مشاهدة النسخة كاملة : النظر إلى الخلف
د. حسين علي محمد
08-03-2006, 03:32 PM
النظر إلى الخلف
قصة قصيرة، بقلم: حسين علي محمد
.......................................
كان مرتدياً جلبابه الفلاحي المتسع، في ذلك الصباح الشتوي من يناير، واضعاً يديْه خلف ظهره .. يمشي مشية متئدة حتى لا يظهر العرج الخفيف الذي أصاب خُطاه بفعل داء «النقرس» اللعين، تصحبه زوجته وقد هبطا درج العمارة الكبيرة حيث زارا ابنهما الوحيد المهندس «طلحة» لتهنئته بافتتاح مكتبه الهندسي، الذي افتتحه بعد عودته من ألمانيا حاصلاً على الدكتوراه في الهندسة. ذلك المكتب الذي يعمل فيه معه مهندس ومهندسة وأستاذ استشاري كبير.
توقفت زوجته «الدكتورة منى» ـ الأستاذة بكلية الزراعة، والمعروفة في المنطقة ـ عن المشي لتكلم سيدة استوقفتها. يبدو أنها تُريد مساعدتها في شيء، أو تسألها عن نتيجة ابنها أو ابنتها في الفصل الدراسي الأول.
قلل خطواته لتلحق به زوجته دون مشقة، بعد أن تنتهي من أمر هذه السيدة.
الزقازيق التي كانت تبدو كقرية كبيرة أيام أن كان طالباً بالمرحلة الثانوية في منتصف الستينيات .. ها هي تتسع وتتسع في السنوات العشر الأخيرة التي ترك فيها جامعته مستقيلاً، وذهب إلى الإمارات ليتخفف من الصراعات والمشاكل التي كابدها في جامعته التي أسسها.
سمع صوت السيدة التي استوقفت زوجته يأتي من الخلف:
ـ الدكتور محمود الأنصاري؟
رد في تلقائية، دون أن يترك لزوجته فرصة الرد:
ـ نعم يا أفندم، محمود الأنصاري.
نظر، وجد امرأة سمراء عجفاء تُقارب الخامسة والخمسين. ظنها لأول وهلة سائلة، فأدخل يده في جيبه ليُخرج صدقة تليق به، ليُعطيها .. ضحكت:
ـ أنا سميرة عاكف.
أخرج يده من جيبه بسرعة، وضرب جبهته كأنه يوقظ ذكريات مر عليها أكثر من ثلاثين سنة.
ـ ياه .. ليس معقولاً؟
صافحها بحرارة، وهو يقول لزوجته:
ـ كانت سميرة زميلتي في كلية الاقتصاد من ثلاثين سنة. كانت مع أول دفعة التحق بها أبناء الفلاحين بعد هزيمة 67.
وقال وهو يؤكد على كلماته:
ـ لكنها ليست فلاحة! فأبوها كان مدير أمن الشرقية الأسبق.
ضحكت سميرة، فأنارت ضحكتها وجهها الأسمر، وهي تقول في حرج:
ـ مازلت تتذكر؟
كاد أن يكمل «كان نفسي أشوفك يا سميرة من زمان» .. ولكنه كتمها في فمه!
ومر في فكره أنه توجه إليها خاطباً بعد التخرج، ولكن والدها لواء الشرطة (اللواء محسن عاكف) أوصد الباب في وجه ابن الفلاح الصغير.
قال لها مبتسماً ابتسامةً عريضة اعتاد أن يراها من يعرفه كلما تحدّث:
ـ إلى أين أنت متجهة؟
أشارت إلى الطابق الرابع من العمارة التي هبط منها:
ـ طالعة لرؤية ابنتي المهندسة «شيرين» التي تعمل في «مكتب طلحة للاستشارات الهندسية».
صافحها متعجلاً، ولم يسأل زوجته إذا كانت تعرف سميرة أم لا؟
ووجد ريقه يجف، فلم يسأل سميرة:
ـ أتعرفين أن طلحة ابني؟.
مشى عدة خطوات، ووجد زوجته مشغولة بتصفح واجهات المحلات، فنظر إلى الخلف خلسةً، ووجد سميرة أيضاً تنظر خلفها!
الرياض 5/3/2004م
د. محمد حسن السمان
08-03-2006, 05:59 PM
سلام الـلـه عليكم
الاخ الحبيب الغالي الاديب القاص الدكتور حسين علي محمد
انها من جميل ما اقرأ لك من القصص البسيطة المباشرة ,
تصيغها بحرفية ومهارة , تشد القارىء دون تعقيد , بنبض
قوي مباشر , ترسم صورة مجتمعية وحياتية , دوما لديك
شيئا تقوله في ادبك القصصي , وتترك القارىء يعيش الحالة .
