مشاهدة النسخة كاملة : ( بين الرمال )
الضبابية
14-05-2003, 09:26 AM
عشقتها مذ كنت صغيرة ..
مغرمة كنت و لا أزال بأبطالها ..
هم رجال في زمن قل فيه الرجال ..
فرسان إباء من عصر مروءة مضى ..
و بما أني لا أستطيع صبرا على أحلام اليقظة .. فقد حلمت ..
و تخليت .. و رغما عني .. أزعجت كثيرين و طلبت منهم أن يطلعوا على تخيلاتي مكتوبة ..
أمي رافقت مسيرة قلمي في هذه القصة .. شجعتني ..
حثتني على الاستمرار .. فكتبت أكثر ..
فلها كل الحب و العرفان
ثم عرضت ما كتبته على أستاذي الكريم الأندلسي ..
فلم يبخل علي بتشجيعه و توجيهه .. فله جزيل الشكر
و اليوم أود أن أعرف رأيكم فيها ..
×××××××××××××
الفصل الأول
و تمضي الريح .. تتراقص فوق الكثبان المتناثرة
تحمل بين ذراعيها ذرات رمال محرقة
تقتبس حرارتها من أشعة الشمس الذهبية
تحمل رائحة بئر جافة .. حقل محترق .. شجرة منتزعة .. بيت مهدوم ..
تنطلق ..
تدور في فضاء صحراء بلا نهاية .. أو هي تبدو كذلك
تعبر المسافات بسرعة مجنونة .. ترسم دوامات في الهواء ..
و بين التلال البعيدة شيئا فشيئا يبدو هيكل بناء رمادي ..
تزداد الرياح سرعة .. ترتطم بالجدران العارية
تزرع بين شقوقها نبعا ذهبيا من رمال .. و سرعان ما ينضب النبع
تصفع القضبان .. تهزأ بالأسوار العالية .. تعبر النوافذ الضيقة ..
تملأ الهواء داخلا بالغبار.. الرمال .. و رطوبة خانقة ..
تهدأ بين الجدران الأربعة .. ترتمي بتعب و تنسى ثورتها ..
تهوي ذرات الرمال على الأجساد المتكومة ..
يتحرك أحدهم .. يجيل بصره في الرمال متناثرة هنا و هناك ..
ينفض ثيابه بحركة متئدة ..
يمنح الأفق نظرة صبر طال .. و لا تبدو نهاية الصبر قريبة ..
يلحظ العتمة بدأت تزحف على المكان ..
يدفع جسده إلى الأعلى .. يرقب الشمس تهوي .. تكتسي بلون ذهبي محمر ..
و مع الغروب .. يعتدل الرجال ..
الرطوبة تزداد .. و الريح تعاودها نوبة جنون
تصرخ .. تهوي على الجدران بصفعاتها .. يسمع لها صوت كالعويل ..
لوهلة تبدو الرياح كأنها تحمل الكثبان إلى داخل زنازينهم الضيقة ..
لكنهم يتحملون .. قد تحملوا القهر و آلام الفقد و الفراق ..
قد صبروا على كبريائهم تغمد فيها الخناجر ..
تغلبوا على آلام الروح .. أتهزمهم آلام الجسد ؟
انتابت عادل نوبة سعال و احتقن وجهه ..
احتضنته العيون قلقة ملهوفة
كان أصغرهم .. أكثرهم ألما .. و أكثرهم صمتا
ربت محمود على كتفه برقة و حاول أن يجعله يرتشف قليلا من الماء
عاد الصمت يخيم حولهم ..
تابعت أنظارهم الظلام يعبر الفضاء و ينشر عباءته الواسعة الضيقة على المكان ..
رفع سالم عينيه إلى النافذة الوحيدة ..
حاول أن يخترق سحب الغبار بعينيه لعله يلمح نجمة تبرق ..
آلمه ألا يجتمع بنجمة يسائلها عن أهله الذين لم ير أحدهم مذ أتى هذا السجن ..
عبرت ذاكرته أغنية كان يتمتم بها شباب الحي في صغره ..
و شيئا فشيئا تدفق صوته الشجي إلى آذانهم حزينا متعبا :
( يا سجاني
يا عتم الزنزانة
عتمك رايح
ظلمك رايح
نسمة بكرة ما بتنساني )
صمت الرفاق .. خفتت أنفاسهم ..
دوما لصوت سالم العذب المليء بالعذاب تأثير السحر ..
قاطع إصغاءهم صوت اليهودي الدنيء حاييم يهتف عبر الباب :
اخرس .. مخرب .. سنقطع لسانك ..
التفت قاسم نحو الشاب ، أشار له بصرامة أن اصمت ..
رجته أعين رفاقه أن يهدأ .. لطالما تعرض للأذى بسبب ردوده الحانقة المليئة بكبرياء مجاهد أسير ..
ازدرد لعابه بصعوبة .. و عاد بوجهه إلى الرياح و ما تحمل من رمال ..
شعر بصفعاتها أهون عليه من ضحكات ذاك اللئيم و هو يبتعد ..
شعر بحرقة في عينيه .. مسحهما بكمه بهدوء
و عاد صوته يهمس :
( لو ما إني تركتا بعيد
لو ما اشتقت لضيعتنا
ما كنت اوقفت بشباك الزنزانة
و غنيتلها
يامه العسكر بيني و بينك
لو عجلتِ بيعلى جبينك
رضعتيني العزم و يمه الموت يهون
و ما تنهاني
هيه هيه )
ابتسم محمود .. هذه أنشودته المفضلة .. لطالما تغنت له أمه بها في صغره قبل أن يحرمها القهر حتى من الغناء .
دقائق و صمت سالم ..
سبحت أفكارهم في عوالم مختلفة
تحسس قاسم جبهة عادل بتوجس .. شعر بكثير من الألم .. قد زادت وطأة الحمى عليه .
بحث في العتمة عن مازن .. رآه في زاويته المعتادة ..
وحيدا ، شاردا ، تتحرك شفتاه بالتسبيح ..
انتقل قاسم إلى جواره .. همس : قد زادت الحمى .. هلا رقيته أو قرأت عليه شيئا من القرآن الكريم ؟
رغم الظلام .. رأى قاسم بريق الأسى في عيني مازن ..
لم يستطع كبت حزنه على ذاك الشاب الصغير .. فنقلت ارتجافة يده السريعة انفعاله إلى قاسم ، ربت مازن على يد صاحبه و نهض ..
تحرك بهدوء .. وحده من بينهم ظلت خطواته غير مسموعة و هو يسير ..
طافت الأفكار سريعة في عقل محمود و هو يتأمله عن بعد ..
تذكر المرة الوحيدة التي عمل فيها مع مازن .. و ذات المرة التي أسرا فيها .. تذكر فرارهما .. تسللهما بين البيوت .. إصابته هو التي منعت مازن من الحركة بسرعة أكبر .. أكان شؤما على صاحبه ؟؟ نفض الفكرة بسرعة .. استطاع مازن أن يثبت في أعماقهم معنى الإيمان بالقضاء و القدر .. ما أراده الله حدث
عاد يتطلع إلى مازن .. لحظ اقترابه من عادل فنهض نحوه
جلس مازن إلى جوار عادل .. أراح رأسه على ركبته و أحاطه بيده .. و بدأ الرقية بصوت خافت و حنو كبير .. أنصت محمود و شعر براحة كبيرة مع صوت مازن الخاشع الندي كما يشعر بالهدوء مع صوت سالم الشجي .. بعد أن عرف محمود مازنا ندم على أنه لم ينتهز الفرصة من قبل ليحفظ بعض القرآن الكريم لكنه يفعل الآن بمساعدة صاحبه ..
انساب صوت مازن في المكان ثم ارتفع بعض الشيء فغدا الجميع ينصتون له :
( بسم الله الرحمن الرحيم * قل أعوذ برب الناس * ملك الناس *
إله الناس * من شر الوسواس الخناس * الذي يوسوس في صدور الناس * من الجنة و الناس )
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك ..
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك ..
أسأل الله العظيم رب ...
و كأنما لاحظ محمود لأول مرة أن الدعاء يقال سبع مرات .. إنه يتعلم كل يوم شيئا جديدا .. و دون أن يشعر تمتم : الحمد لله ..
تنهد مازن بعمق بعد أن أتم الرقية .. فتح عادل عينيه .. تلمس يد مازن بضعف و أحاط أصابعه بيده كأنما يود أن يشكره ..
ابتسم محمود .. حقا إن مازن أكثرهم اعتناء بالعبادة حتى أنهم أطلقوا عليه لقب شيخ الأسر تحببا .. فلا غرو أن يشعر الجميع خاصة عادل بالطمأنينة تغمرهم مع تلاوته للقرآن ..
غاصت ابتسامته فجأة وسط بحر قلق و حزن مع زفرة حرى ندت عن صدر عادل .. و تلتها نوبة سعال أخرى أشد من الماضية .. تمنى لو أنه يملك أن يخرج عادل من بين هذه الجدران .. كم غدا يشعر بالاختناق و كأنما هي تطبق عليهم شيئا فشيئا .. و عاد صوت مازن ينسيه همه بتلاوته العذبة .. أنصتت القلوب .. و خيم صمت حزين هادئ على المكان .
×××××××××××××
يتبع بإذن الله تعالى ..
خالص التحية
غموض
ياسمين
14-05-2003, 09:56 AM
جمال
وحزن
وصياغة جميلة للفكرة
كلها خيوط اجتمعت لتكمل بعضها فى هذا العمل الرائع
احيييييييك غموض على هذا الابداع
وفى انتظار البقية
لك تحياتى ,,, وباقة ياسمين
نسرين
14-05-2003, 11:44 AM
رائعه ضبابيه بل قمة الروعه
استحلفك بالله ان تكمل بقية الاجزاء ولا تحرمينا هذه الروعه
في انتظار الجزء الثاني
نسرينه :0014:
الأندلسي
14-05-2003, 01:07 PM
ها أنت ترين يا غمووض ردود الفعل, تابعي وانا معك على ناصية الحرف القادم ..
تمنياتي بالتوفيق
الضبابية
15-05-2003, 08:11 AM
سيدتي الكريمة ياسمين الواحة ..
لكم جزيل الشكر على المرور و التشجيع ..
تحياتي
غموض
الضبابية
15-05-2003, 08:12 AM
سيدتي الكريمة نسرين ..
