المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : صباح العيـــــــــــــد



د. حسين علي محمد
30-03-2006, 07:04 PM
صباح العيد

قصة قصيرة، بقلم: د. حسين علي محمد
........................................

(1)
خرجتُ من حجرتي التي تقبع في ممر طويل مظلم، مُلحق بتلك المدرسة النائية في جبل «النخلة الحمراء» .. أمام الباب مطلع وعر، تمرُّ منه السيارات القادمة من صنعاء، والمتجهة إلى مدينة «الأحد».
الوقتُ أمامي قصير لألحق صلاة العيد .. لماذا تأخرتُ في النوم؟ .. لم أنم إلا قبيل الفجر بنصف ساعة أو أقل قليلاً .. باق عشرُ دقائق على الصلاة .. عليَّ أن أصل إلى الساحة التي سيصلون فيها صلاة العيد.
نظرتُ أمامي فوجدت الأستاذ «سيد ريحان» المدرس بالمدرسة الابتدائية المُجاورة يمشي مُصطحباً ابنه الأكبر «مصطفى» ذا الأعوام التسعة .. أما حلمي ذو الأعوام الخمسة فيبدو أنه مازال نائماً .. فعل خيراً فالدنيا برد، ودرجة الحرارة تنخفض عن عشر درجات!
تلفت «سيد ريحان» إلى الخلف فأبصرني، فانتظر لألحقه .. شدَّ على يدي مهنئاً بالعيد السعيد، راجياً أن يُطيل الله عمرينا لنكون العام المقبل «على جبل عرفات معا» .. وعانقني، فشممتُ عطراً رخيصاً يفوح من طيات ثيابه.
ثياب ريحان مكوية، وشعره لامع، وفرحة العيد ترقص في عيني طفله «مصطفى».
لاحظت سيد ريحان وهو يُحملق في وجوه اليمانيين، ويهمس لي:
ـ رباه! .. كم هم مختلفون اليوم عن الأيام السابقة!
مشينا صامتين ـ أنا وسيد ـ والولد يقفز وكأنه عصفور!

جلستُ بجوار سيد ريحان على حشيش أخضر، في أرض مستوية، تتخللها بعض أشجار الخوخ .. تأكّدت أني أيضاً ألبس بنطلوناً وقميصاً جديدين، اشتريتهما منذ أسبوع من «صنعاء»، لكن بلا مكواة تمر عليهما .. فأين أجد الكوّاء في هذا المكان النائي؟!!
(2)
هاأنذا أجلس مطرقاً في مصلّى العيد، بكل مشاعري أستمع إلى «الشيخ محمد الأعرج»، وهو يُلقي خطبة العيد، عن معنى التضحية والفداء. والشيخ محمد مدير المدرسة الابتدائية المجاورة، وقد أخبرني منذ عدة أسابيع أنه درس في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالسعودية ـ وإن كان لم يُتم دراسته الجامعية ـ ولذا فهو يفهم الفقه السني فهماً جيداً، وإن كان يُخطئ في اللغة ـ في كل خطبة ـ في كلمات قليلة!
(3)
هاهم اليمانيون يتعانقون في مودّة وفي حرارة بعد انتهاء الإمام من خطبته القصيرة .. وضحكات الإمام الصافية العالية تحتوي المكان.
نظرت إلى اليمانيين وهم يسلمون عليَّ بإعزاز، فوضعتُ على فمي ابتسامة عريضة، لكن لم يقل لي «سيد ريحان» هل كانت حقيقية أم باهتة، كما اعتاد أن يصف ضحكاتي فيما سلف من أيام؟
عانقني بعضُ طلابي، وعانقني بعضُ من لهم أولاد يدرسون عندنا في المدرسة الثانوية .. في حرارة حقيقية.
(4)
في المدرسة الثانوية ثلاثة أساتذة فقط:
عبد الغني حسنين: مدرس اللغة العربية والتربية الإسلامية، وقد ذهب ليلة الأمس إلى قرية «الخرابة» المُجاورة ليقضي يومين من أيام العيد مع ابن قريته «فريد»، وقد ألحَّ على أن أذهب معه (فزوجة «فريد» ابنة خالته، وليست غريبة عليه) .. ولكنني لم أستجب!!
وعلي عوض الكريم: سوداني، يدرس اللغة الإنجليزية والمواد الاجتماعية، وقد ذهب منذ يوم الخميس ـ من ثلاثة أيام ـ إلى «صنعاء» ليُمضي العيد مع أبناء يلده، (وكان قد قضى عيد الفطر في ذمار) وعرضَ عليَّ أن أذهب معه إلى صنعاء، ولكني قلتُ له:
ـ أنت ستذهب إلى أقاربك وأصدقائك .. وأنا ماذا سأفعل؟!
ضحك ضحكة عذبةً أنارت وجهه الأسمر:
ـ أنت أيضاً قريب وصديق.
ولكنني لم أستجب!!
وأنا .. مدرس الرياضيات والعلوم!

