تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : نصوص القصة القصيرة التي شاركت في مسابقة الواحة الأولى



إدارة الرابطة
06-05-2006, 05:26 PM
هنا تنشر النصوص التي شاركت في مسابقة الواحة الأولى تحت تصنيف " القصة القصيرة" بواسطة أصحابها كي يتعرف القراء من أعضاء وزوار على هذه المشاركات ويتم الاحتفاء بها بما تستحق.

وعليه فإننا نهيب بالجميع بما يلي:

* الأخوة الأعضاء من شارك في المسابقة بسرعة نشر نصه هنا بشكل منسق وجذاب ، وأؤكد أن النشر هنا للنصوص التي تم إرسالها لبريد مسابقة الواحة وليس لأية مشاركات جديدة.

* الأخوة الذين شاركوا في المسابقة ولما ينتسبوا للواحة سرعة التسجيل في عضوية ملتقى الواحة ونشر نصوصهم بأنفسهم كي يكون لهم فرصة للفوز بأحد جوائز المسابقة.

* باقي الأخوة الأعضاء عدم المشاركة هنا بردود وتعليقات والالتزام بالرد فقط في موضوع "على هامش المهرجان" لتظل هذه الصفحة مخصصة للنصوص المشاركة في المسابقة فقط.


تحياتنا
الإدارة

سامح عبد البديع الشبة
06-05-2006, 08:47 PM
قصة قصيرة :- هذه الليلة ....
بقلم/ سامح عبد البديع الشبة
إنها ليلة ليست كالليالى ... لا تشبه ولا ليلة ... ليلة أسدل الظلام الحالك فيها ردائه ... القمر بين أحشاء السماء يستحى أن يولد أمام الدجى ... توارى خلف سحب الظلام الدامس .
الطريق يبدو أمامى خالياً من الآدميين ، وما من بصيص ضوء يجتاز هذا السكون المخيم على الطريق ، وجاءت هذه الليلة ، وكان الصمت اللعين الذى دفعنى للخروج فى هذا الوقت المتأخر .
الليل أمامى طويل وممد بطول الشارع ، فعندما انتهيت من روتينى اليومى ، وتمددت على سريرى ، وجدت السهد يغزو أجفانى معلناً أنه ... لا للنوم هذه الليلة ، ونعم للأرق والوحدة ... وبالشعور بالبرودة ... ربما يرجع السبب فى ذلك قلة الطعام المهضوم ... أو قلة الداخل إلى المعدة .
ألف البطانية وأمسد قدمى بكفى عسى أن تدفأ ، وأتعجب كثيراً ... أعجب كيف لها أن تنام ويزداد شخيرها بجوارى دون أن تس ببرودة هذه الليلة - بل وحبات من العرق تتلألأ وتزين جبينها .
- أنا الآن بخير .
نهضت بفتح باب الشرفة ، وأخذت أمعن النظر فى البيوت القريبة منى ... فأجد أحبال غسيلٍ خالية من المتعلقات الشخصية ، وأشم روائح لطبيخٍ منبعثة من عند جارتى مدرسة الاقتصاد المنزلى .
تركت امرأتى تغط فى ثباتها العميق ، أطبقت على أذرع الوحدة داخل الغرفة الرطبة ، وجدتنى بعد طول تفكير قد تهيأت للخروج ... فتحت الباب وتسللت فى هدوء ... وإلى الشارع قد خرجت .
أرانى أخوض فى دروب المدينة وقدماى لا أعرف لها مدى ... أين النهاية ... فلا أعرف ... فالليل سواد قاتم وخيفة موحشة .
يتراءى لى الطريق كثعبان يتلوى ... خفت انتابتنى لحظات خوفٍ وفزع ... أبحث عن صديق أقضى معه ليلتى ... رجل أكلمه ويكلمنى ... أغنى له " الليل لما خلى " ، ويغنى لى " أقبل الليل " ... أفضفض له عن أيام عزوبيتى ... ويفضفض لى عن أيام ميلاد طفله الوحيد .
الان ... بينى وبين الطريق ثأر ... وأرق ... ووجع .
دفعنى غرق البيوت والبنايات فى بحور النوم العميق إلى الغناء ، فتعالى صوتى عالياً ، ماراً بكشك الجرائد ... ومكتب البريد ... وحلقة السمك ... وسوق الخضار ... والسنترال ... وكبائن ميناتل ... وغمرنى إحساس بالسعادة ... وارتفعت نبرات الصوت تدريجياً ... فلا أحد يسمع غناءى ... لا أحد ينصت لموسيقى حنجرتى ... ويتفرج على وأنا نجم يتلألأ على رصيف المحطة .
حتى سمعت عواء كلاب ... ظهرت فجأة ... تسمرت أمامى ... تسمرت أمامها وشللت خائفاً ... شاحباً ... ارتجف ... أهتز بعنفس ... رحت أهز رأسى آسفاص - لعلهم يفهمون إشارتى وإمائاتى - على خروجى فى هذا الوقت المخصص لحياتهم .
صرت كطفلٍ خائف ... فما الذى دعانى للخروج فى هذه الليلة الممطرة .
فدارت حولى تتشمم رائحتى ... سكتت عن النباح المستباح ... وقررت فى هذه اللحظة الاشتباك معهم فى معركة لا أدرى عواقبها ... فهممت بالاقتراب منهم ... إلا أنهم سبقونى ... واقتربوا رويداً ... رويدا ... واشتبك بنطالى بأسنان أربعة كلاب ... تتراوح أعمارهم ما بين ( 3 - 5 ) سنوات ... وتختلف ألوانهم بدرجات متفاوتة ... وهم كلب منهم بالانصراف - أظن أنه أكبرهم - فتبعته بقية الكلاب فى استسلام وخنوع .
فى الطريق ... عاوت الانطلاق بخطىً مغلفة بالخوف والحذر ، تدور عينى فى كل الأمكنة ... مهيئاً نفسى لأى كلبٍ يحاول الاقتراب من البنطال ... أمسكت بقطعة جريد خضراء أهش بها الناموس الذى لازمنى ولا يكاد يفارق جسدى .
انعطفت إلى اليمين ... وكان نباح الكلاب يصلنى متموجاً متقطعاً ... ومضيت أتجول بين الأزقة المظلمة ... أدخل يميناً وأنعطف يساراً ... حتى كدت أن أتيه فى هذه المدينة .
- غريبة عنى هذه الأزقة والشوارع .
غادرت الزقاق ... وانعطفت مع أول شارع بدا لى فى المدى .
- شارع التحرير .
أروقة الليل تتلقفنى ... فوجدت قدماى تقودانى إلى حيث بعض الرفقاء فى السهر ... يقضون ليلهم فى قهوة الشعيرى ... ذلك المكان الذى يتسامرون فيه ويفضون لبعض ما جرى فى يومهم ... ويلقون على كاهل كل منهم هم الآخر .
أسمع ضحكاتهم ... فقد دنوت منهم ... وانجذبت إليهم .
فى ذلك المكان أدهشتنى تلك الوجوه الساهرة فى هذا الوقت المتأخر ... حاولت الاندماج مع أحدهم فى أى كلام أو الضحك معه على أية نكتة أو " إفيه " ماسخ ... فلم أجد لذلك مدخلاً ... فران الصمت على المجلس للحظات ... رأيت خلالها كثير من علامات الاستفهام الفضولية ... يبرق فى عينى أحدهم سؤال محير عن سبب تشريفى لهم هذه الليلة ... خاصةً أنهم كثير ما ألحوا على بالسهر معهم ... فأوهمتهم أنه الأرق والسهاد .
تبادلوا النظرات ... تبادلوا التحية ... احتفى بعضهم ببعض وخاصةً الاحتفاء المغالى فيه الذى يبدونه لى .
أفاقنى الأستاذ سعد من شرودى بسؤاله عن نسبة الزيادة فى الأجر الذى اتفقنا عليه مع صاحب العمل ... تاهت الإجابة من لسانى ... وهل أصارحه بأن هذه الزيادة لا قيمة لها بسبب تلك الزيادة فى السعار التى أعلنتها محلات البقالة والمطاعم والأقمشة ... أم أغضبه وأصارحه بأنى منذ جلوسى بينهم لم أنصت إلى أحاديثهم ... وأنى طوال الوقت مشغول بتلك المرأة القابعة فى المنزل تنتظر عودتى حتى تحيل على الدنيا حطاماً وركاما .
دون مقدمات قررت الانسحاب ... تركت الجميع فى ذهول ... تبعنى صياح الأستاذ على " انتظر يا رجل " ... لم أعره أى اهتمام ، ومضيت ... وها أنا بعد اجدنى ضالاً فى متاهات الليل ... آه ... إنها بانتظارى الآن أمام عتبة البيت ... تقف وبيدها نابوت زان طويل استعداداً لاستجواب قد يطول حتى عصر الغد ... وقد تطردنى من المنزل ... وربما أبيت فى العناية المركزة ... ليتها نائمة الآن ... كم أتوسل إليك إلهى ... هل اكتشفت أمرى ... هل علمت أنى فككت قيودها وأنى طوال ذلك الوقت خارج البيت ... آه ... ستقوم قيامتى إذن ... ستنطبق على السماء .
فوجئت بقدماى تتوقفان فجأة أمام بيتٍ ألقى الظلام ردائه عليه ... بدأ جسدى يرتعش وقد غمره فيضان العرق المتدفق مختلطاً بقطرات المطر ... ولولا أنى أخشى المبيت بين جدران قسم شرطة البرلس ما كنت فكرت فى الدنو من هذا البيت .
تعثرت قدماى بعتبة البيت ... الريح جأرت من خلفى ... كأن إعصاراً سوف يدك الدنيا هذه الليلة ... هل سأنجو من هذا الإعصار الكاسح ... أدعوك إلهى .
أخرجت المفتاح ... أدخلته المزلاج ... دار فى ضجر ... أأسحبه قبل أن يتم دورته ... سمعت تكة المزلاج تنطق ... فى هدوء وحذر ولجت إلى الداخل .
استدرت ... يأتينى صوت موتور لتوليد الطاقة من تلك المرأة البدينة ... انتابنى خوف ... أغلقت الباب ... تقدمت خلال الردهة الضيقة ... الغرفة معتمة ... لك الحمد يارب ... اطمأنت سريرتى ... عاود قلبى نبضه الطبيعى ... دلفت إلى الغرفة ... ربما توك متيقظة تصطنع النوم ... الغرفة تبدوا قفراً كصحراء القلب الجافة ... شخيرها يمزق رداء السكون ... ليتها لا تقوم .
فى لحظات كنت مستوياً بجوارها ... السرير يأن تحت وطأة ثقلها ... النافذة أمامى ترقبنى بزجاجها المشروخ ... بعض التموجات الضوئية تتسلل منها إلى الداخل ... انعكس على محتويات الغرفة الواقعة كأشباح ترصدنى ... يأخذنى الشخير إلى وجهها المكتنز - مازال يرطبه قطرات العرق - والشامات السوداء الصغيرة المتناثرة على جلد وجهها ورقبتها - أقصد لغدها - أدهشنى وجهها وتابعت النظر إليها ... إلى الجثة الهامدة بجوارى ... أظافرها التى كانت تلتمع بطبقة من قشر الطماطم .
عيناها مغمضتين ... ولكنها يبعثان شرراً يذيب جبالاً ... وجدتنى أذوب بسرعة تحت الغطاء فى اضطرابٍ وخوف ... خوف طفل يخيل إليه أن عفريتاً يتبدى له فى الظلمة ... اصطكت أسنانى فى عنف ... أكاد أبكى ... تتقافز فجأة إلى مسامعى بعض الوشوشات والهمس صادرةً من الصالة ... يزداد انكماش فى صدرى ... أنكمش ... يجف حلقى ... هيئة رجل ما تتمثل أمامى ... يقف جوارى ... يدنو منى ... يمسك برقبتى ... يعتصرها فى جنون وغل .
أرفع الغطاء عن وجهى ... كدت أغرق فى لججٍ عميقةٍ لا قرار لها ... تنفست شهيقاً طويلا ... خيال ما تحرك على عتبة باب الغرفة ... تأخذنى عيناى إلى حيث تحرك الخيال ... حركة خفيفة متسارعة تشدنى مرةً أخرى للحياة ... إنه الفأر الذى لم أقدر على ملاحقته فى الصباح ... يتسلل فى خفية داخل الغرفة ... تغوص أسنانه فى أحد ساقى السرير ... آهـ ... لقد صار ضخماً عما تركته فى الصباح ... آهـ ... الدور سيأتى على إما عاجلاً أو آجلاً .
الفأر استقر فى مكانٍ ما تحت الدولاب ... أراه يرمقنى بنظراتٍ قوية تحيلنى إلى عالم الموتى ... كأنه يتحدانى إن إستطعت حتى إطلاق صيحة أخيفه بها .
أسمع خرير الدماء فى عروقى ينساب إلى وجهى ... صار جمرةً متقدة ... تصلبت نظراتى فجأة على الفأر ... لا أكاد أحس بدقات قلبى ... معذرةً فقد توقف النبض من فرط سرعة الدقات ... أرجوا الهدوء ... فقد رحلت إلى العالم الآخر .
( تمت )

الاسم/ سامح عبد البديع الشبة
sameh_ss_center@yahoo.com

جمال سعد محمد
06-05-2006, 09:19 PM
كلب الأستاذ بسطاوي

http://framboise78.free.fr/Fete/artifice3.gifhttp://www.ebnmaryam.com/vb/images/smilies/1.gifhttp://www.ebnmaryam.com/vb/images/smilies/1.gif

بسطاوي شخص ظريف ،خفيف ، لطيف ، عفيف . تلك والله صفاته بدون لف أو دوران ، فأنا أعرفه منذ كنا نجلس متجاورين في آخر الفصل ، نمد أيدينا فنقطف حبات النبق بينما الأستاذ بهنس مدرس النحو والصرف يدير لنا ظهره ليوضح لنا ما غمض عنا ، فاسم الفاعل غير اسم المفعول ، وأسلوب المدح غير الذم ، يقول الجملة مفيدة ، ويستدير ممسكا بالطباشير وينزل الخط ليشرب ماء ، ونحن ندفع أذرعنا خارج النافذة ، ونخطف الحبة المخددة باحمرار خجل ، ونقذفها في أفواهنا المفتوحة دوما للضحك:
قم يا بن العمدة اعرب " أكلت السمكة حتى رأسها ."
وأنا ألكزه في جنبه دون أن يلمحني الأستاذ بهنس بعصاه : قل له .. خلينا في البهائم . سمك أيه يا بسطاوي؟!
وتنزل العصا الرفيعة اللهلوبة على أصابعي لتلسوعها ، فأصرخ من شدة الألم : أه.. يا أيدي .. إصبعي طار.
يضج الفصل بالضحك ، وأجازى بعشر ضربات متتالية دون فاصل زمني للراحة فالوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك ، ويضرب الجرس فيندفع الطلاب من الباب المفتوح ، ويصمم المدرس أن يكمل العدد الذي تطوع به ، دون أن أجسر على المساومة ، ولو فعلت لقال لأبي أنني طالب مشاغب، بليد،كسول ، ولو فعل يكون في ذلك حرماني من القرش الكامل الاستدارة أو التعريفة المثقوب ، والذي يربطه طلاب الثانوية المشاغبون بدوبارة من المنتصف تماما ، ويرمونه وراء صف البنات الخارجات يتهادين من مدرسة الثانوي المجاورة ، فينزل على مؤخرة إحداهن ، لو سمعوا صوتا متوجعا : آي .. تستمر المطاردة التي تنتهي غالبا بجلسة صلح وتصاف عند الجسر الصخري المقام فوق الرياح ، وتتماسك الأصابع المرتجفة لحظات من عمر الزمن الهارب ،ويعود صاحب الحظ السعيد لبيته وهو في نشوة وسعادة أن بنتا جميلة كلمته ، وتركت معه منديلها المطرز بوردة ، والمعطربرائحة " الياسمين "، وخصلة شعر من قصتها النازلة على الجبين كهلال.لكننا كنا أطفال أصغر منهم بكثير . نرى كل شيء ونراقب الأحداث بفضول غريب دون أن نشارك ، فدورنا هو أن نرى ونسمع ولا نتكلم .
http://www.ebnmaryam.com/vb/images/smilies/1.gif
كان هذا أيام زمان ، والذي يرجع لعشرين عاما مضت، فقد تلاعب الزمان بنا ، حيث فشلت في الحصول على شهادة جامعية فرضخت للأمر الواقع وعملت كاتب محامي ، أجهز الدوسيهات ، وأسجل القضايا في ملفات بخط منمق جميل هو كل ما أورثنيه الأستاذ بهنس ذي الحول الخفيف والعرج الطفيف .
بسطاوي الذي شق طريقه كالصاروخ دخل كلية المعلمين ، ونزل مصر العتيقة فسكن حي الأزهر وعاد بشهادة جامعية أعطته الحق أن يدرس في بلاد الصعيد ، وأغرب شيء أنه أختار نفس المادة التي كان لا يطيقها ويسخر منها ، ويراها كاللوغاريتمات. أصبح بسطاوي أفندي مدرس لغة عربية ، ولو كنت مكاني . هنا بالضبط جالسا في مكتب عبد الودود الصايغ محامي الجنائيات لرأيته قبل عشرة سنوات عائدا كل خميس بحقيبة سوداء ، ومن خلفه يهرول اثنان من بقايا العمودية التي ذهبت من أبيه إلى أخيه على الطنطاوي في حياة والده طويل العمر ، فأبقت لهم بعد العز وبقايا السمعة الحسنة الدوار الكبير والسور الحديد والأشجار الأثيثة .http://www.ebnmaryam.com/vb/images/smilies/1.gif
قلت لكم ، وأقسم بالمولى عز وجل غير حانث أنه لا توجد في قلبي ضغينة ، وأنتم طلبتم فقط شهادتي عن الرجل ، والشهادة أمانة ، وكاتمها يصوب رأسه في النار عشرين حولا أو يزيد.
سأحكي لكم عن واقع الجرو ، نعم ، الجرو الأسود. فقد أولع بسطاوي ونحن في مقاعد الدرس بنهاية الصف السادس بالمدرسة الابتدائية ، حيث كان التعليم دسما ، والفصول متسعة ، واليوم مبروك يزيد عن الأربع والعشرين ساعة ، ساعة أخرى للبكور ، حدثني بسطاوي ولم يكن يخفي عني شيئا أنه قد أوصى الخفير بجرو ، والجرو كلب صغير ، غرير ،له ذنب صغير يبصبص به في حبور كلما فرح ، وجد فيه ضالته ، وقد أحضر له الرجل ما طلب ، وتناول في الخفاء عرقه، نصف جنيه كامل يكاد يغطي نصف هذه الطقطوقة التي أضع عليها صينية الشاي للزبون .
وفي طرف قصي من الدوار القديم للعمدة جهز مخبأ ، فيه أخفى الجرو الصغير ، وكان يحدب عليه ، يسقيه ، ويطعمه ، ويحسس على شعره الناعم ، وبيديه يحممه في وعاء كبير من الفخار الصيني جاء به من المطبخ قرب المغرب.
والولد إلى البندر طار ، كنت معه هذه المرة ، أقترح علي أن أشاركه في اختيار اللون ، فاخترت أن يكون الستان اللماع باللون الأحمر ، فاشتراه على الفور ، ومعه طوق من جلد الماعز الطري ، وسلسلة من المعدن الذي لا يصدأ ، وعاد ، وقد كنت معه ، أتبعه بهدوء إلى المخبأ ، وهناك جهز جروه حتى صار أجمل ما تقع عليه اعين إنسان إذا ما أراد رؤية حيوان أعجمي لا ينطق سوى : هو هو هو .
نباح خافت ضعيف ، وسره الصغير في بير ، ويبدو أن بسطاوي أفشى السر لغيري ، والله هذا عين ماحدث ، فأنا لم أكن يوما واشيا ولو وهبوني كنوز الدنيا ومال قارون ، فأخبر الولد مرسي جاد الله مدرس الدين أن بسطاوي ابن العمدة نجس لا يحق له لمس المصحف ، فلما سأله عن السبب ، صاح في الفصل بطريقة من يكشف جريمة لا قبل لأحد باحتمالها : عنده كلب ، يحمله بيديه ويقبله ، واسأل زيدان .
كان بسطاوي يجلس منكمشا بجواري ، فضيق الأستاذ عرفات ما بين حاجبيه ، وحرك سبابته فهب على الفور واقفا ، وأنا أدخلت يدي من النافذة المفتوحة بعد أن رميت حبتي نبق كنت قد نجحت في هبشهما: قل يا زيدان !http://www.ebnmaryam.com/vb/images/smilies/1.gif
سارعت بالنفي كأي رجل شجاع يؤتمن على أسرار الأصدقاء : لم أر شيئا يا معلمي .
فضحك المدرس حتى بانت نواجذه وربت على كتفي برفق : طبعا . أنت أشجع طالب في الفصل ، تعال لتقسم على المصحف.هل عنده في البيت كلب؟
أرتج الأمر علىّ ، خرجت من فمي دون أن أدر : لا ، لا ، ليس كلبا والله . هو جرو . جرو صغير لا يعض إنسانا ، ولا يؤذي أحدا.
امتقع وجه بسطاوي فقد أوقعت به دون أن أتخير الكلام ، وارتفعت العصا والتهبت أيدينا ، واحمرت من شدة الضرب. صحيح أن العمدة الذي عرف بالمصيبة التي فعلها ابنه قد أمر أحد رجاله أن يلقي الجرو الآن وحالا في الرياح، بطوقه وشريط الستان ، وبالسلسلة المعدنية جزاء ما فعل المارق ، خاصة بعد أن عثر العمدة على أطباق من فخار ، وقطعة من الجوخ التي كان قد اشتراها ليجمل المجلس الأرضي داخل المخبأ ، إلا أنني شعرت بالعار يلاحقني ، وهو لم يعد ينظر في وجهي فيما تلى ذلك من أيام.
حزنت وملأني شعور بالأثم ، إذ أنني أردت أن أدافع عن بسطاوي ، فأدنته بكلماتي .
تسللت بعد المدرسة ، ووقفت وراء أشجار الكافور ، وهناك رأيت كل شيء. أمسك العمدة بالكلب ، وهمّ ليطوح به ، فبكي بسطاوي بدموع غزيرة غسلت وجهه، وطلب من أبيه أن يتركه لجروه خمس دقائق قبل أن يلقى حتفه، عندها تدخلت الأم ، وقالت للعمدة : دع رجالك يسربونه ، ولا تقتل روحا بريئة.
قلب العمدة الكلام في رأسه ، واقتنع بالفكرة ، فالأرواح ملك ربنا ، ولما رأى العينين قد احمرتا من شدة البكاء ، خفف حكم الإعدام بالنفي خارج نطاق القرية. حينها انكب بسطاوي على يدي أبيه ، وقبلهما ، وتوسل إليه في طلب أخير : اترك لي الطوق ، وشريط الستان والسلسلة المعدنية .
على مضض وافق الأب على طلب ابنه لكن بعد شرط واحد ، أن يقسم على المصحف الشريف أنه لن يفعلها طالما العمدة على قيد الحياة .
فحم البكاء بسطاوي وكنت بعيدا عنه لكنني ألمح صدره يعلو ويهبط ، شجعته الأم أن يقسم ، والخفر جاءوا بالمصحف المغلف برقائق جلد غزال: يالله يا بسطاوي . أقسم.
لم يرض العمدة أن يقسم الولد قبل أن يتوضأ ؛ ليكون طاهرا ، وما هي إلا دقائق حتى عاد الولد وأقسم وجسده يرتعش ، وحينها سلم العمدة الجرو لخفير أمين ، هو بالتأكيد الذي باع الكلب الصغير لصديقي بسطاوي فقد كنت أعرفه بوشم في صدغه ، كما أعرف علامات الجرو ، ومنها نقطتان حمراوتان فوق خطمه ، مع جرح صغير لا يكاد يرى خلف أذنيه الصغيرين بعد أن جرده من زينته ، ووضعها في يد الابن.
هل تسأل لماذا أحكي لك هذه الحكاية ، أنا نفسي لا أعرف ، لكنني سأكون صريحا معك أكثر وأقول لك أن المدرس العاقل الرزين الذي عاد من قلب الصعيد ليخطب أجمل فتيات القرية ، وينجب ولدا وابنتين ، قد ذهب عقله ، وإلا ففسر لي ما رأيته بأم عيني منذ أسبوع ، ومن يومها وأنا أعرف أن هناك شيئا غير صحيح يحدث في القرية .شيء هو بين الجنون واللوعة
http://www.ebnmaryam.com/vb/images/smilies/1.gif.
عمدة بلدنا الحاج مختار توفاه الله من حوالي ثلاثة أشهر ، كان نوارة البلد ، فيده سخية تعطي الجميع ، بكاه الأبناء كثيرا ، حين كنا أمام قبره غطى بكاء بسطاوي على صوت الملقن ، وجاء طنطاوي بثلاثة من المقرئين ليتولوا قراءة القرآن على روحه ، أما خضرة الأبنة الوحيدة فقد لبست الأسود ، وصاحت لحظة خروجه : فايتنا لمين يا ابويا؟!
ما علمته بعد ذلك أن بسطاوي باع نصف فدان ، وسافر إلى مكان لا يعرفه أحد ، وعاد بكلب " وولف" ، كلب حراسة قوي الجرم ، خطمه الرمادي ضارب إلى الزرقة ، له نباح مخيف ، وضعه في أقصى الدوار ، أكاد أقول أنه نفس مكان المخبأ القديم ، وقد سمعت الخبر فاستغربت جدا ، وحين أرسلني الأستاذ عبد الودود الصايغ المحامي صاحب المكتب لاستيفاء توقيعات الموكلين ، والحصول على جزء من أتعاب القضية وجدت نفسي أتسلل دون أن أعرف كيف حدث هذا ، إلى المخبأ الذي أودعنا فيه الجرو قديما . فوجئت بالوولف الجبار ، يزداد نباحه ، ومن قوته كاد يخلع السلسلة المثبتة بحلقة حديدية في جذع شجرة التوت العتيقة.
لمحني ، وعاد إليه هدوئه ، كأنه يعرفني ، أو لعله ظن أنني مررت به يوما ، كانت السلسلة المعدنية الصغيرة مشبوكة في طرف سلسلة أكبر وأطول كثيرا ، وكان الطوق القديم الذي اشتريته معه من البندر يتدلى من الطوق الجلدي الجديد المحكم ، أما شريط الستان اللماع ، فقد عرفته لأول وهلة ، وكيف لا وهو الذي طلب مني أن اختار اللون الذي يعجبني فاخترت الأحمر .
تقدمت خطوة ، وأنا أحكم قبضتي على الملفات ، الموجودة تحت إبطي .
جثوت أمامه تفصل بيننا مسافة بسيطة ليصل إليه همسي ، كانت شفتاي ترتجف ، وأنا أعترف بجرمي : والله ما قصدت أن أخون صاحبي ، ولا أن أكشف سره ، كل ما خطر في ذهني يومها أن الجرو صغير ، لطيف ، لا يؤذي إنسانا . فلت لساني قبل أن يفكر عقلي . إنني مثقل بذنب عظيم يسمم عليّ أيامي . أنت كلب والكلاب أمناء في نقل الكلام ، فقل له أنني لم أكن لأوقع به أبدا ، قل له بأي لغة تختارها. نعم هو أمر قديم ، لعله نسيه تماما ، لكنني لم أنس ، كان مجرد جرو . جرو صغير مسالم . فكيف غضب الأستاذ عرفات . من يومها خاصمني دون أن يتفوه بكلمة . نظرة حزن ولوم تسكن عينيه. حتى انه امتنع تماما عن قطف حبات النبق ، حين مددت له يدي مرة بحبة لذيذة ، قال بأسى : صارت الحبات ممررة . أرجوك يا " وولف " . قل له أنني أخطأت . لكنه خطأ لم يكن مقصودا . والله يعلم حسن نيتي . قل له يا وولف!
في اللحظة التي تهيأت فيها لتصفية حساب قديم مع نفسي ، وحين انتهيت من اعترافي ، سمعت وقع أقدام تقترب ، كان بسطاوي بشحمه ولحمه ، لم يبد أي استغراب أن رآني في هذا المكان القصي . لقد اقترب مني بعد أن رآني أجثو لأعترف للكلب بخطيئتي ، قال والدموع تترقرق في عينين حزينتين: لا عليك يا زيدان . لقد سامحتك.
http://www.ebnmaryam.com/vb/images/smilies/1.gif
وقبل أن أتفوه بكلمة ، تقدم مني وابتسم رغم الدمع الذي انسال على وجنتيه : لم يكن بمقدورك أن تفعل غير هذا . صدقني لقد سامحتك ، وسامحت أبي .
وبيده خلص الكلب الضخم من سلسلته ، ومسح على شعره الأسود الغزير كأنه ليل: هذا صديقي . تشممه ، لترحب به كلما جاء إلى هنا .

كنت أطوي عشرين عاما من الألم ، من عمري الذي غمرته آثام الخطيئة ، وأنا أعود لمقعد الدرس ، أقف في وجه الأستاذ عرفات ، وأحاول أن أقنعه: أنه جرو . مجرد كلب صغير ياأستاذ . لا يعض إنسانا ولا يؤذي أحدا .
http://framboise78.free.fr/Fete/artifice3.gifhttp://www.ebnmaryam.com/vb/images/smilies/1.gif

عبدالرحمن الخلف
06-05-2006, 10:02 PM
قصة قصيرة كحياة رزان...! ¹

تنام جزيرة "فَـرَسان" كل ليلة محتضنة أحلامها المستحيلة... قابعة وسط الماء الأزرق المالح الذي يستمد ملوحته من عرق ودموع الكادحين تارة ومن فضلات يخوت النخبة تارة أخرى!

وحين يصبح ناسها قبل بزوغ شمس الوطن؛ فهم لا يعبأون من أي جهة ستطل عليهم... وذلك بعد عقود من مضغ أسطورة شمس الشمال!

"رزان"... تلك السمراء الجميلة المسكونة ببراءة وطهر الطفولة... غضة العود كثرى تهامة... تلعب مع صويحباتها اللائي يبتكرن ألعابهن كأبدع ما يكون، دون أن يسطي أحد على حقوقهن الفكرية وذلك على اعتبار أن "فَـرَسان" لم تخالطها براثن العولمة بعد!
وإلا فباقة ألعابهن لا تفوق باقات قناة "سبيس تون" أو"المجد" فحسب؛ بل إنها تبز خزعبلات "دزني لاند" بذاتها!

تشعر "رزان" بوخزات في بطنها كالسكاكين لا تكاد أمعاؤها الرقيقة تطيقها... لينطلق بها أبوها كالبرق نحو "العبّارة"... الوسيلة الوحيدة لربط "فَـرَسان" بالخريطة! مبحراً بها تجاه مستشفى جازان المدعوم بالكوادر الطبية العمالية /العالمية! حيث لم تحظ فرسان بهم بعد.

يُعمل صاحب المشرط سلاحه المدبب في بطن صاحبة الرقم كذا... _هكذا تتم معاملة المرضى هناك_ يستأصل الزائدة الدودية ثم يرمم الآثار و يدمدم المسألة فيمضي.

تفيق "رزان"... تعاود اللعب كطير أطلق سراحه... ثم لا تنسى أن تروي لبنات المدرسة كافة التفاصيل منذ الألم وحتى الغيبوبة الصغرى:
(فاطمة... فاطمة... شوفي الخيوط اللي في بطني... تصدقين خيطوني زي الثوب!)
(تصدقين لو قلتي لي قبل العملية كان كلمت أمي تخيط بطنك أحسن لك من خياطين المستشفى!) ردت عليها فاطمة بروحها الساخرة.
تكركر الصغيرات محتفلات بسلامة "رزان" المؤقتة!

بعد مرور شهرين تعاود الآلام أمعاء "رزان"... وتزداد وطأة الألم والحمى التي لا تنفع معها المسكنات الرخيصة... ثم يعاود الأب جريانه مع الريح مفجوعاً نحو رحمة مستشفى فرسان المتواضع...

خبرة حكماء المستشفى لم تسعفهم لمعرفة سر آلام الصغيرة!
لا يفكر الأب كثيراً قبل انطلاقه بـ"رزان" نحو مرفأ "العبّارة"... بانتظار موعد الرحلة الإجبارية.

أمواج البحر تتماهى مع أمواج الحياة لتؤجل الرحلة نحو مستشفى جازان الأقل رداءة من سابقه!
يوما... يومين... ثلاثة... و "رزان" تتألم وقلب الأب يتألم و "فَـرَسان" تأن... بينما أصحاب المكاتب الوثيرة يبدلون مشالحهم عند كل احتفال!

