المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : جدّي



فهد حسين العبود
28-03-2006, 10:39 AM
جدّي
لا زلت يا جدي كلما انتابني الخوف, أحن إلى رائحة الصوف الدافئ. هل تذكر؟ - إن كان الأموات يملكون ذاكرة-حين كنت في كل مرة أعود فيها من اللعب, لأجد أمي عند الباب تنتظرني بشوق وتحفز الصياد, حاملة ليفة الحمام بيد وبالأخرى قطعة صابون هائلة أشبه بقلعة بيضاء, لو كنت مكاني لهربت أيضا إلى جدك يا جدي, مثلما كنت أفر إليك كمن يعدو من موت محتوم لأغرق رأسي المرعوب في صوف عباءتك الدافئ.
"حدثيني عنه يا جدتي"
جدك دوخ الفرنساوي والانكليز في سوريا وفلسطين.كنت أغار عليه من بارودته التي لم تفارقه يوما حتى قبيل موته. كان حزينا جدا في أيامه الأخيرة لأنه لم يعد يستطيع الضغط على الزناد. رحمة الله عليه.مات بدون مقدمات, كأنه قرر فجأة إنهاء المسألة دفعة واحدة. كان يقول لي:/ قرفت يا فاطمة/ لم أعد أحتمل المزيد, لقد تعقد العالم, أصبح عسيرا على فهمي- أنا الذي كنت أعرف كل شاردة وواردة في القرية, كانت المسألة أبسط في الماضي والعالم أصغر: زرع وضرع ومختار. كانت علاقات الناس أوضح / سلم علي فلان بسلم عليه, سب أبوي بسب ستين أبوه,ضربني بضربو وصلى الله وبارك/ فما الذي حصل يا فاطمة حتى صرنا نجلس متفرجين والأطفال يموتون والبيوت تهدم على رؤوس الناس. يتحدثون عن الانحناء أمام العاصفة حتى لا ننكسر, وهل هناك انكسار أكثر من هذا؟ عندما كنت في جيش الإنقاذ قلت لهم ونحن عائدين إننا لم ننقذ شيئا يا جماعة, فقال الضابط حينها هذه جولة, وانسحابنا هذا انسحاب تكتيكي. فقلت في نفسي حينها يا رب مدّ في عمري قليلا حتى أرى التكتيك ينقذ فلسطين , مرت جولات كثيرة ومدّ الله في عمري كثيرا ولا شيء.
عندما دخلوا الى بغداد حدّق طويلا ببصره المنهك في شاشة التلفزيون, رأيت حينها دمعة نادرة تنزل من عينه التي تبقت بعد إحدى المعارك ثم قال:
نادي أحد الأولاد أحس بأن الوقت قد حان
خرجتُ ملهوفة, و لكنني عندما عدتُ بعد دقائق برفقة عمك, كان قد استدار إلى القبلة وغادر.

