المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : إلى اللقاء ..



ماسه الموصلي
27-04-2006, 09:29 AM
خرجنا مبكرين من بلدتنا متجهين نحو العاصمة ، فشقيقتي بحاجة لمراجعة الطبيب الذي أنقذها من السرطان قبل أشهر وكان على شقيقي أن يسافر معها أما أنا فقد تطوعت للذهاب معهما وكذلك ابنتي التي أصرت على مرافقتنا .
انطلقت بنا السيارة باتجاه العاصمة التي وصلناها بعد ساعتين بسلام
وكان يوجد راكب خامس معنا أثناء رحلتنا لم نكن نراه بأعيننا وإن كنت أشعر بوجوده طيلة الرحلة .
كان وجهي رغم كل آثار التعب يغور دماً ويلمع بريقاً وكذلك وجه ابنتي ، أما وجها شقيقي وشقيقتي فكانا يميلان إلى الصفرة ، لعل شيئاً ما غسل وجهيهما منذ الصباح باللون الأصفر .
إنه هذا الراكب الخامس يلتفت إلينا ، يحدق بنا ، يراقب ساعة جيبه العجيبة بانتباه بين الحين والآخر .
قال لنفسه ما زال الوقت مبكرا ، وغط في نوم عميق …
أوقف أخي سيارته ضمن ساحة واسعة وترجلنا جميعا من السيارة ، أما شقيقتي فقد أغلقت كعادتها الباب بشدة ، فاستيقظ ذلك الغريب وفتح عينيه فلاحظت شفتيه تتمتمان بهدوء ؟
ـ رويدك أيتها الصبية ، أنت لا تستطيعين منعي من الخروج ولن يجدي إغلاق باب السيارة بهذه الشدة ، سنلتقي ؟ ( ملوحاً بيده لنا ، باسماً ) .
دخلنا عيادة الطبيب فعلمنا أنه لن يأتي في الموعد المحدد وأنه آسف عن هذا التأخير الاضطراري وما علينا إلا أن نعود في الخامسة مساء .
أطل علينا ذاك الشبح ونحن نخرج من باب العيادة مبتسما ومتمتماً :
ـ ألم أقل لكم أن موعدي معكم سيتم في المساء .
رحنا نتجول في الشوارع ، واجهات المخازن بمعروضاتها الجميلة لم تستطع أن تزيل ذلك الانقباض عن صدري ، أما شقيقي وشقيقتي فبرغم هذه الصفرة التي كنت أراها تعلوا وجهيهما فقد كانا مرتاحين مرحين سعيدين إلى أبعد حدود السعادة .
ـ ما الذي يحدث في قلبي ( سألت نفسي ) ولماذا هذا الانقباض فلأمرح معهما ولكن شيئاً ما كان في صدري يضيق علي الخناق ويملؤني خوفاً .
حسناً ، قال شقيقي إنها الثانية ، فهيا بنا نأكل شيئاً .
المطعم الذي دخلناه كان مكتظاً بالناس بعضهم يلتهم طعامه بصمت وبعضهم يتجاذبون الحديث أثناءه .
أحضر لنا الطعام ، وبدأنا نتناوله بهدوء كعادتنا ، كنت صامتة أحدق في زوايا المكان ، حانت مني التفاتة إلى طاولة مجاورة ، أحدهم يحدق بنا
قلت لشقيقي من هذا الذي يحدق بنا ويراقب حركاتنا ويتطلع من حين لآخر إلى ساعته ؟ هل تعرفه ؟
ـ لا لست أعرفه ، لكنّ وجهه مألوف لدي ، لعله يعرفنا من زمن بعيد من أيام الجامعة ويخجل من السلام علينا ويريد منا أن نبادره التحية ، واستطرد حديثه :
ـ أتعرفين يا عزيزتي ما حدث لي هنا في هذا الحي قبل سبع وثلاثين عاماً ؟
ـ ماذا حدث ، سألته ؟؟
ـ كنا عائدين من دمشق أبي وأمي وكنت معهما طفلاً صغيراً في الخامسة من العمر ، كنا نركب سيارة سوداء عائدين إلى مدينتنا ، مرت السيارة في هذا الشارع ، كنت أجلس قرب الباب ، لقد غفوت وانفتح الباب وأنا متكئ عليه وسقطت من السيارة إلى الأرض بشدة ولكني نجوت من الموت بأعجوبة إذ لم يكن والدي مسرعاً وقتها، وإن كانت تلك الحادثة قد تركت في وجهي ندوباً .
لاحظت ابتسامة صفراء تعلو وجه ذلك الجالس قربنا ، أتراه تمتم قائلاً : وهاأنذا أعود بعد سبعة وثلاثين عاماً .
أنهينا الغذاء وارتشفنا القهوة وتجاذبنا الأحاديث والضحك على نكت راحت ابنتي تلقيها علينا
نظر شقيقي في ساعته وقال :
ـ ها هي الساعة الخامسة إلا ربع هيا بنا ، حان الموعد ( تمتم الشبح قائلاً لا لم يحن بعد ـ وذلك قبل أن ينهي أخي جملته ويقول ) مع الطبيب
خرجنا من المطعم كان الجو صيفياً حاراً وذهبنا سيراً إلى العيادة وفي الطريق كان هناك صبية يلعبون على الأرصفة مرحين وآخرون يقطعون الشوارع بدراجاتهم غير آبهين لمخاطر الطريق ، فها هي دراجة تعبر الطريق كالرمح فتدفع سيدة على الأرض تتلوى من الألم .