كم أفخر بأن هذا هو رأيكم ..
سأبذل جهدي
تحياتي و شكري
غموض
الضبابية
15-05-2003, 08:14 AM
سيدي الكريم الأندلسي ..
بفضل أستاذي تشجعت .. شكرا جزيلا لك
خالص تقديري و امتناني
غموض
الضبابية
17-05-2003, 08:41 AM
الفصل الثاني
ترتفع الشمس رويدا رويداً ..
تلقي نظرة سريعة على المدينة و أهلها
تنحني لتطبع على صفحة النهر المترقرقة قبلة حانية ..
تبتسم له ابتسامة ودودا
ثم تتركه ليكمل طريقه متلويا بين المنازل و الحقول .. مانحا للأرض الحياة و الجمال
ترتفع كرة اللهب أكثر .. تمنح ثمار البرتقال الفجة بريقا طاغيا ..
و ترسم مع أغصان الزيتون لوحة فاتنة ..
تلوح بيدها ..
تبعث إلى الصحراء بتحية الصباح ، ثم تتقدم لتواصل رحلتها فوق ذرات الرمال المتطايرة هنا و هناك ..
تهب الريح .. تضاحك الشمس ..
تترافقان حتى حبل التلال الرملية المتصل .. و تمضي الريح إلى وجهة أخرى ..
تلقي الشمس أشعتها بدلال فوق الرمال .. تمنحها حرارة حارقة ..
تعبرها بهدوء و رقة ..
و هناك .. خلف التلال .. تصطدم فتنتها بالأسلاك الشائكة .. بنباح الكلاب المتوحشة ..
ترتجف الشمس .. تتكسر أشعتها البارقة على الجدران حزينة متألمة ..
تأسى لأصحاب الحق يحرمهم المعتدون من التحليق طيورا طليقة في بلادهم تحت عينيها ..
تدور حول البناء .. تصب جام حنقها على الحراس المنتشرين هنا و هناك ..
و ترسل بأشعتها عبر النوافذ القليلة لتنير للمجاهدين خيطا من أمل ..
أو تبعث فيهم شيئا من الشعور بالحياة ..
في الجانب الشرقي من المعتقل ..
بالتحديد في زنزانة يحمل بابها لوحة خط عليها بأحرف عبرية ما معناه :
( الزنزانة رقم 7 ) ( المعتقلون السياسيون )
نهض الرفاق .. أزاحوا بعض الرمال إلى جانب من الزنزانة ..
تمتم قاسم ببعض كلمات حانقة ، فابتسم مازن بإشفاق ..
أراد أن يخفف عنه قليلا فنظر إلى سالم نظرة ذات معنى ..
ابتسم سالم بشرود .. تأمل وجه مازن للحظات ثم حول عينيه إلى قاسم ..
فهم ما أراده مازن .. أطرق قليلا .. ثم رفع رأسه و بدأ بصوت هادئ خافت :
( طلع البدر علينا ..
من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ..
ما دعا لله داع )
التفت مازن بدهشة ما لبث أن تحولت لغبطة ..
هذه أول مرة يسمع فيها الأنشودة الغالية في قلب المعتقل ..
و اتسعت ابتسامة سالم و هو ينشد .. و أشار إليهم : أن شاركوا ..
فبدأ محمود يتابع معه بصوت خافت ..
و سرعان ما نسي قاسم غيظه مع اللحن المحبب و شارك معهما .. و تبعهم مازن بصوته الرخيم اللين .
و شيئا فشيئاً عمت الزنزانة عدوى الإنشاد من الأصدقاء الأربعة ..
بدأ الجميع ينشدون معهم ..
اتسعت الابتسامات ..
و غمرهم مرح نسوا معه شيئا من ألم واقعهم .
فتح الباب بغتة .. و أطل منه رأس الحارس اليهودي صارخا :
ما هذا ؟؟ ضوضاء .. شغب .. اخرسوا جميعا
ثم اعتدل و صاح بصوت جامد : التفتيش الصباحي ..
دلف مدير المعتقل متبخترا .. وقف الجميع ببطء شديد ..
أجال عينيه في وجوههم .. تبعه رجل آخر ..
تأملوا الرجل ببعض الاهتمام ..
لم يعرفه أحدهم إلا هو .. تسارعت خفقات محمود بدهشة بالغة و توتر ..
ما الذي أتى به إلى هذا المكان ؟؟ أي خطة يرسمون ؟؟
تأملهم المدير .. أشار إلى الجند ليتفقدوا الأسرى ..
دفع أحد الجند محمودا ببندقيته بغلظة قبل أن يقول في شماتة :
هنا معتقل لا يزال نائما
نظر المدير نحوه .. ثم حول بصره إلى عادل ..
تحفز قاسم .. التفت إلى محمود ليرى قبضته القوية مكورة و عينيه تقدحان الشرر ..
مط المدير شفتيه و قال بصوت بارد : سنعلمه كيف يستيقظ .. خذوه
تقدم جنديان آخران نحوه .. بينما صوب الباقون أسلحتهم إلى المعتقلين ..
تبادل سالم و مازن النظرات .. هل يتركون الشاب لهؤلاء الأوغاد ؟؟ بهذه البساطة ؟؟
ركله الجندي بقسوة ..
لكن عادل لم يفتح عينيه
اصفر وجه قاسم .. و زاد تكور قبضة محمود في توتر .. بينما تراجع سالم خطوة بذهول ..
لم يجرؤ على إجالة التساؤلات في أعماقه .. قد تحدث إلى الفتى بمجرد استيقاظه ، هل .. ؟
رفع الجندي رجله ليركل الفتى مرة أخرى .. و دون أن يستطيع أحد فعل شيء .. كان الجندي مطروحا في زاوية المكان ..
التفت الجميع نحوه .. في وجهه نظرة صارمة .. و في عينيه نظرة غريبة غاضبة ..
تراجع الجنود بدهشة كبيرة .. و عم الذهول الجميع
اخترق صوت المدير الصمت صارخا بغضب : خذوهما معا .. ستريان ..
و استدار مغادرا بينما اندفع الجنود يجذبون مازن بينهم و يحملون عادل إلى الخارج ..
تقدم محمود خطوة .. لكن مازن هز رأسه بالنفي بصلابة كبيرة .. و ودع الرفاق بابتسامته الهادئة .. و اقتاده الجنود إلى الخارج بغلظة ..
ظل الجميع صامتين .. حتى تمتم قاسم : عادل .. ماذا أصابه ؟؟
أطرق محمود .. ليته يجد جوابا يريح به قلبه .. عاد قاسم يقول : و مازن .. مازن .. يا إلهي ..
تراجع سالم .. أسند كتفه إلى الجدار .. و انطلقت عيناه عبر تلك النافذة الصغيرة إلى السماء ..
صرخت أعماقه بكلمة واحدة : يا رب .
جلس الرجال .. شردت أبصارهم و أفكارهم كل إلى مكان ..
فجأة فتح الباب .. اتجهت أنظارهم بسرعة إليه ..
أطل الحارس بوجهه الكريه الشامت و قال : سنتركه يموت بينكم ..
انطلقت ضحكته الساخرة الشامتة ، و قبل أن يتحرك أحدهم من مكانه فوجئوا بالجنود يرمون بعادل إلى الأرض و يغادرون مسرعين ..
اندفع محمود نحوه .. أمسك ذراعه و رفعه بين ذراعيه ..
شعر بالخوف يعربد في أعماقه مع الشحوب الهائل الذي عرى وجهه
قفز سالم و أمسك بذراع محمود في توتر .. صرخت عيناه بالتساؤل و القلق ..
تمتم قاسم من مكانه : محمود .. هل .. هل .... و لم يستطع إتمام جملته ..
هتف محمود بصوت فرح : إنه حي .. حي يا قاسم .. حي
اندفع الجميع نحوه .. تحلقوا حوله .. و أخذ محمود يحاول إنعاش عادل الفاقد الوعي ..
كان سالم متوترا .. عيناه مثبتتان على وجه عادل .. و كفاه تحيطان بكفي الفتى .. بينما شارك قاسم محمودا محاولاته لإنعاشه
..
كاد اليأس يصيبهم .. لا شيء يتحرك في عادل سوى أنفاس ضعيفة تتردد في صدره ..
حمله محمود بهدوء قلق .. تلفت حوله ..
أسرع الجميع يفرشون الأغطية فوق بعضها حتى غدا في المكان شيء يمكن أن يطلق عليه اسم الفراش فمدده محمود عليه ..
ركع إلى جواره .. أخذ يفرك يديه و يربت على وجهه ..
استخدم كل خبرته في الإسعاف .. لكن عادل ظل كما هو .. جسدا ممدا بلا حراك ..
مرت الدقائق بطيئة .. سال قطرات العرق على جبهة محمود ..
تسارعت أنفاسه و هو يبذل كل جهده ..
ندت عن يد الفتى حركة انقباضية ضئيلة لم تغب عن عيونهم المتوترة ..
بدأ الأمل ينتعش في قلب محمود ثانية و هو يحاول ..و يحاول .. و يحاول ..
فتح عادل عينيه .. ببطء شديد و وهن .. أدار فيهم نظرات زائغة لا تستقر على شيء ..
ارتجفت ابتسامة على شفتي قاسم .. تراجع .. أسند ظهره إلى الجدار وراءه و أطلق تنهيدة حارة ..
برقت عينا سالم .. قاوم دمعة سعيدة حاربت لتقفز إلى وجنته ..
تسارعت خفقات فؤاده صارخة : الحمد لله
غمر الفرح عيون الجميع .. تبادلوا نظرات السعادة
و ارتاحت قلوبهم إثر ذاك التوتر
لكن قلب محمود كان ينبض بالألم ..
قد صدق الوغد اليهودي في كلماته ..
ربما تكون هذه آخر لحظات عادل في الدنيا ..
آخرها ..
على الإطلاق .
×××××××××××××
يتبع بإذن الله تعالى ..
خالص التحية
غموض
سيدتي الكريمة غموض
أتلهف بفارغ الصبر لأرى البقية، ارجو ان لا تطيلي علينا الإنتظار.
قد عشت مهعم في قصتك، واحسست بألمهم. رائع جدا كل حرف دونته هنا.
كل الإحترام والتقدير لك
تحياتي
غــــادة
الأندلسي
18-05-2003, 02:39 PM
مزيدا من التلهف للقاء الحروف
تابعي ايتها الصغيرة و حلقي بنا
تحياتي لهذا الابداع
الضبابية
18-05-2003, 07:43 PM
سيدتي الكريمة غادة ..
