المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ستّ الكلّ



سعيد أبو نعسة
24-03-2006, 06:10 PM
ســت الكـــــل
كرقّاص الساعة ، راح المؤذّن يذرع ساحة المسجد جيئة و ذهابا ، انتظارا لبزوغ "الحاجة ".
كان صرير بابها الخشبي مؤشرا على دخول وقت الصلاة ، تلك التي ما كذبتها الشمس
ولا خيب حدسها الطقس .
عشر مرات تمايلت ساعة جيبه فوق كفّه معلنة حلول العصر لكنه دسها بنزق و جمع نظره باتجاه الباب قائلا في سرّه : بَريق وضوئها أدق من ساعة "بيج بن".
أرتال المصلين تقاطرت حوله مطالبة برفع الأذان وقد عزمت الشمس على الرحيل و هو يغلظ الأيمان:
" حتى تخرج ست الكل ولو صاح الديك "
النسوة في "عين ماهل " تركن ما في أيديهن وهرعن طمعا في سبق صحفي .
فمن محللة : ( بأن المؤذن ذهب إلى "الناصرة "ولما يعد )
و أخرى تقرر : ( زكام خنق الأذان في حلقه )
وثالثة تؤكد في وصلة من الغِيبة : الحيزبون زوجته هي السبب.
ورغم قرار الإنجليز بمنع التجمع لأكثر من واحد فقد شكلت التساؤلات مظاهرة عفوية لو علم بها جنود الاحتلال لما عادت " عين ماهل" بحاجة إلى الأذان .
ونزولا عند رغبة الجموع وافق المؤذن على إطلاق سراح الأذان بعد استطلاع أمر
" ست الكل "
و انطلق متبوعا بالهمس و التأويلات و اللغط و الهمهمات .
تعالت الطرقات على باب "الحاجّة " دون إجابة ، ضربات كان نصفها كافيا لخلعه.
ران الصمت وبلع النسوة ألسنتهن كأن على رؤوسهن الطير .
يومها نسيت الشمس لحظة المغيب و لبس الشفق ثوب الحداد .
يؤكد أكبر المعمرين أن تضاريس "الحاجّة" لم تتغير مذ كان يختبئ في ثنايا أمه.
سليطة ، عصية على الإحصاء، تفيض عنها القفة إن تكوّرت فيها .
"كالقطة بسبعة أرواح " فهل نجح ملك الموت في تثبيتها هذه المرة ؟
كوخها الطيني قلب القرية ، إليه تحج الدروب وحوله يطوف العشاق .
تحضنه الساحة فيرخي عليها جدائل حب و ظلالا من تين و زيتون .
في صحنه الأفراح تنصب ومن عرصاته يُزف الشهداء.
" ذاكرة قطباها ألم و أمل "
كانت تسند شجرة الزيتون من النهار إلى النهارحتى لتحار في التفريق بينهما .
قد تكون حرا في الذهاب إلى عملك أو البقاء في البيت ، لكنك مُجبر يوميا على نيل بركتها أو السؤال عنها "وذلك أضعف الإيمان ".
يمر بها الركبان ، يطرحون السلام ، وبإشارة ماهلة من عكازها تردّ التحية .
يقصدها أحدهم في حاجة غير ذات بال ، فتحدجه بنظرة ثاقبة فيدرك مرادها و يمضي .
ويسعى إليها طلاب الحكمة وعشاق العبر فتولد من جديد ،مشرقة القسمات وقد أفترت عن بسمة عذوب ، وهي تنبش كهوف الذاكرة بحثا عن جواب. تتزاحم الصور في مخيلتها وتنثال كلماتها متهدجة في حشرجة هي أقرب إلى السعال ، مشحونة بعبق الماضي وسحر الحاضر وأمل المستقبل .
يُكبّـلك أسلوبها في السرد ويُشعّـب تركيزك لكن" الدّبسة " تفعل فعلها لاعادة جلب اهتمامك .
أمران يثيران "ست الكل "ويخرجان لسانها من مكمنه :أن تنعتها "بالحاجّة" أو تحجب عنها شعاعا من شمس.
وحدث واحد يبعثها من مرقدها : تسقُّط أخبار المجاهدين
حيث تتحامل على عصاها في مشية ركوع طويل ، فيوقن من يراها أن مجاهدا قد عاد إلى بيته سالما أوأنّ شهيدا لحق بالرفيق الأعلى.
ينتظم خلفها المستقصون و كالقائد العام تُشقّ لها الحشود ويفسح لها في المجالس و ينطفئ الهمس ترقبا لما سيصدر عنها .
فان كانت الصدور عامرة بالنصر جثا العائد أمامها لتغرز أناملها في شعره و دموع الفرح تنير وجنتيها.
وإذا ما شمّها المسك زغردت إيذانا بوداع الشهيد ، فينقلب المأتم إلى عرس حقيقي تُذبح فيه الخراف وتنصب حولها حلقات الدبكة ؛ تتهاطل من جرابها قذائف "الملبّس" على رؤوس الأطفال.
تتبارى البطون في الانتساب إليها ، و تتلاسن النسوة في اجتراح أبيات العتابا المنحولة والمسندة إلى"ست الكل"تمجيدا لفخذ أو زهوا بعائلة، و يغبطها الوجهاء إذ يكفي أن تزمّ جبينها وتطلق نظرة عتب مقرونة بكلمة " عيب " حتى ينكس السلاح و يتعانق الخصوم .
ويوم ثار النقع حول " المخترة " خرجت منتصبة القامة مرفوعة الهامة وذرت في العيون حفنة من تراب وصوتها يجلجل: " دققتم بنزاعكم هذا أول مسمار في نعشي " فانقلب القوم نادمين .
لم يحظ الثوار بأستر من حضنها للاحتماء ولا بأسلم من كوخها لرسم الخطط .
نقرات عكازها كانت كلمة السر ، يهب المجتمعون لدن سماعها إلى رحم القبو اختباء من عيون الاحتلال " فمن ذا يطرق باب الكوخ بعد الآن "
جنازة " ست الكل " تربعت صدر موسوعة جينيس للأرقام القياسية، يومها تناكب الآلاف جنبا إلى جنب من كوخها إلى المقبرة هازجين على وقع حدائها " زفّة الحاولّومة ".
تراقص النعش ؛ تململت الأكتاف تحته، وشقّت "ست الكل" أكفانها قائلة :
"عودوا أدراجكم، يشيخ الزيتون ، لكنه لا يموت "
1- عين ماهل قرية فلسطينية مجاهدة من قرى الجليل