أما المدرسة الابتدائية المُجاورة لمدرستنا فلها مدرس واحد هو «سيد ريحان»، وقد أعدّت له القرية سكناً مؤثثاً، مكونا من حجرة واحدة، يسكنُ فيه هو وزوجته الجميلة النحيفة البيضاء وولداه مصطفى وحلمي.
اليمنيات يزرن زوجته عصر كل يوم، فلا يجد مفرا من أن يصطحب ابنه الكبير «مصطفى»، ويأتي ليجلس معنا، ويُخفف عنا وحدتنا بأحاديثه الجميلة، وقصصه المسلية!
هل يعود من المُصلَّى ليجلس معي، ويُخفف عني وحدتي، ويذكرني بأيّام الأعياد في مصر!
(5)
صحبني «سيد ريحان» وابنه في طريق العودة. وقبل خطوات من البيت استأذن مني .. في سرعة ولهوجة .. لأنه مدعو عند شيخ القرية ـ هو وزوجته وطفلاه ـ ورجعتُ إلى حجرتي عابراً الصالة المُظلمة.
أوارب الشباك قليلاً .. لأسمع ضحكات الأطفال .. وصياحهم .. وصفاراتهم.
أخرجتُ بعض الحلوى التي اشتريتُها أمسِ من البقال الوحيد في القرية .. ليست جيدة، لكنها خير من لا شيء!
تذكّرتُ أبنائي وزوجتي وأخواتي الأربع (فأنا الأخ الوحيد الذي يدخل عليهن في العيد) فأحسستُ بغصة في حلقي! .. مددتُ يدي لأشرب كوب الشاي البارد الذي عملتُه قبيل الفجر ونمتُ، ولم أشربه!
أُحسُّ ألماً شديداً في ساقي اليُسرى.
البردُ شديد .. فلأغلق الشباك، ولأتمدد على سريري، ولألبس جورباً سميكاً عساهُ يخفف عن ساقي بعضَ ألمها.
.. يبدو أنني لن أخرج من البيت ـ اليوم أو غداً ـ حتى يعود عبد الغني من «الخرابة»!
حسناً .. لقد اشتريت أمس من البقالة ما يكفيني يومين!
الرياض 23/1/2001م.

سعيد أبو نعسة
30-03-2006, 09:05 PM
أخي الحبيب د حسين علي محمد
شعرت و أنا أقرأ قصتك بالمرارة في حلقي بدون مبالغة .
فلقد مررت بهذه التجربة المقيتة يوم كنت مغتربا في بلد شقيق و لكن حظي كان أصعب من حظك إذ كانت معي عائلتي وكنا نقتات الملل و الضجر طيلة أيام العيد و نختلق المناسبة لزيارة أصدقائنا كضيوف ثقال .
خرجت من الغربة بقرشين و بحكمة مفادها : الغربة كربة .
اشكرك على هذا الأسلوب السهل الممتنع العابق بعاطفة جياشة يلمسها القارئ بين الحروف دون تهويل .
دمت في خير و عطاء

د. حسين علي محمد
30-03-2006, 09:15 PM
شكراً للأديب الأستاذ سعيد أبو نعسه على تعليقه الجميل.
مع تحياتي.