شكرا لمرورك و كلماتك التي أخجلتني بالفعل ..
آمل أن تعجبكم حتى النهاية
تحياتي و تقديري
غموض
الضبابية
18-05-2003, 07:46 PM
أستاذي الكريم الأندلسي
سأفعل بإذن الله تعالى ..
شكرا لمتابعتكم الدائمة
خالص الاحترام و التقدير
غموض
الضبابية
18-05-2003, 09:44 PM
الفصل الثالث
ظهر البدر متأخرا تلك الليلة .. تهادى بطيئا حزينا حزن طفل يتم ..
شاحبا كما وجه الأم الثكلى ..
جميلا .. كما يتبدى جمال الحسناء عند وقع الفاجعة
تهامست النجيمات البعيدة بأشعتهن الخافتة ..
أومأن للنسيم بالتحية ثم عدن إلى مناجاتهن
هبت النسائم لينة طرية متتابعة ..
حملت معها شوق الأهل .. رائحة البيدر .. عبق الزيتون
تطايرت ذرات الرمل .. رفعتها النسائم .. و سارت ندية رقيقة ..
طافت حول الأسلاك .. تجاوزت الأسوار ..
تركت الرمال بين ثنايا ثياب الصهاينة .. دلفت إلى المجاهدين برائحة الأهل و الشوق
عانقتهم بلينها .. منحت الجدران بعض البرودة وسط الحرارة الخانقة .. و رطبت أنفاسهم الحانقة
مال قاسم على محمود هامسا : سبحان الله .. كأنما يريد الله تعالى التخفيف عن مازن فأرسل هذه النسائم
أدار محمود عينيه ببطء نحو قاسم .. كانتا في واد آخر ..
للحظات ظل جامدا .. ثم هز رأسه بهدوء موفقا .. و عاد بكيانه كله إلى عادل
شعر قاسم بالقلق يعربد في أعماقه .. لم ير محمودا قط على هذه الحالة .. شاردا .. يعلن الألم عن نفسه بين عينيه
دائما يعد الجميع محمودا قائدهم خارج الأسر أو فيه ..
و لطالما حافظ محمود على كل انفعالاته في أعماقه ..
كان يؤمن أنه على القائد أن يظل هادئا متزنا فحال الجميع مبنية على حال القائد ..
تنهد قاسم بعمق .. ترى .. ماذا تحمل لهم الأيام القادمة ..
تساؤل كثيرا ما دار في أعماقهم .. و دائما .. ليس له جواب .. الجواب في رحم المستقبل ..
ماذا ستكون نتيجة نضالهم ؟؟
ماذا ستربح بلادهم من العذاب الذي احتملوا ؟؟
هل هناك من يسير على الدرب ليكمله ؟؟
هل سيصبرون ؟
يثق بهم .. و يخشى الأيام .. يتمنى لو تشهد عيناه نصر أهله .. تحرير بلده ..
اشتاق إلى عبير البيدر .. إلى بحر غزة .. إلى تراب جنين .. إلى دفء عيني أبيه و حنو كفي أمه
أفاق من أفكاره على سعال عادل .. مد يده يتحسس جبهته .. هذه الحمى لا تفارقه ..
تذكر مازنا و صوته الندي .. تذكر الرقية التي غدت عادة يومية .. كأنما ما كان مازن يقرؤها لعادل .. بل كان يقرؤها للجميع ..
عادت دوامة الذكريات تغرقه .. غمرته التساؤلات .. على أية حال هو صاحبه الآن ..
تذكر قول مازن : ( قد تفقد صديقا .. لكنك لن تفقد أخا في الله عرفته على تقوى و عليها تعاهدتهما )
تذكر ابتسامة صاحبه .. دفء حديثه .. صبره ..
شعر بغصة في حلقه .. أغدا مازن ذكرى بهذه السرعة ؟
رفع رأسه .. أدار عينيه فيما حوله .. الجميع نائمون .. أو هم يمارسون النوم .. كل له همه .. و كل يصبر نفسه ..
كان القمر يبعث ببعض الضياء الخافت إلى داخل الزنزانة .. على ضوئه لمح سالما يجلس جلسته المعتادة مع النجوم ..
كم يعشق صاحبه النجوم !!!
سار إليه بهدوء .. مال عليه هامسا : ما بالك يا سالم ؟
أطرق سالم قليلا و ما أحرى جوابا .. انثنى قاسم و جلس إلى جواره .. أمسك بكفه في حنو و ربت عليها ..
رفع سالم عينيه إلى صاحبه .. برق فيهما حزن عميق و أسى دفين ..
دهش قاسم .. لم ير أحد لمحة حزن في عيني سالم .. دائما ما غالب الحزن .. و دائما ما انتصر عليه ..
كان سالم أكثر من يواسي جراح رفاقه و أحزانهم .. يخفي حزنه عن الجميع .. يرسم في عينيه ابتسامة واسعة ..
لطالما قال : قاومت الصهاينة .. ألا أقاوم الأحزان ؟؟
عاد سالم بعينيه إلى النجوم صامتا ..
كانتا تحملان حزن رجل ما عرف الفرح قط .. و عزم رجل عانى الكثير .. و يدرك أن أمامه الكثير ليعانيه ..
تنهد قاسم .. أسند ظهره إلى الجدار .. و طاف بأفكاره في عوالم بعيدة ..
غرق كل في أفكاره .. سكنت الحركة .. و ساد الصمت المكان
××××××××××××
في زنزانة ضيقة ضيق الظلم ..
بين جدران متقاربة تكاد تطبق على من فيها
خلال ظلمة تلفت تحت السقف المنخفض كما يلتف القيد على معصمي بطل
ترددت أنفاسه لاهبة متسارعة .. اعتدل .. شعر بعظام كتفيه تكاد تتحطم
ضم ساقيه إلى صدره و أحاطهما بذراعيه .. شرد ببصره في العتمة ..
طافت صور متداخلة أمام عينيه ..
طفلان صغيران يلهوان أمام بيتهما
بعد أيام و في نفس المكان .. سالت دماء الأب و هو يحمي أهله و عرضه
بعد ساعات .. غدا المنزل الجميل أثرا بعد عين ..
بعد سنوات .. اكتشفت الأم أن ابنيها يعملان مع جماعات المقاومة .. سعدت بهما .. شجعتهما و دعت لهما
و بعد مدة قصيرة .. كان الأصغر ينزل أخاه بيديه في قبره شهيدا
و في ذاك اليوم .. و كما تلقفت الأرض الأخ الأكبر .. تلقف المعتقل الأخ الأصغر
اخترق الصور طيف وجه حبيب
تسارع خفق فؤاده .. غدت الخفقات تدوي في أنحاء جسده
تمنى لو يفوز بما فاز به أخوه .. لطالما دعا ربه أن يكتب له الشهادة
لطالما تمنى أن يروي أرضه بدمه
أرضه !! أو يعترف غيره بأنها أرضه
مهما قالوا .. هذا التراب له .. و هو ملك لهذا التراب
تردد صوت سالم في أذنيه :
( يا بلادي يا عزم الصخر يا ترابك الحنة
مل الفؤاد من الحكي من قولة استنى
غير الرصاص و صدحتو ما يرهب الغدار
و المصحف بقلبي أنا .. و الموعد الجنة )
مهما طال الزمن .. ستعود فلسطين .. ستعود الحبيبة التي طال غيابها نقية حرة
ستمحى آثار القيد عن معصميها البضتين .. سيتبخر دمع الحزن من عينيها الدعجاوين
أما بشرهم الله تعالى بذلك ؟ سيحدث بإذن الله ..
غامت عيناه .. كم يتمنى لو يشهد ذاك اليوم في قريته الحبيبة .. بجوار أمه .. أمام قبري أبيه و أخيه
تنهد بحزن .. كم يشتاق إلى حواري قريته القديمة !!
كم يهفو لزيارة الغاليين .. كم يفتقد تجاعيد الجبال التي أمضى فيها صباه و فتوته
كم غدا يتلهف لليلة يقضيها في العراء بين الصخور متخفيا يعانق بارودته و الأرض تعانقه ..
عاودته رائحة البارود قوية .. قريبة ..
و رغم الحزن ابتسمت عيناه الغارقتان في بحر الذكرى ..
تذكر البارود يلطخ يده .. صوت البندقية .. صدى الرصاص .. دماء الصهاينة المتناثرة على الأشواك .. عطر البارود الفواح
و غابت الابتسامة .. تذكر الوجه البغيض .. العيون الشامتة ..
القيود الملتفة على ساعديه و ساقيه تحفر في جسده .. تحرمه من الدفاع عن نفسه ..
إصابة محمود .. الدماء متدفقة تلوث صدره .. استجوابهم القاسي لصديقه المصاب ..
العذاب الذي أذاقوهما إياه ..التهديدات التي صبوها في سمعهما ..
تنهد ثانية .. تصارعت الذكريات في رأسه .. كلها تنبض حزنا .. امتلأت أنفاسه برائحة الصبر .. صبر لا يجارى ..
تردد صوت أخيه في أذنه :
الصبر الصبرَ يا أخي .. لن تنال شيئا بالغضب و العجلة ( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب )*
وجد نفسه يتمتم : صبرنا يا أخي .. صبرنا حتى كل الصبر و ما كللنا .. صبرنا .. و سنصبر
رفع عينيه .. دعا الله أن يلهمه الصبر و السلوان عاد بنظراته إلى الأرض
هز رأسه بهدوء .. اعتدل .. و انطلق الصوت الندي العذب يتلو .. استمع الأثير .. و عبق المكان بالخشوع
_____________________________________
* سورة الزمر / الآية 10
×××××××××××××
يتبع بإذن الله تعالى ..
خالص التحية
غموض
نسيم الأنس
21-05-2003, 09:17 PM
أيتها الضبابية ...
كم أنتِ رائعة ... لن أعلق الان سوف أنتظر ..لربما فرج يأتي بعد كرب ...
د. سمير العمري
24-05-2003, 01:02 AM
نتابعك أيتها الرائعة فواصلي إبداعك ...
جميل هذا الذي تنشرين في أرجاء الواحة ...
سعداء بك عندنا ...
أشكر لك الضبابية (غموض) ...