(لا تقلق يا "أبا رزان" لقد تم اكتشاف سر آلام ابنتك ولله الحمد... فقد بينت الأشعة وجود جسم غريب في أحشائها وسنقوم بعمل اللازم لإزالته هذا كل ما في الأمر...) طبيب مستشفى جازان يطمئن الرجل بعد وصوله لإسعاف "رزان".
(أهذا كل ما في الأمر؟!!) يصيح "أبو رزان" في وجه الطبيب (أي جسم غريب؟! وعن ماذا تتحدث؟!)
(لا تنفعل أرجوك...) يخلع الطبيب نظارته ليكشف عن عينين باردتين:
(هذا يحدث كثيراً في مستشفيات منطقتنا الراقية فالطبيب بشر يخطئ ويصيب وقد كان قدر ابنتك يومها أن الجراح نسي كمية لا بأس بها من "الشاش" في بطن ابنتك! هذا كل ما في الأمر...) كرر الجملة الأخيرة بثقة كادت أن تفقد "أبا رزان" بقية تماسكه ثم أكمل الطبيب مرافعته:
(فربما كان مجهدا ليلتها جراء كثرة المرضى... وعلى أية حال هذا كلام في الماضي...)
(الذي هو نقصان في العقل طبعاً) قاطعه "أبو رزان" بحرقة ثم طوى شريط الكوابيس الجاثمة على أفقه وقال:
( والان أيش بتسوي للبنت ؟!)
( اطمئن... الأمر أسهل مما تتوقع، عملية بسيطة لا تستغرق نصف ساعة وبترجع بنتك زي الحصان)

ينتظر "أبو رزان" خارج غرفة العمليات والساعة لا تكاد تحث دقائقها على المرور، وقد أودع قلبه للمجهول، وفلذة كبده بين مشارط بشرية تخطئ ولم يرها قط تصيب!

أربع ساعات استغرقها احتساؤه للصبر والانتظار المحرق...
يخرج الجراح وقد تصبب جبينه عرقاً واسود ّوجهه كقطعة "الشاش" التي تتدلى من يده: ( المعذرة يا أبارزان... وأنا في طريقي لانتشال قطعة "الشاش" اللعينة، قمت بقطع القولون خطأ ً... وقد تم عمل أنبوب خارجي للتصريف وابنتك على ما يرام الآن... برضه أنت إنسان مؤمن بقضاء الله وقدره و...)
(قلّي أنك مجهد أنت الآخر ... وأنك بشر تقصب وتصيب! يا أخي أنتم من أي مجزرة تخرجتم؟!) انفجر "أبو رزان" في وجه الجراح شاهرا ًيديه على وجهه...
(ألا يوجد في هذا الكون أداة تدريب غير ابنتي "رزان" كي تمارسوا عليها أخطاءكم؟!
انتم ما تخافون الله؟!)
(لا حول ولا قوة إلا بالله... لا حول ولا قوة إلا بالله...) سُمعت حوقلته في كل ردهات المستشفى... ثم هام على وجهه بحثاً عن مسؤول وما من مسؤول.

ظلت "رزان" تحت المهدئات المقلقات وتحت متابعة الطاقم الـ..فاقد الشيء... قرابة الشهرين... حتى قدر لصحفي من أبناء المنطقة أن يكشف جزءً من الحجاب لينتشر الخبر الصاعقة بسرعة لدى الناس ثم يصل ببطء لأسماع الوزير الذي أمر بنقلها لأحد مستشفيات العاصمة.

استبشر "أبو رزان" خيرا... فعلى الأقل سوف يغادر بؤرة التجريب التي ظلت "رزان" ترزح في كنفها طيلة الأيام العجاف الماضية...

في الأسبوع الثاني بدت على محيا "رزان" ابتسامة مشرقة... ولعلها بوادر استجابة للعلاج المكثف الذي أعطي لها منذ وصولها إلى "الرياض"... وكانت "أم رزان" متفائلة بعودة سريعة لجزيرتهم الحالمة ففي تلك الليلة أخذت تجهز الحقيبة فمن يدري فربما يكتب الطبيب ورقة الخروج في أي لحظة!

ازرقّ وجه رزان فجأة وبدأت بالسعال ثم تقيأت سائلاً أسود لم يعرفه أبواها فصرخ الأب في وجه الممرضة الآسيوية المسكونة بالسلبية: (أن نادي الطبيب بالحال) فاتصلت بالطبيب الموجود في بيته على جواله فقام بإعطائها بعض التوجيهات بعد سؤالها عن خطورة الحاله وختم كلامه بوصفة "فيفادولية" ناجعة.

(ماما... بابا... أنا تعبانة وأبغى أنام... ) ²
نامت "رزان" وارتاحت كما ينام ويرتاح المأتمنون على أرواحنا... وتركت لنا أنموذجاً _سينسى_ للقابعين على هامش الخريطة!

http://www.arab3.com/gold/images/Apr06/arab3_IpM9bk.jpg

http://www.alwatan.com.sa/daily/2006-04-03/Pictures/0304.nat.p8.n610.jpg



عبدالرحمن الخلف
أبو نزار
29 ربيع الأول - 1427هـ

____________________________
1- للأسف... القصة ليست من نسج الخيال!
2- حسب صحيفة "الجزيرة" فالعبارة مقتبسة من آخر جملة نطقتها "رزان"

عبدالرحمن الخلف
06-05-2006, 10:11 PM
http://www.arab3.com/gold/images/Apr06/arab3_hT7EFb.jpg

منى وفيق
07-05-2006, 02:04 AM
مُواؤهــُــــــــــــــــ ــــــــــم

للقلب أنين غير جاثم على التاريخ . و حيث أن التاريخ لا يصدُق إلا نادرا ، كان يخيّل لي كثيرا من أحيان منفلتة أنّه حكاية مبتورة من حكايات ألف ليلة و ليلة.. ذاك أن زمن الرجل الرمّانة كان شديد الاختلاف، مضغوطا بغير ما مطاطية بزمننا الذي يكثر فيه التشابه..!!
عنق من كان أشبه بعنق الآخر؟؟! عنق الزرافة أم عنقه؟! لم يكن أحد في حيّنا ليميّز الأمر ، و لا كان ليكفّ عن التفكير بانبهار في سرّ تلك الرمّانة المتبوعة ببذرة كالشوكة وسط عنقه..نعم ، فالله إذ خلق للرجال الآخرين تفاحة تتراقص متناغمة مع كل همس، زرع له عوضا عنها ماهو أشبه برمّانة ناضجة كثيفة الاحمرار.كانت تثيرني تلك البذرة أسفل الرمّانة..تتشنّج قاسية،بريّة ..قادرة على القضم بصمت ربّما!!
و لهذا أو لذاك كان أهل الحيّ يخافون الرجل الرمّانة – كما كنت أسميه- . ألأنّه لا يشبههم كان بالنّسبة لهم غريبا و منفّرا ؟!
قيل أنّه خُلق بالرمّانة مُدَاعبَةً برفيقتها البذرة .. أنّه أيضا عاش دون ذاكرة و لا ربع و لا أهل،مكتفيا و مرتاحا باعتزال الحياة في شرفته، فيها يأكل و ينام و يرعى صبّاراته..مستأنسا في ذلك برفقة مجموعة من قطط الشارع المتّسخة بيضاء وسوداء..كما لو أنّه كان راغبا في إيجاد من يساعده على حسم أمر مّا.
ما همّ لونُ القطط سكّان حيّنا بل مواؤها عند منتصف كلّ ليلة بشكل غير منقطع ولوقت ليس بقصير.قد كان المواء يزعجهم لكن ما كان يزيد من هذا الإزعاج هو فضولهم الأكثر عطشا.ماشغلني المواء البتّة ، كنت أتباهى بيني و بين نفسي بحزنه الأبيض.. بعسل قلبه المصفّى و غير القابل للتّهجين.كأنّه إجابات لأسئلة كثيرة.إحساسي به كان فاتنا بعبقريّة غامضة.. وحده مواؤهم كان يصرّ على أن يفسده ..كانوا مهمومين بمعرفة سبب مواء القطط ، و خائفا كنت من ذلك! لعلّهم كانوا يموءون أكثر من القطط.. فهل أموء أنا؟!

مُواؤهــُــــــــــــــــ ــــــــــا

غدوت أنتظر اليوم السابق لأفهم أكثر.منذ قررت تعقّب أثر إحساسي اللعين و التاريخ يولّي للوراء وسط تيهي.اليوم الثالث كان أول الأيام.. سرى صقيعه داخلي .كنت أهاب الأرقام الفردية و منها الرقم ثلاثة..كانت تلك الأرقام تعطيني الانطباع بأنها خائنة ، و كانت الخيانات تبحث عني دائما لكنني كنت أخلف مواعيدي معها. عكس هذه القطط الوفيّة في موائها المركّز بقوة . أوداج الرجل الرمانة ماضية في احمرارها أكثر و أكثر كلما لعقتها القطط.. البذرة أسفل الرمانة نضجت متشكلة رمانة ثانية..و أنا ، لا ذاكرة لي .
لَكُنتُ ظللت موجوعا بالبرد وخواء الذاكرة لولا اليوم الثاني..فيه استشعرت شيئا من دفء .كانت القطط حينها بدأت للتوّ بالمواء حين استيقظت من نومي .مواؤها كان أكثر إيلاما من صوت لا يجد له صدىً . شرفة الرجل الرمانة مقابلة لشرفتي
.كاد نُواحي يستجيب لمواء القطط لولا تلك اللقطة الرهيبة التي التقطتها عيني..
اللاّشيء و اللاّوقت ناوشاني بمكرٍ و الرجل الرمّانة قُبالتي واقف أمام إحدى صباراته يبكي و يبكي و بنتحب ..كأنّه يقرأ عليها تراتيل الموت .. أهو بوذي عتيق أم يهودي جعل من صباراته نباتات للمبكى عندما لم تستوعب حيطان الأرض بكاءه؟! عيني احتضنت بِرَيبٍ البذرة أسفل الرمانة و هي تشاكس مخاضها .. تصارع لتجد شكلا مّا..و القطط تستعد الانقضاض على أوداج الرجل الرمانة لتلعق دمعه ..و أنا ، أجادل الفراغ لاهثا ، و لا ذاكرة لي.
عند اليوم الثالث / الأول، كنت أرتجف كجمرة وسط الجليد.. أفقت من نومي لأحلم واقعا أذهلني.. الرجل الرمانة في شرفته يترصد واحدة من صباراته و عيناه كاميرا تلتقطان ما ستأتي به الصبارة .. بذرته أسفل الرمانة تتنطّط مثلي .. تتفـّح الصبّارة و تظهر نبتة الوردة الحمراء .. تزهر الوردة رويدا رويدا كأنها تريك تفتّحها و تباهيها بوجودها المزهر .... و الرجل الرمانة يبدو مزهوّا غير مدرك لشيء مثلما هي ذاكرتي .. لكن في غفلة و بإبهار تنكمش الوردة تدريجيا على نفسها و تذوّي و تسقط ..كأنّها الجمال المكثّف للحظات فقط .. يذوب زهوّ الرجل الرمانة .. يفتر فرحه بسرعة .. يبكي مستمرّا بعدم إدراكه لأي شيء .. و القطط تموء بحزن .. في حين ذاكرتي فارغة تتراقص على صوت مواءها ..

مُوائــــــــــــــــــــ ـــي

أخبرني أحدهم لاحقا في اليوم الصّفر حيث لا نهايات ولا بدايات أن القطط في ليلة مبحوث عن تاريخها كانت تموء بشدّة كما لم تفعل من قبل متأثّرة بموت الرجل الرمّانة ..برحت ذاكرتي في تيهها بعد هذا الخبر .. أمّا سكان الحيّ فبدوا مستغربين من البذرة التي نبتت وسط عنقي على حين غرّة . . قد أعطوني اسم " الرجل البذرة" لم أكن قلقا بشأن البذرة بقدر ما كنت منشغلا بالبحث عن قطط تشاركني موائي !

عبلة محمد زقزوق
07-05-2006, 11:12 AM
هل أستحق الطرد ؟!!

عدت لموطني ومنبت رأسي ، بعد سنين غربة ؛ قد طال أمدُها ، وكنت أظن أن لا عودة بعدها ، لكن الحنين أعاد الشوق ؛ فمررت مرور العابرين ، أتلمس رؤية الأحباب ، ولم أكن أظن أن للقدر ميعاد .
فتلاقينا ؛ وانبسطت أسارير الوجد بجوانحنا .
فجذبتني وألقت بي بظل شجيرة جمعت بيننا يوما ما ، فكانت شاهداً على عظيم تلك المشاعر بيننا ، فرأيتها قد تعالت بل كادت تناطح السماء بوارف أغصانها ، فاغتبطت ؛ وسررت بمجلسي مع من سقتني يوماً شهد الخضاب فارتوى لها وريد القلب وأتلف ، فعاد الوئام بعودتنا والجلوس تحت وارف ظلها ؛ واسترجعنا الذكريات ، وشاهدتنا … من شاهدة إياه ليوم يسبق آخر لقاءاتنا… قبل أن أزف خبر هجرتي عن بلدتي ، بسبب تعالي عشيرتي وتجبرها بالرأي في حقوق الأبناء من الإنتساب والأنصهار بعرق غير عرق بني العصب .
فحالوا بيني وبين رغبتي ورغبتها ؛ بحلال الله وسنته .
فعهدت نفسي على الترحال حتى أجد لي دولة أخرى تنعمُ شعابها بحُسن الرأي دون إسفاف أو إجحاف أو تعالي في حقوق البشر ؛ لكنها باغتتني بالسؤال ، كي تبعدني عن إجترار الأحزان وما قد فات ، فقالت : أين نحن منك الآن ؟
فانشق بوجهي الابتسام وأنا أرفع أهداب عيني لعين محدثتي وسائلتي ، مباغتاً إياها بطيف استخفافي بالسؤال ، فجاءت إجابتي قصراً عني كالمتأسفِ من سوء الحال قائلاً : ـ
بعد انفراط العقد ، وتناثر حباته ، لم يعد لي مكان ، بصحبة أهل ينكرون حقي ويستخفون برأيي .
**هذا هو حالنا جميعاً أيها الخل المهاجر ، بتباعدك ، جفتنا كل القوافي .
هكـذا ، تجاوبت وردت سؤالي ؛ وباغتتني بتنهيدة مصحوبة بالرد والإيجاب .
فهززت رأسي ذات اليمين ، وذات اليسار تعجباً وتأسفاً ، وكتمت أنفاسي مخافة أن تصرخ بعلو الأندهاش ؛ والتعجب من تجافيها في الرد ... بكلمة حبيبي ، ومن حالنا نحن بني الإنسان ، فهل هكذا أصبحنا غرباء الديار والأوطان ؟!! وسط صحبة كنا فيما مضى نظن أنهم لنا أحباب ، وللمحبة أحق من كل الخلان ؟ !!
فخرجت عني تنهيدة أسفرت عما يجيبه لسان الحال ، لكني سارعت أتجاوب معها وأحاورها ، كي لا تتركني وتمضي ، وحتى يسفر لقاؤنا عن حقيقة ما آل إليه حالنا ؛ نحن الأحباب .
حاولت جمع شتات الفكر ، فنظرت إليها بتحدي السؤال ، وما كان التحدي … إلا تحدي الذات ؛ وحاولت أن أمهد الطريق للعديد من الإستفسارات .
فكان سؤالي إليها غير ما تأمله وآ أمله : ـ
لماذا أنتِ أصبحتِ غريبة الدار والديار ؟ فما أجد لكِ فكرا أو عقيدة تسعين لتأكيدهما ونشرهما بين أهلك ؟ غير حب صار مآله مآل الخلان ؟
وظـللت رامياً النظر إليها محدقاً شطر عينيها بتحدي العالمين المستشفين ببواطن النفس .
فلقد رميت ، وما رمى إلا قلبي الموجعِ .
فـوجدت عبوسا اعتراها ، وكدرِ زان محياها ، فاستبشرت نار الجواب ، فأرخيت جفن الحياء .
ولم أكد ، حتى سمعت صوتها مخنوقاً بالجواب : ـ
يا لبئس الحال والترحال ، فإلى أين المفر ؟! فإن كنت أنتَ من ترميني بالجهل ، فلمن سألجأ بعدكَ ؟! وكان منكَ صريح هذا الاتهام ! فبالله عليكَ من منا يستطيع أن يحيا بلا عقيدة أو فكر ؟ من منا لا يؤمن بالله الواحد الديان ؛ أليست تلك عقيدتنا نحن وأنبياء الله ؟! والفكر أيضا ألم يكن سمة بني الإنسان !! وميزان التوازن لديه بحُسن العقل وفطنة ذو الألباب !! وميزة فرقته عن بهائم الخلق !
يا صديقي لقد تجبرت بالسؤال ، وتناسيت إنك أنت من هاجر وخلف وراءه القلب والدار . إنك بسؤالك هذا قد فرطت حقاً حبات العقد ، وأكثرت من تناثره ؛ وتباعده ! فأرحل ولا تعُد … فإذا كان هذا هو حالكَ الآن ، من تسفيه للعقول ، وإستأثارها ؛ فأذهب حيثما كُنت ، ولا تعُد ؛ فربما وجدنا بعدكَ من يجمع حبات العقد ، دون أن يبخس حقا أو قدرا.

حمـلت نفسي على قدمي وارتحلت ؛ والألم يعتصرني ، ونبرة التأسف بصوتها تطاردني ، لسوء فكري أمامها ؛ وإدراكي صدق جوابها .
فـأسفت لما آل إليه حالنا ؛ ويا لسخرية القدر ؛ فما كان مني طرح السؤال هكذا ! فأنا من هاجر لتعنت بني جلدته ، بتسفيههم للرأي ، ولتشددهم وغلوهم في الحكم . لقد هاجرت أنشد وطناً آخر ؛ أعليه بسمو الرأي ، وتمجيد الفكر بالتشاور ، وحُسن العقيدة ، دون إسفاف أو تسفيه للرأي .
وها أنا أقع فيما وقع فيه أسلافي ومع من ؟ مع من أحببت ، ولوصالها سعيت . فأصبحت مطروداً ولست بمهاجر ؛ ويحك يا عقل !! أين كنت حين طرحت هذا التساؤل ؟؟
فهل يا ترى أصبحت الجاني ؟ بعد أن كنت المجني عليه ؟ تساؤل مازال يراودني ، ويؤرقني ليلا ، ولست أدري ... هل كنت أستحق حقاً مثل هذا الطرد ؛ ممن أحببت ؟

ملحوظة : هذا العمل تم الإشتراك به في الخاطرة أيضا .
مع خالص التحايا والتقدير .

دلال كامل
07-05-2006, 12:53 PM
موعد مع القدر

في بيت ريفيّ صغير، يتكئ بصمت بحضن تلة وارفة الظلال ، دافئ كأشعة الشمس ، ربيعي رغم الشتاء ..تحيط به الورود وتعشش بين جنباته الطيور ، كان يغفو بأمانٍ تاركاً هموم الحياة تنزلق عبر جدرانه الخارجية لتمحوها حبات المطر .
هذا البيت بناه أبو مروان لعائلته ، و كان هو كالزائر بحكم سفره المتواصل ..كلما عاد من سفره ، كان يقول : ( لن أسافر مجدداً) و لكنه سرعان ما يعود عن قراره بحكم الأعباء المثقلة على كاهله بسبب إبنته( مروى)، التي و منذ ولادتها تعاني من تشوهات خلقية بأسفل ظهرها ، مما أدى الى تقلص عضلاتها وبالتالي باتت كالمقعدة .
البارحة فقط ، كان هو وعائلته والقرية بأكملها على موعد مع الفرح ..فرح طالما أنتظره ( زفاف إبنته الكبرى مايا ) ، و لأول مرة يشهد هذا البيت فرحاً كبيراً ..الأنوار تلألأت ، وباقات الورود انتشرت في كل ركن منه، والزغاريد أوصلها نسيم الليل للقرية المجاورة .

كان أبو مروان بطوله الفارع وبوسامته يبدو أميراً بمهابته ، ابتسامته العريضة لم تفارق شفتيه ، كان كالفراشة ، ينتقل بين عائلته ، يضم العروس ويقبلها ..يثني على مايا وفستانها الأنيق ، يحملها بين ذراعيه ويدور بها ، وهي تصرخ ( بابا كم أحبك ) .

كان الفرح يسبق خطواته ويرسمه على وجوه كل المدعوين ، وصل العريس وأهله ، فتعالت أصوات الطبول ، وتشابكت الأيدي ، وتمايلت الأجساد بحركات أستعراضية راقية .. كانت الأرض تهتز تحت وقع أقدامهم طربة ..إمتد العرس لساعات الصباح الأولى ، وبعدها أوصلوا العروس لمنزلها الزوجي ، و ذهب كل في حاله، وعادت العائلة لتنام قريرة العين ما عدا أبو مروان الذي جافاه النوم لفترة ثم استسلم مكرهاً .
أفاقت العائلة والقرية إلا أبو مروان نام ولم يفق .. رحل بثوب الفرح وعلى وجهه إبتسامة

سمير الفيل
07-05-2006, 09:42 PM
قصة قصيرة



صــــــــورته

بقلم : سمير الفيل

ما الذي جعلني بغير إرادة مني أفز من نومي قبل أن تدق السادسة صباحا؟ أتحسس ذقني النابتة كشوك القنفذ . أرفع عن بدني الغطاء ، وأتجه من فوري إلى الحمام . أوارب ضلفتي الشباك ، وأضغط زر النور مغمضا عيني عن الضوء الباهر ، أمد يدي شبه منوم باحثا عن ماكينة الحلاقة على الرف الزجاجي ثم بعد دقائق أخرج مشدود القامة لأبصر أجسادهم الصغيرة ملتفة بملاءات رقيقة تعتذر للشتاء عن تأخره ؟
أصفق الباب خلفي ، وأتحسس عظام الترقوة ، وثقل البيادة التي خلّــفتها منذ أزمان ؟ هل هو نداء خفي أم توق عارم أن أذهب إليه وأحدثه مثلما كنت أفعل حينها ؟
لماذا هذا العسف وروحي مثقلة بنظرته المحددة ونداء متخاذل يشدني إلى قاع الجب؟
حين انشق الصمت بقذيفة عمياء ، واجهت الموت والعجز ، إذ غلت الرمال ، وغطى وهجها وجهي . لم أر منه سوى أشلاء منثورة تصرخ مطحونة في كمد وغيظ ، والجنازير تدور ، والتروس العملاقة تصخب .
يدي تهتز بفنجان القهوة البني ، وشمس الصحراء تدبغ جلدي . قالت لي نظرته الوجلة : " لا تنس أن تكفنني !" .
لم أفعل لأن الزرقة بانت آفاقها المحترقة تضغط على صدورنا بنيران كثيفة . همس الشاويش فتحي :" كيف ننقل الموتى ، وهجومهم الضاري يكاد يفتك بنا ؟ "
قماش الأفرول الكاكي تمزق تحت الأبط . إندلع ألم هائل في الحلق ومرارة ، قلت ولم يسمعني أحد : " نكفنهم ، هم لحمنا الغالي " .
ارتجفت شفاههم اليابسة ، قال الشيخ يحيى : "الرمل غسيل طاهر، والرمل كفن ".
إلتف شريط أسود حول الصورة في إطارها الخشبي . كانت نظرته حزينة ، وضعت يدها في حجرها وهزت الرأس : " ربنا يغفر له " . ولم تمسح الأم دمعة تسللت للوجه الشاحب الهضيم .
هي ـ المرأة الشابة ـ التي تقدمت مني ، جلست في مواجهتي تماما . سألتني : " هل أحس (محارب ) بألم ؟ هل نطق اســـمي قبل أن يصعد ؟ ألم يتذكر أولاده، وبناته ؟ " .
شفتان يابستان تتحركان باللوعة والأسئلة . اختلط لحمه في النقطة 145 بالأرض الرملية وشجيرات الصبار القزمية ، وخنافس سوداء تجري مجنونة بالضجيج ،وأربطة الميدان ، وجثث الدبابات الخرساء تفوح منها رائحة تزكم الأنوف .
على عتبة البيت رفعت وجهه الصغير أتأمله . من فرط تشابهه مع أبيه محارب الصعيدي أنكرته !
ضحك نفس الضحكة لكنها كانت خالية من خشونة ألفتها ، سألني وهو يتفرس في وجهي : " معك حاجة حلوة ؟ " .
ندت عن صدري تنهيدة ، أخذته من يده وهبطت السلالم . عند البقال كانت صورته أيام الشباب مع أولاد الحتة بنفس ابتسامته الأخاذة خلف الزجاج مثبتة . تأملتها ، قلت لصاحب الكشك : " إعطني شيكولاتة بسرعة " .
امتدت يدي بالنقود ، نسيت في اضطرابي أن آخذ الباقي . قلت في نفسي سوف أظل حريصا على زيارته .
اليوم كم من الأعوام مرت ولم أره ؟
جاء الجرسون وتناول حسابه سألني : " أتطلب شيئا آخر ؟ " .
نظرت حولي ، كان يوم عطلة رسمية ، والراديو يذيع أغاني حماسية ، وحناجر تصرخ ، فتنهمر كلمات زنة ألف رطل . تناثرت شظاياها في عقلي ، تطحن مشاعري بضراوة لا قبل لي بها .
هبت ريح باردة ودقت ساعة الميدان السابعة ، قلت : " لعله انتهى الآن من الجامعة ! "
ناوشتني الذكرى ركبت المترو على غير إرادة مني ، وقهوة الصباح البنية حركت أحزاني القديمة .
هبطت في الميدان ، وتهيأت لرؤية البيت . تفحصت المكان فلم أجد له أثرا .
سألت وعلمت أن صاحب البيت استخرج رخصة بالهدد ، وأن أسرة محارب التي كانت تسكن بالإيجار نقلت عفشها منذ أعوام ورحلت إلى جهة غير معلومة .
في المنحنى واجهني كشك البقالة . كانت الصورة مازالت مثبتة ، وقد أكلت الشمس نضارة الوجوه ، ومحت الملامح . اشتريت قطعة الشيكولاتة ، وسرت على غير هدى أبحث في الطرقات .

فهد حسين العبود
08-05-2006, 09:53 AM
يوم وصل كاظم إلى الدار الآخرة

يذكر أنه عندما اقترب من آخر نخلة في محيط القرية رأى السماء تقترب منه شيئا فشيئا ثم تلتصق بجسده تماما.
" يبدو أنه الموت" تمتم.. ثم دخل في عماء تام.
وعندما بُعث من موته , دهش لأن ملائكة الله ينتعلون أحذية عسكرية ويرطنون بلغة لا يفهمها, ثم مرت لحظة طويلة قبل أن يدرك أنه في السجن وأنه سيمر بآلام كثيرة قبل أن يصل إلى الدار الآخرة.
أسند ظهره إلى حائط السجن وراح يرفع بصره عن حذاء السجان باتجاه الأعلى ولكنه لم يستطع الوصول بنظره بعيدا لأن ركلة العسكري كانت كفيلة بإعادته إلى حيث كان ,على أنها لم تكن كافية لإيصاله أبعد من ذلك, فهاهو يستيقظ من جديد في السجن.
لا تبتئس كثيرا فالركلة في /أبو غريب/ تعني أن الطعام يوشك أن يصل- قال أحدهم من زاوية معتمة,هذه هي لغتهم يا صديقي ,الركلة تعني الطعام وعقب البندقية الاستيقاظ أما اللكمة هناك( تعرف أين..) فتعني أن استعراض التعري قد بدأ وهكذا.....
فهم مفردات تلك اللغة تماما مع مرور الوقت, حتى أنه أصبح يفهم الجمل المركبة, المكونة من عدة مفردات أحيانا, فمثلا الركلة واللكمة معا, تعنيان الطعام عاريا, أدرك أيضا أن هناك مرادفات لبعض مفردات تلك اللغة فعلى سبيل المثال : في حال عدم توفر البندقية فان وضع القدم على الرقبة يعني أيضا الاستيقاظ.
***********************
/امشي الحيط الحيط يا كاظم/ قالت زوجته التي تحبه على الرغم من أنها استغرقت وقتا طويلا حتى اقتنعت بأنه لا يملك من العمر سوى ثمانية وعشرين عاما." كيف يمكن أن أقبل الزواج منك وأنت تشارف على الخمسين"- قالت له عندما تقدم لخطبتها.
/امشي الحيط الحيط يا كاظم/
لقد طبق طوال عمره تلك القاعدة بحذافيرها, ولكنه في ذلك اليوم المشؤوم اضطر للابتعاد قليلا عن/الحيط/ لتأمين لقمة الأولاد, ثم سمع صوت إطلاق نار
وشعر بسخونة تجتاح يده , راح يركض ويركض ويركض فبدا له أن غابة النخيل تمتد إلى نهاية العالم وأخيرا سقط.
***********************
وضّح لهم مرارا أن الفأس التي كان يحملها لم تكن لقتل أحد, ولكن دون جدوى. لذلك فهو مقتنع الآن تماما أن الفأس مفردة من مفردات لغتهم وتعني القتل, خلافا لما تعنيه في العراق.إن لم يكن بالفأس فكيف يقتلعون الأعشاب من أرضهم إذن؟ سأل نفسه مرارا دون أن يتوصل إلى جواب.
كم عملية تفجيرية نفذت ,كيف وأين وكم قتلت يا رقم /3005/؟ سأل المترجم.
لا أدري عن أي شيء تتحدث يا سيدي, أجاب وهو يحاول إخفاء عريه.
يا لكم من شعب بربري , صرخ المحقق بعد أن تلقى الجواب من المترجم, ألا تدركون أننا جئنا لتحريركم بينما أنتم تحاولون قتلنا؟ ألا تفهمون أن من حق الإنسان أن يكون حرا, يساهم في تقرير مصير بلده وبنائه, ويمارس التعددية السياسية والفكرية,ويتذوق حلاوة الديمقراطية؟
لم يفهم كاظم الكثير مما قيل ولكنه يفهم تماما أن من أول حقوقه أن يكون مستور العورة. ترى هل يستطيع النظر في وجه زوجته مرة ثانية؟.
التعددية السياسية والفكرية, أمعن التفكير طويلا في معنى هذه الجملة, ولكنه قرر أخيرا أن الألم يشتت ذهنه كثيرا , ولذلك فإنه سيسأل أحدهم بعد خروجه –إن خرج طبعا- وان لم يكتب له ذلك, فإن أول سؤال سيسأله لأهل الآخرة هو هذا السؤال.
***********************
لم يستطع النهوض في هذه المرة, مثلما يفعل في كل مرة يعيده فيها الجندي من التحقيق ويرميه على أرض الزنزانة, حاول ترتيب الأفكار التي يضج بها دماغه, حاول جاهدا وأخيرا استطاع التقاط صورة أولاده, ها هي حقائبهم المدرسية , تقافزاتهم في فناء الدار , أيديهم الصغيرة الملوحة ,وجوههم المرحة. تقفز زوجته إلى المشهد/امشي الحيط الحيط يا.../ يقترب سقف السجن منه, تتشوه الصور, يبتعد السقف, يحاول استعادة الصور, السقف من جديد.....
لن يصمد طويلا, قال أحدهم.
- لا بد أن التعذيب كان قاسيا هذه المرة, كان ذلك واضحا من صوت الصرخات.
- ألا تعتقد أنه من الأفضل له أن....؟
- نعم أعتقد ذلك.
لم يكن كاظم متأكدا, عندما كان سقف السجن يقترب منه شيئا فشيئا , أكان ذلك الحديث يدور بين مسجونين أم ملاكين.
"أرجو أن تكون الرحلة طويلة جدا هذه المرة, على كل حال لا تنس أن تسألهم يا كاظم عن معنى التعددية السياسية والفكرية"- قال لنفسه بعدما التصق السقف تماما بجسده.....