د. محمد حسن السمان
30-03-2006, 09:19 PM
سلام الـلـه عليكم
الاخ الفاضل الاديب القاص الاستاذ الدكتور حسين علي محمد

مازلت اتابع اعمالك الادبية , ولقد كتبت لك يوما بانني اعتبر
نفسي قارئا محبا معجبا بك وباعمالك , وها انا امام قصة
شعرتني اعيشها معك , بساطة ساحرة في اللغة , صور واقعية
صادقة تعكس بمهارة وصف المكان , وتابعت بشوق قدرتك العالية
على ضبط الزمن , يرافق كل ذلك نبضات ادبية شيّقة , واخيرا
جاءت النهاية مقنعة الى حد كبير .
بارك الـلـه بك

اخوكم
السمان

د. حسين علي محمد
31-03-2006, 03:29 PM
الأديب الدكتور محمد حسن السمان
شكراً جزيلاً، وأنا محظوظ بمتابعتك ومتابعة الأقلام المحبة
في رابطة الواحة.
تحياتي لك.

نسيبة بنت كعب
04-04-2006, 04:45 PM
السلام عليكم

وصف جميل جدا ونشاركك كل هذه المشاعر والبرودة من شدة الوحده
فعلا هى آثار الغربة .... وما ادراك ما الغربة !

اتفهم مشاعرك - لا تحزن كثيرا .. يعنى اين ذهب عبد الغنى .. ما هو ذهب ايضا ً الى " الخرابة "

لا تنس ان هناك كثيرون يكونوا وسط اهلهم ومازالوا مغتربين أو يشعرون بالغربة !

ادعو الله ان ييسر على كل مغترب ويعطيه اهلا خيرا من اهله الذى تركهم فلا يكون وحيدا ابدا

تحيات متعاطفة معكم :001::014:

عبلة محمد زقزوق
05-04-2006, 02:44 PM
الغربة وما يلاحقها من وحدة وسقيع داخلي حتى ولو كان الطقس شديد الحرارة ، فهذا الصقيع منبعث من الخواء العاطفي والأسري الذي جبلنا عليه نحن خلق الله .

أستشعرت هذا من خلال هذا النص ، فتدثرت بغطاء الأهل ، وحمدت الله على التواجد مع الأخذ والعطاء ، حتى ولو استأنا من البعض ، إلا أن هذا الدفء الذي أستشعره منبعث من خلال صحبتهم ومؤانسة النفس بلمتهم .

خالص تحياتي أستاذي الفاضل د . حسين علي محمد
إلا أنني أرى هذا النص قريب من مذكرات مغترب أكثر من أن يكون قصة أو رواية .
وللإنصاف أريد أن أسجل شكري لتحديد مناطق الأحداث بقصصك حتى أنني أستشعرها وأتخيل روحي هائمة باجوائها ؛ رغم أنني لم أطئ بقدمي أبعد من موطني .
تحياتي أستاذي الفاضل .

د. حسين علي محمد
05-04-2006, 05:28 PM
إلى الأستاذة نسيبة بنت كعب:
أشكرك على تعليقك اللطيف، ومأ أجمل قولك:
"لا تنس ان هناك كثيرين يكونون وسط اهلهم ومازالوا مغتربين أو يشعرون أنهم في غربة (بتصرف)".
فالغربة والاغتراب من مآسي الإنسان المعاصر.
تحياتي .. وشكراً جزيلاً لك على تعليقاتك.

د. حسين علي محمد
05-04-2006, 05:30 PM
إلى الأستاذة الأديبة عبلة محمد زقزوق:
تحياتي وشكري الجزيل على تعليقك.
وقد توقفت أمام تعبيرك الجميل:
"الغربة وما يلاحقها من وحدة وصقيع داخلي؛ حتى ولو كان الطقس شديد الحرارة، فهذا الصقيع منبعث من الخواء العاطفي والأسري الذي جبلنا عليه نحن خلق الله".
تحياتي وموداتي على مؤازرتك الدائمة لما أكتبه.
ودمتِ بخير وسعادة.

د. حسين علي محمد
05-04-2006, 05:35 PM
هذه القصة

بقلم: أحمد المحمود ـ الرياض
....................

يااااه ما أصعب الغربة وما أقساها ! صباح العيد، بعيداً عن أحضان الأم وحنين الأخوة وهرج الأبناء، يا له من صباح! لحظات ومناظر يتفطر لها القلب حينما تمد ذراعيك بعد الخروج من مصلى العيد وتضمهما فتفاجأ بأنك تمسك خيط دخان عندها تنظر ذات اليمين وذات الشمال فلا تجد غيرك يلبس البنطال فتهرع إلى سريرك الوحيد الذي اعتاد عليك فتتكور حول نفسك تغمض عينيك ليتحقق لك ما عجز الواقع عن تحقيقه .. قصة واقعية جميلة تخلد لحظة عاشها بطل القصة بكل تفاصيلها .. أستاذي الدكتور حسين اشتقت إليك .. تصبح على أمل لك محبتي وتقديري ..
تلميذكم أحمد.