بارك الـلـه بك .
اخوكم
السمان
زاهية
08-03-2006, 06:05 PM
ترى هل تظل الذكريات حية في مخيلة من عاشها تترقب لحظة انفجارٍ سانحة لتقول إنني مازلت على قيد الحياة ؟أم هي مجرد حنين وذكريات ليس إلا ؟
الرصد دائما يحتاج لعين نافذة تعين على التقاط الصورة بشكل حساس يجيد التأثير بالقارىء وأنت تمتلك هذه القدرة .
بارك الله فيك أخي الفاضل د0حسين علي محمد
أختك
بنت البحر
سحر الليالي
08-03-2006, 06:14 PM
قصة جميلة جدا
بحق رائعة
سلم قلمك د.حسين
دمت لنا
لك خالص إحترامي وتقديري
عبلة محمد زقزوق
08-03-2006, 06:47 PM
موقف ربما يصادفنا ، ويمر مرور العابر للخيال ، وقد يتولد منه أجمل الذكريات فنظل نحيا فترة من الزمان على ذكراه ويتجدد روح الشباب ؛ وربما يحمل أحزان فنبتئس ونهرول للنسيان .
أنه موقف عادي وبسيط قد يصادفنا ولا نعيره إية إهتمام بعد تلك الإلتفاته ، فنمضى وتسير بنا الحياة .
ولكن هنا ومعك نجد أنه يستحق أن نذكره ولو ببعض السطور فربما نحتاجها لكي نكمل المسير ، في ثقة وإيمان لكل ما أنجزناه .
خالص التحايا والتقدير لموقف يستحق كاتبه التقدير
د . حسين علي محمد
نسيبة بنت كعب
08-03-2006, 06:57 PM
السلام عليكم
اديبنا الكبير / حسين على محمد
سبحان ربى
الرجل عنده النقرس بعدما عاش فى الخليج
من مظاهر الترف - داء الملوك
والسيده سميرة بنت الأكابر اصبحت عجفاء
ومن مفارقات القدر ان ابنة سميرة "شيرين " بنت الأكابر تعمل عند طلحة ابن البسطاء سابقا
الحمد لله ان محمود الانصارى لم يقل لها شىء !
تعجبنى طريقتك فى عرض احاديث الانسان لنفسه وما يدور بها من صراعات وافكار تجعلنا نفكر فيما وراءها من مغزى
الصمت كان جيدا من قبل الأنصارى ، لعل طلحة يجد فى شيرين ما فقده ابوه سابقا - وليعلم الأب هل فعلا المسأله تستحق النظر للخلف ام لا - ويكأن الأولاد سيكملوا سيرة الأباء من هذه القصة
جميلة الأحاديث النفسية والنظرات الخفية والأيحاءات واستخدام الاسماء والأماكن والمسميات
قصة واقعية تحدث دائما - المهم كيف نتعامل مع المواقف اذا ما اجترت علينا الذكريات بالمصادفة . النظر الى الخلف للتعلم والعبر وليس للتحسر والندم - ما فات قد فات .. المهم كيف نبنى مستقبلنا ولا ننظر للخلف .
دمت هادفا
فائق تقديرى لتألقك :hat:
د. حسين علي محمد
08-03-2006, 10:29 PM
الدكتور محمد حسن السمان، شكراً جزيلاً يا سيدي،
ولا حُرمْنا من تعليقاتك التي تمدنا بزاد نُقاوم به فترات
الجفاف الإبداعي.
تحياتي.
د. حسين علي محمد
08-03-2006, 10:31 PM
الأديبة زاهية (بنت البحر)
شكراً جزيلاً على تعقيبك على القصة،
مع التحية والتقدير.
د. حسين علي محمد
09-03-2006, 11:27 AM
الأديبة سحر الليالي ..
من مخزون الذكريات نستلهم هذه القصص
التي نرجو أن يكون فيها ما يُفيد.
تحياتي.
د. حسين علي محمد
09-03-2006, 11:29 AM
الأديبة الأستاذة عبلة محمد زقزوق
قد يصادفُنا موقف عابر ـ كما تقولين ـ يتولد منه أجمل الذكريات
فنظل نحيا فترة من الزمان على ذكراه ويتجدد روح الشباب؛
وهذا ما حدث لي في إحدى الإجازات،
فكتبت هذه القصة.
تحياتي.
د. حسين علي محمد
09-03-2006, 11:32 AM
الأستاذة الأديبة نسيبة
كما تقولين:
"النظر الى الخلف للتعلم والعبر وليس للتحسر والندم"،
وللحنين أيضاً إلى تلك الأيام الجميلة.