فهد حسين العبود

د. وليد الصراف
08-05-2006, 12:17 PM
ثلاثة كوابيس وصحوة
د. وليد الصراف / العراق
خديعة
برغم تحذير أمي الشديد اللهجة
- إ يّاك ان تتجاوز عتبة الباب
استجبت لهذه الفتاة وانا العب وراء الباب نصف المفتوح
- تعال لاتخف
- ولكن امي لاتقبل
- سأعيدك الى بيتكم قبل ان تنتبه أمك
- الى اين تأخذيني
- الى حيث أشتري لك حلوى لاأطيب منها
كان شعرها طويلا وعيناها عميقتين وابتسامتها ساحرة وكان وعدها بالحلوى اكثر اغراء من تحذير أمي لذا اندفعت اليها فحملتني بين ذراعيها وقبّلتني وسارت بي حيث عبرت الشارع ، كانت تكلمني كما تكلم حمامة فرخها الصغير
- انظر ، هذا بستان نارنج ، هل سبق لك ان رأيت النارنج وهذه اشارة مرور ، وهذه مدرسة وهذا ...
كانت تعلمني أسماء ومعاني أشياء لاأعرف عنها شيئا فلم يسبق لي ان خرجت من بيتنا قبل ذلك ، وسارت بي مسافة طويلة نسيت خلالها بيتنا وتحذير أمي ، وفجأة أنزلتني
- لقد أصبحت ثقيلاً
وأمسكت بي من يدي ومشينا ، كانت تشرح لي عن كل ما نصادفه في الطريق ، وكنت كلما ابتعدت بي خطوة اخرى ابتعدت ذاكرتي عن أمي وبيتنا ذراعاً آخر . قالت على الرغم من انني لم أسألها وكنت قد نسيت تماماً موضوع الحلوى
- بقيت خطوات ونصل الدكان الذي سأشتري لك منه الحلوى ، انظر ، هذا جامع ، اذا ضعت مني إذهب اليه
ومازالت تسير بي حتى وصلنا الدكان
- انتظرني هنا ، دقائق وأعود بالنقود التي سنشتري بها الحلوى واندسّت في الزحام وانا واقف انتظر . مرّت دقائق وايام واسابيع واشهر وسنوات كنت خلالها أخاف ان اغادر المكان خشية ان تأتي ولا تراني ، مسمّراً كأنني تمثال ، انظر بضراعة الى البقال ، وفي يوم ما ضاق البقال
- ماذا وقوفك ؟ اذب ودعنا نر رزقنا
- ولكن الحلوى
- اية حلوى ، أمجنون انت ، اذهب
وطردني ومشيت ، خصوصاً أنني كنت قد يئست تماما من عودتها ، فكرت ببيتنا القديم وأمي وتحذيرها الشديد اللهجة ، أصبحت العودة الى البيت مستحيلة بعد ان ضاع الطريق اليه ومرّت كل تلك السنوات . ثم تذكرت وجه الفتاةكم كان جميلا والحلم بالحلوى كم كان ساحرا ، واخذت أخبط في الطرقات دون هدى وانا انتحب انتحاب طفل أضاع أبويه ، بالرغم من أنني كنت قد تجاوزت الطفولة ، بعشرات السنين .
سباق مائة متر مارثون

أشارت اليد في لحظة ما فانطلقنا راكضين ، انا وهو في الساحة المخططة المقسومة بعدالة إلى سبيلين متساويين تماما في المساحة ، هيّأت لنا اليد التي أشارت فرصة عادلة في الزمان ، والخط الذي يقسم الساحة إلى سبيلين فرصة عادلة في المكان المليء بالموانع المتشابهة تماما ، نقطة الانطلاق نظرة ، نظرتنا اليها وخط النهاية مرسوم على شكل قلب ، قلبها .
ركضنا ..
قالوا انه سباق مائة متر في ملعب خال من الجمهور ، وبعد مئات الامتار اكتشفت انه سباق ماراثون وان الملعب يمتلئ بالجمهور تدريجياً . ظهر متسابقون جدد في الطريق واكتشفت سذاجتي حين توهمت العدالة ، نعم انطلقنا من لحظة واحدة ولكن ساحتي اوعر من ساحته وموانعها اعلى واكثر .
سبقنا انا وهو كل الذين عنّوا لنا في الطريق والذين لم يكونوا مهيئين ولم يكن لديهم القابلية على هذا الماراثون رغم المنشطات التي تناولوها قبل السباق .
غصّ الملعب بالجمهور واخذت اسمع اسمه مقرونا بالتشجيع واسمي مقرونا بالاستهزاء والشتائم ، لم أبال ، بقيت اركض في هذه الساحة العجيبة التي لم تنهكني موانعها الاعلى ولا استنكار جمهورها ، كنت التفت وانا اركض والجمهور يظن اني التفت لأقدر المسافة التي بيني وبين غريمي فيزيد من بذاءة شتائمه ، لم يكن غريمي يخطر لي على بال ، كنت لا أراه، وكان التفاتي لسبب آخر لاأعرف ما هو على وجه التحديد ، بقيت أركض كأن قوة الف حصان اندسّت في جسدي وارواح آلاف الفرسان النبلاء الغاضبين اندست في روحي ، شعرت ان وعورة الساحة التي تخصني وموانعها الأعلى والأكثر قد بدأت تثير اشمئزازي ، خصوصا وانا أرى ساحته قد بدأت تخلو من الموانع وتنفسح كطريق ممهّد .
الجمهور نفسه بدأ يخرج على قواعد اللعبة ويدخل ساحتي ليعيقني ، لم أبال ، بقيت اركض ، نهارات تعرّت ، ليال وضعت الحجاب وانا أركض ، انضح عرقا وحبرا ودمعا وغريمي يركض فلا ينضح منه سوى عرق نتن وصلتني نتانته فزادت من اشمئزازي ، كل ذلك والجمهور باق مصرّ على متابعة السباق كأنه لاشأن له في الحياة سوانا
اقترب خط النهاية ولاح القلب المخطط المحفور على التراب ، كنت اركض رغم التعب الشديد الذي بدأ يظهر عليّ وكان يركض ورائي بمسافة طويلة ، استنتجت طولها من اختفاء اصوات قدميه من ورائي .
بقيت خطوة واحدة واضع قدمي على القلب ، كان الجمهور قد صمت تماما وبدأت احس بحياديقة بل بتغير موقفه تجاهي ، واذن سأدوس على القلب وأربح الجائزة ، ولكن هل افعلها ؟ هل أدوس عليه وانا اعرف انه قلبها ؟ ترددت وبدأت ادور حول القلب المخطط الموزع بالتساوي على نهايتي ساحتينا وانا أرتاب باللعبة كلها وأفسر صمت الجمهور على انه مؤامرة تحاك ضدي ، أدور حوله والملعب صامت والساعات متوقفة عن العمل والكون كله متوقف عن الدوران متلهف لمعرفة ما سأفعل اذ كانت المباراة تنقل بالاقمار الصناعية ، بل شعرت ان الموتى في مقابرهم والأجنة والنطف في مملكة الغيب تتابعني بلهفة ، وفي اللحظة التي قررت ان أحسم ترددي فيها لم أشعر الابيد تدفعني وتسقطني أرضاً بعيدا عن الساحتين معا وبقدم تدوس على القلب في الصميم .
في اللحظة التي افقت فيها من ذهولي كانت عيني تواجه ما هو أقسى من العمى وهي تراه على المدرج ، وحبيبتي ، حبيبتي الوحيدة تعانقه وتضع على عنقه قلادة الفوز وكانت اذني تواجه ما هو اقسى من الصمم وهي تسمع الجمهور يهتف له ولها . واخذت ابحث في آلاف الطرق المتشابكة التي انداحت امامي من المشاهد والاصوات والألوان ولهجات المعلّقين والكاميرات ونداءات حرّاس المقابر وروائح صالات الولادة و ... أخذت ابحث عن باب للخروج وعن قبر لمواراة عاري الذي سيبقى يصاحبني حتى الأبد .



الغريب

كنت قد خاصمت مها واتهمتها بأشياء فظيعة لم أكن متأكداً انها فعلتها ثم ندمت ندماً قاتلاً وانتابني ضجر شديد ، ضجر اقفل بوجه الحواس بابي التآلف والهدوء ، فلم استطع معه ان اتحدث إلى احد ، أو افتح كتاباً أو اتفرج على التلفزيون ، أو حتى اقلب البوماتي متأملاً صوري القديمة .. لذا ارتديت ملابسي وخرجت من البيت علّني اسري عن نفسي أو اجد حلاًّ وصلت السوق ، مشيت غير قليل ، حتى انتبهت إلى ما أذهلني .. الناس تسير باتجاه واحد وهو الاتجاه الذي أسير اليه ، لااحد يسير إلى الجهة الاخرى من المدينة .. الشارع مكتظ بالسيارات والدراجات الهوائية والبخارية والعربات التي تجرها الحصن وجميعها تسير بالاتجاه ذاته ، حتى الشارع المخصص للسير بالاتجاه المعاكس تشغله العربات والسابلة التي تسير بالاتجاه ذاته .
ما هذا الذي يحصل ؟
السواق تشي بعصبيتهم الابواق التي يطلقونها كل لحظة مجتازاً احدهم الاخر ، سير السابلة اقرب إلى الهرولة منه إلى المشي ، الشخص الوحيد الواقف ينظم السير وكأنه يخربه هو شرطي المرور .
كيف يسكت على هذه المهزلة ؟
الجهة الاخرى مكتظة بالمقاهي والسينمات ومحلات الالبسة والعطور والمكتبات والجوامع ودكاكين الخضراوات والبيوت و..... ولا احد يقصدها بل الجميع يسيرون مبتعدين عنها في سباق لم افهم منه شيئاً ماهذا الذي يحصل ؟
تجاسرت وعبرت الشارع إلى شرطي المرور ، بصعوبة وصلت اليه
- من فضلك ماهذا الذي يحصل ؟
- سر بسرعة ، الجميع يسيرون
- ولماذا انت واقف إذن ؟
- انا الآخر سأسير بعد دقائق بعد ان اطمئن على المشهد .
- بهذا الاتجاه
- نعم بهذا الاتجاه
- لماذا ؟
- لاتسأل ، سر .
ماهذا ؟ جنون ، جنون ، حتى هذا الرجل الذي ينبغي ان يكون عاقلاً وينظم السير يشترك بهذه المهزلة ، رجعت إلى الرصيف وقررت ان أسير بالاتجاه المعاكس لسبب لم أتبينه في هذه اللحظة ، قد يكون مخالفة المألوف ، وقد يكون وفاء للجهة الأخرى من المدينة أو زهداً بالمنافع التي لابد سيجنيها الناس اذا واصلوا السير بهذا الاتجاه ، سبب لااعرفه ولكنه كان من القوة بحيث دعاني للسير بعكس اتجاه هؤلاء المجانين . وما إن خطوت الخطوة الاولى حتى هدر صوت شرطي المرور
- ارجع
صرخ صرخة تقلع الشجرة من جذورها رغم ذلك لم يلتفت اليه أحد ، وحدي سمعته وتغاظيت مواصلاً سيري ، فجاءت الصرخة الثانية أقوى
- ارجع والاّ أطلقت النار .
رجعت وانا خائف ، أسير مع الناس مضمراً السير بالاتجاه المعاكس بعد ان يذهب شرطي المرور هذا ، اما قال إنه سيسير بعد دقائق ، فجاءت الصرخة الثالثة .
- اذا حاولت مرة اخرى ستسحقك العجلات والاقدام ، كل واحد من المارة سيقوم بدوري تجاهك .
عجباً ، كيف عرف ما أفكر فيه ؟ واصلت سيري مع الناس وانا الأبطأ فيهم ، حتى المعوقون كانوا يسيرون أسرع مني ، ولا أدري من اين أتتهم هذه القوة الاضافية .
ولكن لماذا ؟
ينبغي ان افهم في الاقل ، فليس من المعقول ان يكون هؤلاء كلهم مجانين ، سألت أقربهم إليّ
- من فضلك إلى أين أنتم ذاهبون ؟ أهي مؤامرة احتجاج على أمر ما ؟
- لا
- أهو كنز اكتشف في هذا الجانب من المدينة ؟
- لا
- أهو بركان سينفجر في الجانب الآخر حذّر علماء الارصاد منه؟
- لا
قالها واجتازني . فسألت أقرب شخص اخذ مكانه قربي وكانت إمرأة
- ألأنّكِ رأيت الناس يسيرون بهذا الاتجاه تسيرين أنت ؟
- لا
- إذن فلكِ شأن خاص ؟
- لا
- كأن يكون مقابلة نجم سينمائي
- لا
قالتها واجتازتني فتضاعفت حيرتي وأحسست بيأس جامح وغربة قاتلة ، رأيت على مقربة بابَ مقهى مفتوحاً ، هذا آخر مقهى في المدينة بصعوبة اجتزت تيار السابلة ودخلته ، إطمأنت نفسي وأنا أرى ثلة من الناس يجلسون فيه ، يدخنون ويشربون الشاي وشلّت المفاجأة تفكيري وانا أرى ام كلثوم ، نعم ام كلثوم بشحمها ولحمها تغني لهم وجهاً لوجه بلا مكرفون ، عجباً ، الم تمت هذه السيدة منذ سنوات ؟ طلبت شاياً وأخذت أصغي اليها وأترنح كما يترنحون ، وخفت كثيراً من ان يدخل علينا احد كأن يكون شرطي المرور مثلاً ويجرنا إلى الشارع نمشي كما يمشي الآخرون ، الأغبياء ، لماذا لايستغلون هذه الفرصة النادرة التي يرون فيها ام كلثوم وجهاً لوجه ويسمعونها أذناً لحنجرة بلا جهاز وسيط .
لسه فاكر قلبي يدّيلك أمان .. ولّه فاكر كلمة حتعيد اللي كان ، ولاّ نظرة توصل الشوق بالحنان ... لسه فاكر كان زمان كان زمان ، لسه فاكر كان زمان كان زمان تررن تن تن ترررن ترن ترن تررن تن تن ترننو ......... الله الله يا أم كلثوم ، أخذت اترنح وكأني استقيت خمر الارض كله من صوتها ، أسكرني صوتها ولن أفيق ، اعرف نفسي سأبقى سكران وسأتذكر مها ، أخذت استعيد أياماً من علاقتي بها بنقاء الدموع والكريستال ، فجأة رأيت الناس يدفعون حسابهم ويخرجون ملتحقين بالركب ، والموسيقيين يحزمون كمنجاتهم ويلتحقون بالركب ، كانت أم كلثوم آخر من غادر المقهى ، لحقت بها
- من فضلك اريد إمضاءً على هذه الورقة .
- أأنت مجنون ؟
- لماذا ؟ ظننتك متواضعة .
- أنا ميتة يامجنون والأموات لايوقعون .
قالتها والتحقت بالركب حاولت ان ادخل المقهى مرة اخرى الا ان صاحبه منعني من الدخول وأقفله والتحق بالركب .
مشيت ملتحقاً بالركب يدفعني من هب ودب مجتازاً محلات ومطاعم ودوائر رسمية موصدة ، مشيت مسافة طويلة وانا خاوٍ تماماً من الداخل حتى شعرت بيد تربت على كتفي
- مها حبيبتي
- حبيبي الوحيد
- أتعلمين كم انا نادم على
قاطعتني - لا تقل شيئاً الندم يقتلني انا ياحبيبي
- ألست غاضبة مني
- كيف اغضب من الرجل الوحيد على الارض الذي أحسست انني امرأة معه
- لابد ان نتزوج
وجاءت صرخة عظيمة من ورائي
- ألم أهددك باطلاق النار ، اتظنني أمزح ؟
التفت فوجدت شرطي المرور يمشي مع السابلة على الرصيف
- امشِ
مشيت مذعوراً وانا مستغرب ، فوجه شرطي المرور ظهرت عليه تجاعيد لم تكن موجودة قبل دقائق وبان الشيب واضحاً في رأسه ، مشيت مذعوراً ومشت مها ، دفعتنا امواج السابلة بعيداً عن بعضنا ، والتقت أعيننا لقاءً أخيراً قبل ان نفترق تماما ، لمحت في عينيها دمعتين ، انا الآخر بكيت وقد غابت عن نظري ، سأكمل الطريق وحيداً منفرداً كما بدأته ،بقينا نسير، اختفت البنايات ولاحت الارض اليباب وما هي الا خطوات حتى بدت مقبرة المدينة الواسعة ، الناس الذين أمامي يسدون الافق ، ورائي ايضا ناس يسدون الافق من كل الجهات بشر كالجراد يسيرون باتجاه مقبرة المدينة ويجتازونها الى ما لاأدري . والمشكلة انني لااعرف ماذا دها الناس هذا اليوم ولماذا يغادرون المدينة باتجاه مقبرتها ويغادرون مقبرتها الى ما لاأدري .
والمشكلة انني مضطر للسير معهم ولا أملك أي خيار آخر ، والاّ سحقتني العجلات والأقدام .

******
صحوت, لا أدري أصحوت من نوم أم من صحو , وإذا كنت قد صحوت من نوم فلا أدري أكنت فيه مغمض العينين أم مفتوحهما .
الذي أدريه أنني صحوت وأنا على يقين أنني سأفوز في السباق وسأسير في الإتجاه الصحيح ومعي وخلفي وأمامي جميع من أحب حتى نبلغ .....

د.أيمن يس
08-05-2006, 01:13 PM
فرج ربنا
لطمته الكلمات القصيرة..مات رضيعه بعد أن تنسم عبق الحياة يوما أو بعض يوم..تركه الطبيب إلى موظف مسئول لاستكمال بعض الاستمارات..أوراق كثيرة بصم عليها لا يدري ما بها..تنفس الموظف براحة و لملم الأوراق ثم أعطاه أقصوصة صغيرة..إنها إيصال استلام جثمان رضيعه..دلوه على المكان..دلف إلى الحجرة المبطنة بالقيشانى..رائحة الموت تثقل الصدور..رعشة غريبة اجتاحته..أستلم أخر منه القصاصة ثم ذهب إلى أحد الأركان و عاد و سلمه إياه..وقف جامدا..حائرا..لا يدري ماذا يفعل..عالجه الرجل "هات حاجه و لفه بيها"..أومأ بغير وعى..ناوله أحدهم غطاء أطفال بالكاد أحتوي الجسد الضئيل.
مضى إلى الخارج..لفحه ضوء الشمس..مرة أخرى ألجمته الحيرة..ماذا يفعل..؟ تعالى صوت أذان الظهر..تساءل أمن الواجب أن يصلى عليه صلاة جنازة..؟..دخل المسجد..حار كيف يخلع حذائه و الجثمان بين يديه..نظر حوله لعل أحدهم يحمله عنه لحظات..لم يجد بدا من وضعه على الأرض..خلع الحذاء بسرعة و حمله مرة أخرى..تعمد أن يصلى الظهر عند طرف المسجد ليضعه بجواره..أستفسر و أجابوه بشرعية صلاة الجنازة حتى على الرضيع..تناول الأمام عنه اللفافة و وضعها أمامه .. أقام الصلاة مرشدا المصلين أن المتوفى طفل فادعوا لأبويه..لأول مرة انهمرت دموعه و كأنه شعر بحقيقة مصابه حتى أن الناس جميعا مطالبون بالدعاء له و لزوجته.
انتهت الصلاة..لم يسلم عليه أحد تشاغل الجميع عنه و عن لفافته..لم يبقى سوى الإمام..أقترب منه.."هو أول نصيبك يا بنى"..أومأ برأسه بالإيجاب..أقترب الإمام أكثر.."و الست والدته مش بخير و الحمد لله"..واصل الإيماء برأسه بالموافقة..تهلل وجه الإمام.." يا ولدى لا يعلم الغيب إلا الرحمن ..إنك صغير السن..و غدا يرزقك العاطى الوهاب بالذرية الصالحة حتى تمل الأطفال"..لم يعرف بما يرد على مجاملة الإمام..بالابتسام أم بالبكاء..و فى النهاية أسعفته إيماءة جديدة برأسه.
ضوء الشمس هذه المرة كان أقوى و الزحام أشد..جموع من البشر تزحف فى الشوارع و خاصة فى هذا الحى الشعبي أمام المستشفى المجانى..تمسك بقوة بجثمانه خشية أن يفلت منه من صدمة سائر هنا أو هناك..خفف القبضة فقد شعر بأصابعه تغوص فى الجسد الذابل..خشى عليه..مرة أخرى شعر بدموعه تختلط بحبات عرقه..لقد مارس شعورا جديدا عليه..بالحنو و بالخشية على ولده حتى و لو كان جثة هامدة..برغم أن موضوع الإنجاب هذا لم يكن يشغله و لا حتى يفكر فيه..بل لقد فوجئ يوم أن أخبرته زوجته بحملها..أستثقل الخبر ..لقد تزوج بالكاد.. و لكنه جاملها بابتسامة باهته و نسى الأمر أو تناساه تحت وطأة قسوة عمله بدنيا و نفسيا..يقضى يومه جالسا القرفصاء على أحد أرصفة شوارع القاهرة مجاورا العشرات و أمامه تنتصب (العده)..لا تهدأ عينه بحثا عن زبون يريد تكسير بلاط أو هدم حائط..يجرى عليه مزاحما العشرات..يحدوهم جميعا ذات الأمل الذي سريعا ما يصرعه اختيار الزبون لواحد أو أكثر..يعود إلى جلسته حتى يداهمه الغروب معلنا نهاية المحاولة اليومية إلى غد قد يتصادف فيه اختيار الزبون له.
أخيرا استجابت له سيارة أجرة بمجرد التوقف..أتخذ المقعد الأمامى و لفافته على ذراعه..سأله السائق مستنكرا دخوله السيارة قبل إتمام الاتفاق حول (على فين و بكام).."على فين إن شاء الله"..أجاب باقتضاب متجنبا النظر إليه.."المدافن"..واصل السائق لهجته الاستنكارية.."أى مدافن..؟المدافن كتير"..أسقط فى يده فجأة أكتشف أن القاهرة الكبيرة بها أكثر من منطقة مدافن..فى بلدته بل و فى كل القرى المجاورة له..كلمة مدافن تعنى مكان واحد فقط..و بغض النظر عن مكان المدافن..الأدهى انه لا يعرف أين يدفن جثمانه..؟ذادت حيرته من ارتباكه..و للحظة فهم السائق..نظر له بتردد.."هو ده أبنك يا بلدينا..؟"..مرة أخرى هاجت مشاعره بوخزة كلمة أبنك..تمنى لو أطلق العنان لدموعه بل لصرخاته ..تمنى لو ارتمى بين أحضان السائق منتحبا..فى هذه اللحظة بالذات تمنى أمه ..تمنى أحضانها أو حتى لمسة من كفها الخشن..لعن فى سره يوم أن ترك بلدته إلى القاهرة الواسعة وحيدا مع زوجته لهثا وراء سراب لقمة الخبز..و بالفعل فى معظم الأحيان كان نصيبه من تلك القاهرة..فقط لقمة خبز..أفاق على تمتمة السائق بلا حول و لا قوة إلا بالله.
مضت السيارة تجوب شوارع و أحياء لا يعرفها حتى اجتازت منطقة مدافن..توقفت..هم بالخروج منها..أستمهله السائق.."أستنى يا بلدينا ..أنت رايح فين..أستنى دلوقتى ربنا يفرجها"..عاد إلى وضعه منتظرا..لا يعرف حتى ماذا ينتظر..إنه فقط ينتظر فرج ربنا..ياه..فرج ربنا..منذ سنوات طوال و هو ينتظره برغم أنه ذاته أسمه "فرج ربنا"..لطالما قصت عليه أمه..أن أبوه صمم على تسميته كذلك..فقد تزوج ثلاث مرات بحثا عن امرأة تهبه الولد بعد رحلة طويلة مع الإناث..و عندما أتت له الثالثة بالولد أصر على تسميته (فرج ربنا)..لم يرد تسميته (فرج الله) لأنه أسم شائع..لقد أراد لولده التميز و لو فى الاسم..و لكن القدر لم يمهله حتى يراه مميزا أو حتى معدما فقد مات فى ريعان شبابه تاركا لفرج ربنا ..(العده).
شعر بتنميل فى ذراعه..نقل الجثمان للذراع الأخر..من يدري قد يكون هذا الجثمان أسعد منه حظا ..قد يكون الرحمن قد كفاه ويلات و شقاء هذه الحياة و لم لا و كل الشواهد تدل على أن فرج ربنا لم يكن سيورثه و بالكاد سوى (العده).
لكزه السائق.."الحمد لله..مش قلت لك ربنا حيفرجها"..لمح من بعيد جنازة تتجه إلى مدفن قريب منهم..نزل السائق و فتح له الباب.."تعال..تعال بسرعة"..مضى خلف السائق متعثرا..حاول أن يسأل و لكن خطى السائق السريعة خلف الجنازة لم تسعفه..تركه جانبا و ذهب إلى أحد حملة النعش مؤكدا لنفسه أنه أقرب أقرباء الميت..أسر فى أذنه بكلمات..و ما أن وضع الرجل النعش حتى هرع إليه..لم يفهم..أقبل عليه متهللا.."ربنا يعوض عليك يا بلدينا..هاته..هات.."..تردد..لكزه السائق مرة أخرى "أديه له..أديه له"..قاوم إحساس داهم بالحسرة و الحزن بل و بشيء من التأنيب الذاتى على تفريطه فى الجثمان..أخذه الرجل من بين يديه و عاد به إلى المقبرة..اختفى فى جبها ثم خرج متربا..أغلقوا القبر..فوجئ بالرجل يعود و يدس فى يده ورقة بخمسين جنيه و هو يهلل مستبشرا.."إن شاء الله أبنك ده حيكون نور و رحمة على التربه كلها".
بسرعة تم كل شئ..حتى أهل الميت أبتلعهم الطريق..لم يبقى سواه و السائق و الرجل صاحب المال..أستأذنهم فى غلق المدفن..ربت السائق على كتفه و سحبه للخارج.."مش قلت لك فرجه قريب.. و ربك بيقطع من هنا و يوصل من هنا"..سار مطأطئ الرأس..متحسسا الورقة المالية دون أن يدري أنه قد نسى تحديد مثوى ولده وسط المدافن المتشابهة.

جمال دغيدى
08-05-2006, 09:57 PM
عـفوا يا أبى
لم أعد صغيرة يا أبى ، فطالبة بالسنة الأولى من المرحلة الإعدادية تستطيع أن تدرك الأمور بوضوح ، نعم أنتَ تتعب كثيرا من أجلنا ، تخرج مثلنا مبكرا ، ولا تعود إلا مع غروب الشمس ، نستقبلك مهللين فرحين بقدومك ، نشم فيك رائحة الإرهاق والكد ، قلتَ لنا كثيرا إن التعب يزول عنك عندما ترانا ، كان سعيد ومحمود يتعلقان بعنقك ، وكانت سميرة وفاطمة تمسكان بيديك ، تمسحان بيديهما الرقيقتين عليهما ، كنتَ سعيدا بذلك ، وكانت تسعدني هذه اللحظة كثيرا ، وكانت أمي تهب لتعد لك الحمَّام ، كنتَ تخرج منه مضيء الوجه فتجدنا في انتظارك حول الطعام .
لم تقصر مع أمنِّـا يوما ، ظللتَ بجوارها وهى مريضة ، كنتَ تداعبها وتخفف عنها وطأة المرض ، بالغتَ في إحضار الفواكه ، غسلتَ الملابس ، أعددتَ لنا الفطور ، وأعددتَ حقائبنا كل صباح ، قبل الذهاب إلى المدارس ، منحتنا الحب ، ولكنكَ اعترضت بشدة عندما أوصتك بنا أمنا ، قلتَ لها ، فكرى في الشفاء ولا تفكري في الموت ، قلتَ لها إنها زهرة البيت ، وأننا لا نستطيع العيش بدونها ، كانت تبدو عليها السعادة بما تقول ، وكانت تبدو علينا السعادة بما تقول .
نعم يا أبى كان أخوتي صغارا لا يدركون شيئا ، كنتُ أوضح لهم ما لبس عليهم من أمر ، سألوني عن الموت ، ولماذا يأتى ، سألوني أين يذهب الناس بعد الموت ، قلتُ لهم كما تعلمتُ منك ، عند الله ، فالحياة هناك جميلة ، وأن من لا يكذب ، ومن يعطف على الفقراء ، ولا يضر الآخرين ، كل من يفعل ذلك سيجد هناك خيرات كثيرة ، قالوا لي أن أمنا ستجد هناك خيرات كثيرة ، أكثر من كل الناس ، كانت تطلب منا أن نصاحب التلاميذ الفقيرة ، وأن نحضر بعضهم إلى بيتنا ، كانوا يلمحونها وهى تدس في جيب هؤلاء شيئا ، كانوا يدركون مثلى أنها نقود ، وكانت تقدم لهم أفضل ما عندنا من طعام .
لم تكذب عليك قط يا أبى ، نعم لم تكذب عليك ، فنحن كنا ملتصقين بها ، نرى أفعالها ونسمع ما تقول لك ، فإذا فعلتْ ما يغضبك في غيابك ، كانت تبادرك به قبل أن تجلس بعد عودتك من العمل ، كنتَ تسامحها ، وكان قلبك كبيرا .
نعم يا أبى تعبتَ كثيرا ، قلتَ لنا أن الحياة صعبة دون امرأة تقوم بشئون البيت ، حاولتُ كثيرا أنا وأخوتي أن نقوم بشئون البيت ، قلتُ لهم أنك حين تجد البيت نظيفا ، والملابس زاهية ، لن تفكر فيمن يدير شئون البيت ، كنتُ أعد لك كوب الشاي وأدخل عليك به في حجرتك ، وأبتسم وأنا أقدمه لك مثلما كانت تفعل أمي ، كنتُ أستقبلك وأعد لك الحمَّام ، وأعلق لك الملابس النظيفة مثلما كانت تفعل أمي ، لكن قرارك كان صارما ، اعترضنا في أول الأمر ، ثم تقبلناه راضخين غير راضين ، حاولتُ أن أقنع أخوتي ، قلتُ لهم إنك تحبنا ، ولن تدع أحدا يؤذينا ، قالوا بماذا نناديها ؟ ، قلتُ لهم : خالتي ، اعترض سعيد قال إنها ليست خالتي ، حاولتُ إقناعه بأنها ستكون مثلها .
تحملنا القسوة من أجلك ، كان داخلنا يبكى طيلة الوقت ، وأعيننا تبكى أحيانا ، نعم يا أبى لسنا ننكر ، كانت أمنا تقسو علينا أحيانا ، ولكننا كنا نرى من وراء قسوتها حنانا خفيا ، تقسو علينا لإصلاح أمورنا ، لكن هذه قسوتها مجردة ، تخلو من الحنان .
نعم مازلنا نرى ما تفعله من أجلنا ، أحيانا تداعبنا ، وتلعب معنا أحيانا ، نطمئن بك ، ونشعر بالأمان في وجودك ، تسأل عن أحوالنا ، تناقش معنا بعض الدروس ، توصلنا أحيانا إلى المدرسة ، كانت تغمرنا السعادة في لحظات وجودك معنا ، وتعودنا على قسوتها ، فقد كنتَ تمسح عنا تلك القسوة بكلماتك الحنونة .
نعم يا أبى ظل أخوتي يحبون الجلوس بين يديك ، ويتطلعون إليه ، لكنني لم أعد أحب الجلوس معك ، بل عفوا أصبحتُ أكرهه ، لا تخف فلم أحاول أن أنقل إحساسي هذا إلى أخوتي ، لم يعد لعطفك طعم ، لا بل أصبح له طعم آخر ، طعم أكرهه وأتقزز منه ، لم تعد كلماتك تطربني ، بل أصبحت تبكيني ، حتى سؤالك عن دراستي لم أعد أهتم به أو أبالي.
تعجبتَ من التغير الذي حدث لي ، حاولتَ أن تتقرب منى أكثر ، وكنتُ أبعد عنك أكثر وأكثر ، سألتني لكنني لم أجبك ، عفوا يا أبى لم أقصد مضايقتك ، وإنني حزينة فعلا لما أفعله معك ، ولكن هذا يحدث رغما عنى ، بعدما سمعتك تقول لها ضاحكا :
ـ معكِ أشعر كأنني لم أكن متزوجا من قبل ... لكن حاولي
يا حبيبتي أن تضحكي على الأولاد كما أفعل أنا .
ـــــــــــــــــــــــ

محمدابراهيم محروس
09-05-2006, 03:28 AM
قبلة باردة""