د. حسين علي محمد
05-04-2006, 05:37 PM
عن النص

بقلم: لبابة أبو صـــــــالح ـ سورية
...................................

قصة جميلة جدا .. صورة أخرى من صور الغربة التي تطأ أرواحنا فتنهكها .. و تتعبها .. تتركها خاوية من الدفء .. تقتنص مع الدفء لحظات الفرح .. ولا تدع عزاء للنفس سوى بقايا من فرح قديم ما زال عالقا بالذاكرة .. في وسط العتمة والوحشة .. ترتسم ابتسامة باهتة ( بالطبع) على شفتين باردتين تتسلل الزرقة إليهما .. ولا يعود هناك حل سوى أن يبلل شفتيه بلسانه .. يحاول التربيت على روحه المغتربة الوحيدة ..
للغربة طعم حلو مر .. ( لا يعرف الشوق إلا من يكابده * ولا الصبابة إلا من يعانيها ) .. وكم من غريب بين ذويه .. روحه بينهم تائهة !!
شكرا لقلمك الرائع د. حسين .. مع خالص التحية والتقدير ..

د. حسين علي محمد
07-04-2006, 05:22 PM
هذه القصة

بقلم: مجدي محمود جعفر
............................

أعتبر الدكتور حسين على محمد الرائد الأول والحقيقي لكتابة أدب الغربة والذي شهد في السنوات الأخيرة رواجا حقيقيا بسبب الهجرات المؤقته والدائمة للمصريين - والدكتور حسين يكاد يكون الكاتب الأوحد الذي تناول كل مفردات هذا الأدب وجعل له خصائص أو من خلال قصصه وأشعاره نستطيع أن نثبت لهذا الأدب خصائص وسمات وأتمنى أن يسعى أساتذة الأدب بالجامعات العربية إلى دراسة أدب الغربة من خلال النماذج الكثيرة والمتنوعة التي تركها لنا أستاذنا الرائد وأعتقد أن ثمة نماذج أخرى لديه لم ينشرها وبالتأكيد هناك الكثير الذي لم يكتبه عن تجربة الغربة - أستاذنا الرائد - نتمنى ألا يأتي أدعياء ويجعلون لهم سبقا في كتابة هذا الأدب وخاصة أني كنت أستمع إلى أحد البراج الثقافية بالإذاعة وكان يتحدث عن أديب دعي - مدعيا أنه أفضل من عبر عن المصريين في الخارج - حاولت الإتصال به لأخبره بضرورة أن يقرأ ماكتبه الأدباء المصريين وخاصة الذين عاشوا في الغربة - وذلك قبل أن يصدر حكما وتعميما - جاعلا من أديب نصف موهوب لم يغادر مصر - أفضل من كتب عن المغتربين - أستاذنا الفاضل .. دعواتنا بالصحة والألق الإبداعي الجميل.

محمود شاكر الجبوري
07-04-2006, 06:24 PM
أستاذي ألدكتور حسين علي محمد
ما أجمل العيد وما أوحشه على ألمغترب
شكرا لك.....................

د. حسين علي محمد
07-04-2006, 10:12 PM
شكراً للأديب الأستاذ محمود الجبوري على تعليقه
مع موداتي.

ناديه محمد الجابي
20-10-2014, 07:31 PM
ما أكثر قصص الغربة .. ليس معاناة الغربة وقسوتها فقط ، ولكن أيضا مرارة الوحدة
عندما لا يجد الإنسان من يشاركه لحظة فرح أو حزن.
وبين الحنين إلى الوطن وقسوة حياة الغربة يأتي العيد ، فلا يشعر إلا بغصة في الحلق
وشوق جارف للوطن والأحباب.
وصف دقيق في قصة جميلة لغة وفكراـ تحمل رسالة على اجنحة نص أدبي في سرد
مشوق هادف المضمون بأسلوب سهل بسيط وساحر.
دمت بالق ـ ولك تحياتي. :001: