْ بعينيّ دموعٌ وأنا أتابع أحداثَ قصتك، وحسام الذي ترك في نفوسنا ألماً عظيما بما حدث له، وكأن ماحدث له قد حدث لنا كقرّاء.
استطعتَ باقتدار شدّنا لعالمك الخصب المرهف، واستفزاز دموعنا الراقدة وقلوبنا القارئة، لتقطفَ منها إعجاباً واعتزازاً.
---
اسمح لي بأن أسأل عن:
دِبلة و حَلّة؟

دمتَ لنا
وتقبّل مني خالص تحياتي وتقديري واعتزازي :0014:
وألف باقة من الورد والمطر

د. حسين علي محمد
02-03-2006, 01:28 PM
شكراً للأديبة الأستاذة أسماء حرمة الله على تعليقها الجميل.
حلة: إناء للطهو.
دبلة: خاتم يوضع في اليد دلالة على الخطبة، أو الزواج.
............
شكراً لك.

مجدي محمود جعفر
03-03-2006, 01:33 AM
قصة من القصص التي نقرأها بشغف ونتابع أحداثها بلهفة ، فهي من واقعنا المعاش وأبطالها لحما ودما من أولئك الذين نراهم يوميا - شكرا لأستاذنا الدكتور على هذه القصة البديعة

نسيبة بنت كعب
03-03-2006, 07:49 AM
السلام عليكم

القاص الرائع : د. حسن على محمد

بصراحة كل قصصك رائعة
كلمة ورد غطاها - لكن بداخلها كثيييير .. مثل كبسولات الدواء

والملخص هذا به كل العناصر الأساسية لقصة محبوكة ببراعة

الأسماء والمسميات الوظيفية تعطى انطباعا عن الشخصيات ، والخلفية التى أتيتنا بها لنعيش معك اجواء المكان ، واللقطات السريعة التى تذكرها ولا تمر عليها ثانية .. تصنع لنا بها فى العادة خاتمة ممتعة

توقعت ان ام عمر ستكون حازمة ربما اختيرت لأداء مهمة رسمية صعبة
( موجهة مالية اى اكثر حزما )، توقعت منذ رايت الحقيبة السوداء انها بها دبل الخطوبة ترجعها له

الرائحة الكريهة عجبتنى فكرتها زى ما بيقولوا foul play اى هناك حركة ( نص كم ستحدث - هههه ) ولا ادرى ان اوجدتها ام عمر لتنهى اللقاء ام كانت مصادفة قدرية ؟ام هى نذير شؤم ill omen ?

أعجبنى تفهم حسام للرسالة وتصرفه على اساسها ، اكيد وضعه وتفكيرة عملى بدرجة لا تسمح معها بأى دموع

رائعة - فألانسان طموحاته تتغير وحسام متفهم جدا ومن تركه لا أسف عليه طبعا ولا دموع !

بلا دموع قصة شيقة

كبسولات دكتور حسين بت انتظرها

دمت مبدعا :hat::v1:

سحر الليالي
03-03-2006, 12:50 PM
قصة جميلة ...

سلم قلمك أستاذي د.حسن..وحقا ان قصصك جميعا رائعة

دمت لنا

وبإنتظار روائعك دوما

لك خالص تقديري

د. حسين علي محمد
03-03-2006, 07:03 PM
شكراً للأديبة الأستاذة نسيبة بنت كعب على تعليقها الجميل.

د. حسين علي محمد
03-03-2006, 07:05 PM
شكراً للصديق الأستاذ القاص مجدي محمود جعفر على تعليقه الجميل.

د. حسين علي محمد
03-03-2006, 07:06 PM
شكراً للأستاذة الأديبة سحر الليالي على تعليقها الجميل.

عبلة محمد زقزوق
04-03-2006, 03:50 AM
كما قالتا أختينا الفاضلتين ـ نسيبة بنت كعب , وأسماء حرمة الله
إن قصصك أستاذي كبسولات ، تحمل الكثير من الرموز والمعاني ، نتعايشها فنجدها تضج بالحياة حوالينا .

فمن سعى من أجل المال فقط والمنصب لن يجني سواهم " الحسرة والندامة في ركابهما " ؛ ومن سعى لأجل الحب ... وهو قمة العطاء ؛ حيث قابليته للزيادة والإزدهار ، فهو غانم لا محالة ...

والأيام وحكمة السنين خير معلم ، وشاهد ودليل .

جزيل الشكر أستاذي الفاضل د . حسين علي محمد

د. حسين علي محمد
04-03-2006, 03:49 PM
شكراً للأستاذة الأديبة عبلة محمد زقزوق على تعليقك الجميل، مع تحياتي.

ناديه محمد الجابي
06-11-2016, 07:50 PM
قصة شيقة وسرد جميل لحالة إجتماعية اجدت تصويرها
بلغة قوية وأسلوب قوي وسلس ومتمكن
استمتع بما أثرت من أفكار وردود
سلم الفكر والقلم. :001:

آمال المصري
15-11-2016, 09:47 PM
وصلت الرسالة قبل الخاتمة من خلال بعض الرموز التي جاءت في النص دلت على رائحة غير طيبة ملأت المكان هي رائحة الغدر ووأد المشاعر
لكنه واجه ذلك بخلع دبلته وارفاقها للأخرى وبهدوء لصق عليهما الرسالة لينهي زيارة أعد لها بفكره وقلبه ... وبلا دموع
اجتماعية جميلة بأسلوبها السهل وسردها الماتع وخاتمتها التي انتهت هادئة رغم ما تحمل
رحم الله شاعرنا القدير د. حسين