أهلاً..انتظرتك طويلا ..لماذا تأخرت ؟..
_العمل كما تعلمين .. فهم لا يرحمون هنا..
أشارت بيدها, وهزّت رأسها ,أنها تفهم بكل تأكيد.
وقالت وهى تعطيه ابتسامتها المعهودة:_ سوف اسخن لك الطعام مرة أخرى لقد برد..
قال متعاطفا:_ كلا سأكله الآن كما هو ..لا داعى ..
إنها أيضا لم تكن تستطيع أن تقف على قدميها لتعيد تسخين الطعام,ولكنها أجبرت نفسها أن تعرض عليه الأمر.. وقد اراحها بجوابه.
أنهى طعامه..وقام ,أشعل سيجارة ,واتجه الى المكتب ,فرد أوراقاً كثيرة ..وشرع فى العمل .يطلبون الأوراق غداً .ويجب أن ينتهى منها..
اقتربت منه ,وضعت كوباً من الشاى أمامه .. تحسست شعره بيدها ,رفع رأسه, ثم أمسك راحتها, ووضعها على فمه وقبلها..تركت راحتها لبرهة بين شفتيه, ثم سحبتها برفق. ..
انصرفت لتتركه لعمله الذى لم ينته , ولن ينتهى منه منذ وطأت أقدامهما أرض هذا الوطن الغريب.
خمس عشرة سنة وهما هنا..مروا عليهما كأنهم قرون .
كل سنة يحلمان بالعودة إلى أرض الوطن.. ولكن يأتى الحلم بصعوبة.
أحلامهما تتعثر ,ثم تستقيم, ثم تعود للتعثر ,وهكذا الايام تمضى.
جلست أمام التلفاز تتابع حوار المذيعة اللامعة مع ضيوفها"الحياة أصبحت مفتوحة أمامنا رغم كل الضيق الذى يسيطر على مشاعرنا العالم أصبح قريةصغيرة .وتتشابه الأسماء والأزمنة وتختلط المفاهيم فى عقول الناس ولكن لابد للعودة إلى رحم الحياة الأم إلى بكورتها ولحظات التنفس الحقيقى"
ما كل هذا الذى قاله العالم المهيب..
والمذيعة تهزّ رأسها موافقة..
مصمصت شفتيها وغيرت القناة
صوت ذلك المطرب لا يعجبها به رنة مزعجة قامت بتحويل القناة مرة أخرى..اللعنة!
ألم تحذف هذه القناة من القائمة أمس؟!..
تعلقت عيناها بالقناة للحظة,ثم سارعت بحذفها مرة أخرى
مرت على القنوات سريعا. لا شىء, لا شىء جديد.
أغلقت التلفاز ,وقامت إلى المطبخ متثاقلة..جهزت العشاء وانتظرت برهة قبل أن تلج فى غرفة المكتب..
مازال منكباً على أوراقه..تنحنحت
قال:_قاربت الانتهاء,نصف ساعة أخرى
قالت:_لقد جهزت العشاء.
قال فى لامبالاةوهو يواصل عمله:_كلى أنتِ أمامى بعض الوقت
انسحبت من أمامه, ودخلت للمطبخ مرة أخرى ,غطت العشاء. منذ متى لم يجمعهما والخبز وقت..سنوات طويلة, تنهدت فى حسرة ولم تتناول لقمة..قررت أن تنام ..دلفت إلى حجرة النوم ارتمت على السرير.
لم تشعر بالبرد هذه الليلة وبتلك القوة؟
راحت الذكريات تتوالى ..أحلام الثراء أحلام السفر الغربة بكل ما فيها من ضغط ومرارة
والأطفال الذين يرفضون أن يجيئوا فى تلك البلد ..زيارتها للطبيب لعدة مرات..وعلى مدار سنوات حتى ملت الأطباء
قال الطبيب:_لا مانع لديك من الحمل وزوجك كذلك.. أهم شىء الراحة النفسية لكما معا..
ومن أين تأتى هذه الراحةالتى تكلم عنها؟
جسدها يرتعش تحت الأغطية الكثيفة..دمعة تسللت من عينيها وفرت تبغى الخلاص.
لقد تحملت الكثير ,تحملت فوق طاقتها,ولكن ماذاأمامها لتفعله؟
سمعت صوت حركة أقدامه فى الصالة جففت دموعها التى بدات فى الانحدار..من الجلىّ أنه أنهى عمل اليوم.ذلك العمل الذى لا يدع فرصةلهما ليعيشا حياتهما الخاصة..سيذهب للمطبخ الآن ..ويتناول عشاءه فى سرعة,وكأنه يؤدى واجباً مملاً,ثم يذهب ليفتح التلفاز ..سيقلب القنوات سريعاً,سوف يُلاحظ أنها حذفت تلك القناة الملعونة سيضحك..تعلم أنه سوف يثبتها مرة أخرى ثم يشاهدها لدقائق بحكم التأكد من التثبيت ..ويغلق التلفاز..ستعيد فى النهار حذفها هكذا تمضى الأمور بينهما منذ سنوات.
خطواته تقترب من باب غرفتها ..سيفتح الباب الآن ,ويدخل يحاول إلاّ يزعجها ..ستلتف بجسدها إليه وتنير اللمبة الصغيرة بجوار السرير ليعرف أنها لم تنم بعد..وتتقابل العيون والأبتسامات
.ضحكت وهو يقول :_لقد انتهيت
اقترب منها وضع قبلة على جبينها ..ازاح طرف الغطاء .ودلف للسرير..لثم جبينها مرة أخرى وأعطاها ظهره وذهب فى النوم.
ما زال النوم بعيداً عن عينيها.
بينما ارتفع شخيره وهى ما تزال ترتعش
وتتساءل لماذا تشعر بكل هذا البرد ..لماذا؟! محمد إبراهيم محروس loksha_loksha73@hotmail.com

عدنان أحمد البحيصي
09-05-2006, 04:04 AM
لأن قصتي طويلة بعض الشيء

أزودكم برابطها

الميمون شيخ القبيلة (https://www.rabitat-alwaha.net/showthread.php?t=5650)


شكرا لكم

بنور عائشة
09-05-2006, 04:11 PM
قصـة ـــــــــــــــ صرخـة الحيـــاة* ـــــــــــــــ

بقلم القاصة / عائشة بنت المعمورة

قال تعالى: (( وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت..))
صدق الله العظيم


فرحة عارمة أحسها تتسرب بداخله.. تبعث فيه الطمأنينـة والسعـادة من جديد.. تحسسه برجولة عائـدة وغرور احتـواه في لحظة كبرياء... أفكار تراوده وهو يخطو الخطوات نحو مزرعته الصغيرة.. بفأس تعبت كتفاه من حملـه واخشوشنت يداه من شق التربة.. تيقن أخيراً أن أيامـه المتتاليـة المتعبـة التي اختزلت آلامه وأحلامه وقهره ستختفي.. ستختفي وإلى الأبــد.
لقد قرب موعد الولادة وهو يتطلع بشوق ولهفة إلى المولود الجديـد.. طفل يحمل اسمـه.. امتدادا لرجولتـه.. طفل يحمل تعبـه.. طفل يحمل أحلامه وآلامه.. طفل يخفي خجلـه ويرفـع رأسه أمام أمـه التي ما فتئت تسمعه الكلام الجارح وتحثـه على الزواج من أخرى تلد الذكور، وأنه رجل بإمكانه أن ينجب الولد كبقية اخوتـه..
كانت تقول له دوماً:
ـ خديجـة رحمها يلد البنات..!!
وكأنها تطعنه في رجولة مسلوبة فيخيـم صمت رهيب ينقص من قدرته وهي تتابع إلحاحها وتذمرها:
ـ ما رأيـك في سمية ابنة عمك.. ستنجب لك الذكر الذي حرمتك منه زوجتك؟
فجــأة تذكـر بناته وقد تنجب زوجته مرة أخرى بنتاً فتوَّلد الألم من جديد والخيبة قطعت دربه وتجـرع تنهيدة الحسرة التي تلاحقه والحظ العاثر الذي يلازمـه ويطارده بكثير من العناء الذي أثقـل أيامـه.
نسـي "وليد" أنه بخجله ألبس بناته السبعة رداء العار وأسقط على نفسه رجولة قوية تحميه من ذل العائلة وقهر الزمان.. أنساه الجبن أنه رجل بإمكانه أن يخرس الألسـن إلى الأبد وقد تناسى أنه هو من صنع هذا المجتمع بسلطة جائرة وأبوة كاذبة ورجولة مزيفة..لم يرحم طفولتهن وتوسلات زوجته الخائفة من طلاقـها.. لم يرحم سكاكين الألم التي تجرحها من عيون أمه وزوجـات اخوته..
كبر جرحها وهي تتكئ على آلام الخوف من المجهول.. استوقفتها تلك الكلمات الجارحة التي كانت تسمم بدنها فأطلقت العنان لألمها وصرخت صرخة قوية.. مدوية بها أرجاء الغرفة فنزل المولود الصغير بصرخة الحياة وقد كسا العناء وجهها وأخذ التعب والإرهاق من جسدها النحيــف قوتها.. حدقت في وجوه الممرضات بجانبها بعدما استفاقت من غيبوبة الوجع تترقب الخبـر.
تهنئها الممرضة قائلـة:
ـ الحمد لله قد رزقت بطفلـة جميلة.
نزل عليها الخبر كالصاعقة وهي تنظر إليهن باندهاش وسقطت دمعتان تجرح خديها المصفريـن..
ضحكت الطبيبة مخففة آلام الولادة وهي تقول لها:
ـ أتبكين من الفرحة أم من الألم؟
ردت عليها الممرضة وهي تغرز حقنة التخدير في الوريد:
ـ كيف لا تفرح وقد رزقت طفلة جميلة بعد ولادة عسيرة..
صفعها قولهن وغاصت في غيبوبة تمنت أن لا تفيق بعدها.
سمعت العجوز في البهو صراخ الطفلة فضربت الأرض برجلها وهي مقطبة الحاجبين تقول لولدها:
ـ إنه صراخ بنت.. بنت.. بنت..
عادت الممرضة بابتسامتها مبشرة الزوج بأن الله أكرمه بطفلة جميلة.. وقبل أن تكمل قولها رفع صوته متذمراً:
ـ إنها طالق.. طالق.. طالق.
في اليوم التالي لبست الأرض حلة بيضاء وأشرقت شمس الصباح تطبع قبلة لؤلؤية تغازل بها بياض الأرض وانتظرت خديجة زيارة زوجها.. يوم.. يومان..
فجاءت العجوز تنذرها بيوم موعود تخبرها أن ابنها قد طلقها البارحة، وأن عودتها إلى المنزل مع ابنتها استحالة.
وقع عليها الخبر كالصاعقة وآلمتها الغصة في حلقها وانتظرت الليل بعدما اسودت الدنيا في عينيها ولاحقتها الأفكار الجهنمية وقد سكنها اليأس والإحباط.. حدقت النظر في الصغيرة.. نظرت من حـولها.. سحبت الوسادة وكتمت بها أنفاس الصّبية المولودة فكانت آخر نفس من صرخة الحياة.

هامش: ــــــــــــ
*القصـة واقعيـة..جرت أحداثها في إحدى الأرياف الجزائرية .
bentelmaamoura@maktoob.com

مروان المزيني
09-05-2006, 09:39 PM
قصة .. يتيم .. والأب عايش
...
..

دخل إلى الفصل ليلتقي بزملائه السابقين. كان المكان يعبق بفرحة اللقيا ورؤية الأصدقاء بعد عطلة ليست بالقصيرة أبعدت شمل التماسك الذي يربط الطلبة بعضهم ببعض. رأى تلميذا يجلس منفردا وحيدا ، لا ينظر إلى أحد ولا يكلم أحدا. ويمر الوقت وهو لا يزال مستمرا في إرسال النظرات الحائرة التي تحاول اكتشاف ما يدور في خلد ذلك الشاب بينما كان الشاب يعيش في جو يختلف عن جو بداية العام الدراسي الجديد. ولكن تقف نظراته عاجزة عن اقتحام أسوار متينة عالية يسودها الصمت والهدوء. كان يعتقد بأن هذا الهدوء ما هو إلا الهدوء الذي يسبق العاصفة. وفجأة تلتقي الأعين ويشع بريقها وتتساقط النظرات ثكلى عندما تغير ذلك الاعتقاد وتدهور إلى أسفل جبل يعلوه الثلج ويطغى عليه البياض. فعرف بأن هذا الهدوء هو .. الهدوء الأبدي.

وتمضي الأيام والشاب الجديد على حاله رغم علاقاته الضئيلة مع تلاميذ الفصل. تعرف عليه وظلت علاقتهما ودية ذات حساسية نوعا ما. وبمرور الوقت تتطور هذه العلاقة وتصبح أعمق من قبل. واكتشف بأن صديقه الجديد فقد والده وهو طفل رضيع ، وكانت ظروفه المادية من الظروف التي يتمناها أي طفل ، بل أي إنسان على الإطلاق. وبسؤال عفوي طرحه عليه لم يقصد من ورائه شيئا سوى الاستفسار عن إحساس اليتيم ، أجابه الشاب بعد تـنهيدة عميقة ..
: أنا فقدت أبي منذ طفولتي ، وحرمت من الأب الذي يمثل للابن كل شيء. فأنا أريد أبا يشعر بما في داخلي ويعرف متى أكون متضايقا. يواسيني ويحمل عني متاعبي وينفس عني ما بي من هم. يشاركني أفكاري ويعطيني من تجاربه في الحياة. يشاركني حين أكون مسرورا فيزداد سروري ، يشاركني حين أكون محزونا فيخفف عني. أريد أبا يعرف بم أفكر قبل أن أتكلم. يفهمني قبل أن أتفوه بكلمة أو ببنت شفة. أريد أبا يضعني مكان قلبه ويشغر بي كما يشعر بنبضاته. أريد أبا .. أبا.. هل تعرف ماذا تعني هذه الكلمة ؟!
فأصابه الذهول مما سمع وأخذ منه الذهول مأخذا عميقا وقال..
: إن والدي يعيش معي وأراه كل يوم ، ومع ذلك أشعر بما تشعر به ، وأريد ما تريده.. فما يعني ذلك ؟!
فرد الشاب اليتيم : لست أنا من يجيبك .
فقال : إذن من يجيب ؟!
قال اليتيم : أبوك.

وتبقى هذه المحادثة تلاحقه دون أن تدع لـه مجالاً لإدراك ما يدور من حوله. فقد حركت داخله مشاعر الحرمان التي ألهبت صدره. وبدأ شريط حياته يعرض ذكريات قديمة طواها الزمن وسجنت بين قضبان الطفولة. أخذ ينبش عنها حتى وجدها فنفض عنها غبار السنين لينكأ جراحاً أليمة. ذكرى النجاح ، أول هدية وعده بها والده في حياته. تذكر أول ثمرة قطفها عندما حمل شهادته وركض نحو أبيه لتكمل فرحته بالهدية. كان يتعثر فينهض ويتبع طيف واله الذي يحمل الهدية ويسرع نحو البيت. كان يلهث من شدة الجري. رأى منزلهم من بعيد. زادت خفقات قلبه ، فأسرع أكثر وأكثر حتى وصل إلى الباب فوجده مفتوحا على غير العادة. لم يكترث وحاول الدخول إلا أن صوت شجار والديه صوب سهماً قاتلاً نحو صدره. فتطايرت الفرحة من قلبه وسقطت الثمرة التي جناها من يده ، وتحولت دموع الفرح إلى نزيف ألم. سمع كلمات لم يفهم معناها لكنها حفرت في قلبه.. ( .. الصبر .. العشرة .. الزوجة الثانية .. الطلاق .. ) تذكر كيف تلقفته والدته في أحضانها وهو يبكي من قسوة والده التي مزقت قلبه إلى أشلاء كثيرة ورمت بها في واد سحيق. كاد صدره يختنق من غبار الذكريات ، فغيمت سحب من الدمع الذي أخمد شيئاً من نيران قلبه المشتعلة. كان يحاول ألا تسمعه والدته المريضة.. تلك التي ضحت من أجله بكل شيء. كان أمله أن يرفع عنها ثوب المرض الذي تربع على صدرها بعد أن وهبته شبابها وأغدقت عليه من حنانها ورعايتها. كان ذلك يدفعه لأن يكون طبيباً ليقف في وجه ذلك المرض وينتصر عليه وينقذ والته من بين براثنه. وبدأ يسطر لنفسه الطريق وأخذ يخطو فيه أولى الخطوات.

تمر سنوات طوال لم يعرف فيها لأبيه صوتاً ولا نظرة. كان يثب على الأيام وثوباً في سباق مع الزمن. صوت أمه .. نظراتها .. آلامها .. كل ذلك يدفعه دفعاً نحو الأمل. كان يمر على الذكريات ناسياً أو متناسياً. يحبس الآهات في صدره مخافة أن يتعثر بها. تسلق جبلاً وعراً بغية الوصول إلى القمة. فإما أن يصل ويجني النجاح ، وإما أن يسقط ويسقط معه الأمل. كان الدَّين الذي ربطه في عنقه لوالدته يجعله يحطم الصخر من طريقه. واقترب الفجر الذي طال انتظاره ، وبدت شمس النجاح على الأفق ، وأصبح حلم الأمس حقيقة اليوم. كان النجاح جبيرة القلب الكسير. حمل ذلك النجاح لوالدته التي بكت كثيراً فرحة بزرعها الذي أينع فطرح ثمراً نافعاً. انحنى على رأسها يقبله ويقلدها وسام النجاح الذي ناله بفضل الله ثم بفضل دعائها. قبّل يديها قبل أن يهمس قائلاً :آن لك الآن أن ترتاحي وتقلديني كل عبء حملته من أجلي ، ولسوف أبذل جهدي لإسعادك ما استطعت. فمسحت بيدها الحانية على خده وقالت : إن وجهك اليوم أنساني كل حزن وتعب. إن الابتسامة التي أراها على محياك هي الدواء الذي طال انتظاري له. وأخذت دموع الفرح تغسل دهراً مضى .. تزيل آلامه وأحزانه. وانسابت الأفراح تترى. شفيت والدته ، ومضى هو يكمل مشوار النجاح.

أصبح طبيباً مشهوراً. تفوق في تخصصه حتى ذاع صيته بين الأطباء. حياته مع والدته علمته قتل اليأس بالأمل ، والخوف بالإقدام. كانت ابتسامات المرضى أوسمة يراها كل حين. كان يفكر فيهم حتى في يوم زفافه. وما كاد ينتهي شهر العسل حتى عاد إلى أحضان المستشفى يجوب طرقاتها ويعود مرضاها. وفي زاوية من المستشفى رأى شيخاً كبيراً يجلس على كرسي متحرك بينما يقوده شاب يبدو عليه ملامح الوقار. كان خارجاً من عند أحد الأطباء. رأى على وجهه مسرحاً لعبت فيه السنين أدواراً حزينة. وستار الشيب يكاد ينسدل على آخر فصل فيها. هاله ما رأى من حال ذلك الشيخ ، فتوجه مسرعاً نحو الطبيب الذي كان عنده ليسأل عنه. علم بأن ذلك الشيخ فقد النطق وأصيب بشلل بعد صدمة عصبية. وليس له من يعوله.
ذرفت عيناه مما سمع ، وطلب من الطبيب أن يسمح له بعلاجه ، فأخبره الطبيب بأن الشيخ يحتاج إلى مستشفى متخصص في الأمراض النفسية والعصبية. وقد أوصى بذلك في ملف المريض إلى مدير المستشفى. خيم الحزن عليه لما سمع وأسقط الألم عليه شباكاً ثقيلة. كيف يقف عاجزاً عن انتشال مريض من بين براثن الألم ! . تذكر والدته وحياته السابقة كلها. هاجمته الذكريات المريرة. أحس بدوار في رأسه ، وأخذ يمشي نحو غرفته. وفي إحدى الممرات اصطدم كتفه بكتف أحد العاملين بالمستشفى ، وكان ذلك العامل يحمل أوراقاً سقطت منه على الأرض. شعر بالإحراج واعتذر للعامل وحاول مساعدته في تجميع الأوراق المتناثرة. وبينما هو يجمع بعض الأوراق ، جذبت انتباهه ورقة من بين الأوراق وشدته من أعماقه. توقفت أنفاسه ، وارتعشت يداه ، وأمسك بالعامل بشدة وصرخ به : أين صاحب هذه الورقة ؟ فأجابه العامل وهو مستغرب لذلك الانفعال المفاجئ : إنه هناك .. وأشار إلى ذلك الشيخ الكبير. فتوجه نحوه مسرعاً ، لكنه وقف على بعد خطوات منه.. أخذ يتفحصه بعينين دامعتين. رأى والده وقد تسطرت على وجهه صفحات من التاريخ لا تنمحي. ومرت حياته أمام عينيه صوراً متقطعة رأى في آخرها صورة والدته وهي توصيه بأبيه خيراً حتى فارقت الحياة. أمسك بالشاب الذي يرافق واله وسأله : إلى أين تأخذ هذا الشيخ ؟ فقال الشاب : لقد تم تحويله إلى مستشفى آخر. فتوجه مسرعاً إلى مدير المستشفى بعد أن طلب من ذلك الشاب الانتظار. واستطاع أن يقنع المدير بتأجيل ذلك التحويل بعد أن قص له حكاية ذلك الشيخ. وباشر في علاج والده دون أن يخبره بحقيقة نفسه. أخذ يزرع الأمل في روحه من جديد. وبدأت حالة والده في تحسن مستمر. وأثبت أنه بالأمل تأتي المعجزات. وشفي والده بعد رحلة طويلة ولد فيها حفيده وترعرع في انتظار خروجه من المستشفى ليكون أجمل مفاجأة يراها في حياته.
انتهت فترة العلاج وحان وقت مغادرة المستشفى. ومضى خارجاً مع طبيبه الذي لا يعرف حقيقته. وعند باب المستشفى رأى طفلاً جميلاً يجري نحو الطبيب الذي أخذ الطفل في أحضانه. سأله الشيخ : هل هذا ولدك ؟ . أجابه ابنه الطبيب : نعم. فتوجه الشيخ إلى الطفل وسأله عن اسمه ، فرد الطفل رداً سريعاً تلقاه الشيخ كرصاص يخرق صدره المتهالك.. فانتصبت عيناه في نظرات دهشة وحزن نحو ذلك الطبيب.. ولده الذي قضى معه فترة العلاج الطويلة وهو لا يعرفه. وانهال الدمع من مفاجأة لم يكن يتوقعها.. فسأل ولده بصوت حزين: أنت ؟! أنت ولدي ؟! فأجابه ولده الطبيب والابتسامة ترتسم على شفتيه : أجل.. وهذا ابني.. حفيدك. وتمر أحداث الزمن أمام عيني ذلك الوالد شريطاً ملتهباً.. تذكر ولده الذي حرمه حنانه.. تذكر زوجته التي هجرها.. تذكر زوجته الثانية وما لقيه من عذاب.. تذكر الطبيب الذي ثابر على شفائه وإبعاده عن سرير المرض والضعف.. تذكر الأمل الذي زرعه في نفسه .. و دموعه تنساب كأنها المطر الغزير.. رأى الماضي كله في لحظة.. وما لبث أن سقط على الأرض ليختم أحداثاً أليمة قضاها ولده.. ( يتيماً..والأب عايش).