تحياتي وتقديري
نسرين
24-05-2003, 07:00 AM
انت رائعة اختي غموض
متابعة لكل ما تخطين
لا عدمناك أكملِ ونحن بالانتظار هنا
سلمتِ ودمتِ بالف خير
نسرينه
الضبابية
25-05-2003, 12:03 AM
الكريم نسيم الأنس ..
شكرا على مروركم بين أسطري .. و على التشجيع
أنتظر التعليق .. فكثيرا ما كان الفرج بعيدا
تحياتي و تقديري
غموض
الضبابية
25-05-2003, 12:04 AM
سيدي الفاضل سمير العمري ..
شكرا على مرور يسعدني كثيرا ..
سعيدة أنا بوجودي بين أعلام مثلكم ..
و لكم آمل أن أكون تلميذة متفوقة في مدرستكم
تحياتي و احترامي
غموض
الضبابية
25-05-2003, 12:06 AM
الغالية الكريمة نسرين ..
شكرا لك على كلماتك التي أخجلتني كثيرا ..
جزاك الله خيرا
تحياتي و خالص المودة
غموض
الأندلسي
25-05-2003, 08:02 PM
اتابعك غمووض
ماذا سيحدث ؟؟
الضبابية
31-05-2003, 08:02 PM
هبت الريح تحمل رطوبة خانقة.. بدت في الأفق سحب الغبار تدور حول نفسها ترسم دوامات مكفهرة ..
تبتلع الرمال .. تتقدم بسرعة .. ثم تنفث ما ابتلعت حول المعتقل .. تلتف الكثبان حوله .. تحاصره ..
تغيب الدوامات في قلب اللانهاية .. و يرسل الأفق دوامات جديدة .. تحمل المزيد من الكثبان .. الغبار .. و الرطوبة الخانقة .
هاجت الرمال و ماجت .. أظلمت السماء .. و قطبت الصحراء جبينها ..
غابت الكثبان عن أماكنها و عادت تتشكل من جديد .. في مكان جديد .. و بهيئة جديدة .
جمع الرعاة أغنامهم .. نادوا أطفالهم .. و اختفوا في خيامهم المتناثرة هنا و هناك ..
بدت الصحراء مساحة خالية هجرها كل شيء إلا ثورة الرمال .. هدير الرياح .. و وهج الشمس الحارقة .
زمجرت العاصفة و هاجمت المعتقل .. ضربت أسواره .. الأسلاك الشائكة ..
غاب صوت الجرس وسط العاصفة يعلن وقت الفورة .. و برغم الحرارة و الرمال خرج المعتقلون إلى الساحة بخطوات وئيدة ..
كان العرق يسيل على وجوههم .. يتمازج مع دقائق الرمال فيسبب حرقة لاهبة ..
التصقت ثيابهم بأجسادهم .. هاجمهم الغبار .. غطى على البصر .. و تحركت حولهم حشرات الصحراء
بدا عليهم الضيق و الإرهاق.. برغم ذلك تراقصت حلقات متفرقة في أنحاء الساحة يطمئن كل منهم على الآخرين .. ثم ينتقل إلى حلقة أخرى .
دوائر تتشكل .. و سرعان ما تتبعثر للتشكل أخرى .. كسحب الدخان .. أو ككثبان الصحراء التي تحيط بهم .. و التي تشربوا منها معنى الدأب .
دقائق و اجتمعت الحلقات المعتادة .. هنا مساجلة .. هناك حوار .. و في حلقة أخرى درس ديني .. و في غيرها تطرح مواضيع أخرى ..
جذب خالد قاسما و انتحى به جانبا .. جلسا معا .. لطالما كانا معا .. ابنا عم نشأا في بيت واحد .. درسا معا .. قاتلا معا .. و اعتقلا معا ..
كان قاسما غارقا في دوامة من الأفكار .. عيناه تتنقلان بين جدران المعتقل بشرود
أصابعه السمراء تعبث بالرمال .. يرسم عليها أشكالا بلا معنى .. يمسحها .. ثم يرسم أخرى ..
ترفع قبضته القوية بعض الرمل بحنان .. ثم يذرها في الهواء لتهوي إلى الأرض بسرعة مباغتة
شعر خالد بالقلق على صاحبه .. هذا المعتقل غير فيه الكثير .. من لا يعرفه جيدا لن يلاحظ .. عاد يتأمله و القلق يزداد في أعماقه
أخفى قلقه بمهارة و حاول جذب صاحبه من شروده .. دار به في أحاديث شتى .. تناقشا طويلا ..
طرح قاسم قضية نزع السلاح .. هز خالد رأسه باستنكار و تمتم :
انهم يريدون أن يجعلونا فئرانا مذعورة بين مخالب الغول الكبير
تنهد قاسم .. أحنى رأسه قليلا و همس :
ما يؤلمني أن هناك أناس من أبناء جلدتنا يدعون إلى ذلك ..
أيثقون باليهود ؟؟ أتعلم ؟ في بعض الأحيان لا أثق بالمسلم .. أيريدون أن أثق بيهودي ؟؟
زفر خالد بحزن .. اعتدل في جلسته صامتا .. رانت عليهما فترة صمت قصيرة ..
انحنى خالد على أذن قاسم : اقتادوا مازن للتحقيق ..
انتفض قاسم .. نظر إلى خالد بتوتر .. اجتذب صوته من أعماق صدره خافتا مبحوحا و همس : و لم تقل إلا الآن ؟!! من أين عرفت .. و متى كان ذلـ ... ؟
ربت خالد على يده بهدوء و قاطعه : رأيتك مهموما فترددت .. لكن يجب أن تعلموا .. لم أخبر أحدا..
أجال قاسم عينيه في وجه صاحبه .. صرخت أعماقه بأسى لا حدود له .. كلمة واحدة ( الاستجواب ) قد تعني فقدهم لأخيهم ..
أغمض عينيه .. تساءل في أعماقه .. ماذا سيفعلون به ؟ أي جرم سيلصقون بمازن ؟ ماذا .. أفاق من أفكاره على كف خالد تربت على يده بهدوء ..
فتح عينيه .. تلاقت نظراتهما لحظات قبل أن يهمس خالد بتردد : مازن قوي صلب .. لن يجنوا مما يفعلونه إلا نار تأكل قلوبهم الحقيرة ..
هز قاسم رأسه ببطء ثم تمتم بخفوت : ليس الأمر كذلك يا خالد .. فقط ..
صمت بتردد .. فأطرق خالد بحزن .. إنه يفهم .. يعلم أنهم قد لا يرون مازن بعد ذلك .. قد لا يرون أخاهم إلى الأبد
اعتدل قاسم فجأة و هتف : لكن متى ؟ و كيف عرفت أنت ؟
رفع خالد رأسه .. تأمل صاحبه ثوان ثم همس : اليوم صباحا .. رأيتهم من الكوة الداخلية .. نسيها الحارس مفتوحة لدقائق .. و حينها ..
صمت خالد فتنهد قاسم و هم بقول شيء ما .. لكنه ضم شفتيه فجأة و عقد حاجبيه بدهشة و استنكار .. استدار خالد بسرعة ..
رجل هادئ الملامح معتدل القامة .. يقف بزي مدني مع مدير السجن أمام باب مكتب الأخير .. نظر خالد إلى قاسم بتساؤل ..
غمغم قاسم ببضع كلمات خافتة قبل أن ينهض قائلا لخالد : دعنا نذهب إلى حلقة السجال .. أريد أن أتأكد من شيء صغير ..
شعر خالد بالدهشة .. لكنه لحق بابن عمه بهدوء .. انضما إلى الجلسة القريبة من موضع الرجلين
رحب الجميع بهما .. عاد قاسم ينظر إلى الرجلين بتمعن .. اختلس خالد نظرة إلى وجه صاحبه .. مال عليه و همس : أتعرفه ؟؟
منحه قاسم نظرة غامضة قبل أن يعود بعينيه إلى الرجلين .. غمرت الدهشة خالدا .. كاد أن يعلق بشيء إلا أن قاسم همس :
الآن تأكدت .. إنه ثعبان يهودي .. ينفث سمه دوما بهدوء .. و لا تشعر به إلا بعد فوات الأوان .. إنه وغد باقعة .. كيف لم أعرفه منذ البداية ؟
تراجع خالد بدهشة .. أدار عينيه إلى حيث يقف الرجلان و تأمل اليهودي بفضول ..
سأل قاسم بخفوت : ما اسمه ؟؟
قطب قاسم حاجبيه مجيبا : ليفي .. ليفي عازر
ارتفع صوت الجرس بغتة معلنا انتهاء وقت الفورة .. فنهض الجميع إلى زنزاناتهم .. تأمل خالد قاسم و هو يهرع بسرعة إلى الداخل ..
تنهد بقلق و عاد بعينيه إلى الرجلين .. ترى .. أي شر مستطير سيحمل المدعو ليفي إلى المعتقل ؟؟
××××××××××
الريح تضرب الجدران بقسوة و عنف .. و حبات الرمال لم تعدم طريقة تندفع بها إلى تلك الزنزانة لتملأها بالغبار ..
تناثرت الرمال الناعمة على الأرض و بين الشقوق .. دارت خصلات الريح قليلا ثم خمدت أنفاسها بين الجدران الصماء ..
تأملها بشرود .. حتى الريح قتلتها هذه القضبان الفولاذية .. و هم ؟ .. هم أحياء موتى .. هز رأسه كأنه ينفض عنه تلك الأفكار
ماذا يريد المحتل منهم إلا أن يستسلموا لليأس و الإحباط ؟؟
هم أحياء رغما عن أنف الصهاينة .. و إن مات واحد منهم فإن آخر يولد ليحمل الراية و يكمل الطريق
تنهد .. التفت إلى الفتى المريض إلى جواره .. شعر بقبضة باردة تعتصر أعماقه ..
إنه بحاجة إلى الدواء .. إلى ما يساعد جسده على المقاومة ..
و هؤلاء الحقراء يرفضون حتى أن يعطوه جرعة من دواء .. إلى متى سيحتمل ؟
مال رأس عادل قليلا .. سعل بضعف .. شعر محمود بالغيظ يملأ قلبه ..لكن ماذا بيده أن يفعل ؟
زفر بحزن .. ثنى ركبته و أسند ساعده إليها ثم رفع عادلا بين ذراعيه
و أراح الجسد الضئيل المرتجف على صدره القوي بحنان بالغ
شد على كتفه برفق .. تأمل الوجه الفتي الشاحب .. العينين المغمضتين .. الشفتين المنفرجتين ..