تحياتي.
نسيبة بنت كعب
09-03-2006, 12:28 PM
صحيح فاتتنى الجزئية الخاصة بالمشاعر هذه
اصلى اصبحت انساها معظم اوقاتى ولا التفت للخلف ابدا
دمت مبدعا وانسانا
د. حسين علي محمد
09-03-2006, 10:58 PM
النظر إلى الخلف
تعليق: محمد معاطي
بهذه البساطة وبمنتهى الشفافية والعفوية يبدأ السرد القصصي لقصة من القصص التي كثيرا ما تحدث لنا أو تواجهنا في الواقع ولكن من المستحيل في قصة كهذه أن تتنبأ بالنتيجة أو النهاية التي سوف تصل إليها القصة .. وهذا هو الإبداع الحقيقي لكاتب مبدع ينتقي شخصياته ليوجد لها مكانا في مجتمعنا فنناقشها ونحاورها وكأنها معنا .. المصادفة تلعب دورها في القصة والتناقضات تنسجم مع الإنقلاب الذي حدث في البيئة الإجتماعية فها هو إبن الفلاح الذي أصبح أستاذا جامعيا وزوجا لأستاذة جامعية يضع يده في جيبه ليبحث عن وسيلة إحسان لإمرأة كانت من طبقة أعلى تخيل في زمن مضى أن تكون زوجته أو رفض طلب زواجه منها وتبقى هذه العلاقة ممتدة إلى الأبد طالما أن إبنة سميرة تعمل في مكتب طلحة إبنه .. إنها نظرة إلى الخلف حقا سوف تمتد معنا بالتأكيد طالما أننا كلنا نحن إلى الماضي .. ولكنني شممت يا دكتور رائحة طبقية جديدة أفرزتها التغيرات الإجتماعية حينما صارت هذه المرأة في عيني بطلها الدكتور محمود الأنصاري إمرأة سمراء عجفاء تقارب الخامسة والخمسين ظنها لأول مرة سائلة ولكن لا يمنع أن تهيج الذكريات لقصة حب قديمة إستطاع الكاتب أن يعبر سنينها كلها في نظرة واحدة .. مع خالص تحياتي ...
محمد معاطي
د. حسين علي محمد
09-03-2006, 11:01 PM
تعليق على القصة
للقاص: محمد البشيِّر ـ السعودية
تحياتي لهذا القلم وصاحبه ، صاحب العقد والقصص السهام في الناصية ، والأسلوب السهل الرائع ، والواصل لأفئدة القراء بشتى شرائحهم ، بدون تنازل عن الحرفية القصصية ، وبواقعية اجتماعية ، وهذه القصة رغم اختزال عمر بطلها في سطور قليلة إلا أنك لا تحس بالفجوة وكأنك يوقعك في عمر بطلها دون أن تضيع عاطفته تجاه سميرة ورفض أبوها الكبير لفلاحيته ، ودورت الزمن لتعمل حفيدة الكبير في مكتب ابن الفلاح ، بعنوان يطقطق رقبتك للالتفات للخلف دون لي . دمت سالماً أستاذنا الكبير.
نسيبة بنت كعب
10-03-2006, 02:41 AM
رااااائــع دكتور حسين
اعتقدت انى ربما اصبت فى تحليلى قليلا لأقول بصدق :
تنفعنى جدا المعلومات التى تنشرونها بخصوص النقد
دمت معطاءا تسعى لاثراء الواحــة بما يرتقى بها وبأهلها
شكرا لك :v1:
د. حسين علي محمد
10-03-2006, 11:07 AM
... وشكراً لك أنتِ أيضاً يا أستاذة نسيبة، لأنك تجعلين النص حيا بقراءته ومناقشة كاتبه.
شكراً لك.
د. حسين علي محمد
05-04-2006, 11:31 AM
هذه القصة
بقلم: د. أيمن الجندي
.................................