أنور عبد العزيز
10-05-2006, 11:37 AM
قصة قصيرة
الوليمة
أنور عبد العزيز

ومنذ البداية كانت هكذا , منذ أن تفتحت عيوننا عليها , رأيناها بيوتاً صغيرة قميئة متلاصقة متحاضنة , إحتوتها شبكةّ من أزقة ضيقة عوجاء متعرجة .. أزقّة وبيوتاً لا شمس فيها , كلّ شيء كان فيها رطباً وبارداً , وكانت لصغرها وضيقها تكشف للمارين والعابرين دواخلها وحتى موجودات حجراتها , تكشف للناظرين تكوينها الداخلي وما فيه من ضرورات حاجات البيوت البسيطة , فلم يكن يفصل ما فيها عن أرصفة الطريق غير امتار محدودة .. الأزقة الملتوية الشاحبة بظلّ العتمة والرطوبة ما كانت تتحمل غير أرجل السائرين , فإن إندفع وتدافع فيها إثنان وثلاثة واربعة ومعهم بغل أو حمار أو عربة حمل خشبيّة صغيرة ضاق المشي وأضطربت الأرجل .. لا تعرف من أسسها أو أوجدها بهذه الهيئة , كانت تشكل بألتوائاتها وتعرّجاتها وأستداراتها حلزونات غير منتظمة الخلقة , تشم من جدران بيوتها رائحة العفن وقد تآكل فيها الجص وتناثر , وتهرّت في جوانبها وشقوقها وأخاديدها مواد بنائها التي أحالها الحر والبرد والمطر والغبار وجريان المزاريب العتيقة الصدئة المتشققة وعصف الريح عندما يخترقها فتستحيل شبه انابيب رفيعة تدفع الهواء بقوّة ظاهرة , وكان ما يوحش النفس ويقرفها تلك المراحيض المبنية في سطوحها الصغيرة والتي ينحدر سيلّ من غطائها النديّ ليمتزج مع رطوبة جدرانها المحفورة المتشققة وتختلط بملّوثات سواقي طرقاتها ودروبها الوسخة السوداء , عدا تلك البيوت التي تقع على الطريق العام لا يحجبها عن الشمس ساتر أو جدار , فهي محظوظة إذ تواجه الشمس وأهلها سعداء إذ يتمتعون بهذه الميزة , رغم أنهم يصبحون ويمسون ويبيتون مع المقبرة العتيقة , ورغم أن روائح هذه المقبرة تصلهم مع كل ريح قويّة هابّة , ورغم أن هذه المقبرة تجمّعت من قبور منثورة متفرقة في ارض غير مستوية تلالاّ صغيرة موزعة بين مرتفعات ومنخفضات مزروعة بالحجارة ويغطيها الشوك , يسمونها : ( الصحراء ) ولا تعرف من أين وكيف نبع هذا الاسم .. إلى جانب الحجر والحصى كنت ترى شاهدات القبور – القديمة منها – وقد تآكلت وترنحت ومالت وجهتها , أو زحفت من مكانها لتنبطح قريباً من القبر أو بعيداً عنه وقد زال ومسح منها أي اثر لأسم أو كتابة , تتأمل هذه الشواهد فتراها منقلبة متعاكسة ممدودة منطرحة وقد غطّت بعضها الأشواك وزاحمتها أكوام الحجارة التي تتناثر بين القبور ...
كان بيتنا صغيراً – كبقية البيوت – تصعد إليه بدرجتين عاليتين زلقتين على الدوام , يواجه الشمس والمقبرة ومركز الشرطة , حتى رقعة المركز السوداء كان مكتوباً عليها : ( مركز شرطة الصحراء ) .. المركز بناية معزولة عن البيوت في بقعة على حافة المقبرة من جهتها الخلفية , لم يكن يميز هذا المركز غير العلم العتيق المرفوف , وتلك اللوحة السوداء المعلنة وقد شحبت وبهتت كتابتها وحروفها , وغير عدد قليل من الشرطة يتناوبون الحراسة على بابه , عندما أحاول أن أستعيد صورة وملامح وهيأة ذلك الشرطي , لا أذكر غير بنطلونه الذي تقبع نهايته وحافته أسفل الركبة بقليل صيفاً وشتاءً , وعلامة الشرطة في مقدمة سدارته , والبندقية الطويلة يتمشى بها متحركاً بخطوات قصيرة أمام باب المركز وهو ينفخ في يديه ويحرّك رجليه ليطرد البرد , ويزفر بين آونه وأخرى بخاراً حاراً أو يدخن سيجارة في غياب مأمور المركز , ويمدّ بصره فلا يلتقي إلاّ بشواهد القبور والحجارة والأشواك .. لم نر إلاّ افراداً قلائل يراجعون هذا المركز , يقفون ببابه , يتحدثون مع الشرطي , يدخلون أو يخرجون .. مرةّ واحدة أو إثنتين رأينا رجالاً قلائل موقوفين في حبس المركز تلك الغرفة المستطيلة الطويلة المظلمة في نهاية المبنى قرب أسطبل الخيل , كان باب الغرفة حديدياّ أسود بقضبان , وكنا نرى رؤوس بعضهم ملتصقة بها تحاور شرطياً أو تطلب حاجة ملحة , أو تتبادل السمر مع الشرطي الخافر بكلمات مبتورة متقطعة يضبّبها دخان السجاير بتكوينات وأستدارات تائهةٍ تخرج وتتحررّ عبر القضبان ...
كنا نقول عندما يسألوننا عن أسم محلتنا أنها ( الكوّازين ) وأحياناً
( الشهوان ), أو اننا من محلة ( الميدان ) وحتى ( القليعات ) ..
كلَ هذه المسميات لم تكن إلاّ مرتفعاً يبدأ من الجسر الحديدي العتيق بأتجاه الغرب , فأذا أنت بمواجهة بداية لأرتفاع في الأرض , وجدران عالية تتكيء عليها أخشابّ كثيرةّ طويلة وقصيرة , أعمدةّ غليظة , سيقان شامخةّ مرتفعة جافة لأشجار جبلية , ومئات من الأعمدة الخشبية الممدّدة المشدودة بحبال , أو المرصوفة بشكل هندسي جميل , أو المتناثرة في الطريق , أو المتكئة على الجدران الأبعد المحاذية للشط , مقابلاً لها ترى دكاكين نجّارين يبيعون كلَ حاجة خشبية , وكان أبرز هذه الحاجات تلك التوابيت المنتظرة , من كل لون وحجم وطول .. يرهبك منظر تلك التوابيت وجلوس النجارين على صفائح التنك بانتظار الرزق , وكنت ترى قوارب في طريقك , قوارب عتيقة منقلبة مكسرّة الألواح لم يبق منها إلاّ أجزاء مفكّكة في أسفلها أو جوانبها , ترى مثل هذه القوارب مهجورة على الأرصفة , أو متّكئة على جدران الدكاكين , وقوارب تنهض من جديد وقد أنهمك عدد من النجارين في صنعها بهمّة وسرعة ومهارة , ورأيت منها ما كان مسحوباً تجاه الشط ليمارس عمله , وليخْتبر الصيادون متانته ودقّة صنعه , وليطمئنوا لعدم تسرب الماء إليه , وكنت ترى بعض هؤلاء الصيادين وقد نشروا شباكهم في الأرض العراء وفي الأيام المشمسة يصلحونها ويستبدلون الخيوط التالفة منها ويعالجونها بالربط والشدّ لئلا تفلت منها سمكة .. فجأة يصعد الطريق بدرجات عريضة عالية إلى تله مرتفعة وتتداخل وتتشابك فيها الأزقة والسواقي النتنة والبيوت التي تبدو كأقزام وسط هذه المتاهة من الدروب الضائعة والمضيّعة , هذه هي ( القليعات ) ثم تنحرف يساراً – ومازلت تصعد – لتصل ( الشهوان ) و ( الكوّازين ) والمقبرة .. ذلك العالم الكبير الفسيح المدهش , عندما تتأمله وتتملاّه الآن , تراه ليس أكثر من بقعة صغيرة محدودة ضيّقة لم تكن تستحق دهشة الصبا وتعدّد المسمّيات .. في محلتنا كانوا قد خصّصوا جنباً من المقبرة – بمواجهة بيتنا – يحفرون فيها حفراً عميقة (كورات) وكان بعض هذه الكورات يلتقي بحفرة قبر مضى عليه زمن طويل , كان بعضها يلتقي بعمق حفائر المقبرة , كنت ترى هذه الكورات حارة ملتهبة مشتعلة متلألئة مشعّة مضيئة – خاصة في الليل – يفخرون فيها ويشوون
( التنانير) و ( الحباب ) , تأنس بهذه الأضواء المتراقصة وتفرح بها وتبتهج وانت تراقب من شباك الحجرة العلوية , كانت تجلب لروحك الأنس والدفء في ليالي الشتاء الباردة المتجلدة , وفي ايام المطر الزاخ بقوة وأندفاع من خلل ضوء تلك النيران المتوهجة الحمراء , ترى رجال ( كورات النار ) الناحلين الممصوصين وقد تسربلوا بالسخام , وغطى الدخان وجوههم وشعورهم ودشاديشهم وأقدامهم الحافية سعداء دافئين بعملهم في الشتاء , وفي الصيف تراهم خرقاً منقوعة بالعرق الساخن الممتزج بالهباء .. أكثر من كان يأتي لمحلتنا لشراء هذه ( التنانير ) النساء , وكنّا نسمع أنّ الخبازة أو ربة البيت ما كانت تكتفي بعملية الكيّ والشواء التي يمارسها ( الكوّازون ) فيلجأن إلى جمع عظام كبيرة ضخمة للبقر أو الخيل أو البغال أو الحمير وبشرط أن تكون عظاماً بيضاء ليحْرقْن ويسجرن بها هذه ( التنانير ) لتبدو من – داخلها – بيضاء ناصعة قبل أن يستعملنها , وكن يعتبرن من لا تعرف أو تقوم بهذه العملية إمرأة بلهاء خرقاء حمقاء سيئة الحظ – إن هي أكتفت بسجر التنور بالحطب أو فضلات الحيوانات الجافّة – وأنها لا تستحق أن تكون امراة خبّازة أو ان يليق بها أن تقف على تنّور .. ولم يكن منظر تلك ( الكُوَر ) مسلّياً في النهار , أو في أيام الصيف الخانقة الكاوية الملتهبة , وفي زمهرير ليالي الشتاء المتجّمدة فقط بل كان لوحة راسخة ثابتة مقيمة في شبّاكنا وأعيننا وأرواحنا لأشباح من البشر ونيران متوهّجة ..
ما يقرفني ويهيج في معدتي وروحي القيء , عدد من البيوت الملاصقة لدارنا , والتي أمتهنت التعامل مع ( المصارين ) , وكانت بيوتهم وهي من غرفة أو غرفتين مليئة – في أغلب الاوقات – بأوان وسطول عتيقة لزجة وقد تكّومت فيها المصارين ومحتوياتها سائلاً كريهاً قبيحاً برائحةٍ حادة مثيرة , ينزلق من هذه الأواني الكبيرة والسطول ليسيح في فناء الدار , ثم يعوم بثقل أو ساخه وأجزاء من المصارين الممزقة الممزوجة بالخراء , نازحاً – متجمّعاً مع غائط وبول أولادهم وحتى بناتهم الصغيرات – نحو الرصيف الذي كثيراً ما أنزلقت أرجل العابرين فيه .. كانت هذه المهنة أبشع وأقذر ما تكون في فصل الشتاء , كل افراد هذه البيوت يعملون معاً , الرجال والنساء , وحتى الصغار تشمُ في ملابسهم الملوثّة المتسخة دوماً رائحة المصارين , ومعها رائحة الغنم والبقر والماعز والجمال , كانت رائحة ثقيلة مركزة تكفي لخنق حصان أو فيل أو كركدن , بيوتهم مستوطنات لذيذة بهيجة ومريحة للذباب ترى أكواماً من قطعان الذباب الكبيرة الزرقاء والسوداء والصفراء ومن كل لون تغطّي الحبال المعلّقة , لم تكن ترى حبالاً ممدودة بل أمتداداً ونسيجاً من عناقيد الذباب كل الحبال الممدودة تبدو – من قريب وبعيد – منسوجة من ذباب كان الذباب يتخلّل أسطح الأواني وفناءات الدور وغرفها و حتى أسطح البيوت والرصيف يغور في كل جزيئات الحيطان المحفورة النخرة الدبقة ممتزجاً بسيلان الفضلات وبقع متهرئة السيل مع المياه الملوثة لتصبّ في ساقية الدرب منحدرة نحو طرف المقبرة لتغذّي القصب المتطاول والنبت الشيطاني , وكان اكثر ما يفزعني تلك الذبابات الزرقاء اللزجة , وهي تسيح وتطوف وتمسح أعين الصغار ووجوهم ورقابهم وأيديهم المتّسخة وأرجلهم الحافية ...
لم نكن نعرف شيئاً عن اسرار مهنتهم وماذا يفعلون بهذه المصارين بعد غسلها وتنظيفها وتجفيفها .. لم تكن تفارقهم , وقد عاونتهم رغم تحذيرات أمك وأستهجانها لمصاحبتهم , أولادهم أصدقاء لي , كانوا ينتظرون إشراقة الشمس ويكرهون الغيوم ترى الضجر وملل الانتظار في عيونهم وأيديهم الملوثة لتعليق هذه المصارين على حبال ممدودة عبر الرصيف لتيبس وتجفّ بعد غسلها وإفراغها , لم تكن تعرف لم يصنعون ذلك ؟ لكنك كنت ترى بعض المغنين من ضاربي وعازفي ( العود ) يترددون على محلتنا , يساومون أفراد هذه الأسر القليلة على شراء ( أوتار ) لأعوادهم , حتى أنهم كانوا يساومون النساء – في غيبة الرجال – وكانوا يقولون أن الأوتار التي تصنع في محلتنا تبعث أحلى النغمات إن توفرت لها الأصابع الحاذقة المحترفة المجربّة , وكنّا نسمع أيضاً انهم يبيعون منها الأوتار الدقيقة الرفيعة كخيوط لعمليات مستشفى المدينة ومستشفيات العاصمة , وقيل أيضاً أنها كانت تجارة رابحة , فبيوت هذه الاسر ورجالها – بأسمالهم وقذاراتهم – كانت هدفاً ومقصداً لكبار التجّار , بالأضافة إلى صناعتهم ( الغرابيل ) , وانهم وإن بدوا في حالتهم الرثّة تلك ورغم مظاهر البؤس والحفاء , فهم يمتلكون نقوداً ودنانير , وذهباً كثيراً يخفونه في صناديق معدنية زرقاء كبيرة مخبوءة قلّما يفتحونها , هكذا كانوا يحكون عنهم ويذكرون أن دنانيرهم كثيرة وذهبهم كثير مخبوء في اعماق تلك الدواليب العتيقة المنقوشة المحفورة بزخارف الأزهار والطيور , وكانوا يذكرون عنهم ويقولون أنهم بخلاء حاذقون ماهرون في إخفاء النقود وعدم العبث بها أو الصرف منها , تكفيهم فقط جيوبهم الطويلة المملوءة بها وتكفيهم صررهم وصرر زوجاتهم المنتفخة , ومنهم من بالغ أن هؤلاء ( الوتّارين ) يصدّرون مصارينهم وأوتارهم وخيوطهم لخارج البلاد ..
المقبرة في الايام العادية كئيبة موحشة صمّاء , وفي أيام الإثنين والخميس وصباحات الأعياد تستحيل خيمة واسعة سوداء مفروشة ومبقعة بعباءات النساء والبكاء الساكن أو المفضوح , وبالشموع الغليظة والرفيعة المنصوبة فوق الشواهد والصخور , وعشرات من الصبية المتسوّلين والصبيّات المتسوّلات , الحافين والحافيات تتسابق أرجلهم وتتدافع وتتزاحم , وتتهافت أيديهم وتمتد وتتطاول لألتقاط أرغفة الخبز والتمر , أو الحلاوة والنقود والكليجة والشربت والكعك , ومن ايدي زائري قبور تبدو جديدة حديثة الولادة لم يتوقف عنها الدمع وعمق الحزن في العيون والقلوب ...
بيتنا بحجرة واحدة وحجرة علوية وسرداب .... كان سرداباًَ معتماً عميقاً مبللاً برطوبة ندية كل جدرانه من المرمر البارد الذي بهت لونه وضاع , وارضه من قطع حجرية كبيرة , منغلقاً لا تربطه بالخارج إلا طاقية صغيرة مدورة لا تستقبل من ضوء الخارج إلا شعاعاً باهتاً لا يستطيع أن يخفّف شيئاً من ظلمته كنا خمسة , أبي وأمي وأخي الذي يكبرني بأعوام قليلة .. ومعنا ( نانه ) , هكذا كنّا نسميها .. كانت جدّتي بيضاء مشرقة بعيون حلوة , حنونة طيبّة عذبة كالملائكة أمرأة بهية في روحها وحنانها , كنت أكسب الدنيا عندما أراها تحتضنني وتقبلني وترعاني , كانت تحميني من غضب أمّي العاتية القاسية , تحجب وتستر وتدفع عني لسعات عصا الرمّان وقد أكتشفت أكذوبتي بأنني لم أسبح في الشط المحاذي للقليعات , وقد أعلمتها أظافرها المخلبية الناتئة في ظاهر يدي ورجلي وساقي وظهري – وحتى بطني –بآثار من خرج لتوّه من الماء الشط , وكانت تحذرني وتهدّدني بعصيّ اخرى إن كرّرت فعلتي , لكن صداقة أقراني وإغراء الماء المنعش في لهب الصيف , وأنابيب المطاط المنفوخة ودومات الماء في ( قره سراي ) و ( باشطابيا ) كانت هي الأحلى والأعذب , وما نفعت كل عصيّها في أن يتوقف كذبي ما دام لهب الشمس كان كاوياً للأجساد بوهجه وغليانه .. وظلّت ( نانه) تتلقى جزءاً من تلك الضربات .. إيه ( نانه) ياحلوة الروح , أتذكرك وانت تخدمين أولئك الساكنين .. كانت ( نانه )بهاءً ونجمة في ظلمة ذلك البيت , ودرعاً من صبرٍ يقيناً هيجان أمّي الغاضبة في كل الفصول والأيام والساعات ... ورعة تقيّة متصوفة , عالمها السرداب وساكنوه منْ هؤلاء الساكنين ؟! لم نكن نعرف كانت حريصة – حدّ الرعب – على نظافته وأن يظلّ مضيئاً في ليالي الجمع – وفي مناسبات كثيرة – بتلك الصينية المحتشدة بالشموع وبأوراق الآس وقد خصصّت إبريقاً أبيض لامعاً طافحاً أبداً بالماء لساكني السرادب , كلناّ عندما نستفهم منها عنهم تسكتنا أولاً – بمحبّة وبإشارات من إصبعها نحو فمها لنصمت ونميت ونقطع مثل هذه الأسئلة , كنّا نقول لها ونسألها عن أشكالهم وأخبارهم وزياراتهم , وعندما كنّا نلح على ذلك وبنزق يبدو عليها الضجر والأمتعاض , لم تزعل منّا , وكانت تكره أن تخوض في ذكرهم وتكرّر : الجموا ألسنتكم وأخرسوها , قلّلوا من هذا الكلام وأمسحوه من أدمغتكم وأفواهكم , كفّوا عن هذا الهذر لئلاّ يصيبكم بسوء , أنتم عنهم غافلون نائمون يخفيكم برد الليل ورجفة الصباحات , لو تسمعون هسيسهم , هم فرحي ودنيايّ وآخرتي , أسهر الليل , تلتقط روحي أصواتهم , ومع الفجر يعلو ذلك الهسيس العذب المنغّم ممتزجاً بصوت المؤذن الضرير وطيور الفجر .. كلُ أيامها ولياليها صلاة , وكان للسرداب نصيب كبير من هذه الصلوات , كانت تخصُني بمحبّتها وتهمس في أذني : سلني عن كل شيء أجبْك ولا تقرب من ذكر الاحباب ... هؤلاء الأحباب كانوا لها شغلاً وهماً وتسلية ومسرة , ما كانت تغفل عن نظافة السراب وشموعه , وابريق الماء ولفرط نظافتها – ولو تستطيع – لغسلت حتى الماء بماءٍ أنقي وأطهر , تغسل الأبريق بعناية , تطفحه بالماء المبارك وهي تسفح على هذا الماء تمتعات من آيات مباركة , وكانت تمنعنا – بأدب ومودة – أن نطأ بأرجلنا أرض السرداب .. مرّةُ غافلها أخي , نزل إلى السرداب بصمت وبمهارة وشيطنة قطّ , وعندما أراد الخروج كان منظرة مضحكاً كان معوج الرقبة , ما إن رأته ( نانه ) حتى ثارت وغضبت وناحت – ولم نرها قبل هكذا غاضبة – لطمت على راسها وصدرها وبكت بعيون محرقة .. ألم أقل لكم ؟ ! لقد فعلها , اعرف ما الذي حدث , لقد بال داخل السرداب .. اخذت أمي تولول كان أخي يداري رعبه وعاره , هدأت ( نانه ) واشفقت على الصبي , كان غاصّاً بالبكاء والخوف لما حلّ به مطمئناً من ( نانه ) وكان خوفه – وهو بهذا الحال – أن تخرج العصيّ وتشوي جلده لكن (نانه ) وقد سكن غضبها وزعلها , غسلت وجهه , إحتضنته , قبلت عيونه وشعره ورقبته , وما مرت دقائق حتى عاد السرداب نظيفاً طاهراً نقياً كثوبها الأبيض , وما مرّت دقائق , إلا وكانت تمسد الرقبة المتشنجة العوجاء القبيحة , هامسة ومتمتعة بآيات وتعاويذ وكررّت ذلك بترنمية حلوة النغمات , ثم نفخت على رقبته ثلاث مرات .. صدقوني , مامرت دقائق – وأنا أتذكر ذلك وأتخّيله بكل وضوح – إلا كانت رقبة أخي قد أستقامت وأستعادت شكلها وهيأتها .. فرحت أمّي , كان اخي يحتضن بفمه ودموعه يد ( نانه ) بقبلات لا تنتهي .. كانا يضحكان ويبكيان معاً , حتى امي بكيت لمنظرهما , لم يسمع أبي بالحادثة إلاّ بعد يومين , فقد كان مشغولاً ومنهمكاً بالتحقيق مع لصّين بائسين ازعجا سلام البيوت وطمأنينتها بسرقات صغيرة تافهة , لكنها تكررّت أكثر من مرّة .. لم ار أبي باشاً ضاحكاً كما رايته وهو يستمع لحديث ( نانه ) , وكان يلتمس رقبة اخي بأصابع وعينين حانيتين كانت ليلة حلوة , وكانت أمي هادئة ساكنة تلك الليلة , مبتسمة وقد نزعت تكشيرة وجهها المتهيئة دوماً للخلاف والقتال وإختلاق المعارك , وطاب لآبي الحكي , حكى لنا عن اللصين الأبلهين وسرقاتهما وعقوبتهما وخيبتهما وحزنهما وخجلهما من أبناء المحّلة ذليلين قابعين في ظلمة غرفة الحبس الباردة الرطبة ..
بقدر ما كانت امي متكبرة متغطرسة مغرورة , عدوانية وشرسة , كان ابي انيساٍ هادئاًَ أليفاً ودوداً حنوناً , وكم عانى – بصبر وصمت – من صخبها وأذاها مع ذلك فقد كانت تفاخر وتباهي به نساء المحّله , فقد كان حلوا أشقر بشاربين أشهبين وعينين بلون السماء وقامة ممشوقة , والأهم والأكثر مدعاة لفخرها أنه كان يحمل ثلاث نجمات بيضاء لا معه تحليّ رقبته ويكفي أنه كان مأموراً لمركز الشرطة .. كانت تكثر – في كلّ تجمعات النساء – من وصف فضائله وتنسى شرورها معه , أليست هي زوجة الرجل الجميل , ومع ذلك كانت تذيقه من الحزن والأذى والمنغصات ما يفوق تحمل أقوى الرجال وما يتجاوز صبر جمل .. كانت النساء يسمينه ( الحَسين ) وينطقنها بحاء مفتوحة حتى جاء ذلك اليوم .. كان يوماً مؤلماً لا تنساه المحلَه , وكانت فضيحة وفرصة لأحاديث وتقوّلات أستمرت أياماً كان المفوّض عائداً لداره , وكانت أحلى صبيّات المحله ترصده وتراقبه وتنتظره مطّله ببصرها إلى الدروب من نافذة حجرتها العلوية , فرحة برؤيته ومضطربة مرتبكة , كان يوماً ربيعياً مزهراً , ما إن مرّ المفوض من تحت نافذتها المنخفضة , حتى فوجئ بوردة جنبد تسقط على كتفه , رفع بصره , نظر في عينيها وأبتسم , تلون خدّاها بحمرة الورد , لم يستغرق ذلك لحظات , ومرقت طفلة متّسخة الثوب والوجه والعينين , ارنبية الشفة , مهرولة لتضع وبسرعة طائرة خبر الوردة وحكاية الصبيّة في اذنيها .. هاجت أمي صخبت , لعنت وبشتائم وسخة – أجداد زوجها وســوء تربية وخلق الصبيّة , لم تكف بذلك , خرجت وبدون عباءة لتلعن أم الصبية , وكانت قد اقتحمت دارهم باحثة عن الصبية التي اختبأت عابرة من السطح في بيت الجيران ,. لم تظفر بها , بصقت عليهم , كانت تشتم وتهتزّ من الغضب كبندول متراقص أضطربت حركته وتسارعت , لاعنه زوجها والصبية الحسناء ذات العينين الساحرتين والوجه الوضئ, ولا عنة أمها واباها وكل الدنيا مسخت وشوّهت العينين الساحرتين والوجه الوضيء , ولا عنة امها واباها وكل الدنيا , مسخت وشوهت وأطفأت برذاذ فمها المتدفق المتطاير , وتكرار بصاقها وهج وعبق ذلك اليوم الربيعي الجميل .. وكانت فرصة – خاصة للصغار – للأستمتاع بما حدث , ترك الرجال الناحلون الممصوصون كور النار مسرعين للتفرج على الزوجة الهائجة المتوثبة المتحفزة المتهيئّة لجولات قتالية جديدة كذئبة جائعة مسعورة ,. هجر الوتّارون وزوجاتهم وأولادهم وبناتهم المصارين , توقف المارّون لرؤية هذه اللعنة وهي تبصق سبابها الملحّن , حتى مركز الشرطة خلا من شرطته إلا حارس الباب , قبع المفوض في بيته – ولم يخرج – جامداً هامداً مخذولاً وكأنه جثة , لم يجرأ على الخروج إلى الدرب ونهرْ زوجته وأيقاف تلك الفاجعة . فقد كان يعرف أن الدرب مزروع بكل العيون الراصدة لما سيقوله أو يفعله , وربما أهاج خروجه المرأة التي لم تعد تعي بما تفعله , وعرف أن من شهود هذه الحفلة أفراد شرطته , فلم يتجرأ على التصّرف بأية حركة وظل مركوناً متجمداً في غرفة بيته تلتقط اذناه ضجيج الدرب وزعيق زوجته .. ولولت أم الصبية ونحبت , أيتها الماكرة اللعينة , أمع المفّوض زوج هذه الجيفة ؟! لينفعْك ( الحَسين ) أيتها الحمقاء الرعناء , ووردة جمبد حمراء وفي النهار وبين العيون المفتوحة ؟! ضربت أبنتها , لطمت أم الصبية خدّيها وجرحتهما , لطمت صدرها بقوة وبلا وعي , نكثت شعرها , وناحت كما لم تنح أية امرأة .. كانت تردّد : لقد فعلتها سأمنعها من الصعود إلى هذه الحجرة وسأعمي شباكها بالطين , لن أكون أماً إذا لم أحبسها طيلة العمر ..
وكما تنمحي وتندثر وتضيع وتتيه كل حكايات محلتنا , فقد جرف النسيان ومرور الأيام تلك الفضيحة , وذابت حكاية الوردة , ولم يبق منها في الذاكرة المهجورة – مثل مئات الحكايا – غير طيف وكحلم بعيد ... وكانت حكايات ابي وقصصه وتذكاراته كفيلة بمحو كل أثر لما حدث ..
كان ابي يحبني , وكنت مزهواً بحبه ومركزه وشرطته ونجماته – مثل أمي- كان يعيد كل مرّة ومن جديد حكايتي مع ( الحاكي ) وأنا ابن اربع سنوات كان أبي يكرّر هذه الحكاية , حتى صرنا نعرف أنه سيرويها قبل أن ينطق بشيئ (الحاكي) الذي اشتراه ببوقه , وبعلامة ( الكلب ) الأبيض المرسومة على جانبه وبأسطواناته وأبرته المدببة التي يحملها قرص جميل , كان شيئاً مفاجئاً ومثيراً في محلتنا , ولكن أبي أستطاع أن يجلب هذا الشيء ويسحر المحلة بهذا العجب .. قال والدي – وكما ذكرت – فالحكاية غير جديدة , وقد رواها عشرات المرّات أنه في يوم تأخر في العودة إلى البيت , وكانت أمي في زيارة لخالتي و (نانه)
نائمة في السرداب , فرأى الصغير أن المغنّي الذي أحبوه وسمعوا أغنيتة وحزنه وأنينه وحنينه , ربما كان جائعاً , قام الصغير إلى سلّة الخبز , جلب رغيفاً كبيراً محمّصاً مزداناً ومزخرفاً بالسمسم , قطعه فتاتاً دحسها في البوق أغدق فوقها أبريقاً كاملاً من الماء ملأ الصندوق الخشبي والبوق وطفح سائلاً من الجوانب مبلّلاً حتى السجّادة وعندما أطمأن أنه قد أسكت جوع المغنّي وضع إسطوانة , وركز رأس الأبرة على حافة الإسطوانة , وقف ينظر وينتظر ويتسمّع , فلم يحظ بصوت ولا نأمة أو همسة أو كلمة , صمت المغنّي وأختنقت أغنيته .. كان مدهوشاً وحائراً , ولم يكن خائفاً .. يقول أبي : عندما دخلت البيت وفاجأتني تلك الوليمة لم افه بشيء ولم أفتح فمي بكلمة ,. وعندما مررت به لم يتحرك , لم يأبه لوجودي , لم يضطرب .. كان جالساً – وبحزن واضح – قرب الصندوق ينظر إليّ بعينين حائرتين مستفهمتين , وانا أجتاز مأدبته لأصعد للغرفة العلوية .. كان كل شيء هادئاًَ ساكناً في البيت , وكان الصمت يلفّنا ويجمعنا ويوحّدنا نحن الثلاثة : أنا وهو والحاكي ....

عبد المنان اسماعيل
10-05-2006, 12:02 PM
قصة قصيرة
وانطفأ القمر..
عبد المنان اسماعيل
لا أحد.. !
أطرقه مرات، ولا من مجيب.. أكرّر الطرق بشدة، فيتردد الصدى في قنطرة الدار، يعود بالخيبة مرة إثر أخرى... أهز الباب بقوة محدثا ضجيجا تنفتح أثره ابواب الزقاق الخالية بيوته من نوافذ تمتص صمت الشارع الضيق، وتبدد غبار الايام الخوالي، تتزاحم رؤوس لصبايا واطفال وعجائز، ينظرون صوبي بدهشة وفضول، يتساءلون فينا بينهم... أستدرت نحوهم، فأشاحوا عني منكرين... خطوت تجاه أقربهم، امرأة في نهاية العقد السادس، تتشح بالسواد، كانت لاتزال تحدق فيّ بإمعان، صرت على مقربة منها، فأولتني ظهرا مقوسة، وولجت الدار تاركة بابه مواربا.
تخرج طفلة من الدار، تمسك بيدي، تجرني، فأستجيب لحركتها بلا تحسب، فأجدني في حوش الدار، والمرأة العجوز تلهث، تشير ان اتبعها، تدلف وأنا وراءها، كظل لا يملك ألا ان يتبع صاحبه الى حجرة واسعة، تظللها شجرة توت هرمة، مازلت اجد طعم ثمرتها الذي تذوقته في طفولتي... تومئ المرأة؛ ان اجلس... أستوي على بساط من حصير تفوح منه رائحة العفن، ترمي بوسادة أثقلها تقادم الزمن، وأيبسها غياب مرافق المتكئين.. أستندت عليها... تسعى إلي الطفلة بقدح ماء، وتقف ترقبني، وأنا أمتص سائله العذب.... تدب المرأة خارج الغرفة ... أحسست بالامان، وألفة قديمة تشدني للمكان، تنبري الطفلة:
- جدتي ذهبت لتحضر الشاي...
ثم تختفي من امامي... تتبخر في فضاء الغرفة، وأخالها تلتصق في سقفها العالي المقوس، مثل مهد معكوس ....
جدران الغرفة كالحة لا لون لها، ولا نوافذ، غير كوة صغيرة في اعلى الجدار المواجه لبابها الخشبي، الذي لم يكن صالحا لأن يغلق، على حافة الكوة المتآكلة، سلة صغيرة بيضوية الشكل، أعدت لحفظ التذكارات الصغيرة، وشهادات الميلاد، كانت تحجب الشعاع، وتشتته خيوطا مستقيمة، تدور بها ذرات الغبار، بحيوية كائنات دقيقة... الجدران عارية، جرداء من كل ما يرسخ الاحساس بالاستقرار والحياة، كصحراء قاحلة لانبت فيها، ولا ماء، الا بعض البقع الرطبة المنتفخة، الحبلى بالاسرار! ، ومسامير صدئة غائرة، والبارز منها، لا يتدلى منه شيء.
تدخل المرأة بالشاي، تضعه وتعتدل محدقة بي .... بين رشفة شاي وأخرى، أرقبها خلسة لأعيد تشكيل ملامحها قبل عقد من زمن، كنت محجورا به بين جدران التناسي، والخوف، بعيدا عن حراجة الموقف، وتداعياته المحزنة ... الندب والتجاعيد التي اراها تفترش وجهها الطيب، والحزن الذي أحاق بها، ربما هو من نتائج تلك التداعيات التي فررت منها، واعجب اذ تعاملني بطيبتها الراسخة واحسبني ضيفا غير مرغوب فيه، آتيا من بعيد مجهول يحمل أوزاره على كتفيه، متعب يبحث عن ملاذ يأنس به، يغسل أدران ماضيه المخجل في شطآنه النقية، ويفك عقد الذنب، والخوف، والضياع ....
أردت أن أنطق، فوجدتني كالجدار الذي اقابل ...؛ صمتا مطبقا، وخواء ميتا لا تحركه كل هناءات الحياة واحزانها...
سمعت صوتها الحانق يعتصرني:
- لقد عرفتك، وأنت هناك تطرق الباب.
في صمتها، رحت أنصت لأقسى النعوت، وأرذل الصفات، التي رغبت ان توصمني بها، لأطفئ بغليانها المي، وانفذ الى تساؤلاتي الملحة، لكن صمتها طال وامتدت نظراتها تطوقني ... علقت بصري فوق الجدران، أستنطق صحراءها الكالحة ... أتشبث برؤوس الشياطين الصدئة، ألقم أفواهها النتنة تعبي، وشقائي، وضياعي، لكي لا تفضحني وتفشي سري.... ليت المرأة تتكلم، فذلك أخف وطأة، واقل إيلاما من صمتها المحيّر، الذي تتضاءل إزاءه مرارات السنين؛ الكلمات تستشفها أذناي وتلقيها ما هيأت نفسي لتقبله، أما الصمت، فهو يعني مجابهة نفسي بكل ما اعرف، وليس بما يعرفه الآخرون فحسب، لذا أحسست براحة حينما صرخت، وألقت بوجهي لفافة أوراق مربوطة بشريط وردي باهت، أخذتها من السلة البيضوية، بعد ان ارتقت صندوقا خشبيا:
- اراك تجهد نفسك، وتتعلق بالجدران! عن أي شيء تبحث؟ عن الرسم الذي أتيتنا به؟ أم عن نوال؟ ام تراك اشتقت لأمك الطيبة التي لن تسمع طرقاتك مهما بذلت؟.
بذلت جهدا في تنظيم انفاسي المتلاحقة، لكني لم اجهد عند التنقيب في ذاكرتي التي أنعشها المكان، واعاد لها حلاوة تلك الايام الرتيبة، واحلامها البسيطة، وأيقظ تلك الحيوية والفتنة من غيبوبتها الطويلة.
كانت (هي) تقف في ذات الغرفة قرب صندوق خشبي، اعتليه انا، تعقص شعرها بشريط وردي، تمد ذراعيها النحيلتين بلوحة ملونة، يظهر فيها سيل القمر الفضي يغمر وسط اللوحة، تاركا العتمة تلف زواياها، فتسطبغ الازهار المتنوعة بالوان شهية مطفأة تحيط بها اغصان خضر منداة بندى الليل المتوهج بضوء القمر، فتبدو مثل طبق مزهر، يبيح الوانه بشهوة لا تقاوم ... كانت (هي) تضطجع بين الورود تحيط بها الاغصان، تنقط اريجها المميّز في حواسي، ترش نداها العبق فوق وجه القمر، تخضّله بفتنة لا توصف، ودعوة ملحّة للانغماس في مده الفضي ...
كان المد يتصاعد مع نبضات قلبي ... يغطيني ... أمد يدي ألتمس معونتها للهبوط .... تناولني كفا راعشة، وتبتسم لتخفي ارتباكها ..... المد يعلو... يعلو ... اهوي متشبثا بها فوق فراش عطر ...
يغرقنا المد، وهي وجلة ضعيفة يلجمها الخجل، وكنت فتيا ماخوذا بضوء القمر، ولما أعتدلت كان المد قد انحسر، وكانت نوال حزينة مرتعبة، والازهار ذابلة، والقمر قد افل وانطفأ، و.... كانت الدار خالية.

صالحة العراجي
10-05-2006, 06:27 PM
الأمنية الضائعة

كانت هي من حاكت بدايتها...تلك القصة ..حدث ذلك والربيع يبتسم ضاحكا ، يلمس الحقول بعصاه السحرية ..لتفتح الكائنات عينيها بعد سبات شتائي طويل ..تمتد الحقول على مدى البصر..من زجاج الحافلة يتأمل ذاك الاخضرار المتألق..ويستنشق ذاك العبير المعطر..يحرص دوما أن يجلس قرب النافذة كل صباح قبل أن يصل إلى مدرسة القرية النائية التي عين مدرسا فيها ولكن لمدة محددة فقط...رضي بذلك النصيب المؤقت.. وهل يملك فرصة الاختيار؟ الباب الوحيد الذي فتح أمامه. ..
منطويا كان البطل ..طبع هادئ وأفكار راكضة مسافرة في الآفاق. يداعبها نسيم ربيعي منعش ..هل تغدق عليه الحياة وتحقق له أمنيته الغالية ؟
ها هو الآن يتأبط أحلامه مستديرا كعادته مصوبا نظارته نحو الحقول المطرزة..
حطت الرحال في محطته المتعبة قادمة من أرض الرومانسية والحب. ..هل كانت تعرفه من قبل ؟ هل تعمدت يومها الجلوس بالقرب منه في الحافلة ؟ لم يكن من النوع الذي يتفرس في الوجوه ..جلس يومها في مكانه المعتاد..العطر يومها كان يتأرجح في الهواء بالقرب منه . ظنها حالمة مثله حينما لفتت انتباهه وبين أناملها قبضة من الورود. سحرته برقتها ..ولطفها.. باقة تضم البياض وسائر الألوان .امتزج عطرها بعطر الزهور ليتبدد في الهواء..اختلس النظر إليها..كانت فاتنة بخصلات شعرها المتموج ونظرتها الجريئة..يحاصره حسنها الفتان من كل الجهات... خيل إليه في لحظة من لحظاته الجنونية أنها تهمس له تلك الورود الناعمة .. حروفها ملونة مسكرة بعطرها الفواح ..وضعتها برفق بجانبها وأخرجت كتاب أشعار..هل كانت محبة للشعر؟ ؟ كتابها مفتوح أمامه وكأنها تدعوه للقراءة ..شاعر ما ، في لحظة شاعرية خطت أنامله ذات يوم :

يا نفس ما لك والأنين ؟
تتألمين وتؤلمين
عذبت قلبي بالحنين
وكتمته ما تقصدين

حاول أن يفتش في ذاكرته عن اسم الشاعر لكنه لم يتمكن ..لقد سلبته القدرة على التفكير..لا يهم ..الأهم أنّ لهذه الكلمات سحر عجيب .....لكل طريقته في استقبال فصل الجمال...لم تكتف برسم ديكور الورود ولا بالشعر بل تعمدت في تلك اللحظة أن تسقط الكتاب ليرفعه إليها بحركة آلية سريعة .
.تهمس بصوت ناعم :
- عفوا لم أقصد.
.ولم تضف حرفا واحدا ليبقى ذلك الصوت نغمة موسيقية في أذنه...بارعة كانت في رسم الديكورات ورسم اللوحات التجريدية الغامضة...تكرر السيناريو .وتكرر ذاك اللقاء الشاعري مرات ومرات.. كل الزهور الجميلة ارتسمت في عينيها الساحرتين.
يتجرأ ويسألها : من هواة الشعر ؟
تجيب : الشعرهوالحلم الهامس في أذني..هو العبق الذي يسري في أعماقي.
كان هذا كافيا لتتربع ملكة ومالكة لقلبه .
لم ير منها سوى ذلك الجانب الروحي الشفاف الموحي برقة حالمة. نظر إليها منبهرا..
انعكس ضوء الشمس في مقلتيها فأضفى عليهما بريقا وهاجا ...عبثت نسائم الربيع بشعرها المسترسل على كتفيها فطار بعضه في الهواء ليستقر به المطاف فوق وجهها الوضاء...
أدار وجهه ليطل من النافذة ....لم ير سوى تقاسيم وجهها مرسوما فوق الورود...لم يعد قلبه ينبض للربيع وحده...ثمة ربيع آخر يزهو بداخله ..
هذا القلب الذي طار من بين ضلوعه حينما صعدت الحافلة ذات يوم ولم تنظر إليه ولم تعره اهتماما..
ببرودة عجيبة أسدلت الستار عن قصة لم يكتب لها أن تعيش طويلا.
يسكنه الشرود والذهول..سقط مشدوها من قمة السعادة ليجد نفسه يلج باب اليأس والقنوط..
تقوده قدماه خارج البيت فيحضنه الليل وأفكاره المتعبة.. يسير وسط الظلام ..ظلام سرمدي...تؤلمه فكرة الفراق..تترك في نفسه حسرات مريرة.الأزقة الملتوية تشعره بالدوار. ريح عابثة تلف حوله .. تدفعه دفعا خفيفا من الخلف. البيوت نائمة بل المدينة كلها تغط في نوم عميق. لولا الإحباط الذي يحطم آماله لشعر بسعادة لا توصف كونه الحي الوحيد وسط هذه المقبرة العظيمة ..وهل النوم إلا الموت المؤجل...
يسير حاملا في راحة يده أحلاما مندثرة تهدد بالانتحار..الفراق يدمي قلبه .
- أنت جميل ورقيق يا فؤاد ولكن إمكانياتك محدودة .
وقف مذهولا أمام هذا الاعتراف المفاجئ. لتواصل هي : هب أنني انتظرتك كم سيلزمك من وقت لتكون نفسك .
كان يقف على شفا بركان غاضب ..تماسك ليسأل : هناك شخص آخر ؟
تقول بفتور: إن شئت الصراحة نعم. ولو كنت تحمل لي في نفسك ذرة من حب لتمنيت سعادتي.
- ألست أنت من اقتحمت حياتي وفتحت أمام عيني كلّ دفاتر الأشعار؟
- بلى.
- ألست من قلبت حياتي رأسا على عقب وكأنك الإعصار؟
- بلى أعترف... كنت تعجبني ...
- إذن ؟ كنت تعرفينني ..ولم تمانعي ..لم أخدعك بالوعود الكاذبة ...والأماني المتألقة..
ألست القائلة : الأمور المادية ليست مهمة .الأهم هو التوافق الروحي والحب الصادق ؟
- آه يا فؤاد كان ذلك أحلام طالبة في الجامعة ...لكنني حينما نزلت لأرضية الواقع هالني ما رأيت. أتعرف ليلى؟ لقد امتدت خطوبتها لسنوات طوال ليستأجروا بيتا في آخر المطاف. الحب يا فؤاد لا يعيش إلا في الأغاني وكتب الحالمين .أما في الواقع سرعان ما يلتهمه الفقر ليصير شبحا مخيفا يتوارى في الظل.
- أهذا موقفك النهائي ؟
- للأسف ليس لي غيره . اعذرني يا فؤاد .
تركها ومضى لحال سبيله ، كان لديه بعض الأمل أن تراجع نفسها وتغير موقفها وتأتي إليه معتذرة..انتظر طويلا ولم تفعل. ذكراها نار مضطرمة بداخله
صودرت أحلامه...استحالت فجأة إلى مجرد هوى يائس .. آثرت من اختارها قلبه البعاد.
ظن ذلك الجدال السخيف مجرد مشاحنة سرعان ما تمر لكنها كانت جادة.
هل أحبّها فعلا أم أحبّ الحبّ الذي ربطه بها. إنه التحليل المنطقي لما وقع له ..تعجبه الفكرة لم يحبّها بل أحبّ حبّها..أمل خافت ينبض بين جوانحه . هذا المنطق سيطفئ كل النيران. كان دوما يحلم بحب نقي يسحق الماديات ويرفرف في سماء الكفاف...ولكن يغيب قيس ويموت حبه العذري إلى الأبد...
..جرح نازف..شعور بالخيبة والفشل.
بحركة غاضبة يشعل سيجارة أخرى ...تبا .... يشك أن يكون في هذا الزمن حب حقيقي...كل شىء زائف ..مزيفة كانت من الداخل والخارج. لماذا سمح لنفسه الانقياد وراءها ؟ يتمنى في هذه اللحظة لو يمحوها من ذاكرته...خائنة..لا تستحق سوى الاحتقار... لم تتردد.. ولم تندم.. ولم تشفق عليه .. أخرجته من قصر الأحلام دون سابق إنذار.. وهو كالمغفل لم ينتبه لما كانت تخطط له .. حبها للمال أعمى قلبها و كان أن باعته رخيصا مقابل دراهم معدودات.. لا ريب أنه أحبها بعمق.. بصدق لكنها أحبته على مضض لم يكن لديها غيره في الساحة فاستغلت الفرصة لتستبدله كما نستبدل ثوبا بثوب آخر.. مخطئة إن كانت تظن أنه سيذرف على فراقها دموعا.. مخطئة إن ظنت أنه لن يحب غيرها وسيعيش لذكراها...يشعل السجارة الثالثة ..هل عاد مدمنا كما كان مسلوب الإرادة ؟
هكذا كانت تحدثه نفسه وهو يسير وحيدا وأفكاره المشتتة...هل سيستسلم للكآبة تغزو خاطره ؟ هل سيستسلم للإحباط ؟ فجأة ينتبه ليجد نفسه في طريق ضيقة والظلام من حوله..خيل إليه أنه يسمع وقع أقدام تقتفي خطواته...يختلس النظر ..اثنان يسيران وراءه...أكمل طريقه مطمئنا...لم يكن يحمل شيئا ذا قيمة....ولكن بسرعة البرق وجد نفسه مطوقا من الخلف...هيا – يقول أحدهم- أخرج مافي جيوبك..
يجيب بصعوبة شديدة : والله لا أحمل شيئا...
يفتشه أحدهم..لا شىء..انتقموا منه بضربات وركلات ...طرحوه أرضا ومضوا...
نهض بصعوبة بالغة...تبا...غير وجهته عائدا إلى البيت...
يفاجئه صوت ملائكي يدعو لصلاة الفجر.. لقد قادته خطواته إلى مسجد الحي دون أن ينتبه..يشعر لأول مرة بفراغ روحي رهيب ، ظمأ لا يرويه إلا ماء الوضوء .. منذ متى لم يسجد لخالق الكون .. هو الخيط الوحيد الذي لا ينقطع ، يشعر بشوق غريب نحو المسجد.كم دامت غفلته ؟ يتجه إلى مكان الوضوء...سعادة غامرة تملأ روحه..يتجه للصلاة..أخيرا يجد نفسه.