شعر بخفقان قلبه يتسارع .. بيديه ترتجفان .. مال و طبع قبلة حانية على جبهة الفتى .. شعر باستعار الحمى يلذع شفتيه
باغته صوت مرتجف يهمس بفزع : محمود .. هل .. ؟
رفع رأسه بسرعة .. اغتصب ابتسامة من بحر آلامه و هز رأسه نافيا مطمئنا ..
أغمض سالم عينيه و تنهد بعمق هامسا بصوت بدا فيه ارتياح العالم كله : الحمد لله .. لقد أفزعتني
عاد محمود يهز رأسه بهدوء قبل أن يسأله : أنتهت الفورة ؟؟
هز سالم رأسه بالإيجاب و اقترب منهما ليتحسس جبهة عادل بقلق .. تراجع هامسا بغضب : يجب أن يعالجوه .. يجب أن يفعلوا ..
أطرق محمود بحزن .. لم يجد شيئا يقوله .. مرة أخرى : ماذا بيدهم أن يفعلوا ؟؟
دخل الجميع .. أولهم قاسم .. كانت ملامحه تشي بالتردد و القلق ..
نهض محمود .. أغرق صاحبه بنظراته الثاقبة ثم انثنى إلى العائدين يسألهم أخبار الرفاق
اجتمعوا إليه .. نفلوا أخبار الجميع و تحياتهم .. سردوا عليه آخر ما جد من أحداث كان يعرف أغلبها ..
استمع طويلا .. ناقشهم في أمور عدة ثم استدار ليعود إلى عادل .. توقف و أخذ يتأمل قاسما ..
كان يريح رأس الفتى على ساعده و يتمتم ببعض كلمات .. انحنى عليه و قبله بحنو .. رفع عينيه ..
اصطدمت نظراته الهائمة بعيني محمود المتسائلتين .. نظر إليه بتوتر ثم بعثر نظراته يمينا و شمالا ..
اتجه محمود إليه .. جلس إلى جواره و همس بهدوء : ما آخر الأخبار ؟
تمتم قاسم بصوت خافت : ألم تحصل عليها من الرفاق ؟؟
هز محمود رأسه بحزم قائلا : أريد الذي لا يعرفه غيرك .. و غير من أخبرك
صمت لحظات قبل أن يخرج صوته حزينا هامسا : اقتادوه للاستجواب
تجمد محمود .. اندفعت أمام عينيه مشاهد كثيرة .. تذكر وجوها مضت إلى تلك الحجرة المظلمة و لم تعد ..
هز رأسه بتوتر محاولا نفض تلك الصور المؤلمة .. تمالك نفسه قليلا و تمتم : من أخبرك ؟ و متى ؟
أجاب قاسم بسرعة : خالد .. خالد الغزاوي .. رآهم من النافذة الداخلية صباح اليوم ..
ران عليهما صمت ثقيل قطعه قاسم هامسا : ماذا الآن ؟ ألا يمكننا فعل شيء ؟
أطرق محمود بحزن هامسا : ماذا الآن ؟؟ لا شيء يا قاسم .. لا شيء .. سننتظر عودته .. إن .. إن عاد
غمغم قاسم بصوت مختنق : ذاك الرجل .. إنه ليفي يا محمود ..
لم يبد على محمود أنه سمعه .. كاد قاسم أن يعيد قوله لولا أن هز محمود رأسه قائلا : لقد عرفته مذ دخل علينا تلك المرة
قطب قاسم حاجبيه و همس : لماذا هو هنا ؟ أخشى أنه وراء ما يحدث لمازن
أدار محمود عينيه ببطء إلى قاسم .. تلاقت نظراتهما .. أعاد محمود جملة قاسم ببطء : وراء ما يحدث لمازن ..
حدق في وجهه صاحبه متمتما : علينا أن نحذر يا قاسم .. أن نحذر كثيرا .. الثعبان بيننا
تنهد قاسم و هز رأسه موافقا ثم نهض إلى حيث يجلس سالم .. تابعه محمود ببصره قليلا ثم التفت إلى عادل ..
ارتسمت ابتسامة حانية على وجهه عانقتها نظرات عادل المرهقة ..
لقد أفاق الفتى .
××××××××××
الريح الهائجة .. الرمال المتطايرة .. هتفت أعماقه بعتاب : أي ألم حملته أيتها العاصفة بين صفعاتك الغادرة ؟
لماذا لا تكتفي عواصف الصحراء بالرمال ؟ لماذا تعشق دواماتها حمل الألم ؟
هاجت في أعماقه أفكار شتى .. أشاح عن نافذته الصغيرة ..
أي نجمة تلك التي ستخرج من قبتها لتعانق عينيه في ليلة كهذه ؟
أي نجمة يستطيع لمعانها أن يمحو شيئا من الأحزان المتعانقة بين جدران هذه الزنزانة
طاف بنظراته في العتمة المختلطة بأنفاس المجاهدين و أفكار الأسرى .. و أحلام الإنسان ..
بحثت عيناه عن محمود .. رآه في الزاوية المقابلة .. أحس في جلسته بشرود حزين ..
أي شيء جد يا ترى ؟؟ أعلم محمود بالخبر ؟؟ و لكن كيف ؟؟
عاد بعينيه إلى الرمال يسألها إجابة سؤال يحيره و يقلقه كثيرا ..
شعر بمن يتحرك إلى جواره .. رفع عينيه .. تمتم متسائلا : ماذا هناك يا قاسم ؟
تنهد قاسم و همس : ليفي هنا ..
انتفض سالم .. اكتست نظراته برغبة في عدم التصديق .. لم يعرف ليفي يوما .. لكن ما سمعه عنه يكفي ليثير في أعماقه كل القلق .. والخوف
عاد قاسم يهمس بألم : و مازن .. اقتيد للاستجواب
تراجع سالم بحركة حادة .. شعر بقلبه ينتفض و ينتفض .. بفمه جف .. و بالزمن توقف من حوله .. خرج صوته مختنقا هامسا :
مازن ؟؟ لا .. يا إلهي .. ألا يكفيه كل ما حدث ؟
حدق قاسم في وجه صاحبه بتوتر ثم همس : ماذا حدث ؟؟
أطرق سالم بحزن هامسا بتردد : أنا آسف .. لم أخبركم .. لقد .. لقد توفت أم مازن أول أمس
شعر قاسم كأنه في قلب دوامة من الدوامات التي تضرب الجدران حوله .. تسارعت نبضات قلبه .. شعر بدمعة تحاول جاهدة القفز إلى عينيه
أمسك بكتف سالم بغتة هاتفا : لمَ لم تقل من قبل يا سالم ؟ لم ؟
أشاح سالم بوجهه في مرارة و أطرق قاسم بحزن .. نبض قلباهما بكلمة واحدة : رحماك يا رب
××××××××××
يتبع بإذن الله
تحياتي
غموض
الضبابية
31-05-2003, 08:05 PM
أستاذي الكريم الأندلسي ..
تسرني متابعتك .. و يسعدني مرورك كثيرا
ماذا سيحدث ؟؟
الإجابة قادمة قريبا بإذن الله
تحياتي و تقديري
غموض
الضبابية
04-06-2003, 09:02 PM
الفصل الخامس
بدت الصحراء أليفة ذاك الصباح .. تعانقت التلال
أفسحت الرمال جحورا لأشعة الشمس بينها .. سكن الهواء
تساءلت الرمال عن سر هدأة الشمس ..
عن غياب الريح ..
عن السماء تحيك من قبتها زرقة حانية ..
حكت ديمة بعيدة قدوم الخريف ..
ابتسمت سعيدة لرحيل وهج الصيف .. و رحلت .
عبق الأفق الواسع بالظمأ .. سقى البعد ظمأ َ الصحراء ظمأ ً آخر
توحدت الحبات الذهبية مع وهج الشمس الهادئ .. تمازجت الظلال المنحنية ..
تراخت الرمال مع وداعة المسافات المترامية .. و غنت أغنيتها الساحرة
دوما تلعب الصحراء لعبتها .. محتاجة هي ..
إلى المطر ..
إلى بذرة تلد نبتة ..
إلى ابن يذود عن الرمال ..
و تعبث بالمحتاج .. تسربله بسحرها .. بالخوف .. بشعور قاتل بالضياع ..
تسحبه بهدوء .. رويدا رويداً إلى أعماق كيانها .. و يغرق هو في لجة الكثبان ..
يدور حول نفسه .. أو تدور الصحراء حوله ..
و هناك .. في أعماق الفراغ الأصفر تبدأ الصحراء لعبتها ..
لعبة السراب .. الموت .. التيه .. أو حتى الظمأ
اشتد وهج الشمس ..
غطى الرمل ببريق ساطع ..
و منح وجوه الصخر ملامح غامضة
تناثرت الظلال ضئيلة مختصرة مع ارتفاع الشمس معلنة وقت الظهيرة
توسطت الشمس كبد السماء .. تسللت أشعتها إلى الزنازين الضيقة ..
حملت أناملها الرشيقة شيئا من النور .. من الحياة .. و الكثير الكثيرَ من الحرارة ..
نهض .. اتجه إلى الصنبور الصغير في الزاوية .. أداره ..
انتظر لحظات .. و تنهد بغضب ..
سمع صوت قاسم يغمغم : أي ماء تبحث عنه يا محمود ؟؟ أي ماء ؟
شعر بصدر صاحبه يضيق بكل شيء .. تمنى لو يخفف عنه .. و لكن كيف ؟؟
مط شفيته بحيرة .. استدار إلى الشباب و قال بصوت عال :
عليكم أن تتيمموا فلا ماء اليوم أيضا .
نهضوا .. تيمم الجميع .. نظر محمود بطرف عينه إلى عادل ..
شعر بالأسى يغمر قلبه .. مسكين هذا الفتى .. حتى الاعتدال لا يستطيعه ..
أي قسوة جمدت قلوب هؤلاء الأوغاد ؟؟ إن كان لهم قلوب ..
غادر الصف فجأة .. التفت الجميع نحوه بدهشة ..
و ما لبثت الدهشة أن اختفت ليحل محلها حنان جارف
فهذه المرة .. سيشاركهم عادل الصلاة ..
حمله محمود برفق و أجلسه في الصف الأخير ..