التفت إلى الوراء ذلك الشخص الغريب ما زال يمشي خلفنا ويحصر انتباهه بنا ويسلط عينيه علينا !
وصلنا العيادة بالموعد المحدد وأوعزت إلينا الممرضة بالدخول إلى غرفة الطبيب مباشرة ، استقبلنا بترحاب وبدأ بفحص شقيقتي ولسانه لا يتوقف عن الحديث الممتع وما كاد ينهي فحصه حتى قال والابتسامة في شفتيه :
ـ لقد نجوت من المرض الخبيث وأنت الآن صحيحة الجسم فاذهبي وتمتعي بحياتك فلن أراك بعد اليوم في هذه العيادة .
ما أروع هذه البشرى بالنجاة من المرض لا أستطيع القول أن الفرح الذي غمر وجه شقيقتي قد جعلها تقفز فرحاً ولشدة سرورها ارتمت عليّ وقبلتني وبدأت دموعها تترقرق من مقلتيها وهي تقبل شقيقها شاكرة له مساندتها أيام محنتها كما ركضت ابنتي إليها وقبلتها بفرح وحبور ، والطبيب يقف بيننا مبتسما سعيداً .
تركنا العيادة بعد أن شكرنا الطبيب وانطلقنا إلى الشارع فرحين تغمرنا سعادة عظيمة .
ـ هيا يا جماعة نعود إلى مدينتنا فالساعة السادسة والطريق طويل وأنا أكره السير بالظلام ( قال أخي )
انطلقنا بالسيارة باتجاه مدينتنا كانت الطريق مكتظة بالسيارات التي تخطف سرعتها النظر ، كانت تتجاوزنا دون اكتراث وأخي يقود السيارة بهدوء وروية
ما هذا الشبح الذي أراه في الأفق ، شبح يمضي أمامنا وكأنه في سباق معنا ، خيل إليّ أنه يشبه ذلك الشخص الذي رأيته في أماكن متعددة هذا اليوم .
ـ لا ليس هو بالتأكيد وإن كانت مخيلتي تصوره لي بأشكال شتى ، لتذهب هواجسي إلى الجحيم ، لم الخوف طالما أنه لن يحصل لنا إلا ما هو مقدر ومكتوب لنا ، وها هي شقيقتي قد كتب لها النجاة والشفاء من هذا السرطان اللعين ، ولو أنها لم تشفى وكان الموت مكتوب لها فهل يا ترى ستكترث وتهتم بمشاعر الآخرين بعد موتها ؟؟
و هل للميت عاطفة يبديها اتجاه أحباءه ؟؟ مؤكد لا …..
لقد أدركت فيما مضى كيف يتناسى الناس الأحياء موتاهم بعد زمن بسيط ، الحياة أقوى من الموت ، لو كان على الناس أن يستمروا بأحزانهم لكانت الحياة كريهة ، نعم الحياة أقوى من الموت وتعلق الناس بها يجعلهم غير آبهين في النتيجة وكل منا يتصور أنه في منأى عن الموت وناجياً منه عندما يرى غيره يسقط فيه إننا جميعنا مسافرون في هذه الدنيا وعبرها إلى النهاية .
لماذا تعود بي ذاكرتي الآن إلى الماضي البعيد فترجع كلمح البصر لقطات منه
يقولون أن الإنسان وفي لحظات النهاية يستعيد ذكرياته ولكن كيف توصلوا لهذه النتيجة ، هل أخبرهم بذلك أحد ، وهل هذا صحيح يا ترى ؟؟؟؟؟؟؟
آه هاأنذا أستعيد ذكريات طفولتي وأيام شبابي الأول وها هي تركض أمام عيني ولا أستطيع اللحاق بها ، أتراه حان موعدي دون أن أدري ، تباً له
ما هذه الأفكار السوداء التي تجتاحني ؟؟ حسناً عليّ أن أطردها من مخيلتي ولكن ؟؟
لقد تداركنا الوقت ، قال شقيقي ، والعتمة بدت بالحلول لقد اتحد لون الأفق والأرض إنني أكره اللون الرمادي .
ـ لقد تأخرنا ، أليس كذلك يا أخي ( قلت )
لكن الشبح ضحك وهز رأسه لا لم يحن الموعد بعد سنلتقي بعد قليل !!!!
ـ نعم تأخرنا ( قال شقيقي )
أما شقيقتي فقط كانت تغط في نوم عميق وكذلك ابنتي ، وكنت لا أزال بين اليقظة والحلم وتلك الأفكار السوداء والهواجس المرعبة لا تزال تتلاعب وتتراقص في مخيلتي .
لم يبق أمامنا إلا مسافة قصيرة ونصل
ماذا حدث ؟؟؟ صاحت ابنتي ……وصمت !!!!
لا تخافوا قال أخي ، وبدأت السيارة تتأرجح يمنة ويسرة ثم انحدرت إلى الوادي
خلالها رأيت ذلك الشبح يضحك ويضحك ويتمتم ألم أقل لك أننا سنلتقي !!!!!
لم تكن إلا ثوان معدودة ، وغدا كل منا في عالم ، لقد ذهبا سوية إلى عالم الموت أو العالم الآخر كما يحلو للناس تسميته ، سجل في ضبط الشرطة أنهما توفيا في الساعة الثامنة وثلاثين دقيقة مساء جراء انقلاب السيارة ونزولها في الوادي العميق
كيف نجوت من الموت وكيف نجت ابنتي معي وكيف انتقل شقيقي وشقيقتي إلى ذلك العالم لست أدري ؟
عندما أنقذوني أنا وابنتي شاهدت ذلك الشبح يلوح لي من بعيد :
………………………………………… .. إلى اللقـــــــــاء …..