مجدي محمود جعفر
10-05-2006, 11:00 PM
الأستاذ
نص قصصي بقلم / مجدي محمود جعفر
(1 )

على جرف نهر صغير ، تحت شجرة صفصاف ، والشمس تنحدر صوب الغرب ، وتبدو من خلف أشجار النخيل الباسقات ، الواقفات على الشط المقابل ، ككرة مائلة حمراء ، تعكس كل ألوان " قوس قزح " يجلس رجل ، مرتديا نظارة طبية سميكة ، يسند ظهره إلى جذع شجرة الصفصاف ، ويمدد ساقيه ، ويمسك بكلتا يديه كتابا ضخما .

يقتحم عبدالله النهرى خلوته :

- السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

لم يرد الرجل السلام
عبدالله مكررا :

- السلام والتحية لأستاذنا .

لم يرد الرجل السلام ولا التحية .

عبدالله رافعا صوته ظنا منه أن الأستاذ به صمم :

- السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الأستاذ ناظراً له بطرف عينه من خلف النظارة ، وبحسم :

= احترم جلستى مع الكتاب .

عبدالله :

- أسف ، أسف يا أستاذ .

الرجل " مشيرا بيده " :

= الزم الصمت ؟!.. يمكنك أن تنتظر أو لترحل !

[ عبدالله منسحبا للخلف ، وجالسا على بعد خطوات منه ، ومنشغلا عنه بالنظر إلى الشمس المائلة ، وأشجار النخيل على الشط المقابل ، وماء الترعة المنساب برقة ، والخضرة المفروشة على مرمى البصر ، وبالفلاحين العائدين من الحقول ، يمتطون الحمير ، ويسحبون البهائم ، ولا يلقون بالسلام على الأستاذ المتوحد مع الكتاب ، احتراماً لخلوته ، وعلاقته الحميمة بالكتاب ، فأجلهم ، وأكبرهم فى نفسه .

تُرى ما هذا الكتاب الذى استحوذ على عقل ووجدان وحواس الأستاذ ؟! .

عبثا يحاول أن يلقط إسم الكتاب ، أو اسم مؤلفه ، فربما معرفة عنوان الكتاب أو اسم مؤلفه – يدخله إلى العالم الذى يعيش فيه الأستاذ – العالم الذى شغل الأستاذ عنه وعن كل ما حوله .

راح يتأمل ذقن الأستاذ النابتة ، وجلبابه المتسخ ، وشعره الأكرت الهائش ، والشعر الأبيض الذى غزا ذقنه ورأسه ، وتساءل فى نفسه :

- منذ متى لم يحلق الأستاذ ذقنه ويهذب شعره ؟

ومنذ متى لم يغسل جلبابه ؟

ينحسر الجلباب المتسخ ، والمهترئ عن جزء من ساقه ، فيرى أن الساق قد امتلأت بالدمامل ، والبثور ، وآثار الأظافر من دم فاسد ، وخطوط حمراء ، وبقع سمراء .

راح يقرن فى ذهنه بين ما كان عليه الأستاذ – وما آل إليه حاله ، يحاول أن يجمع ما قد تناثر إلى سمعه عنه من الذين يعرفونه ، وخاصة رئيس التحرير .

هل هذا هو مدرس الفلسفة ، الذى ورث عن أبيه ، أغنى أغنياء المنطقة ، عشرات الأفدنة ؟!..

هل هذا هو مدرس الفلسفة – الذى لم يعمل بالتربية والتعليم غير أسبوع ، ودخل الفصل لأول مرة ، مرتديا جلبابا أبيض نظيفاً ، فضفاضا ، ومنتعلا " بلغة " بنية خفيفة ، يفوح منه العطر الباريسى ، ضاربا عرض الحائط بالتقاليد والأعراف المدرسية ، لاعنا فى أول يوم .. الوكيل ، والناظر ، والموجه ، ومستشار الفلسفة ، وممزقا الكتاب المدرسى ، ولاعنا المنهج ، والقولبة ، والحجر على العقول ، والتعليم فى حجرات مغلقة ، والأسوار حول المدرسة ، وكان أول مدرس يفاجئ الجميع ، بالقفز من شباك الفصل أمام الطلاب ، ومن فوق السور العالى ، الذى يلف المدرسة ، ولم يدخل بعدها المدرسة أبدا .

الشمس كرة صغيرة فى الأفق ، والأستاذ يمد يده " يهرش " ساقه بقسوة ، تسرى رعدة خفيفة فى جسد عبدالله وهو يرى القيح والدم الفاسد .

ومازال الأستاذ مشغولا بالكتاب لا يشعر بوجود عبدالله ولا حتى بساقه التى تنز الدم و المدة ".

خطر ببال عبدالله أن يتمرد ، أن يلفت انتباه الأستاذ إلى وجوده .

أمسك ببعض الأحجار ، وراح يلقى حجرا تلو حجر فى ماء الترعة ، ارتطام الأحجار بالماء تحدث ضوضاء وجلبة ، وتصنع دوائر تلو دوائر ، تتداخل ، وتتسع ، وتضيق .

ولما لم ينتبه الأستاذ ، فكر للحظة – أن يلقى بالحجر فى رأس الأستاذ .

راقته الفكرة ، لم يفكر فى النتائج ، ولا العواقب ، أمسك ببعض الحصى ، انتقى حصاة صغيرة بحجم حبة الفول ، قلبها بين إصبعيه ، تأملها ، نظر إلى رأس الأستاذ ،وصوب الحصاة واستقرت فى شعر الأستاذ ، ولما لم ينتبه قال فى نفسه وهو يمسك بحصاة أخرى أكبر حجما :

- على أن أزيد من قوة الدفع ، وأبعد قليلا عن شعره ، فهذا الشعر الكثيف الهائش مثل صوف الغنمات ، قادر على حماية فروة رأسه .

تخير إخدودا بين عرقى القفا ، صوب ، ولكنه أخطأ ، وارتطمت الحصاة بجذع شجرة الصفصاف ولم تحدث أثرا يذكر .

... كانت الشمس قد اختفت تماما ، والأستاذ طوى الكتاب ، ووضعه إلى جواره ، وراح ينظر إلى نجمة تبزغ فى السماء .

قال عبدالله فى نفسه :

- إذا خاطبته الأن سيثور ويقول لى : احترم صمتى ؟!

راع عبدالله فى تلك " الغبشة " ، منظر أنف الأستاذ وأذناه ، وقال فى نفسه :

- ما بال أنف الأستاذ طويل ممتد ، وفتحتاه واسعتان مثل طاقتى فرن ، وأذناه طويلتان ، كبيرتان ، مثل أذنى حمار !!

.. حدثه رئيس التحرير عن علاقة الأستاذ بالناصريين ، والشيوعيين والساداتيين ، والإخوان المسلمين ، عن علاقته بإسرائيل كأول من قام بالتطبيع مع العدو !!

عن محاولاته فى الرواية والمسرحية ، وإنشاءه لفرقة مسرحية ، عن بيعه لأرض أبيه فدانا وراء فدان .. عن نزقه ، وطيشه ، ومغامراته .

عن السنوات التى قضاها خلف القضبان ، عن.. وعن ..

.. ينظر عبدالله الى الأستاذ الذى نهض فجأة ، ونزع جلبابه ، فبدا فى ملبوساته الداخلية ، فارعا ، مشدود القوام ، رغم تجاوزه الستين ، تمطع ، وفرد ذراعيه ، وثناهما ، فبرزت عضلاته وبدت ككرة جلدية منتفخة ، ثنى جذعه يمينا ويسارا ، حرك ساقيه ، جرى فى المكان ، مارس بعض التمارين الرياضية ، وفوجئ عبدالله به . يخلع ملبوساته الداخلية ، وبدا له عاريا تماما ، وقفز الى الترعة ، يفرق الماء بكلتا يديه ، وكسمكة كبيرة راح يسبح فى الماء .

فكر عبدالله أن يسرق ملابسه ، ويتابع من بعيد آثار اختفائها ، وكيف سيتصرف ؟!.. ويرصد بالكاميرا والقلم رد الفعل عنده ، ولكنه تراجع عن هذه الفكرة الصبيانية .

" وضحك "

- لو كانت امرأة أو صبية لفعلتها !.. وقد سبقني امرؤ القيس !.

يخرج الرجل من الماء ، ماسحا بيده رذاذ الماء المتبقى على جسمه ، ونافضا ما علق بشعره ، ويرتدى ملابسه،

ويقف متمتما بكلمات ، ثم رافعا يده لأعلى ، ورافعا صوته : الله أكبر ، ويشرع في الصلاة .

أطال في الركوع وفي السجود .

يقول عبد الله في نفسة :

ـ هذا الشيوعي القديم الذى جهر للناس ، بإلحاده ، يصلي ! نقل له رئيس التحرير ، الذى زامله ، ورافقة طويلا ، أنه ما صام ولا صلي ، وأول مرة دخل فيها المسجد ، يوم أن خطب ابنه الشيخ ، كبير الإخوان في الناحية .

يصغي عبدالله إلى دعائه ، وتبتله ، وتقربه ، إلى بكائه ، ودموعه التي تنهر . كم من الوقت مر عليه وهو يصلي ؟.. ساعة ، ساعتين ، لا يدرى . ولما فرغ من الصلاة ، عاجله عبد الله بمد يده قائلا له :

ـ تقبل الله يا أستاذ .

احتضن الأستاذ يده وقال :

= تقبل الله منا ومنك

وملتفتا إليه :

= من أنت ؟!

- عبد الله النهرى .

= من أمك ؟

عبد الله ضاحكا :

ـ ولماذا أمي

= ألست بلدياتي ؟!

ـ نعم

= إذن قل لي من أمك ـ أقل لك من أنت !

عبد الله ضاحكا :

ـ صدقت يا أستاذ !

عموما أمي سيدة طيبة ، ابنه رجل طيب ، فأمي هي فلانة ، بنت فلان ..، ولا أعرف أكثر من هذا !! .. أما نسبي لأبى ، أستطيع أن أصل معك به إلي الجد العاشر .

الأستاذ ناهضا :

= هيا ، انهض معي ، فأنتم جيل مقطوع الصلة ، فيما مضي كانت شجرة الأنساب مهمة .

ومتأبطا ذراع عبد الله

عبد الله :

- إلى أين ؟!

= أشعر بالجوع . قل لي ماذا تريد أن تأكل ؟

- وما أدراك أنني جوعان ؟!

= انتظرتني ما يقرب من ست ساعات .

ـ إذن كنت تشعر بوجودى ، ولم تعرني اهتماما .

= أدركت أنك فنان .

ـ كان هذا أدعي أن تهتم بي ، وتوليني الاهتمام .

= طبعا لا تكتب الشعر .

ـ وما الذى جعلك تجزم بهذا ؟

= الشاعر قلق بطبعة ، ولا يطيق الانتظار .

ـ وماذا تراني أكتب ؟

= الرواية أو المسرحية ، هذا يحتاج إلى دأب ، وصبر وأناة .

ـ أحترم ذكائك، وأقدر فراستك ، ولكنني جئتك كصحفي حيث أنني ..

= أوشكنا علي دخول العزبة ، قل لي ماذا تريد أن تأكل ؟

ـ الموجود يا أستاذ . ولكن الجريدة التي أعمل بها .. كلفني رئيس التحرير ..

= كل شي موجود !

ـ ربنا يزيدك ، ويوسع عليك يا أستاذ ، لكن التحقيق الذى يريده رئيسي ..

الأستاذ مشيرا إلي أول دار بالعزبة

= أهل هذه الدار يطبخون ملوخية بالأرانب ، هل تحب الملوخية بالأرانب ؟

عبد الله " مستغربا " :

ـ في الحقيقة يا أستاذ ـ أنا أكره منظر الأرانب بعد ذبحها وسلخها ، فتبدو لي مثل الأطفال !

= إذن في هذه الدار

" ويسحب شهيقا "

= لحم بط بلدى " ومحشي " ورق عنب .

" عبد الله متعمدا أن يسير بالأستاذ أطول فترة ممكنة ، ليتأكد مما جال بخاطره للحظة ، وهو يتأمل أنف الأستاذ ، وأذناه ، خاطر ومض في رأسه كالبرق الخاطف "

ـ والله يا أستاذ أنا لا احب لحم البط .

= باذنجان مقلي

= عدس

= طعمية

= فطير

- القولون .. القولون يا أستاذ

= لا بأس .. ألف لا بأس .. إنه داء العظماء ! ، علينا إذن بالبحث عن المسلوق .

" يستنشق بعمق ، يضجر قليلا .."

= رائحة السمك تطغى ، وتنتشر فى هذه الدار .

ورغم رائحة السمك الزاعقة ، أشم رائحة فراخ ولحم مسلوق .

" يقف أمام الدار ، يصفق ، ينادى .."

صوت امرأة من داخل الدار :

ـ - ادخل يا أستاذ تمام .

= معي ضيف

ـ - علي الرحب والسعة .

= أين زوجك يا بت ؟

ـ - راقد في السرير

= كنت أعلم أن نهايته الرقود في السرير !

ـ - تفضل في " المندرة " يا أستاذ تمام .

علشان خاطر الأستاذ .

= الأستاذ ليس غريبا .

المرأة الشابة ناظرة لعبد الله !

ـ - نورت العزبة يا أستاذ .

ـ منورة بأهلها .

" الأستاذ تمام دافعا باب الغرفة ، ينهض الرجل الراقد تحت البطانية ببطء ، يتفرس الأستاذ في وجه الرجل الأصفر الباهت ، يمسح له عرقه الذى يشر بفوطة قديمة ، ملقاة بجواره علي السرير "

الأستاذ تمام ضاحكا :

= وهذه أخرة الشقاوة

" وناظرا إلى المرأة الشابة "

" المرأة الشابة مدارية وجهها بطرف من طرحتها السوداء وقائلة بخجل :

ـ يوه بقي يا أستاذ تمام ، ما هو اللي عايز كده ، وياما نصحته ، هو في أحسن من .. هيء هيء .. هيء هيء ..

الأستاذ تمام ناظرا للرجل :

= إياك تكون اعتبرت . هل نظرت في المرآة ، ورأيت كيف هزلت ، وأصبحت مثل عود الحطب أو عود القصب الممصوص ..

الرجل وهو ينهج ويكح :

* خلاص .. توبة من بعد النوبة .. أرجع للحاجات دى تاني ، منه لله عبده البقال ، وسعيد الحلاق .

المرأة الشابة :

ـ - عندنا سمك يستاهل بقك يا أستاذ تمام أنت والأستاذ .

= أنا ضعيف قدام السمك . أما الأستاذ مالوش في السمك .

ـ - خير ربنا كتير ، عندنا لحمة ، وفراخ ، ورز ومرقة .

= خلاص .. الأستاذ يأكل لحمة وفراخ مع العجل اللي وقع ده وأنا أكل معاكم سمك .

ـ - ما خلاص بقى يا أستاذ تمام . الرجل قال لك توبة بعد النوبة ..

= بالذمة يا له ما هي اللي كانت بتشجعك ؟

" هي منسحبة ، تاركة خلفها ضحكة طويلة ، ممطوطة ، مسرسعة "

الرجل :

* كفاية تأنيب يا أستاذ تمام ، أنا شفت الموت . لولا ستر ربنا ..

الأستاذ تمام :

= المهم أن الراجل الجدع ، هو اللي يراجع نفسه ، ويحاسبها ، وما يعودشي للغلط تاني .

" وما كاد الأطفال العائدون من الشارع يسمعون صوت الأستاذ تمام ، حتى عدوا نحوه ، وفي صوت واحد :

ـ جدو تمام .. جدو تمام ..

يتلقفهم بين ذراعيه واحدا تلو آخر ، ويغمرهم بالقبلات . فيما كان عبد الله " يزر " عينيه ، ويركز بصره علي مشهد الأستاذ الذى يحتضن الأطفال ، ثم ينقل بصرة إلى الرجل الراقد علي السرير يئن ، والي المرأة الشابة االعفية التي تغدو أمامهم وتروح حاملة حللا وملاعق وأطباقا ، ويفكر في ذلك الشيء الذى يتنافس علي بيعة عبده البقال ، وسعيد الحلاق لأهل العزبة الغلابة ، ولا يدرى ـ لماذا ـ بدا له أنف الأستاذ علي ضوء المصباح أكبر بكثير مما تصور !"



( 2 )

" الأستاذ تمام متأبطا ذراع عبد الله ، وقد غادرا شوارع العزبة تماما .."

عبد الله :

ـ إلى أين ؟

= لا تسلني عن شئ ؟!

ـ لكنني جئت مخصوصا لأحاورك وأسألك .

= السؤال لغير الله مذله .

ـ عموما سأصبر حتى النهاية .

= لن تستطيع معي صبرا .

- سأصبر حتى أرى الكرامات .

= أقالوا عني وليا ؟!

عبد الله ضاحكا :

ـ بل قالوا : شيوعيا ، ثم ناصريا ، فساداتيا ، و ...

" ومحاولا أن يستفزه ، ويجره إلى الحديث " :

ـ وقالوا : أنك أول من قمت بالتطبيع مع إسرائيل !!..

والرجل الغلبان الراقد في فراشه يصارع الموت . بسبب التطبيع .

" الأستاذ تمام نافخا ، وهازاً رأسه ، ومتوقفا عن السير ، ولازماً الصمت ، وناظراً في اتجاه أشجار كثيفة على بعد أمتار من جانب الطريق .

يبحلق عبد الله في الظلام ، مركزا نظره في الناحية التي ينظر إليها الأستاذ .. بصعوبة يرى شواهد قبور ، يسير الأستاذ ناحية المقابر ، وعبد الله في أثره .

يقف الأستاذ أمام أحد المقابر في جلال وخشوع .

وقع في قلب عبد الله وهو يرى القبر ينفتح ، وفي لحظة زمنية كالومضة ، يرى القبر كطاقة نور ، يتسع شيئا فشيئا ويصبح باتساع الكرة الأرضية . والأستاذ تمام سابحا في النور ، وامرأة حسناء ، ترتدى حلة خضراء ، يشع وجهها بالضوء الباهر ، تمسك رأسه بين يدها ، تهزه يمنه ويسرة ، وتبتسم ، وصوت قوى يتردد صداه في كل مكان .."

" وينتبه عبد الله فجأة علي صوت نحيب الأستاذ تمام ـ المتصلب أمام القبر ، تنهمر الدموع من عينه ، ولا يدرى عبد الله إن كانت الدموع التي تسقط من عيني الأستاذ قطرات وحل سوداء ، أم قطرات ضوء بيضاء ، وينسحب الأستاذ ، ويحس به عبد الله رشيقا ، خفيفا ، وكأنه تخلص من أحمال ثقيلة "

الأستاذ تمام :

= أمي !

عبد الله :

ـ رحمة الله عليها

الأستاذ تمام :

=جميلة وسعيدة .

عبد الله :

ـ أجمل من رأيت !

الأستاذ :

= الزم .. ولا تفصح !

عبد الله :

=حملك ثقيل

الأستاذ :

= سعيد بحمله

عبد الله :

ـ ينتقي الله قليلا من عباده ، الذين هم أهل للتلقي .

الأستاذ :

=المهم أن تجاهد .

عبدالله " متنهدا" :

- نجاهد ماذا .. ولا ماذا ؟!

الأستاذ " مرددا قول الشاعر :

= إبليس والدنيا والنفس والهوى ..

عبدالله " مقاطعا " :

- الخلاص . كيف الخلاص وكلهم أعدائي ؟!

الأستاذ :

= ابدأ ؟!

عبدالله :

- من أين أبدأ ؟

الأستاذ :

= كل الطرق تؤدى إليه إذا التزمت أوامره وتجنبت نواهيه .

عبدالله :

- دلنى على الطريق .

الأستاذ :

= اختر الطريق الذى يناسبك .

عبدالله :

- ولكنك .. اخترت الصعب .

الأستاذ :

= كل ميسر لما خلق له .

عبدالله :

- تنفذ من سم الخياط ، وتمشى على الماء ، وتطير فى الهواء .

الأستاذ :

= لا يغرنك !

عبدالله :

- ماذا أفعل ؟

الأستاذ :

= كابد وجاهد .

عبدالله :

- أنا محاصر ، الأسوار ، الدوائر الحمراء ، رئيس التحرير ، الزوجة ، الأولاد ،... ، الدائرة تضيق ، وتضيق ، أكاد .. ، ..

الأستاذ :

= لا تتذمر ، لا تشك ، افعل ؟

عبدالله :

- الكلمة سبقت الفعل .

الأستاذ :

= اجعلهما متلازمين .

عبدالله :

- اتسعت الهوة بينهما وتباعدت المسافات .

الأستاذ :

= عليك بنفسك .

[ يتوقف الأستاذ أمام " خص " على رأس غيط أذرة .. ]

ينطلق صوت من داخل الخص :

· ادخل يا أستاذ تمام أنت وضيفك .

الأستاذ تمام لعبد الله :

= لا تندهش يا عبدالله ، إنه رجل طيب ، سخر الله له الوحوش ، والطيور والثعابين ..

عبدالله :

- رفاعى !

الأستاذ :

= لكلٍ مقامه ومقاله.

[ الأستاذ داخلا ، ووراءه عبدالله ، يفزع عبد الله ]

الرجل متفرسا فى وجه عبدالله وقائلا له :

· اجلس ولا تخف ؟!

[ كلب وذئب يلعبان ، قط وفأر يتسامران ، أفاع وحيات تسعى ، بوم وغربان ، حمام وعصافير .. ]

الأستاذ تمام للرجل :

= عبدالله ..

الرجل " ناظرا لعبد الله " :

· جدتك لأمك كانت من الطيبات ، كان اسمها نفوس ، أليس كذلك ؟!

[ عبدالله محاولا ألا يظهر دهشته ]

- نعم .. هذا هو اسمها .

الرجل :

· جعل الله الشفاء بيدها ، بكلمات الله التامة ، من كل شيطان وهامة ، ومن كل عين لامة ..

الأستاذ تمام " متدخلا " :

= رحمها الله ، كانت من العارفات ، وكان لقلبها عيون ، رأت طريقي ، جرتنى أمى إليها وأنا فى زمن الطيش والرعونة .. آه لو أخذت بما قالت يومها ، لتجنبت الكثير من المطبات ، واختصرت الطريق .

الرجل :

· خطا مكتوبة ، لابد أن تخطوها ، وطريق مرسوم لا بد أن تسير عليه .

الأستاذ تمام :

= نعم .. نعم .. رحمة الله عليها ، الفاتحة لروحها .

[ الرجل متناولا " فردة " حذاء قديم ، ومطوحا بها فى الفراغ خارج الخص ] وقائلا بغضب :

· اغرب يالعين ؟!

ومتمتما بكلمات .

[ عبدالله مندهشا ، من عودة الحذاء الى مكانه ، ومن ثورة الرجل المباغتة ]

الرجل :

· شيطان لعين !

عبدالله محاولا أن يتماسك :

- طمأنك الله .

الأستاذ تمام هامسا لعبد الله :

= لا تأخذ كلامه مأخذ الهزل ، إنه رجل طيب .

الرجل :

· دعه يا أستاذ تمام .

عبدالله :

- أنا أحببتك والله ، وأثق فيك .

الرجل :

· أحب الله ، وثق فيه .

عبدالله :

- أرنى طريق ؟!

الرجل :

· لا أقدر على البوح .

عبدالله :

- ولو إشارات .

الرجل :

· وهل نتلقى يا ولدى غير إشارات ؟!

امض فيما أنت ماضٍ فيه ؟

عبدالله :

- أخشى أن يوردنى هذا الطريق الى التهلكة .

الرجل :

· لا تخش الأزمات ، ولا الهزائم ، ولا الانكسارات .

عبدالله :

- أحلامي كبيرة ..

الرجل :

· وعزيمتك كبيرة ..

عبدالله " مشيرا الى الأستاذ تمام " :

- أريده ..

الرجل مقاطعا :

· تمام مسير .

عبدالله :

- خاض نفس الطريق وفشل ..

الرجل :

· لا تتعجل فى الحكم يا ولدى .. من قال أنه فشل ؟

[ الأستاذ تمام متدخلاً ]

= عبدالله أصاب كبد الحقيقة .

الرجل :

· الحقيقة ، الحقيقة ، ومن عنده الحقيقة يا أهل الطريقة ؟

الأستاذ تمام :

= بمقياسهم فشلت .

الرجل :

· المقياس خاطئ .

عبدالله :

- الأستاذ تمام يستحق مكانا ، ومكانة ..

الرجل " مقاطعا " :

· ومن أدراك يا ولدى أنه ليس فى مكان أعلى مما تتصور ، تمام ارتفع ، وارتفع ، بقدر ما كابد وجاهد .

الأستاذ تمام للرجل :

= عبدالله أديب .

الرجل :

· أعرف أنه من أهل الكلام ، ومن أهل الفعل أيضا .

عبدالله :

- مازلت أتعثر فى البدايات .

الرجل :

· ثق فى نفسك .

[ الرجل مشيرا بيده ، ومتمتما بكلمات غير مفهومة . ]

فوجئ عبدالله بأفعى تحمل " منقدا " عليه أخشاب شبّت فيها ألسنة النار ، كاد أن يقع قلبه في رجليه ، لولا أن استحضر بعض شجاعة وثقة وتماسك ، والذئب يحمل " كيزان " أذرة فض غلافها ووضعها علي النار التي خمدت ، والطير يخفق بأجنحته علي النار .

يتناول الرجل ثمارات الذرة المشوية ، ويقدمها للأستاذ تمام ولعبد الله .."

الأستاذ تمام هامسا لعبد الله :

= هذا قطر من فيض غمر به الله هذا الرجل .

" الرجل ناهضا ببردته البالية ، ربت علي كتف الأستاذ تمام ، وشد علي يد عبد الله ، وفجأة اختفي .."

عبد الله " مندهشا " :

ـ أين ذهب ؟!

الأستاذ تمام :

ـ لا تسأل .

عبد الله " ناظرا حوله " :

ـ أين الأفاعي ، والحيات التي كانت تسعي ، والكلب الذى يداعب ذئبا ، والقط الذى يسامر فأرا و..و..

الأستاذ تمام :

=أرجو ألا تشقي بما رأيت .

عبد الله خارجا من الخص وناظرا إلى السماء :

ـ ( لا اله إلا أنت سبحانك )

الأستاذ تمام متأبطا ذراع عبد الله :

= قل لي .. فيما كنت تريدني ؟!

عبد الله :

ـ يخيل لي ، بل أكيد أنك تعرف . ألست من الذين كشف عنهم الحجاب ؟!

الأستاذ تمام :

= أين أنا يا ولدى من هؤلاء ؟ ..

إنهم صفوة ، يختارهم الله ، وأنا مازلت غارقا في الوحل والطين .

عبد الله ناظرا للأستاذ تمام :

ـ بل شفت نفسك ، ورقت ، وتخلصت من الطين .

الأستاذ تمام :

= تراه قريبا ونراه بعيدا .

عبد الله :

ألم تتلق إشارات من السماء ؟.. ألم تغمرك فيوضات ونفحات ..؟!

الأستاذ تمام :

= مازلت غير قادر علي تلقي النفحات ، مازال جهاز الاستقبال عندى ..

عبد الله :

ـ يبدو أنني سأشقى بما رأيت إلي الأبد .

الأستاذ تمام :

= الأصل .. الكدح والمشقة ، المهم البلوغ .

عبد الله :

ـ وكيف البلوغ .. وأنا ..

أطلعني علي ما دونته يا أستاذ .. من مشاهدات ، ومكابدات ..

الأستاذ :

= لم أدون بعد ..

عبد الله :

ـ كيف ، ورئيس التحرير أخبرني ..

الأستاذ مقاطعا :

= ما أحلم بكتابته ، لم أكتبة بعد ، وما أتمناه ..

عبدالله :

- ومتى تقول كلمتك يا أستاذ ؟!

الأستاذ:

= أنا أحتشد لها .

عبدالله :

- عدنى أن أكون أول من يطلع عليها بعد الله ..

الأستاذ :

= لا أعدك .

عبدالله :

- هل كنت تدرى أننى ورئيس التحرير ..

الأستاذ " مقاطعا " :

= ألهمنى الله .

عبدالله :

- حتى لو عرفت ..

الأستاذ رابتا على يده :

= لا تهتك يا ولدى ما ستره الله

عبدالله " منحنيا على يده ليقبلها .

- خذنى تابعا لك يا أستاذ ؟

الأستاذ :

= اتبع الله يا ولدى ؟

عبدالله :

- رئيس التحرير ..

الأستاذ :

= اتبع الله يا ولدى 0

الصديق بودوارة
13-05-2006, 06:23 PM
(1)
أنياب الشر

كنا صغاراً نبتسم للريح عندما اخبرنا معلم المدرسة إن الشر غول كبير يملك ألف ناب قاطع وانه التقى ذات مرة بالخير :

ـ صباح الخير أيها الشر .. نهار جميل .. أليس كذلك ؟

لكن الشر رد التحية على طريقته .. نهش يد الخير وقضم جزءًا من ساعده الأيمن :

ـ هذا لا يهم .. أتمنى أن يهديك الله إلى طريق الصواب أيها الشر .

عاد الشر فنهش اليد اليسرى للخير وظل يلعق دمائه بمتعة لا توصف :

ـ سامحك الله أيها الشر .. لعلنا نصبح أصدقاءً ذات يوم .