أسند ظهر الفتى بهدوء إلى الحائط و ابتسم له هامسا :
هل ستظل تنظر إلي هكذا ؟؟ ألن تتيمم ؟؟
و لأول مرة مذ أخذ مازن .. ارتسمت ابتسامة سعيدة على شفتي عادل ..
هتف بصوت ذاو : شكرا لك أيها القائد
اتسعت ابتسامة محمود .. و أطلق الرفاق ضحكات مرحة ..
أَمّهم قاسم .. أدوا صلاتهم بخشوع هادئ ..
و عادت صورة مازن تملأ أعينهم جميعا ..
جلسا متجاورين .. همس قاسم : كم أفتقد مازنا !!
تنهد سالم بحزن .. رفع عينيه إلى نافذته الصغيرة و تمتم : ترى ماذا يحدث معه الآن ؟؟
انقبضت يد قاسم .. شعر بفمه يجف .. بكل أجزاء جسده تنتفض ..
كلهم يعرفون أفعال الصهاينة ..
ترى كم سيحتمل جسدك يا مازن ؟؟ هل نراك ثانية ؟؟
ربت سالم على يد صاحبه هامسا : ما بال محمود يا قاسم ؟ إنه على هذا الحال منذ أيام ..
حول نظره إليه .. إنه يعرف هذه الجلسة جيدا ..
جلسة هم يعصف بمحمود .. ترى أي هم من همومه هو ؟
التفت إلى سالم .. قال بصوت هادئ :
أنشدنا شيئا يا سالم .. اسمع .. أنشد تلك الأنشودة التي كنت تترنم بها أمس .
نظر إليه سالم صامتا .. لحظ الإصرار و الحث في عيني صاحبه ..
فهز رأسه بهدوء .. شردت عيناه لحظات ثم بدأ بصوت خافت حزين :
( السجن جنات و نار .. و أنا المغامر و الغمار ..
أنا و الدجى و الذكريات .. مريرة .. و الانتظار
طلع النهار على الدنا .. و علي ما طلع النهار ..
ليل السجون .. يلفني .. و تضمني همم كبار
و الآه بعد الآه .. و الزفرات شعري و الشعار ..
روحي طليق في الدنا .. و الجسم يحكمه الإسار ..
رباه عفوك .. إن هذا القلب بالشكوى يحار
لكنها أنات .. مكلوم .. و يسبقها .. اعتذار
لكنها أنات .. مكلوم .. و يسبقها .. اعتذار )
تنهد محمود .. غاصت عيناه في بحر شرود ..
غيبه صوت سالم عن حزنه .. رويدا .. رويدا ..
شعر بالكلمات تخفق في قلبه .. في أعماق روحه ..
بالبحة الحزينة في صوت صاحبه تستل خنجر ألم محمى من صدره .. لتغمد آخر ..
تردد الصوت الرقيق في أذنيه .. ليعود بسمعه لصوت آخر .. ترى .. كيف أنت يا مازن ؟؟
باغتهم صوت جرس الفورة .. صمت سالم .. تبادلوا النظرات بهدوء ..
اقترب قاسم من محمود و تمتم :
سأبقى أنا اليوم في الخدمة يا محمود .. يجب أن تخرج ..
لك أسبوعان لم تر وجه الشمس ..
هز محمود رأسه بحزم : بل تخرجون جميعا .. أنا من سيبقى مع عادل .. هيا ..
انتظر حتى غادر الشباب و جذب صاحبه جانبا ..
همس له : احذر يا قاسم .. و جود ليفي لا يطمئن .. لا تتهور .. مهما حدث
أومأ قاسم برأسه في هدوء و خرج خلف رفاقه ..
تنهد محمود .. شيء ما يدفعه لينادي قاسم و يبقيه معه ..
هز رأسه بتوتر و همس لنفسه : ماذا أصابك يا محمود ؟! لن يحدث شيء بإذن الله .. لماذا التشاؤم ؟
عاد يهز رأسه بهدوء .. استدار إلى عادل .. مضى نحوه و جلس إلى جواره ..
تحسس جبهته بهدوء ففتح عادل عينيه ببطء .. حاول محمود أن يرسم ابتسامة مطمئنة على شفتيه مغمغما :
أنت أفضل بكثير و الحمد لله ..
ابتسم عادل بحزن .. فداعب محمود خصلات شعره الفاحم بحنان ..
باغتهما صوت هادئ من الخلف : هيا يا فتى .. كف عن تمثيل دور المريض و انهض .. اشتقت لشقاوتك و دعاباتك ..
التفت محمود هاتفا بدهشة : سالم ؟؟ عجبا .. ماذا أعادك ؟
ارتسمت ابتسامة ساخرة على شفتيه قائلا : قدماي يا صاحبي ..
ندت عن عادل ضحكة خافتة .. و ارتسمت ابتسامة باهتة على شفتي محمود بينما توجه سالم إلى ركنه المعتاد ..
جلس مغمغما بهدوء : كم أشعر بالإرهاق !!
سأله محمود : ما أخبار الفتيان في الخارج ؟ هل من جديد ؟
هز سالم رأسه بهدوء قائلا : الجماعات المعهودة ذاتها .. أما الأخبار .. فلا شيء جديد على حد علمي .. انتظر عودة قاسم .
عاد محمود إلى عادل صامتا .. هناك ما تغير في سالم .. شيء يشغله .. أو شيء يخفيه عن الجميع ..
ترى ماذا هناك ؟
انتبه على نظرات الفتى تلاحقه فأمسك كفه و ضغطها في راحته بهدوء .. تبادلا ابتسامة هادئة ..
أغمض عادل عينيه و استرخى جسده تماما .
×××××
تصافحا بحرارة و جلسا معا .. مال خالد على قاسم قائلا : كيف حال عادل ؟
هز قاسم رأسه بهدوء متمتما : أسوأ حالا يا خالد .. أخشى أن ..
قاطعه خالد بغضب مصطنع : هيه .. أنت .. ألا تستطيع التخلي عن هذا التشاؤم ؟
ثم تحول صوته إلى الحنان قائلا : سيشفى بإذن الله تعالى .. إنه فتى قوي رغم صغر سنه
تنهد قاسم .. هز رأسه بحزن كبير ..
فتمتم خالد : صحيح .. سمعت أمس أن الصهاينة يعلقون محادثات السلام بنزع سلاح المقاومين ..
رد قاسم بغضب : أنا لا أؤمن أصلا بهذه المحاولات العقيمة ..
فلسطين كلها لنا .. و منذ الأزل .. أرض إسلامية عربية لا مكان فيها لكيان صهيوني ..
و هم يريدون أن يأخذوا أرضنا .. و يستنكرون رفضنا ..
محادثات السلام هذه لا فائدة منها .. فهم لا يريدون سلاما قط
ربت خالد على كفه متمتما : لكن العالم لا ينظر من منظارك يا صديقي ..
أتصدق أن هنالك من يظننا و ( إسرائيل ) المزعومة دولتين متجاورتين بينهما نزاع مسلح ؟
ابتسم قاسم بسخرية متمتما : نعم أصدق .. لأننا لا نجيد فن الدعاية الذي يجيده بنو صهيون ..
غرقا في مناقشاتهما .. و انضم إليهما معتقلون آخرون .. اتسع الحوار و تشعب ..
شرد قاسم قليلا .. تأمل بوابة المنفردة .. شعر بالقلق يغلي في أعماقه ..
ترى ماذا عنك يا مازن ؟؟ ماذا يجري معك ؟؟
تنهد بعمق .. عاد بعينيه إلى رفاق جلسته .. تجمد بغتة ..
التفت بحركة حادة إلى اليمين .. و انعقد حاجباه بشدة و هو يرى أربعة من الصهاينة يخرجون بمازن من غرفة مدير السجن ..
نهض .. تقدم خطوات نحوهم ليتبين ما يحدث ..
كان مازن مقيد اليدين معصوب العينين .. لطخت الدماء قميصه الممزق و تعثرت خطواته
تابعهم بعينيه في قلق .. تذكر توتر محمود و توجسه .. كاد الشرود يغمره لو لا أن انتبه بغتة لوجهة الأوغاد ..
شعر بارتجاف يعتري جسده عندما غادر الصهاينة بمازن ساحة المعتقل إلى الساحة الخارجية ..
تلك الساحة التي ارتبط اسمها بلون واحد .. الأحمر القاني .. لون الدم ..
تلك الساحة التي لا يعود منها أحد كما كان .. هذا إن عاد أصلا ..
انتزع قاسم نفسه من ذهوله .. تلفت حوله .. أين محمود ؟؟ تذكر فجأة أنه بقي مع عادل ليعتني به ..
تفجرت التساؤلات عنيفة في أعماقه .. ماذا يفعل ؟؟
تردد صوت محمود في أذنيه : لا تتهور .. مهما حدث .
و لكن .. هل سيترك مازن لهم ؟؟ ماذا بيده أن يبذل لينقذ صاحبه .. ماذا يفعل ؟؟
تلفت حوله .. لا يبدو على الرفاق أنهم انتبهوا .. غارقون في مناقشات لن تنتهي ..
عاد يتبع خطوات الصهاينة و مازن بعينيه .. هل سيتخلى عن مازن ؟؟ صديقه .. بل أخيه ..
صرخ قلبه بكلمة واحدة : إن لم تكن تستطيع أن تفعل له شيئا فلا أقل من أن تموت معه ..
في كلا الحالين لن تخرج من هنا .. لن يجدي وجودك على قيد الحياة شيئا ..
اندفع خلفهم بسرعة كبيرة .. أمام البوابة توقف لحظة : أليس غريبا أن يتركوها مفتوحة خلفهم ؟؟
لم يلتفت كثيرا لتساؤلاته .. و في غمرة انفعاله لم ينتبه إلى ذاك الوجه الهادئ الجذل .. نسي الثعبان ..
بمجرد أن خرج سمع صوت الضابط صارخا : إنهما يحاولان الفرار .. أطلقوا النار ...
و هنا .. هنا فقط فهم الخدعة .. عرف كم كان متهورا ساذجا .. عرف لماذا خرجوا بمازن وقت الفورة ..
لطالما كانوا يتجنبون المعتقلين .. كيف يخرجون بأحدهم إلى الساحة الخارجية في هذا الوقت ؟؟؟
لكن ما هدفهم ؟؟ محمود طبعا .. و هو الآن في مكانه .. حمد الله أنه سيفدي صاحبه بروحه ..