دلال كامل
24-03-2006, 08:56 PM
"عودوا أدراجكم، يشيخ الزيتون ، لكنه لا يموت "
حلو وصفك لست الكل وتشبيهها بشجرة الزيتون التي تعمر وإن شاخت لا تموت
انت كما عهدتك مبدع دوما ....تطوع الحروف والكلمات وتصوغها في أسلوب سلس
تحياتي لك

فاطمه عبد القادر
24-03-2006, 11:05 PM
نقلتنا إلى زمن غابر
أحسدها
عجوز تسطع مثل نجم؟
هل تستمد نورها من زيت الزيتون الخالد؟
شكراً أخي الفاضل... القصة رائعة، وممتعة،وعميقة
ماسة :os:

سعيد أبو نعسة
25-03-2006, 07:28 AM
الأخت العزيزة دلال كامل
أشكر لك هذا التعاطف مع النص و هذا الثناء العطر
دمت في خير و عطاء

سعيد أبو نعسة
25-03-2006, 07:30 AM
الأخت العزيزة ماسة
ربما تكون ست الكل قد اغتذت من زيت الزيتون و ربما تكون شجرة الزيتون قد اغتذت منها ؛ المهم أنهما وجهان لجوهرة نادرة اسمها فلسطين .
دمت في خير و عطاء

عبلة محمد زقزوق
25-03-2006, 08:28 AM
ربما كنت يوما تلك الأم ، فيخلد ذكري ، ويقص جليل فعلي ،من أهتم يوماً بأمري .

كلماتك رائعة وصياغتك للتشبيهات الجمالية جمال بقصتك .
رائع أديب الكلمة السامية / سعيد أبو نعسة
خالص تقديري وشكري .

عادل العاني
25-03-2006, 08:49 AM
الأخ الأديب سعيد أبو نعسة

رائع دائما , وبروعة ما تكتب تشد الأنظار,

وتحلق بمن يقرأ لك ليعيش الأحداث...

تقبل خالص تحياتي وتقديري

................................
استفسار لو سمحت :
( بأن المؤذن ذهب إلى "الناصرة " ولما يعدْ )
هل هي لمّا أم لمْ ؟
.................................

سعيد أبو نعسة
25-03-2006, 10:12 PM
الأخت العزيزة عبلة محمد زقزوق
و الله لا أدري كيف اشكرك على كلماتك العطرة و ثنائك الذي أرجو أن أكون أهلا له .
بارك الله فيك فأنت وفي هذا العمر ستّ الكلّ .
دمت في خير و عطاء

سعيد أبو نعسة
25-03-2006, 10:17 PM
الأخ الحبيب عادل العاني
أشكرك على ثنائك الكريم وامتداحك أسلوبي و هذا لطف كبير منكم .
معك حق فلقد نسيت وضع الشدّة على حرف الميم في ( لما يعُدْ)
دمت في خير و عطاء .