كنا صغاراً نبتسم للريح عندما صرخنا بوجه معلمنا الطيب (( يا لهذا الخير الجبان )) وعندما اصبحنا كهولاً تملأنا التجاعيد .. صرنا نتكئ على سور خيبتنا العظيم ونهمس بوهن :

ـ صباح الخير أيها الشر .. نهار جميل .. أليس كذلك ؟

( 2 )
ماشى الحال

ولدت (( ماشى الحال ))
في الواقع لم تولد بهذا الاسم لكنهم اعتبروها منحة متواضعة من السماء فقبلوا المنحة لمجرد الحفاظ على حسن الجوار مع القضاء والقدر واختاروا لها هذا الاسم بالذات لأنهم أرادوا أن يبعثوا لخالقها رسالةً مهمة مفادها إنهم قبلوا بها (( على مضض .))
فى الواقع اجتمعت القبيلة وفاضلت طويلاً بين الاسمين .. (( ماشى الحال )) و (( على مضض )) وفى النهاية انتصر التفاؤل ونامت الوليدة باسمها الغريب :

ـ موش مهم .. ربما يتحسن الحال في المرة القادمة .

تمتم والدها وخيبة الأمل تجعل من تنفسه مهمة صعبة ..
وكبرت (( ماشى الحال )) ..
كانت مبهجة كزهرة برية .. طازجة كغابة بكر .. جميلة كشمس تغسل جسدها في أقصى الأفق .. ونضجت البنت .. كبرت واستدارت مفاتنها .. ومجدداً اجتمعت القبيلة والخجل يغسل الجباه :

ـ ماشى الحال لم تعد كذلك .. اصبحت (( عورة )) وينبغي لنا أن نستر العورات

إلى الآن لا زالت القبيلة تجتمع .. يتنادى الأشاوس .. ويصل الفرسان على صهوات جيادهم .. يمسحون الشرف المتساقط على الجباه الشامخة وينشدون قصائد الفخر .. ويبحثون عن حلٍ مناسب يستر عورتهم .. تلك المبهجة كزهرة برية .. الطازجة كغابةٍ بكر !!

( 3 )
المنديل

تأخر ((المنديل )) ..
تأخر كثيراً حتى ان عرق الخجل غسل جباه شيوخ القبيلة فلمعت من بعيد كسيوفٍ صقيلة ..
(( انفرد ابن الحرام هذا بعروسه منذ ساعتين دون ان يرسل الينا بالمنديل ))
همس شيخ القبيلة لأقرب عمامة اليه .. فردت العمامة بشجن لا مثيل له :

(( أكاد أذوب خجلاً .. ترادونى الشكوك وتمزقنى الهواجس .. شرف القبيلة فى خطر يا شيخ الشيوخ ))

تضاءل شيخ الشيوخ .. اصبح نقطة فى بحر خجله العارم وكلما مر الوقت كانت العمائم الكبيرة تقترب وتتباعد وكان الصمت يحيا ويموت وكان الخجل لا يتوقف عن التناسل فى الصدور .. (( لنصنع شيئاً .. لا شرف بلا منديل ))
اجتاحت القبيلة دار العريس .. قتلت العروسين النائمين كزوجى حمام ومسحت بقع العار المتبقى بالمنديل !!

(4)
نقابة الذباب

استيقظت النحلة المجتهدة واتجهت إلى حقل الزهور المترع بالرحيق ..

ـ لا استسيغ هذا الطعم .. وكأنه فاسدٌ هذا الرحيق .

أصبح العسل فاسداً .. وتحولت الخلية بأكملها إلى إناء من الفساد الذي يرتدى عباءة العسل .. وصار العسل سلعةً رخيصة وتحولت النحلة إلى عضو مجتهد في نقابة الذباب !!

( 5 )
الاعلان

كانت البقرة مدللةً كفتاة إعلان ..
تكاد تغرق في زحمة الورود ومذاق العشب الطري .. بينما تراصفت بجانبها مكعبات الزبدة الشهية .. تنهد الفقير وتأوهت زوجته :

ـ لو تصبح ثوراً هناك .
ـ لو تصبحين بقرة هناك .

نام الفقيران .. كانت أبواب الدعاء مفتوحة تلك اللحظة فتحققت الأمنية ولكن حدث خطأ بسيط .. سقطت ( هناك ) من الدعوة الحارة ..
أصبح الفقير ثوراً .. وزوجته بقرة ولكن .. ( هنا ) ..
هما الآن يغرقان في زحمة أكياس القمامة ويتنهدان بلا توقف !!

فارس الغلب
14-05-2006, 10:12 AM
قصة قصيرة
العُتُلّ
فارس الغلب /العراق

غنمت الشمس أعطاف الليل الشارد، أقطعته ظلالاً للأشياء، أيقظت القرية الغافية في السوح .كانت القرية ترفو إبط الوادي بخيوط الصبح قبالة شاهد الهضبة المهيب ، سرب قطا ينجعف فجأة إزاء ملكوت النور ، قطيطة تتمطى لوقع أنامل حلم مغمضة العينين. كانت القرية حقا تنساق إلى ذات الحلم الساذج أوان يقظتها منذ دهور. كان ضباب ينحسر عن قبتها ويلبسها كسوار ، دخان متطانب يخرت سطحها في أكثر من مكان ، يرسم فوقها سماء أخرى من دانتيل وعصافير. كانت القرية تشرع بواباتها لطراق الصحراء المتعبين. هكذا تبدت لهما القرية من علو الهضبة في آخر مستراح يفصلهما عنها. كانا يتقاسمان خاتمة إفطارات المزودة، بضع تمرات يابسات غزا تغضناتها الرمل، وغبوق بائت من أطايب الضروع. إنجذب الى فضاء مشحون بذاكرة الأمس حيث جارتهما أمه حين الوداع، حافية القدمين تنوء بثقل حنان أوغل في سرقتها الى بون حجب رؤية المضارب. قالت لهما وهي تقطر في اذنيهما وصايا ودعوات مجزوءة :"فئ من روحي يظل المسار .. إحرص على عروسك من أجلي .. عد إلي بخزاماي الندية .. حافظا على المزودة .. جملك زعوج سيوقعها .. خذيه الى جملك .. تغذيا جيداً .. لا طعام يضاهي التمر واللبن .. على هذا عاشت العرب". همزها بالمهماز حيث أنكبت بقامتها تعالج عناد عيدان العرفج الذاوية في الموقد الطارئ بهواء جاوز الحد الطبيعي لاحتياج رئتيها ، رفعت إليه وجهاً رقشه السخام، وعينين مترعتين بدمع كاذب ينتمي الى عاطفة الدخان المضطرب ، إهتزت صورتها أمامه، كتم ضحكة مستحقة فترك مهمازه يفك الاشتباك وينحرف صوب القرية لوضع أبلغ التفسيرات المقبولة حيال دهشتين غرتين.
قالت وهي تنقاد ببصرها الى حيث أشار.
_ حقا ما أبدع مرأى القرية من هذا العلو.
_ هذا الصباح..تلك التنانير المسجرة وهي تعانق السماء.
_ من ورائها تقف أكثر من عشرين فتاة رائعة تصليها بالأوار.
_ لأمثالهن تساق المهور.
_ هه.. مهور !
_ هل أخطأت القول ؟
_ الا نعدو أكثر من سلع تباع وتشترى.
_ لأننا نمعدنكن ذهباً في قلوبنا.
_ منافق. تبقى النساء أرجح في الميزان لأنهن..
_ بل الرجال لأنهم ..
_ فلنكن جلائب رحلتنا وسنرى من تعد على شكيمته النقود.
_ أخشى أن نؤخذ بالجد.
_ حسبنا إبلاغهم ما دار بيننا.
تعالى نداء سمسار القرية وقصابها الوحيد، او علبة الصفيح كما يحلو لصاحب القهوة ان ينعته أمام المنادين بتلبية طلباتهم من اقداح الشاي في ان قياسي عقب كل نوبة ينطفئ فيها صوته النشاز. كان يقول فيه ايضا :انه المتسبب الأكبر للصداع المتفشي في القرية.
- شاب قوي البنية مفتول العضلات بإمكانه العمل من الصباح الباكر حتى أفول آخر نجم في كبد السماء. أبدى جمهرة من الناس امتعاضهم الشديد من هكذا تجارة عزت حتى في مخيلة دببة الكهوف. البعض شرع يمحص الأخبار التي وردت القرية عن رواج النخاسه في ميادين قرى بعيدة لم تجد من يركنها على بيدر الصدق ، منهم من تمادى وشتم آذان السمسار غير الآبهة. سحابة الإنسانية تلك سرعان ما كفكفت ضروعها وانقشعت بمقدم تاجر القرية الجشع الذي بارك السمسار ، وأدار موجة الضمير إلى لعبة خرقاء تقافز معها الحديث فوق ملاعب الشفاه بلا مشاعر: لا فائدة ترجى من هذا البدوي الأبله.. الفتاة آية في الحسن .. الصحراء مفتوحة سيهرب في الغد ..لا يساوي درهما واحدا ..يخطئ في عد أزرار قميص ، ويحتاج إلى شهر بلياليه ليفهم جدوى رصفها على هيئة الشاقول. تحسس السمسار حبال حنجرته من الخارج. تحربى حيال وجوه طافحة بترقب حيواني ،حتى أن المعوزين ممن يذرعون الاسواق تحت مظلة الخيال ولا يشكلون لديه سوى ثآليل خبيثة في جسد السوق وجدوا في اعتبارهم المفاجئ شتيمة لا تخلو من لباقة . أنزل السمسار الفتى عن دكته ونادى الفتاة. أدرك الشاب حجم ورطته. قال:
- أيها السمسار أنزل الفتاة فالأمر كله مزحة.
- لا مزاح في البيع والشراء..هذا قانون السوق.
- إذن أنا زوجها ولن أبيع.
- وأنا لن أقبل بغير إتمام المزاد مادامت الفتاة فوق دكتي. عم هرج قطعه التاجر، نادى الفتى وهمس في أذنه.
- ايها البدوي لا تكسر قانون السوق دع السمسار يكمل المزاد وسأشتريها لك أطمئن الى النتائج، بمقدوري شراء القرية بساكنيها. ثم اشار إلى التاجر بمتابعة المزاد.سكنت كلمات التاجر يمنا باردا في صدر الفتى. عاد السمسار إلى إضطهاد المسامع بصوته الذي يشبه صوت دجاجة ادخلها صبيان عابثون في دائرة ملعبهم.
- حسناء تقرض الظباء من سحر عينيها..إحتطبت شعرها الأثيث من سواد الليل.. لم تفسد طماطم القرية خصرها المرصوص. كان من البدهي أن ترسو المزايدة على التاجر المزواج حقيقة هضمها الجميع وغابت عن الفتى . صرخ كيس من الذهب بين أقدام الفتى. صاح:
- أيها التاجر وعدتني بغير هذا..
- لم أعدك بشيء اسأل الحضور إن كانوا قد سمعوا أي وعد مما تزعم.
- من أين لهم أن يسمعوا إذا كنت قد همسته في أذني.
- السوق شطارة.
- ماذا تعني بربك.
- أعني إذا كنت قد ضللت طريق الصحراء فسيدلك رجالي إليه.
كانت الساحة تفرغ من ناسها وتكشف عن حراس التاجر المتمنطقين بالسلاح. جرجر التاجر الفتاة على رغم منها، وأشتبك الفتى مع الحراس بمعركة غير متكافئة أفقدته الوعي ، حين عاد إلى وعيه لم يسمع غير أنينه النابح على وتر الجروح والكدمات. تلفت فلم يجد غير راحلتيهما الباركتين جوار حائط مهدم هو كل ما تبقى من بيت مهجور ، وعجوز تستند على عصا جاوزت ضعف قامتها ، فشلت أمام الزمن في مساجلة انتصاب مقارن ، وكاد جسدها المعقوف أن يطأ برأسها الأرض. كانت تتملاه بعينين أدمنتا الفضول. بادرته القول :
- أيها الشاب قلبي ينفطر لأجلك. أومأ رأسه بالإيجاب. ركلخذلان رأسه الحاسر في الظل. تابعت العجوز.
- أترى تلك الدار المتفردة على يمينك؟
- أيه ..
- ذاك منزل رجل يدعى العتل وحده من يأتيك بعروسك.
- لن يفيدني ألف عتل في هذه القرية الرعناء.
- أطع كبري وخذ راحلتيك خارج القرية دعهم يتوهمون أنك عائد للصحراء وقابله ليلاً.
- .. داهمته نظرة أسى وهو يحدق في كوفيته المجبولة بالدم والتراب.
- لن تخسر أكثر مما أنت فيه ..جرّب .. لكن حذار أن تعرج على البساتين هو الآن حيث بستانه ذلك لصالحك.
في بهمة الليل تسلل العتل والفتى إلى دار التاجر كانت العجوز في الانتظار تجلس متخفية إزاء البوابة. شاهدت أحد الرجلين يلتصق بالجدار على بعد خطوات منها، وبخفة يغيب الآخر في الداخل ويعود بالفتاة . ذلك كله حدث بفترة وجيزة كسر مشهداً متوقعاً في مخيلتها. لن تنام العجوز قبل أن تتوضح لديها آخر صورة في مشهد حجزت لها فيه دور رئيس ينقصه تأكيد شفاهي يعوض سوء بصرها اللاهث في درب الإظلام التام. وما قيل لها عن الفتى وقتاله الباسل مع حراس التاجر وهو عاري اليدين جعلها في خلط بين أي الرجلين من دخل الدار. تبعتهم رابعة على المسار إلى صخرتين عند نهاية البساتين كان أهل القرية يسمونها بوابة الصحراء. وفي أوراك الليل عاد العتل بعد أن اطمأن ان أحداً في القرية لن يلحق بهما . عن بعد تعرف على العجوز المقرفصة وسط الطريق بين الصخرتين قال:
- ما أوصلك إلى هذا المكان في هذه الساعة من الليل ؟
- الذي أوصلك ..كيف تم الامر بهذه السرعة أأنت من دخل الدار ام الفتى ؟
- صغرى زوجات التاجر ...
- الان سيخلد قلبي للنوم .
- هل اطلعت احدا على الامر ؟
- أذني وعيني .
في ضحى اليوم التالي وجدت العجوز مخنوقة في المكان.

نوزت شمدين
15-05-2006, 09:57 AM
( كاوبوي )

نوزت شمدين

-1-

منذ أن وصلني خبر وفاة أختي نعيمة وأنا لا أطمئن إلى الأجراس ومنبهات
القلق . تصبغني صفرة ليمونية كلما سمعت جرس الباب ويضيق صدري مع كل رنين
متقطع أو طرقة مخنوقة على خشب باب مكتبي البارد .

فكرت في استبدال جهاز الهاتف الأسود الثقيل بمنحنياته العابسة وقرصه
الحديدي العاصر للسبابة بأخر أحدث يبهج القلب بألوانه ووظائفه المتطورة .
ولكنني سرعان ما اكتشفت أن التكنولوجيا الهاتفية لا تليق برسوخ أسمي
التجاري .
فالأشياء القديمة تعزز ثقة الزبون كما أن هاتفي الجنائزي هو الأسهل
بالنسبة لسمعان الحارس الذي لا يجيد التعامل مع جهاز آخر . كنت الوحيد في
قيصرية
المأمون الذي ينتظر الأخبار السيئة لذلك اعتدت على إخراج الهاتف إلى الممر
ووضعه بعد إغلاقي للمكتب تحت تصرف سمعان تحسباً لأي طارئ فالكوارث
والمصائب عادة ما تحدث في غياب القلق ، وهذا الأجراء وفر الأمان للمكاتب
الأخرى
ولكنه جعلني أكثر اعتقادا أن الحرائق في انتظار غفلة مني .

في صباح السبت فتحت باب المكتب بغياب سمعان . هاجمتني روائح الأسمدة
والبذور المتعفنة . اضطررت إلى مسح جلد الكرسي الدوار بنفسي . في عملنا
نحتاج
دائماً إلى التراب والغبار لأن ذلك يجعلنا أكثر واقعية في التعامل مع
أدوات
الزراعة لذلك لم أكن أهتم سوى بالكرسي وقيامي بهذا العمل يشعرني بخسارة
فادحة . أطل سمعان برأسه البصلي وقال بصوت أجش وهو يرمقني بنظرة ينقصها
الاحترام :

في الليل اتصلوا بك من بغداد وقالوا إن الكنغر يريدك .

تسمرت في مكاني بلا حراك . لم يجد سمعان ما يقوله فتركني وغاب دون أن
يبرهن لي أن مسح الكراسي يحتاج إلى خبرة .

قبضت على سمعان في مكتب عبد العزيز واستطعت أن أعرف منه أن الاتصال مصدره
الوزارة ولكنني لم أعثر في ذاكرته البالية على أكثر من أن الكنغر يريدني .
عدت إلى مكتبي وأنا أرتجف والنمل يجتاح فروة رأسي .



-2 -



في فجر الأحد كنت أقطع بسيارتي الطريق إلى بغداد ومذياع السيارة مفتوح على
إذاعة صوت الجماهير . لم أكن قد توصلت إلى شيء ولم أستطع الإمساك بخيط ما
. بعد تقاعد عبد الرحمن البكري انقطعت علاقتي تقريباً بوزارة الزراعة .
الاحتمال الذي يتوافق مع المنطق أن في الأمر استشارة ما أو عقد مع شركة
أجنبية تسمى الكنغر والوزارة تحتاجني كخبير . كان هذا هو تفسير زوجتي التي
قاومت ببسالة آلام مفاصلها ونبشت معي في أوراقي القديمة بحثاً عن أي شيء
يذكرني بالكنغر اللعين خاصة وأن الأمر كسر ما حرصت على ترسيخه وأصبح مثل
وصمة
عار فالكنغر يحيل السامع الى أسم حركي لسفاح تجاري واللئيم سمعان وضع
الخبر في أذن جاري عبد العزيز الذي لف مسبحته الطويلة حول معصمه وقال
حاسداً :

ها دكتور عبد الكريم .. من أين لك بهذا الكنغر .. حوت والله العظيم حوت .

وافقت على اقتراح زينب فقد يكون وراء هذا الاستدعاء فرصة عمل كبيرة ولكنني
كنت لا اعرف كيف أتصرف . ساعدني صوت عفيفة اسكندر ومائدة نزهت على تنشيط
قلبي وتجديد دمي .

دخلت من بوابة بغداد في الساعة العاشرة صباحاً ، وعلى الفور اتجهت إلى
ديوان الوزارة في ساحة الأندلس وأنا أكثر عزماً على مواجهة الأمر
والاستعانة
بما تراكم لي من خبرة برغم مضي مدة طويلة جدا على التصرف كممثل لجهة رسمية
عالية المستوى .

استقبلني موظف الاستعلامات بالترحيب . شعرت بالخجل من نسياني أسمه ولكنه
سهل علي الأمر فقد بدا أنه على علم بالمكالمة الهاتفية وقال لي بصوت عال
أثار انتباه من حولي :

أحد أعضاء الكونغرس الأمريكي سأل عنك .

جف ريقي . قلت له :

أنت عل خطأ .. قد تكون شركة الكنغر هي التي سألت عني .

ليس بالكنغر يا دكتور .. إنه أحد أعضاء الكونغرس جاء على الطائرة الأردنية
التي هبطت قبل يومين وهو ينتظرك في فندق الرشيد .

وقبل أن أتركه سألني بصوت خافت :

دكتور.. هل أدخلت الوزارة الكنغر ضمن خطتها للإنتاج الحيواني ؟ .





-3-

لم أدر مفتاح التشغيل . بقيت أمسك بالمقود يتلبسني الانفعال مثل متسابق
مغامر . فكرت في الاتصال بزينب من أقرب كشك اتصالات . سيطر علي هذا الهاجس
لفترة ولكن قلقي المتزايد أبعدني عن أي فعل ورحت أتأمل الإسفلت مستنطقاً
الذاكرة . شدني منظر أحد الوفود الرياضية وهو يترجل داخلاً إلى فندق
السدير
. لعل الأمر ليس أكثر من حاجة الوزارة إلى مرشد له دراية واسعة في واقع
الزراعة الشمالية . لمت نفسي على تركي الوزارة بهذه السرعة فقد كان علي
البحث عن تفاصيل أخرى . وجدتني أقود سيارتي بسرعة وأنا أكثر ثقة من أن
الأمر
لا يستحق البحث عن استنتاجات ذهنية خاطئة . وجدت الفندق في حركة كثيفة .
تمكنت من الانفراد بموظف الاستقبال وأخبرته بالأمر . سألني إن كنت أعرف
أسم
الرجل الأمريكي فأجبته بالنفي . غاب الشاب لدقيقة ثم عاد برجل في عقده
الرابع أنيق المظهر ، طويل القامة . استقبلني بصفته المسؤول عن الوفد .
شرحت
له الموقف وأبرزت له هويتي . كتب الرجل الأنيق ملاحظاته على ورقة صغيرة
أودعها في جيبه وطلب مني الانتظار في صالة الجلوس .

حاصرتني شبكة نسائية من إعلاميات فرنسيات فمدني ذلك التوهج بالاسترخاء
ورحت أتأمل تلك المساحات الحرة من اللحم في غفلة من وقاري . كنت على ثقة
من
أن خبرتي الزراعية لم تصل إلى أمريكا وقد يكون الأمر ليس أكثر من رسالة
أراد أحد المعارف من المهاجرين إيصالها ألي عن طريق الرجل الأمريكي . شعرت
بالاطمئنان وزال عني التوتر ولكن الانتظار طال أكثر مما يجب . راودتني من
جديد فكرة الاتصال بزينب وعزمت على أن أفعل هذا بعد أن أخرج من هنا بسلام
.

وقع بصري على رجل طويل القامة يتجه نحوي وعلى وجهه ابتسامة عريضة . شدتني
الملامح الوردية واللحية الصفراء الخفيفة . تكاثرت في نفسي الهواجس . تقدم
الرجل بثقة فاتحاً ذراعيه . صدمتني المفاجأة . لم أملك سوى أن أنهض
لاستقباله غير مصدق لهذه الصورة الحقيقية القادمة من زمن بعيد . حياني
بلغة
عربية وهو يضمني إليه بقوة وكفه تربت على ظهري مثل مضرب ينفض الغبار . قال
لي
بلهجة مصرية :

ماذا يا دكتور عبد الكريم ..هل نسيت جورج راي ؟

حاولت فك الاشتباك والنظر إليه بتمعن . أجبته وابتسامة الارتياح تملأ وجهي
:

أنا سعيد جداً بلقائك .

مر زمن طويل يا دكتور وربما بعد سنوات ستجدني رئيساً للولايات المتحدة .

قلت له مازحاً :

وعندها ستضطر أنت أيضا إلى ضربنا بالقنابل .

ضحك بصوت عال أفزع الفرنسيات وقال :

- هذا ما قد يحث يا صديقي .. هذا ما قد يحدث .

انتقلنا إلى الكوفي شوب . لم أتوقع أن يستيقظ الزمن هكذا فجأة وعلى هذا
الشكل الجديد . كانت وزارة الزراعة قد أرسلتني في بداية الثمانينات إلى
مصر
لأحصل على شهادة الدكتوراه من جامعة عين شمس . وفي القاهرة التقيت بجورج
راي الخبير الزراعي الأمريكي الذي يعمل في المركز الأفريقي للأبحاث
الزراعية . وكنا وقتها نستخدم مختبرات المركز المتطورة في إجراء البحوث
فنشأت
بيننا علاقة متينة دامت لأكثر من سنتين .

أخبرني جورج أنه ترك القاهرة بعد سفري بستة وأنه عاد إلى الولايات المتحدة
ليبدأ بعد ذلك في التفكير باقتحام المجال السياسي والتدرج فيه . أبديت له
استغرابي ونحن نحتسي القهوة فلم تكن هذه الميول ظاهرة عليه . ربما لأنني
وجدت في سعة علمه وحبه العميق للشرق والحضارة العربية وإصراره على إجادة
اللغة العربية ما يثير اهتمامي أكثر من أي شيء آخر .

تحدثنا عن أشياء كثيرة بطريقة عشوائية في محاولة لردم الفجوة الزمنية إلا
أن جلستنا لم تدم طويلاً فقد كان جورج على موعد مع نائب رئيس مجلس الوزراء
. اتفقنا على اللقاء في المساء وكانت تلك هي فرصتي الوحيدة للاتصال بزينب
.







-4-

ذهبت للمبيت في فندق أبن الهيثم . حجزت غرفة بسريرين للحصول على شيء من
الأتساع يخفف عني كآبة العقد الخامس من العمر . لم أستطع النوم رغم ما كنت
أشعر به من استرخاء بعد الحمام الحار . كانت ذاكرتي تقلب دفاتر الأيام
وتحيلني بشكل قسري إلى ليالي القاهرة وذلك الهوس الذي كان يقدح في عقلي
الجنون
تلو الجنون . كان جورج راي يمتلك شخصية ساحرة . وجدته خارج العمل أكثر
تقيداً وانضباطاً وهو التزام لا يتوافر عادة لدى الأمريكي . تعجبني فيه
حالة
الافتتان الدائمية وقدرته على التفاعل ليس كسائح وإنما كانسان يريد أن
يتعلم وينظر إلى الآخرين من حوله بمستوى أفقي . وجدتني لا أفهم سر عدم
الاتصال به طوال هذه المدة .

وفي الساعة السابعة مساءً كنت مع جورج . استقبلني بطريقة أكثر حميمية وهو
يرتدي بدلة جينز وقد علق على كتفه حقيبة جلدية مربعة . قال لي ونحن نسير
باتجاه باب الخروج :

تبدو يا دكتور مثل دب اسكندنافي .. بهذا الشكل لن نستطيع القول أن
العقوبات باتت مؤثرة .

قلت له على الفور :

ما ينقص حكومتكم هو الضمير وليس الحقائق يا جورج !

أنتبه إلى عدم ارتياحي لمظهره فأخبرني أنه يجد من الضروري الالتزام بالزي
التقليدي لاعتبارات تخص الشرف الوظيفي رغم أنه يكره أن يبدو مثل السيد (
لانكستر ) . اقترحت عليه أن نقوم بجولة في بغداد . استوقفني قبل أن أفتح
باب سيارتي :

إياك أن تأخذني إلى ملجأ العامرية ..؟!! .

طلبت منه الجلوس في السيارة وترك الأمر لي . بدت عليه البهجة . سـألته إن
كانت إقامته في بغداد جيدة . أجابني بمرح :

في البداية شعرت بالإرهاق أما الآن فأنا أكثر سعادة ..

أعلم أنك تحب الأماكن الشعبية .. ما رأيك أن نجلس في مقهى وندخن النرجيلة
العراقية .

وافق وهو يقول :

هذا ما أنا بحاجة إليه بعد الجلسة الساخنة مع مسئوليكم .

توقفت عند الإشارة الحمراء . التفت إليه فتابع :

- إنهم يعرفون كيف نفكر ، ويعرفون أيضاً ماذا نريد أن نفعل .

وجدتني أقول له بانفعال :

جورج .. أريدك أن تكون معي الباحث الزراعي الذي أحترمه وليس السياسي الذي
لا أعرف عنه شيئاً .

رد بعد صمت :

أفهمك يا عبد الكريم .. كما تريد يا صديقي .

تركنا السيارة في مرآب وغادرنا ساحة الميدان باتجاه شارع الرشيد . شعر
جورج ببرودي وتوتري فراح يكثر من الأسئلة ويتوقف متفحصاً المحلات
والدكاكين .
جلسنا في مقهى الزهاوي



وطلبنا الشاي والنرجيلة . حدثني جورج عن الظروف التي رافقت عمله والصعوبات
التي تعرض لها بعد إقامته الصغيرة في تونس

وعودته بعد ذلك إلى أمريكا

كنت أحدثه عن الأضرار التي لحقت بالزراعة في العقد الأخير عندما أعتدل في
جلسته وانشغل عني بتحريك الفحم ثم ما لبث أن أمسك بذراعي ونظر ألي بتمعن .
نفث الدخان من أنفه ثم قال بهدوء :

- سمعت أن أبنك قد قتل في الحرب .

أحتقن وجهي . ساورني الصمت وشعرت بألم في ساقي . بقي جورج منتظراً ردي :

إنه لم يقتل .. لقد سجل مفقوداً .. هو الآن في مكان ما في الكويت أو
السعودية .. ابني صادق لم يقتل يا جورج .

ضغط على ذراعي بقوة وهو يقول :

أنا أفهم ..

قاطعته :

كلا أنت لا تفهم .. نحن هنا لا نموت وأبني سيعود في يوم ما .

قال باضطراب :

هذا واضح يا عبد الكريم .

سألته :

كيف علمت بأمر أبني ؟

اتكأ ومد ساقيه إلى الأمام وقال :

إنها قصة طويلة سأخبرك بها لاحقاً .

أخذت ألف الخرطوم حول عنق النرجيلة وأنا أقول :

- مهما يكن الأمر أنا سعيد برؤيتك أيها الكاوبوي .. من الضروري أن تأكل
سمك دجلة لأنه سيذكرك بأشياء كثيرة عندما تصبح رئيساً للولايات المتحدة
الأمريكية .

قال لي وهو ينهض معي :

- سأغادر بغداد في صباح الغد .. لا بد أن التقي بك قبل سفري لأنني أود
إبلاغك بشيء مهم .







-5-





اتصلت بزينب قبل ذهابي إلى فندق الرشيد وأخبرتها أنني سأرجع إلى الموصل
هذا اليوم . وفي الساعة الثامنة صباحا وجدت جورج ينتظرني في صالة
الاستقبال
. طلب مني أن نتجه الى الخارج . سرنا في الحديقة الخلفية . بدا جورج قليل
الكلام وكأنه يمهد لشيء ما . حاولت أن أخفف عنه قليلاً فقد مدني منظر
الحديقة الجذاب بطاقة لم أمتلكها منذ زمن . جلسنا على مصطبة بالقرب من
المسبح
. سألته بعد أن اكتشفت تردده :

ماذا هناك يا جورج ؟

أشعل سيجارة وهو يقول :د

أرجوك أن تفهم يا عبد الكريم أن هناك معارضة قوية من جانبنا لسياستنا
الخارجية .

قاطعته :

جورج لا أريد سماع هذا .. ما يهمني هو جورج الباحث الزراعي .

قال بتوتر :

عليك أن تسمعني ولا تقاطعني .. لقد أتخذت قراراً مهما ووقف معي العديد من
أعضاء الكونغرس .. لا أقول أننا حققنا نتيجة طيبة ولكن المحاولة قائمة ..
نحن نريد إيقاف هذا التدمير خاصة بعد أن تكشفت لنا الحقائق وصرنا أكثر
معرفة بما حدث ويحدث .

قلت له :

ولهذا السبب جئتم الى هنا وزرتم ملجأ العامرية ومستشفيات الأطفال .

نعم ولكن ليس هذا هو كل شيء . قبل أكثر من عام زارني القس هورنر وهو رجل
فاضل تربطني به علاقة صداقة متينة . جاءني القس وأخبرني بقصته وقدم لي
الأدلة التي تثبت صحة كلامه . حدث هذا بعد أن أعلنت في مقابلة أجرتها CNN
عن
ضرورة إعادة فتح الملف العراقي . كان القس هورنر برفقة مجموعة من الجنود
والضباط مهمتها تنظيف ساحة المعركة بعد انسحاب الجيش العراقي من الكويت .
زوى لي الكثير من القصص البشعة حول تعامل الجيش الأمريكي مع جيشكم المنسحب
وحتى بعد وقف إطلاق النار . أرادوا من وجود القس معهم إظهار الوجه الحسن
وقد قام الرجل تحت الضغط بالصلاة لراحة أرواح جنودكم .



قلت له :

ليس هذا بالجديد .

عاد جورج ليقول :

أخبرني القس هورنر أنهم عثروا على مجموعة من الجنود العراقيين الجرحى .
وقد قامت وسائل الإعلام بتصوير محاولات تقديم الإسعافات الأولية إليهم .
بعد
ذلك بقليل تم سحب البعثة الإعلامية وقام الجنود الأمريكيون بعملية تفتيش
دقيقة للجرحى ثم تم تعريتهم بالكامل وأمر أحد الضباط بربطهم في منخفض من
الأرض . بعد ذلك جاءت الجرافات وجرى دفن الجنود الجرحى وهم أحياء .

قلت له وأنا أضرب بقبضتي راحة يدي اليسرى .

بالأمس تساءلت مع نفسي عن سبب انقطاع الاتصال بيننا طوال هذه المدة ..
ماذا تريدني أن أقول لك يا جورج ؟ يبدو أن علاقتنا قد انتهت ما أن بدأتم
الحرب .. هل تريدني أن أقول لك شكراً يا جورج ؟ .

أطرق برأسه ثم قال بعد صمت :

لقد جئت إلى هنا من أجل أن أعتذر يا صديقي . . وما أردت إبلاغك به أن القس
هورنر استطاع بطريقة ما أن يحصل على بعض ما كان بحوزة جنودكم من حاجيات
وهويات وأشياء أخرى، ومن بين ما حصل عليه هذه الرسالة التي كتبها أحد
الجنود
ولم يستطع إرسالها .