دار كل هذا برأسه في ثوان .. و تبدى له وجه ليفي .. فهم خطته القذرة .. فهمها تماما ...
تلفت قاسم حوله .. كان مازن يقف شاحب الوجه دامي الجسد على بعد ذراعين عنه ..
و قيوده ممزقة على الأرض إلى جواره .. أزال أحدهم العصابة عن عينيه .. فتح عينيه بضعف ..
كان يترنح .. وجهه شاحب كحجارة الصحراء .. و الجراح تغطي جسده كله ..
رفع رأسه .. اتسعت عياه ذعرا و صرخ بضعف : لا .. إنها خدعة يا قاسم .. ابـ
هوى أحد الجنود على رأسه بعقب بندقيته فتهاوى جسده على الأرض ..
المسدسات مصوبة إليهما .. الأصابع متحفزة للقتل ..
و العيون تنطق بجذل و حشي لإراقة الدماء .. و شماتة بلا حدود ..
هتف قاسم : إلا مازن .... اندفع يقي صاحبه بجسده .. و ..
و ارتفع صوت الرصاص ..
××××××××××××××
رفع محمود رأسه بحدة .. سالت قطرات عرق على وجهه .. و انعقد حاجباه بتوتر
الصوت آت من جهة معروفة .. جهة يعرفها كل المعتقلين هناك ..
شعر بأصابع تلامس يده .. التفت لتلاقي عينيه عينا عادل ..
رأى في عينيه تساؤلا و .. خوفا .. عاد بعينيه جهة الصوت و ارتجف قلبه باسم واحد ..
- مازن ..
اخترقت الكلمة سمع محمود خافتة مترددة .. التفت ليرى سالما مصفر الوجه مضطرب العينين ..
لم يستطع أن ينطق بكلمة فأشاح بوجهه في مرارة ..
تمتم سالم بألم : الرصاص .. الرصاص كان أكثر ..
ضاقت عينا محمود أكثر و هو يتمتم : الرصاص كان .. أكثر .. أجل
اعتدل بحركة عصبية و قفزت صورة أخرى إلى عقله .. غمغم بصوت غير مسموع : قاسم .. يا إلهي ..
قاطعه تحشرج أنفاس عادل .. التفت نحوه .. انتفض بغتة فانتزع سالم نفسه من أفكاره و اندفع نحوهما ..
كانت أنفاسه تتلاحق بسرعة كبيرة .. وجهه شاحب .. وبريق عينيه يذوي ..
ارتجف صوته خافتا بكلمات ضعيفة متناثرة : أنا السبب .. سامحوني
أغمض عينيه بألم .. ضعفت أنفاسه .. تساقطت قطرات العرق عن وجهه .. و عربد الأمل في ملامحه ..
أمسك سالم بذراعه .. ارتجفت شفتاه .. لم يستطع أن ينطق ..
نظر إلى محمود برجاء فراعه اصفرار وجهه ..
ربت على ذراع عادل .. بصعوبة فتح الفتى عينيه .. بدا بريق الدمع فيهما .. هم بقول شيء ما ..
لكن محمود هتف : لا يا عادل .. ليس ذنبك .. ليس ذنبك أبدا ..
تحركت أصابع عادل تلامس يد محمود بضعف .. همس بخفوت : شكرا لك .. شكرا لكم جميعا ..
تمتم سالم بصوت مختنق : تجلد يا عادل .. ستكون بخير ..
ابتسم عادل بألم .. عاد يهمس : سامحوني ..
ارتجفت شفتاه و لم يستطع أن ينطق لوهلة .. أغمض عينيه و عاد يفتحهما ببطء ..
تأمل محمود و سالم .. ابتسم و انتقل ببصره إلى الأعلى ..
رفعه إصبع السبابة .. تحرك لسانه بالشهادة ..
ارتسمت على شفتيه ابتسامة صغيرة .. و سقطت الكف اللينة ..
تجمد الصديقان .. فقدا الإحساس بما حولهما .. ارتجفت شفتا سالم بألم ..
أمسك بيد عادل و أخذ يربت عليها برفق و هو يهمس : عادل .. عادل .. أجبني يا فتى .. عادل
شعر محمود بقبضة باردة تعتصر أعماقه .. تأمل الوجه الصبوح .. البسمة الراضية الهادئة .. و العينين الذاويتين
رغما عنه .. سالت الدموع تغرق عينيه .. جذب الفتى ..
ضمه إلى صدره بكل ما بقي له من قوة
و تفجرت الدموع من عينيه حزينة أليمة ..
ليمتلئ جو الزنزانة برائحة مميزة ..
رائحة الموت
×××××××××××××
يتبع بإذن الله
غموض
الضبابية
07-10-2003, 09:34 PM
الفصل السادس
لا تبدو الصحراء صديقا قريبا دائما ..
تكتسي بثوب من ظلمة .. تبعث في الأنفاس رائحة موت ..
و تبكي النجوم لقسوة رمالها ..
تمازجت الظلال .. رسمت كائنا أسطوريا له ألف وجه .. و ينبض بألف قسوة
غطت سحب الغبار وجه السماء للحظات ..
تبخترت النسائم .. فاكفهر وجه الصحراء ..
مادت الصخور .. تمايلت الظلال .. و سكن النسيم ..
شعر النسيم بالاختناق مع عيني البعد المخيفتين ..
تمتم بهمسات مرتعشة .. و هوى أرضا بلا حراك ..
انقشع الغبار .. و غنت الصحراء فرحة بالقتيل ..
ضم ساقيه إلى صدره ..
أحاطهما بذراعيه .. و أطرق شاردا ..
لم يقص على النجوم حزنه .. و لم يناج حجارة الزنزانة ..
غاب في تجاعيد الأرض الإسمنتية ..
هذا وجه باك .. و ذاك طفل مطرق ..
هنا خط يحاكي العاصي ..
عادت المياه المترقرقة تداعب خياله ..
- لا ريب أنك مجنون .. تتركني و ابنك و تعود للجحيم ؟
ارتجف نبض في أعماقه .. أترين وطني حجيما ؟؟
صوتها لا زال يرن في أذنيه .. يذكره بابن لم يره .. و بزوجة فارقها .. و بلا رجعة ..
ما الذي دفعه ليتزوج ؟؟
كان يعلم أنه لا يملك فراق تراب القدس الطاهر ..
و الآن ؟
قد فارقه .. لكن ..
لكن النسائم تحمل إليه رائحة عشقه ..
ترى .. كيف غدا ابنه الآن ؟؟
ليته إلى جواره .. يلقنه أغاني الكون .. يسقيه عشق الأرض ..
يعلمه كيف يرافق الطير في تجواله .. كيف يصادق النجمة الضاحكة
كيف يشد البدر بهواه .. كيف يداعبه بإصبعه برفق
لكنه لم ينتظر قدوم ابنه .. تركه .. و ترك زوجه الدمشقية .. و عاد إلى معشوقته ..
- أين أنت ؟
رفع عينيه إلى الصوت و غمغم : هناك
هز محمود رأسه بهدوء حزين .. تأمله لثوان ..
أطرق سالم .. هبت الرمال .. جدلها البدر حبلا خشنا .. و أحاطت النسائم عنقه بخشونة الرمل
انتفضت عبرات حارة في مقلتيه ..
تنازعت مع الجفنين .. كادت تقفز إلى وجهه الشاحب ..
لكنه قاوم .. قاوم .. و قاوم ..
أجبرها على الخضوع و العودة ..
و هرب من نظرات محمود
انحنى عليه .. تمتم بخفوت : سالم .. لا تتقوقع على آلامك هكذا .. لن ..
هز يده بضعف .. فزم محمود شفتيه بقلق .. شعر بأنه بحاجة للبقاء وحده ..
تركه .. نهض و مضى ثانية إلى المصاب .
رفع سالم عينيه إلى رفاقه ..
لم يبق في الزنزانة إلا خمسة ..
اثنان رحلا ..
لم يستطع مقاومة الدمعة التي انحدرت ببطء على وجنته ..
شعر بالمرارة تملأ فمه .. مرارة ما شعر بها من قبل ..
رفع عينيه ببطء إلى النجوم ..
تمازجت مجموعة منهن .. رسمن وجه الفتى الباسم ..
تنهد بحزن .. ألقى رأسه إلى الوراء .. و غرق في الملامح المحببة
- الدموع ليست ضعفا .. في لحظة سكون نحتاج أن نسكب بعض الألم
لا تحجر دمعك صخرة في سور تبنيه حول نفسك
فقدت رفيقك .. هو شهيد .. و أنت تتمناها لنفسك .. لكن .. أيضا يبقى للألم مكان بجوار الفخر
الدمع دليل على الرقة .. الروح الشجية ..
نحن لسنا مقاتلين .. نحن مجاهدون أيضا بإذن الله .. فرسان نهار رهبان ليل
اعتدل بحركة حادة ..تسارعت أنفاسه ..
و عاد وجهان حبيبان يطوفان أمام عينيه ..
دون أن يشعر .. سالت دموع محرقة تغزو وجهه
و تسارعت نبضاته بألم .. تأمل صاحبه الممدد جريحا عاجزا ..
و فارت الدماء في عروقه .. تمتم لنفسه :
- ديني .. وطني .. حزن أبي .. دمع أمي .. زوجتي .. ابني .. رفاقنا .. دم قاسم .. دم عادل .. و إصابة مازن
رفع عينين غاضبتين إلى السماء و أردف بصوت خافت رهيب :
- اخشوا ثأري أيها الأوغاد .. اخشوه أيها الصهاينة
و ارتجفت النجوم ....
××××
اشتد عزم ريح الجنوب ..
هبت عاصفة متربة ..
دارت عيناها بين خرائط الصحراء في جعبتها ..
بحثت عن خريطة للظلم .. ما وجدت ..
فكل الخرائط مرسومة بالظلم ..
غدا لونا باهتا .. رسما اعتادت العيون رؤيته .. و أغنية ملتها آذان عشاقها .. و زاد شغفهم بها
زفرت الريح بضيق
هبت بجنون تائه .. حملت بين يديها رائحة البحر ..
طافت حول المعتقل .. حول معقل من معاقل ظلام الظلم
صفعت قهقهتها الساخرة غرور الأسوار العالية
ما استطاعت الأسلاك الشائكة و لا نباح الكلاب منعها أن تهب ندية رقيقة ..