اعترف اني لم افهم جماليات النص وهي كثيرة الا بعد ان اويت لفراشي واستعدت القصة فتفتحت رموزها لي وبدأت افطن لمواطن الجمال التي لم اجد لها تفسيرا في القراءة الاولى . الحق ان القصة مصنوعة بشكل تعليمي بمعنى ان من يريد ان يعرف كيف تكتب القصة القصيرة يمكنه النظر لتلك القصة على غرار قصة يوسف ادريس عن الخادمة التي لها رجل كتكوت , في هذه القصة مفارقات كثيرة فالرجل الذي تم رفضه لانه ابن فلاح صار استاذ بالجامعة والزقازيق تتسع لكنه يرتدي الجلباب الفلاحي تمسكا باصوله حتى وهو يزور ابنه العائد من المانيا . كل شئ يوحي بسعة حال الاستاذ الجامعي حتى مرضه ( النقرس مرض الاغنياء ) . مثلما تبدل حال الزقازق والاستاذ الجامعي تبدل حال بنت مدير الامن ايضا فثيابها رثة حتى كأنها تستجدي وابنتها تعمل - وياللمفارقة - عند ابنه دكتور طلحة . مره اخرى يعكس الاسم اعتزازا بالاصول . لقطة العودة للماضي ذات الشجون تصبح الزوجة دخيلة عليها بحكم عدم انتمائها لهذه الفترة . لذلك هي تتطلع لواجهات المحلات . كلاهما يخامره الحنين لفترة جميلة في حياتهما . الجميل جدا هنا ان المؤلف ابعتد عن المبالغات لانه الشئ المتوقع ان يشير الى قصة غرام ملتهبة في الماضي ولكنه لم يفعل واغلب الظن انها كانت مشاعر محايدة ولم يقع المؤلف في فخ التراجيديا الصارخة التي كانت ستحول العمل الى شئ اخر . قصة جميلة واكرر اعتذاري عن جهلي وضعف تذوقي في المرة الاولى وان كنت مصرا اني ما زلت واقعا في غرام مجنون احلام واعتبرها وقصة السيد ادريس المغربي عن المهاجر الذي فقد قطته لذلك فهو هناك اجمل قصتين في الموقع حتى الان . في النهاية ربما لم يقصد كل هذا الاحكام في صنعة القصة لكنه حقيقي وغير مفتعل . قصة تعليمية بجدارة لمن يريد كيف يكتب القصة القصيرة وشكرا.
د. حسين علي محمد
05-04-2006, 11:33 AM
عن النص
بقلم: سمير الفيل
..................
البطل هنا هو الماضي ..
ذاكرة السنوات الخوالي ..
حيث الحب الطاهر البريء ، وفرص ضائعة لا تكترث بالقلوب المحبة .
سميرة عاكف هي تاريخ منسي ، وهي منطقة شاحبة لا تتوهج إلا بمصادفة عابرة ..
لاحظ أصابع القاص المدربة ،وهي تشد الخيوط ، وتحرك المصائر ..
لم يندفع القاص ليقتحم عليهما ( خلوتهما المعنوية ) ، بل تراجع خطوات ووارب الباب قليلا ..
غير ان كل الاحتمالات تشير أن الماضي لا يمكن ابتعاثه ، وأن تيار الحياة العارم يكنس المشاعر القديمة ، ويركنها بجوار حائط الذكريات بلا ضجر أو تململ .
جمال النص أنه بسيط ، وطيع ، وناصع .
بسيط في لغته ، وطيع في أسلوبه ، وناصع في فكرته .
أما الموقف فهو مجرد لحظة ، لحظة ابتعثت الماضي ومن كوة بعيدة في جدار الزمن أطلا معا على الحب القديم . لم تكترث الزوجة ، وراحت تتأمل البضائع في واجهة المحلات . هي على يقين انه الرماد الذي تبقى بعد حريق قديم .
نص لا يكشف عن ماساة بقدر ما ينصت بفهم واستبصار لحقيقة الوجع الإنساني الكائن في شبكة العلاقات الاجتماعية التقليدية .
نص أعجبني . ليس كما قال أوزبورن : " أنظر خلفك في غضب ! "
بل كما يشير الشاعر العربي القديم إلى أطلال الحبيبة ، ودموعه تنهمر حزنا .
لادموع هنا ، فقط ابتئاس ، وارتباك من وقع المفاجأة . لقد مضى الزمن سريعا ، وليس من حق أحد ان يسألنا عن ذكرياتنا .
إنها تخصنا وحدنا .
نعم ، مريرة كانت أم مفرحة !!
د. حسين علي محمد
05-04-2006, 11:37 AM
هذه القصة
بقلم: جمال علوش
..........................
أخي الحبيب الدكتور حسين :
لكم أنت رائع أيها الجميل .. فأمام هذه العذوبة ، وهذا التناول المدهش لفرح الانكسار الذي طفح ذات آه . ربما مررت ذات يوم بفرح مشابه ، وربما اقترفتَ أنتَ أيضاً ذلك . أدين لك بمتعة قراءة قصة من طراز مختلف .
تحيتي ( جمال ) .
Powered by vBulletin® Version 4.2.5 Copyright © 2025 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved, TranZ by Almuhajir