...............

تحياتي
ماسه الموصلي

جوتيار تمر
27-04-2006, 10:13 PM
ماسة الموصلي..........

قصتك تبطن الكثير من المشاعر التي تختزلها الايام في ذاكرة المرء...
انها تجعل الواحد يسير حسب ماهي تريد وليس ما نحن نريد....
استطعت ببساطة ودون تكلف مزج الواقع بالخيال...

وباسلوب سلس استطعت ان توصلي فكرتك...


تقديري واحترامي
جوتيار

د. سلطان الحريري
27-04-2006, 11:57 PM
القاصة المبدعة ماسة الموصلي :
شدتني قصتك من بدايتها إلى نهايتها ، فقد تفوقت فيها في رسم معالم الأحداث ، وكان أسلوب التداعي واضحا فيها ، من خلال تصويرك لذلك الشبح الذي لازمكم طيلة الرحلة ..
لي مأخذ واحد على القصة يتجسد في بعض الحشو الذي رأيته ، وأنت تعلمين أن من سمات القصة القصيرة التكثيف والتركيز ، ولاسيما في اللغة ، ولذلك يجب استبعاد كل كلمة لا تدفع الحدث إلى الأمام ، ولكل كلمة في القصة وزنها ، ولذلك فإنني رأيت أن الملل انتابني في بعض تفاصيلها التي كان يمكن استبعادها ..
ومع ذلك فإن مثل هذه الملحوظة لا تقلل من شأن قصتك التي تفوقت فيها على نفسك ..
لك مني خالص الود والتقدير

سحر الليالي
02-08-2006, 09:16 PM
قصة رائعة بكل معنى الكلمة

اندمجت بكل حرف فيها

أختي الفاضلة ماسه

سلم قلمك ودام ابداعك

كوني بخير دوما

محمد سامي البوهي
02-08-2006, 11:16 PM
الأخت / ماسة

النص يعنمد على عنصر السرد كعنصر أساسي ، كما اعتمد النص على الاسلوب الاخباري ، الاسترسال غاية في الروعة ، وبساطة اللغة وسلاسة الاسلوب وسهولته اروع ، لكنني اتفق مع استاذي الدكتور / سلطان في أن هناك اغراق في التفاصيل لا تدفع الحدث للأمام مم يصيب في بعض لحظات القصة بالملل .

دمت مبدعة