حملت رائحة البحر .. زرقة .. و عبقا من حرية طالما حلموا بها
نقل عينيه بين رفاقه بصمت
كلهم شارد .. كلها عيون هائمة ..
و كلها نظرات باردة تتدفق ألما كلما ندت عن شفتي رفيقهم أنة خافتة
ساد صمت اتفقوا عليه بصمت ..
و ظلت قلوبهم معلقة النبض بمازن الممدد على صدره ..
جسده لوحة تداخلت فيها الخطوط و انتشرت فيها الكدمات المزرقة
وجهه شاحب مبلل بالعرق ..
و عضلاته منقبضة تصرخ ألما في كل لحظة
حاولوا تضميد جراحه .. لكنها كانت أعمق من أن يستطيعوا دون دواء
جاءهم الممرض اليهودي ..
و كاد محمود أن يقتله ..
لكنه نجا بلكمة قوية .. و جرح عميق في رأسه
و نقل محمود إلى المنفردة عشر أيام
و لا زال جسد مازن ينتفض ..
و لا زالت الحمى تسري في أوردته مسرى الدم الذي سال يغطي
أطراف ثيابه الممزقة
حتى الماء .. مقطوع عن الزنزانة
اكتفى كل منهم بقطرات من الماء ليستعينوا بالباقي لتخفيف اللهيب المتأجج في جسد رفيقهم
و ليت ذلك أجدى
استند سالم إلى الجدار ..
و عادت الأحداث تتصارع في رأسه
ترى ما الذي لا يزال مختبئا لهم في جعبة الثعبان ؟
مازن .. أول من سجل لليفي عازر هزيمة في ملفه ..
هرب الأدوية و أنقذ رفاقه .. و لم يظفر اليهود حتى بحذاء أحد المجاهدين
و ثار ليفي .. و أصبح مازن هدفه الأول و الأخير
ثم انطلق محمود بنشاطه الجم .. جمع الشباب
نظم المظاهرات .. و لم يجد إلا منطقة إشراف ليفي ليزيد جنونه أكثر فأكثر
أطلق النار على مظاهرة الثانوية ..
و اعتقل أهم رجال المنطقة .. هدد محمود و توعده
اعتقل عائلته .. نساء و رجالا .. طلب منه تسليم نفسه و إلا لن يسره ما سيحدث
و أسرع مازن يهرب محمود .. و يلفت أنظار ليفي إليه
و عاد ليفي إلى عدوه القديم .. نسي محمود لفترة و جد في مطاردة الفتى
دون أن يدري .. اتبع بكل الدقة ما رسمه مازن في رأسه ..
و التقى الدربان .. أخفت الحواري الضيقة وقع خطوات المجاهدين الشابين ..
و حملتهما الرياح على جناحيها ليفرا بعيدا
و احتضنهما الجبل
تراقص شبح ابتسامة في عيني سالم ..
وقتها كان فتيا ..
و بالصدفة رآهما .. ملثمان يتقافزان فوق الصخور .. و ضحكاتهما الحميمة تسبقهما
و مع مغيب الشمس .. كان الطعام يستقر أمام كهف متوار بين الجبال ..
و نظرات الدهشة تملأ العيون الأربعة ..
و الفخر يملأ عينيه ..
ألم يساعد المجاهدين ؟
فحق له إذن أن يفخر .. لقد جاهد ..
و غاب تلك الليلة .. ليعود فجرا .. و يرى المكان يلفظ رائحة غريبة
رائحة بارود .. و دم
و تتبع الآثار كالمجنون
فهم كل شيء ..
لقد سقط الشابان ..
انحدرت دموع ساخنة على وجهه
كيف ؟ و لماذا ؟ و من فعل بهما هذا ؟
و كتب له أن يعرف ..
يوم دخل تلك الزنزانة الضيقة ليسمع صوتا صافيا يهتف : انظر يا أخي .. إنه صاحبنا الشاب
و رغم الأسر .. تراشقت أعينهم ابتسامات رقيقة ..
و تعانقت النظرات ..
و أصبح اسم ليفي يطرق مسامعه بين الحين و الحين
انتزعه صوت الحارس من أفكاره هاتفا بخشونة : التفتيش
و تمازجت العيون
عينان باردتان .. كثلوج جبل لبنان ..
و تشف يطل مع كل نبض
غمغم لنفسه : ليفي !! .. أهلا
دارت العينان الباردتان ..
و اكتستا بغتة ببريق ساخر مع ارتجاف مازن الفاقد الوعي
تكورت قبضة سالم بعصبية .. و انعقد حاجباه بغضب
أجل .. هذا ليفي .. هذا قتيله بإذن الله
التقت نظراتهما بغتة
قفزت ابتسامة متشفية إلى عيني ليفي
تجمد سالم للحظات ..
ثم أجاب
بابتسامة ساخرة
و عينين تبرقان بنظرة رهيبة
نظرة رجل عقد العزم أن ينتقم ..
لرفاقه .. رفاقه في الكفاح
و ارتجف قلب ليفي .. رغما عنه
تراجع التشفي في أعماقه .. و حلت محله رهبة
رهبة عينين عميقتين غاضبتين
××××
تعانقت التلال تخفي بينها المعتقل اليهودي ..
و تناثرت الرمال حوله تحكي الدماء التي سالت عليها
تقص على الماضين و الآتين قصة كبرياء يجلد بسياط الصهاينة كل يوم
كم من حكايا بين ثنيا هذه الرمال التي تغطي وجه الأفق !!
كم من خيام نصبت عليها لتأوي إلى أحضانها قبائل بدوية !!
كم من عشاق تناجوا بين الصخور المتناثرة هنا و هناك !!
و كم من أبطال ألقاهم ذئاب صهيون تحت ذراعيها ..
لتختفي أجسادهم العامرة بعشق الأرض و تدفن بين حجارة الأرض التي عشقوا ..
ذهبوا مع الأيام ..
تلاشت أصواتهم من عالمنا ..
تخطفتهم الطير و لم نعرف لهم قبرا نزوره
غاب بريق عيونهم .. و عزم السواعد القوية ..
محا الزمن صورا بارعة الصبر جميلة الفداء ..
تقدم خطوة في حربه ضد ذاكرتنا الزاخرة بالحزن و الألم
ثم تراجع مهزوما أمام الأسماء المغسولة بالدم
أسماء ظلت ذاكرتنا المتعبة تحملها برفق و اعتزاز .. جوهرة أخيرة ظلت بين كفيها ..
صورهم ظلت تحمل في ألقها الحزين العزم و حكاية الصبر
حكايتهم ستبقى نارا تستعر في القلوب .. توقد العزائم و تستنفر الهمم
جالت مئات الأفكار في ذهنه ..
استوطنته .. و تصارعت مع الهدوء ليغادر وطنه ..
رفت ابتسامة على حاجبيه المعقودين عندما فكر في هذا التشبيه ..
و غابت بعيدا عندما قفزت بلا مناسبة صور حلم أشغله طوال الأسبوعين الماضيين
رمق صاحبه بطرف عينه .. ثم حزم أمره و التفت إليه ..
و كأنما كان مازن ينتظر خروج محمود من شروده ..
تلاقت نظراتهما .. و عبقت نظرات مازن بالتشجيع ..
تنهد محمود .. جمع شتات فكره و همس : لدي ما أود البوح به
صمت للحظات و أردف :
عندما أرسلت للمنفردة .. رأيت شيئا في نومي .. و لعلك تجد له تفسيرا
هز مازن رأسه مشجعا .. فابتسم محمود بعصبية و عاد يتم :
كأني كنت مقيدا .. و ليفي كان يقف على بعد أمتار مني ..
لكنني لم أستطع التحرك نحوه .. و لست أدري لماذا ..
شعرت بالغيظ .. بينما هو كان ساخرا متشفيا كعادته ..
بغتة اكتست ملامحه رعبا
التفت لألمح عن بعد شابا رماه بشيء أشبه بكرة صغيرة
فإذا بليفي يسقط .. شعرت بالسعادة ..
و التفت إلى الفتى .. لأجده سقط كذلك .. ملأني شعور غريب حينها ..
شيء من راحة و سعادة و حزن و انقباض
برأيك ما معنى هذا ؟
أطرق مازن .. تظاهر بالتفكير بينما شيء في أعماقه يصرخ .. تمتم : لا حول و لا قوة إلا بالله
همس محمود : ماذا ؟
رفع رأسه بحذر .. و كسا وجهه بكل ما استطاعه من هدوء و هو يهمس : إنه مجرد حلم يا محمود
لا أعلم قد يكون له تفسير ما .. لكنني لست واثقا
هز محمود رأسه بهدوء شاكرا .. و عاد يشرد ببصره و روحه ..
و صوت ما يصرخ في أعماقه : بل هنالك تفسير .. هنالك تفسير .. هنالك .....
عاد مازن يطرق .. تحسس جراحه .. و شرد قليلا بينما تكونت صورة كاملة للتفسير في عقله
و غمغم : لك الله
و هذه المرة لم يسمعه محمود .. كان غارقا في التفكير .. و في قلبه تفسير ما يخشى أن يحادث عقله به
يخشى ذلك .. إلى أقصى حد .
تحياتي
غموض
ياسمين
17-10-2003, 12:55 PM
رائع غموض
نتابع معك بشغف
لك تحياتى ,,, وباقة ياسمين
عبدالرحيم فرغلي
19-10-2003, 11:30 PM
غموض لا اقول اني كنت اتابع .. اليوم قرأتها جملة .. رائعة كانت
بهذا الاسلوب الادبي الذي تمازج بين السرد والاخيلة .. جعلتني اتخيل
الصحراء والمعتقل وهؤلاء المجاهدون الابطال .. لعلي اصابعي تخجل
ان تذكر اسماءهم .. فاصابعي اقل شأنا من ان تفعل .. لك الله يا غموض
اكملي فساتابع .. باذن الله .. تحية لك وتقدير
الضبابية
27-10-2003, 07:38 PM
العزيزة ياسمين الواحة
و أنتظر مرورك بسعادة
تحية و كل الود
غموض
الضبابية
27-10-2003, 07:41 PM
الفاضل ابو همام
يسرني أن اجتذبتك لتقرأها جملة واحدة
و لعل عيون أبطالي المليئة نثرا تجتذبك لتمر ثانية
بانتظار مرور و لو بعد حين
تحياتي و كل التقدير
غموض
Powered by vBulletin® Version 4.2.5 Copyright © 2025 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved, TranZ by Almuhajir