ليال
28-03-2006, 01:03 PM
بوح نقي صادق وحنين عذب شجي،صيغ بأسلوب رائع وعبارات منتقاه بعناية فائقة
رحم الله جدك وأجدادنا وسقا الله هاتيك الأيام الخوالي
أينا لايحن إلى هدهدات الأجداد ولمساتهم الحانية!؟ اينا لايذوب شوقاً إلى ليال السمرالشتوية حيث السهرات تجمعنا فوق سطح الدار والحكايا تطير بنا إلى النجوم!؟
لم ادرك من أجدادي الأربعة، سوى ـ الحبيبة ـ جدتي لأمي التي توفيت منذ زمن ليس ببعيد، ومازلت حتى الآن أتذكر مقعدي الخاص هناك بين النخلين،عند موقد التنور في فناء دارها الصغير، ومازلت أتذكر رائحة الخبز على يديها الطاهرتين،وكيف كنت أجلس بهدوء المتحفز، اراقب رقائق العجين الرطبة وهي تتطوح بخفة وسرعة بين يديها الكريمتين ذات اليمين وذات الشمال و كانت الدهشة تأسرني كيف يملؤها الهواء الساخن ليحولها بعد ذلك إلى قرص من الخبز الطازج الوقور، ولعل هذا من أحد الأسباب التي تجعلني أكن اليوم أحتراماً خاصاً وكبيراً لرغيف الخبز(أبو جابر)، كان المشهد هو ذات المشهد يتكرر كل يوم بالرغم من ذلك فقد كانت نفس ملامح الدهشة ترتسم على وجهي كل مرة وتثبتني طويلاً وعلى غير العادة أمام الموقد طوال عمليةالخبز،لم اكن اتحدث إليها كثيراً أوازعجها بالأسئلة كما يفعل الأطفال عادةً كنت فقط اتأمل المشهد واستمتع وكان من المستحيل تقريباً انتزاعي من ذلك المكان دون ان أحظى برغيفي اليومي في النهاية، لاعجب، أوليس الخبز أولا!!
لا لم يعد الخبز أولاً، ليس في ايامنا هذه على كل حال، فلقد انقضت تلك الأيام الخوالي حين كان الخبز في فمي له طعم الخبز، اليوم الخبز له طعم المرارة، كانت تاسرني الدهشة وتسمرني في مكاني واليوم يأسرني العجز، كنت أراقب المشهد من أمام التنور واليوم اراقبه ايضا ولكن من داخل التنور...كنت وكنا وكانت الأيام ..سيدي الكريم كلنا في الهم "خبز"
شكراَ كبيرة لقلمك الصادق
و تحياتي لذكريات الزمن الجميل:0014:

حسنية تدركيت
28-03-2006, 01:08 PM
أخي فهد حسين عبود أحسنت ,أجدت
رائعة وتحمل الحنين الى الماضي بعبقه الساحر
أختك ندى الصبار مرت من هنا

فهد حسين العبود
29-03-2006, 09:52 AM
أختي ليال
أنحني إجلالا لكلماتك العذبة

فهد حسين العبود
29-03-2006, 09:56 AM
الأخت ندى
لك مني جزيل الشكر

زاهية
29-03-2006, 05:21 PM
لمست الصدق في هذه الصفحة من أولها لآخرها
ماكتبته أخي الكريم فهد حسين العبود رائع حقيقة وزادت الغالية ليال في تبلور الصورة
في أسلوبك تشويق إحساسي كبير ربما لأنه يحكي مافقدناه من حميمية وقرابة للأصالة
بارك الله فيك أتمنى الآن رغيفاً ساخناً برائحته التي تنفذ إلى الصدور شهية بزعتر أو بشطة كما نشمها ونحن بطريقنا إلى اللاذقية .
دمت والابداع رفيقين
أختك
بنت البحر

فهد حسين العبود
02-04-2006, 12:17 PM
شكرا لك أختي زاهية

عبلة محمد زقزوق
02-04-2006, 01:22 PM
روعة الذكريات تكمن في عظمة المشاعر وجليل المكانة لمن نذكر .

لنا الله ، والرحمة منه تعالى خير الدواء لهذا التحسر وذاك الإنحسار لتكتيك مآله مأل الخزي والعار .
رحم الله أجدادنا ، وعوضنا عن جميل ذكرياتنا .... بعودة الأصالة والحرية لجميع ربوعنا .

الشكر لصدق المشاعر أخي الفاضل / فهد حسين العبود

فهد حسين العبود
04-04-2006, 12:37 PM
أختي عبلة
ولك الشكر لقراءتك الجميلة

مصطفى بطحيش
07-04-2006, 01:58 AM
نجحت في بعث كوامن الاسى

كانت الدمعة النادرة تلك ,جبال اسى
كاتب متمكن
تحية لك

د. سلطان الحريري
07-04-2006, 02:03 AM
أخي الحبيب فهد عبود:
بداية أرحب بك أخا وصديقا أعتز به ، وأعتذر لتأخري في الرد على قصتك الرائعة بسبب إجازة من الملتقى انتهت اليوم ، ولكنني قرأت من وراء الحرف مبدعا كبيرا ، فلا تحرمنا من مثل هذا ، ودم بخير
مع خالص حبي وتقديري

فهد حسين العبود
12-04-2006, 12:53 PM
الدكتور العزيز سلطان الحريري
لك مني المحبة وجزيل الشكر