أخرج جورج من جيبه ورقة صغيرة صفراء وتابع :

كانت الرسالة مغلفة بورقة كتب عليها أسمك الكامل وعنوانك.

أخذت الورقة المطوية على شكل مربع وجسدي يرتجف. نهض جورج، وضع يده على
كتفي ثم أنسحب مبتعداً . أردت الوقوف لكنني لم أستطع . قاومت بأقصى ما
أمتلك
من إرادة ولكنني ما أن رأيت الخط الأزرق حتى تفجر وجهي عرقاً بارداً
ودمعاً ساخناً وأنا أقرأ:

( أبي الحبيب أرجو أن تكون بخير وصحة جيدة. قد تتأخر عودتي قليلاً.. أنا
بخير فلا تقلق. في الغد سيعود صديقي عزيز إلى الموصل وسوف يخبرك بكل شيء.
وأنا إن شاء الله سأكون بينكم في الأسبوع المقبل. أشواقي ومحبتي وقبلاتي
إلى أمي الغالية والعزيزة سناء.
ولدك صادق عبد الكريم الحمداني )

فارس الغلب
17-05-2006, 10:16 AM
المبدع القريب من القلب نوزت
لا نملك سوى اقلامنا في هذي الارض الحرام
فهل باستطاعتها صد نفايات التكنلوجيا التي تمارس التجريب في اجساد العراقيين الابرياء
اننا فقط نحاول لطم جراحنا لنقطر انات وجعنا في صمم العالم
دمت للكلمة الصادقة
اخيك فارس الغلب

سمر سليم الزريعي
18-05-2006, 06:15 PM
أسرار البكاء
بقلم : سمر الزريعي
أسرار البكاء قصة ترجمتها بعد غيبوبة الصمت التي عاشها حرفي .. فأرفقتها بقصيدة نثرية ربما القصة لم تحتمل صراخ الحرف أكثر .. مشاركتي في البداية كانت هكذا وبعدها نظراً لشروط المسابقة ألغيت القصيدة لأنها نثرية ونشرتها في المنتدى كقصيدة مستقلة .. أحببت أن أسلط الضوء على معاناة الفلسطيني في بعض الأوطان العربية ..



***********************
تلوم ملامح زمن تعرفه فقط باللون الأبيض والأسود .. تعاتب شقوق الزمن الصغيرة لاحتضانه غربة متوارثة بغباره القاتم فسكنوا ذلك الغبار حتى تملكهم ..
أيقظتُ دمعةً منتصبة بعد أن أعانتْ الجفن المسن على الوقوف سمحتُ لسطو اختزل الجلد في المغيب ...ينفث أسماء مشبعة بالوطن ليلاً ليقفل خلفه أسواراً تتناسل لزمنٍ و عند ذلك الطريق تصطادني رطوبة عمر لتتوهج الجباه بتراكمات لفرح وثير ...
كم أشتهي ضحكةً صاخبةً مدوية تكتم خرافة اللاعودة فيتسرب إلى دمي ملامح بذور طفل زارعاً غرقي ، فلنبتعد أو نقترب صغيرتي من الوصول لشرفة الصباح ...آهٍ ..كم يعذبني نسياني بين أسرار البكاء معكِ .
وتحرير صغيرتي القابعة في دمي تنتظر معي العودة لبئر السبع حيث انتفض من رحم أرضها والدها ووالدتها ، تبحث بأناملها النحيلتين عن مقعد لها في أزقة عمر والديها فتنتظر أن يمر القطار أمامها لتحجز لها ولوالديها المقعد الأول فتكون أول الواصلين لوطنها حيث يحملها القطار إلى حضن غيمها ، تغمض عينيها لتلتقط صوراً بكائية .

أخاطبها في قصتي بطفولة برية تسربت من بين يدي حيث نأمل اللهو واللعب والنطق السليم لاسم مدينتنا فتؤنبها مشاغبات الطفولة في هذا البلد
تتذكر الصور المائية وأصوات حجرية لهم .

- أنتِ هاربة من الوطن من الحرب
- تخفي دموعها وتشعل غضبها
- أنا .. أنا ..لست ...

لا يفهمون ما رددته تأتأة حروفها القاصمة لظهر الحياة فيحتفلون بفوزهم عليها بعد أن تفوقت عليهم في المدرسة ، تتعرف على حقد العدو المحتل لأرضها في أعينهم تشاهد أساليب الإذلال والاحتقار، فالبارحة وضعت إحدى مشاغبات الطفولة مسطرة في حقيبتها واتهمتها بسرقتها ، واليوم تنظف الفصل بمفردها ، وغداً وبعد غد ماذا ينتظرها ....

تعود منهكة من مطاردة عالم غريب لها يطلب منها العودة لوطنها، يلاحقها هذا العالم حتى في أحلامها في أصوات السيارات المزعجة بأضوائها الوحشية فتعود بذاكرتي معها إلى ذلك اليوم ، كنت أراها بأعماقي غارقة في الصوت المبحوح ، أكاد أسمع صوت والدها يشرح بحروفه الملتئمة سبب ترحيل الفلسطينيين ..

- سنترك البيت والبلد يقولون أن وطننا تحرر
- سنعود إذن لفلسطين
- بل سنسكن الصحراء لدينا مهلة 48 ساعة لمغادرة البلاد وهذا حال جميع الفلسطينيين وأصحاب البيت سيستولون على أثاثنا ..

( .. تستغرب الوضع وأستغرب معها صمتي )
- فالصحراء لا توجد فيها منازل أو مدارس .

فما بين الحرف الأول والحرف الألف صحراء غابت بين كثبانها مظاهر الحياة بألوانها الهازئة ، تأخذ أنظارنا عنوة إلى الخط الفاصل بين أرضها وسمائها والسراب يغمرنا أملاً فيجوب خيامنا التي توزعت أطرافها الذابلة هنا وهناك .
أجلس قربها دون أن تراني ، أرصد ثنايا تعجبها وألمس حنينها و سنيني المتآكلة على عتبات المنفى يصطادها عبق فلسطين ، في الخيام تبتعد تحرير عن الخيام وبيدها دميتها المصنوعة من قماش فتلمسني برعشة الليمون بزهر الحنين تتذوقني ..
تلعب بدميتها تحدثها علها تتحدث فتخبرها ماذا يحدث داخل الخيام ..؟

- في تلك الخيمة يشرح المعلم الدروس للتلاميذ وهناك تتجمع النسوة لتخبزن للجميع وهناك يتجمع الرجال لسماع الإذاعة التي تذهب وتأتي دون إذن، وهنا وهناك .... وأنا معك
تسألها .. يقولون هناك تقع فلسطين أصحيح ذلك ..
فتتقدم لتقترب حيث أشارت بإصبعها تجلس على الأرض فتلتقط حفنة تراب تطايرت مع الريح فتخبر دميتها ..

- هذه حبيبات تراب تطايرت من وطني ... تخفيه في جيب دميتها المصنوعة من قماش خشية أن تضيع وتهمس فتقول لهم غداً سأعيدك أنا للوطن ، سأعيد كل حبة تراب إلى أصلها لتغرس بين أخواتها ونزرع شجرا ( تقف تحرير وترفع يدها إلى أعلى نقطة تصل لها يدها ) أطول من والدي بكتير..

تنشر بلغتها الطفولية أحلاما على أشعة الشمس النابعة من السماء فتصحو من حلمها لتعاتب الشمس التي جففت أحلامها الندية ، فتبكي لأنها نسيت حلماً واحداً تجهد ذاكراتها الصغيرة بأسئلة متلاحقة وبتعاقب السؤال وعدم الجواب تترك دميتها جانباً لتفتح جيوب السماء وتمنح الغيم المراقب دموعها وأحلامها لتمطر حياة تنغرس مدناً ..وطناً ..تتبع آخر خيط للنهار لتستعجل الغد بالمجئ تمسك بساعة رملية هى من يديها لتراقب الزمن فترى من بعيد عشر حافلات تقترب من الخيام

- هذه الحافلة ستنقلنا للوطن
تنتشر على ملامحها بذور الحياة الجديدة تركض مسرعة إلى والدتها تبتسم و تركب الحافلة لتجلس في المقدمة وتكون بذلك أول الواصلين تغير مقعدها كل حين وتستقر أخيراً في المقعد الأخير تُحَضِر نفسها للحديث الطويل وتشكر الله لأن الشمس لم تجفف حلمها وبعد ساعات يصعد الجميع للحافلة بعد أن فُكت الخيام ويأخذ الجميع مكانه في الحافلة وتغلق الأبواب وتنطلق لتعود من حيث أتت.
تسأل والدها
- لماذا يمشي بعكس الاتجاه ..فلسطين تركناها بالخلف ؟
( لا أحد يجيب ) يضيع صوتها في السؤال المكرر ...تبكي تحرير .. تفتح نافذة الحافلة وتنادي على دميتها التي تحمل تراب الوطن .. ولا مجيب تصرخ بصوتها
- لقد خدعنا السائق
- لقد خدعنا السائق والدي ...
اعذريني صغيرتي لقد تركتك صامتة حينها ...


هزمتني يا أنا

اعتنقي الصوت .. يا أنا
عند آخر البكاء
ودعي الإنطفاء المهيب
دعي الإنطفاء
يقتات قافلة الـ آه
ويعود مع الصوت صداه
في الوريدِ .. لا يختبئ
سواكِ أنتِ والمساء
اعتنقي الصوت .. يا أنا
عند آخر البكاء
حملت شفاهكِ
صرخة
أبوابها .. على دمي
موصدة
أقف أمامها .. وأنثني
أنثني وأنثني وأنثني .. ثم أنحني
حتى في العروقِ .. يغلي دمي
دمي المتسرب من ضفتي
من ضفائركِ .. إليكِ
اعتنقي الصوت .. يا أنا
عند آخر البكاء
أداعب فيكِ .. طفلة
هاربة
من الجليد .. من البرية
من الإنتظار المقيت .. فيكِ
هاربة
أنبتيها في يدي
ميلاداً جديداً .. هيا ابزغي
ومن ثمار الماء .. بين غصنين في صدري
اقطفيه
بشروق الصباح المجيد
أرميه
بغروب الشفق العتيد
أبقيه
بتراب الطين العنيد
لا تؤذيه
...
اعتنقي الصوت .. يا أنا
عند آخر البكاء
سأعلن تنظيمي العلني
جهراً
في وضح الكلمات المختبئة
قصراً
في حانة الصدى المبحوح
في واحة المدى المجروح
في النار .. المؤجلة
في الأصوات .. المتحجرة
في الليل المشتهي
هزمتني يا أنا
دعيني ..
دعيني أوشمه بجبيني
فمنذ عام الفيل ..
إلى وريد القناديل
وحلمنا المنحاز .. لترابي
يتآمر علينا
اعتنقي الصوت .. يا أنا
عند آخر البكاء
ألمحك قطرةً مبتهجةً ..
مرحة
في النور ..
في العتمة
في علامات إستفهام ؟؟
المسألة
فما أنتِ .. إلا أنا

ابراهيم محمود الخضور
18-05-2006, 08:40 PM
هنا تنشر النصوص التي شاركت في مسابقة الواحة الأولى تحت تصنيف " القصة القصيرة" بواسطة أصحابها كي يتعرف القراء من أعضاء وزوار على هذه المشاركات ويتم الاحتفاء بها بما تستحق.

وعليه فإننا نهيب بالجميع بما يلي:

* الأخوة الأعضاء من شارك في المسابقة بسرعة نشر نصه هنا بشكل منسق وجذاب ، وأؤكد أن النشر هنا للنصوص التي تم إرسالها لبريد مسابقة الواحة وليس لأية مشاركات جديدة.

* الأخوة الذين شاركوا في المسابقة ولما ينتسبوا للواحة سرعة التسجيل في عضوية ملتقى الواحة ونشر نصوصهم بأنفسهم كي يكون لهم فرصة للفوز بأحد جوائز المسابقة.

* باقي الأخوة الأعضاء عدم المشاركة هنا بردود وتعليقات والالتزام بالرد فقط في موضوع "على هامش المهرجان" لتظل هذه الصفحة مخصصة للنصوص المشاركة في المسابقة فقط.


تحياتنا
الإدارة

.................................................. .................................................. .................................................


( هكـــــذا تـــــكــــــــون .......)

قصة قصيرة :- تأليف:إبراهيم الخضور


علاقة عاطفية صادقة قامت بينهما ،.. فلقد كان سالم لا يذهب إلى أي مكان،أو يعود منه، إلا ويبتدر الذهاب إلى محبوبة قلبه ، وابنة عمه الغالية ليلى التي كانت هي بدورها تنتظره بشوق كبير .
هذه العلاقة ابتدأت منذ أيام الدراسة الإعدادية لليلى ،..حيث كانا يذهبان سوية إلى مدرستيهما المتجاورتين ..ثم يعودان بعد وقت الظهيرة إلى حيث يقطنان ،..ويفترقا على أمل اللقاء من جديد ...

هاهو سالم في مرحلته النهائية من دراسته الثانوية ..، وهاهي ليلى تحضه على المثابرة والاجتهاد ..لأن سنته تلك كانت نهائية وحاسمة ...، كانت ليلى تقضي معظم وقتها في بيت عمها الحاج " محمد " ، حيث سالم مُكِــــبٌ على دراسته ، فتشجعه ، وتقدم له كل ما يحتاج إليه لتجعله مرتاح البال متفرغا للدراسة .
تناست دروسها ، فبعد أن كانت الأولى بين رفيقاتها .. إذ أصبحت أقلّ مركزا ً وأدنى مرتبة ..، وبخها أهلها كثيرا .. لكنها كانت تقول لهم: " المهم سالم .... أن ينجح ويتفوق هو .. فأنا هو وهو أنا """ وكثيرا ً ما كانوا يغضون الطرف هذه السنة "" عن تدني مستوى ابنتهم ... لأنهم كانوا يعلمون مدى الحب العظيم الذي كان يجمع ابنتهم بخطيبها وابن عمها ...سالم ، وكانوا ...واثقين من أنه لن يخيب آمال أهله .. وآمال ابنتهم التي أولته الرعاية و الاهتمام والعناية .. وفضلته ومصلحته على نفسها ومصلحتها ......

أنهى سالم مرحلته النهائية تلك بنجاح وتفوق ...، طار فرحا ً ... وخرج مسرعا ً من مدرسته حيث قابلته خطيبته التي كانت تنتظره على بابها،على أحرّ من الجمر00،أمســك بيدها وسحبها بشدة وقفلا راجعين إلى حيث أهلوهما ينتظرونهما ... ، وينتظرون معهما البشارة التي كانت العائلتان تحلمان بها .

.. ومن شرفة المنزل صاح " سعيد " الأخ الأصغر لليلى : " هاهما .. إنهما سالم وليلى .. إنهما يركضان ، والفرحة لا تكاد تسعهما " ... فهبّ الجميع نحو الباب ليستقبلوهما ... بالقبلات والأحضان ... والزغاريد ....

صوت صرخات وأنات يعلو فيحطم لحظات الفرح التي طبعت لحظاتهم التي مرت ، ...ويحولها إلى دمعة تنسكب من عين الحاج محمد ،.. تتلوها دمعات تسقط من أعين الحاضرين ... ، ... واحتــــقـنت الأنفاس في الصدور ... وأبت أن تخرج من هول الموقف إلى حيث الهواء الطلق .. ، والعيون متجهة نحو درجات السلم وهي تحملق في ذلك المشهد الأليم ....

سالم وليلى ملقيان أحدهما على ظهره ... ، والآخر على جنبه، والدماء تسيل بغزارة من رأس ليلى ورقبتها ، فقد كان سالم يمسك بيد محبوبته ، ويصعد بها درجات السلم ... بسرعة ، كانا يقفزان درجات متلاحقة دون وعي منهما ... للوصول إلى أهليهما بسرعة ... ، فلامست في إحدى المرات قدم سالم طرف إحدى الدرجات ... فانزلقت ، وكاد أن يهوي على رأسه لولا أن ليلى تحركت بسرعة نحوه ، لتسمح لرأسه بأن يرتطم بصدرها ، ... ومنعته من أن يتحطم على درجات السلم، وسمحت بذلك لرأسها ...، يالها من فتاة محبة بصدق وإخلاص ... ، لقد قدمت روحها كقربان لحبها العظيم....

هرع رهط من رجالات الحارة .... ، وبسرعة كبيرة تم نقل المُصَابَـيْنِ إلى المستشفى ،00 حيث فارقتْ ليلى رُوحُها الطاهرة أثناءَ الطريق ، وانتقلت الى بارئها ...

فارقت روح ليلى الجسد النقي .. الصافي من الحقد ... ، والخالي إلا من المحبة ،... وتم إسعاف سالم وإجراء اللازم له ،.. وفتح عينيه بعدما ما أغلقتهما غيبوبة صاحبته لساعات ،على صورة أهله ...وأهل ليلى محبوبته الغالية ـ..لكنه لم يرَ ليلى ...، ترى أين هي ؟ !؟!؟00وغلبَ نعاس( البنج) عينيه، ونام ..

وبعد ساعة أفاق مما كان فيه ...، أدار عينيه في أنحاء الغرفة ،وتفحص أعين الحاضرين لعله يعثر على الوجه المنير ،... الوجه الذي أنار له الطريق ليسلكه دون مشقة أو تعب ... لكنه لم يجده ...

حرك رأسه بصعوبة ... متسائلا ً... ، وكأن الحاضرين عرفوا مكنون سؤاله ... فتلاقت نظراتهم ...، فعلم سالم من خلالها أن ليلى ... قدمت حياتها كهدية على طبق من الدم ،فداءً لروحه وحياته اللتين كادتا أن تذهبا، لولا تضحيةٍ بذلتها وهي أغلى ما تملك ، وسطرت بذلك أعظم آيات الحب والوفاء والإخلاص من أجل من تحب ........


تمت بحمد الله وعونه


تأليف : إبراهيم محمود الخضور ...
.................................................. ..............................

محمد ذهني
19-05-2006, 12:12 AM
الملك
رسالة ملكية:
إلى: محمد بن سعيد بن ورد.
وبعد.
قد أصدرنا قراراً ملكياً بالعفو الشامل عنك وعن ورثة المارق: سعيد بن ورد، وسنتفضل برد جميع الممتلكات والأموال المصادرة من عائلته، وذلك في يوم الجمعة الموافق الخامس من ذي القعدة عام 800 هجرية. في احتفال عام بدفن جثة أبيكم المارق وتلقيه مباركات الملك وعفوه .
خاتم ملكي
*********
أصوات الاحتفالات تقض مضجعي . الشمس تتسلل إلى الجناح ورغم ذلك أرفض القيام . اليوم ينذر بمعركة شاملة. لن يكون المستقبل مثل الماضي أبداً. إما أن أنتصر وأخضعهم بالقوة، أو أهزم وأعلق بدلاً من سعيد بن ورد على الصليب. الأمل الباقي أن يأتي ابنه ليؤكد لهم أنه ميت. الأغبياء مازالوا يصدقون أنه حي ، ويدعون أنه ينظر إليهم بل ويحادث من يصطفيه منهم. كونوا بهذه الأسطورة جبهة ثورية خلال عامين، تجذب الشباب الذي لم ير شيئاً. تحمي جسده وتدعو لمناصرته وإنزاله من على الصليب. لو كان جسده هلك ، تحلل أو تعفن أو حتى أكلته النسور، ولو لم أصر على بقائه على الصليب حتى يصبح عظاماً، لانتهى ذلك الكابوس المستمر منذ ربع قرن. ولكنه ظل أمامنا يذكر الجميع بما حدث. يتحداني أنا الذي لم يجرؤ أحد على تحديه. تحداني حياً حتى وقع والآن يتحداني ميتاً. لكن اليوم سينتهي كل شيء. يأتي ابنه فنباركه ونرد له كل شيء. سينزل الجثة ويواريها التراب ويعود الأمن للمملكة.
*********
الثوار
رسالة:
إلى الأمير محمد بن سعيد بن ورد
السلام عليكم ، سلاماً محملاً بعبير وطنك ومسقط رأسك ورأس أبيك المبجل.
ندعوكم للانضمام إلينا في يوم الجمعة الموافق الخامس من ذي القعدة عام 800 هجرية، وذلك للاحتفال بإنزال أبيك المعظم من على الصليب ،وتتويجه والسجود أمامه على العرش في احتفال مهيب، بمناسبة مرور ربع قرن على العدوان عليه ورفعه على الصليب، وذلك نزولاً على طلبه هو بحضورك ذلك التتويج . ونخبرك بأن جلالته هو من حدد هذا الموعد بالذات لنا ،وأنه يبشرك بدعم شعبي مطلق من جميع الفئات ,وبنصر تام على الملك وابنه وجميع خونة القصر.
واطمئن فعيوننا سترعاك من لحظة خروجك من مدينتك حتى وصولك إلى المملكة.
ولك منا التحية والسلام
خاتم
عبد الله بن هشام
زعيم الثوار وخادم الملك
فرحة ممتزجة بهيبة الموقف. الكل يعلم أن في هذا اليوم الذي لاحت شمسه منذ لحظات ،سينتهي عهد الظلم وسيتوج الملك الجديد. المعركة لنا لا محالة. كلنا فيها وكلنا نعلم أن النصر مؤكد. وسيدي عبد الله بن هشام تلقى الأمر بذلك أمامنا من ذلك القديس. معلق أمامنا على صليبه يبتسم لنا ويبشرنا بالنصر. طلب منا أن نأتي بابنه ففعلنا. وأكدت لنا العيون أنه خرج من مدينته منذ يومين قادماً إلينا ليشهد التتويج. حاولت ومن معي أن ننزل ملكنا من على صليبه كثيراً ، ولكن أبى إلا أن ينتهي الظلم وننتصر له بأيدينا.
أرسلني قائدي لأطمئن على مواقع جنودنا . المعركة المنتظرة لن تبقي على أحد من أهل القصر ، ومن سيبقى منهم فالصليب ينتظره جزاءً . شخص واحد فقط سيلقى قصاصه قبل المعركة، الخائن. الجميع يعلمه ويراه في عليائه. يظهر أمامنا بدور المحسن التقي حتى نُسي دوره في الخيانة. لكنه أمر بالقصاص منه قبل أي شيء. سيأتون برأسه على سيف لتكون بداية المعركة.
*********
محمود بن أبي موسى

هل هو ميت أم لا؟ أراه أمامي كلما مررت بالميدان. اسمع الناس يتكلمون عنه ،وعما قاله لأتباعه الذين لا يعلم أحد من هم. أسأل الملك فيؤكد أنهم شرذمة يسحقهم بقدمه لو أراد،ويؤكد لي أنه ميت منذ أن صلب. ولكن الأتباع يزيدون ، تمتلئ السجون بهم ويقتلون في بيوتهم ، لكن لا يتوقفون عن إثارة مشاعر الناس . يقول الملك لي ذات يوم:
- إنهم كل الشعب . هل أقتل كل الشعب؟.
- بل اقتل قادة الثوار فيخاف البقية.
- ومن قادة الثوار؟هو قائد الثوار
- ولكنه .... ميت.
- وهم يظنون أنه حي يكلمهم.
- ربما يمثل أمامنا دور الميت؟
نظر إلي بامتعاض وقال:
- كفى تهريجاً.
خفت أن أقول له أنني أراه حياً، لا يتغير ولا يشيخ.صحيح لا يحادثني ولكنه حي. يحدق في كلما مررت بموكبي. يأتيني في الأحلام ولا يقول لي سوى كلمة واحدة:
- خائن.
قلت لو كان حياً سأقتله. أمرت أحد أتباعي ليقذفه بسهم مسموم. لم يصبه السهم واستقر في صدر أحد الجنود المارين صدفة في اتجاه القصر. ارتفع تهليل العامة لرؤية المعجزة ،بينما نلت تقريعاً لا أنساه من الملك. وظلت نظراته تطاردني ،وذكراه تلوح لي في أي وقت تشاء. هذا البطل الذي أسرنا جميعا بسحر بيانه وحجته وحماسه ضد الظلم. جرت الثورة مع دماء الشباب في عروقنا. أخذنا نقتل الخونة، قادة الجنود والأثرياء وندماء الملك. حتى قتل سعيد ابن عم الملك مرة، حينها خرجنا من دائرة المجرمين إلى عالم أوسع وأشد خطراً، أصبحنا مارقين. وسمانا الشعب الثوار، وإن لم يتعاطف معنا أحد. وإذا بجائزة تبلغ مئة ألف دينار لمن يسلم أو يدل على مكان زعيم المارقين،وفتوى من الشيخ الأعظم كبير العلماء بإهدار دماء المارقين. بدأ الخوف والشك من عقاب الأرض والسماء، وكلمات سعيد تدوي في أسماعنا:
- لا تتبعوا كلام من يعيشون في القصور ويتكلمون باسم الله. لا حياة لنا ولا جنة بعد الموت إن عشنا خانعين.
واستيقظنا ذات يوم على الشيخ الأعظم مقتولاً. أدركنا أننا لسنا أبطالاً، وأن سعيد ليس بطلاً ,وإنما هو مجنون لا يخاف ملكاً في الأرض ولا في السماء. ولكن عادت كلماته تبث النشوى والطمأنينة فيهم. أما أنا فرأيت الحل في اتجاه آخر، ثروة ونجاة من الموت. الشعب ضد الكفار أعداء الله والدين والملك. فلأنج بنفسي وأركب السفينة.
يوم القبض عليه جاءني سعيد يقول:
- أوصيك بأهلي يا محمود.
رددت عليه و أنا أخشى النظر في عينيه:
- لا تقل هذا يا سعيد. سننتصر بإذن الله.
وكأنه لم يسمع شيئاً قال لي:
- قم بمساعدتهم على الخروج من المملكة.
لو أدرك أن النهاية قريبة لم اختارني ؟ كلهم ماتوا عدا أنا وهو . تلوح من حولي الاتهامات الصامتة في الأعين. لكن لا أحد يؤكد. تقربي من الملك وإحساني إلى الفقراء يسكت الألسنة. شيء واحد ينغص علي حياتي. نظراته الصامتة.

اليوم يوم فاصل. تتبعنا أخبار ابنه حتى علمنا مكانه، أرسلنا له ليأتي وينهي المهزلة. سيوارى التراب اليوم مصطحباً نظراته. العيون قالت أنه آت. هو وحده من سيحقن الدماء .
ارتديت ملابسي و تأهبت للخروج إلى الوكالة. سمعت صوت سنابك خيل و خطوات ثقيلة. أكيد الملك يريدني. لكن صرخة انطلقت واستقرت في عظامي. نظرت من النافذة لأجد حارسي القصر مقتولين . لمحني أحد القتلة فصوب إلي سهماً تفاديته في اللحظة الأخيرة.مكثت لحظات مختبئاً عاجزاً عن الحركة. سمعت بعدها صراخاً من الحريم والخدم. خطوات عدو في كل مكان حولي. لا أعلم أين هم لكي أهرب منهم. مكثت في مكاني. دخلوا علي من كل مكان. تقدم مني سعيد وفي عينيه نفس النظرة . لوح بسيفه وهوى به.
*********
محمد بن سعيد بن ورد
حذرتني أمي من العودة. قالت أنها ولابد خدعة منهم. نظرت في الرسالتين . رسالة من الملك بصدور عفو عام عن أبي وعن عائلته مع رد أملاكه، و السماح بدفن جثته في مقابر الأسرة. ورسالة من قائد التنظيم الثوري في المملكة يعلن أن أبي هو الملك الجديد وأنني ولي عهده، وعلي حضور مراسم إنزاله من على الصليب وتتويجه كملك.
كانت الرسالتان لأول وهلة تفصحان عن أن كاتبيهما مجنونان بلا جدال. لأن أبي ولا شك هو اليوم مجرد عظام. منذ خمسة وعشرين عاماً رأيته وقد تم تعليقه على الصليب في الميدان . كنت أنا وأمي قد صدر ضدنا قرار بالطرد من المملكة للأبد وتجريدنا من كل شيء. حتى الراحلة تبرع بها إلينا أحد أصدقاء أبي، بعد أن أقسمت أمي أغلظ الأيمان ألا تقول أنه صاحبها. نظرت في وجهه يومئذ فوجدته يبتسم رغم الألم على وجهه. لا أكاد أذكر عنه شيئاً سوى هذا، أمي وقتها قالت لي وكأنني غير موجود:
- هذا أبوك . ستعود يوماً لتنتقم له.
العجيب أن أمي من يومها لم تتحدث عن الانتقام مرة أخرى، بل تحدثت عن الراحل فقط في طفولتي لكي أتباهى به، دون أن يمثل موته لي ولها أي ألم. تزوجت من تاجر ثري وأنجبت له، وأشركني هو في تجارته وزوجني إحدى بنات أخيه. حياة رغده بعيداً عن مملكة الدم وذكريات المصلوب. فكرت كثيراً أن أعود لأتاجر في بلادي . لكن أمي قالت:
- لا خير فيها . تغلي دائماً بنار الثورة.
- ولكنني سمعت أن ملكها قوي. وأن التجار في حمايته ينعمون.
- ينعمون بعد أن يشاركهم الربح ، وإن قامت الثورة قطعوا رأسك معه.
- ألم تقولي أن أبي كان من الثوار؟
- لأنه كان معدماً. لو كان ثرياً لما فكر في الثورة.
هكذا كانت أمي قد نسيت أبي ، لم يعد له وجود إلا في اسمي، حتى وجهي الذي يشبهه يوم الصلب لا يذكرها بشيء.
حزمت أمري على الرحيل. لا أدري هل طمعاً فيما قيل في الرسالتين رغم استحالته. أم رغبة في رؤية موطني والمكان الذي عذب فيه أبي. في الطريق أحسست بالشوق لهذا الوجه الباسم لي رغم العذاب. ليس حاقداً مثلما تصورته أمي بعد أن ذاقت النعيم، بل هو بطل كان يجب أن تحضّرني لأنتقم له . عشت وهو بالنسبة لي صورة واسم ليس أكثر، ولكن الآن يعود بقوة كحي وميت في آن واحد ، كملك وكأب، بطل ومارق. حضور طاغ لا مهرب منه . كأنه يسيطر علي أكثر كلما اقتربت من بلده.
أشعر بان هناك من يرصدني في الرحلة. قيل لي في رسالة الثوار أنهم سيقومون بحمايتي. ولكن ممن؟. ولماذا طوال يومين لم يحاول أحد الاقتراب مني بخير أو شر؟ لاحت أمامي المملكة. كيف انتظروا كل هذا ليثوروا على الملك؟ ولماذا انتظر الملك كل هذا ليعفو عني. ولو كانت خدعة فما الخطر مني ؟ لماذا تبدو المملكة خالية . لا أحد يلاقيني في طريقي. أجوب الشوارع كأنني في مدينة ميتة. تلوح أمامي فجأة أدخنة كثيفة فأذهب باتجاهها. لا أحد بالمرة. ولكن صوتاً يبدو كهدير الأمواج يعلو رويداً رويداً. يستمر في الوضوح حتى يخالطه أصوات صراخ وصليل سيوف وصهيل خيل، والدخان مازال يتكاثف. وجدتني في ميدان عظيم. هنا وقفت منذ ربع قرن أنظر إلى أبي. رفعت رأسي إلى حيث كان فوجدت النار تأكل الصليب. وعلى قمته هيكل عظمي تقترب النار من الإتيان عليه. أين أبي الملك ؟ أين أبي المارق؟ ولماذا صمتوا جميعاً ونظروا إلي؟ سمعت البعض يقول:
- ابنه؟
- بل هو .
رفعوا رؤوسهم على حيث بقايا أبي. نادى أحدهم من أعلى:
- انظروا... لقد مات وتحول إلى عظام.
رد آخر من العامة:
- بل هبط من على الصليب . ها هو أمامنا .
ساد الهرج وعلت الأصوات كلٌ بكلمة. نظرت في الوجوه. منهم من يريد أن يسجد أمامي، ومنهم من يريد أن يقتلني. أين المصير؟ ولماذا عدت إلى هؤلاء المجانين؟ كان هناك شيء على الصليب يجذب نظري رغم الخطر أمامي. الآن فقط أشعر بأبي كما لم أشعر به من قبل. الآن أحس أنني ابنه. وجدت روحاً تنبعث في. روحاً ثائرة تكاد تقتلعني. صعدت على مكان عال أسفل الصليب المحترق. قلت:
- يا شعب المملكة. اسمعوني.
صمت الجميع منتظراً ما سأقوله. لمحت رماة يصوبون نحوي، ورجالاً يحيطونني لحمايتي. لم أجد ما أفتتح به كلامي سوى أن أقول:
- أنا سعيد بن ورد.

جمال دغيدى
19-05-2006, 12:27 PM
هواجس طبيب
دائما أنت هكذا يا دكتور خيري ، أتعبتني كثيرا ، فعندما بدأنا نبحث عن شقة ، كنتَ مُصرًا على أن يكون مدخلها مستقلاً ، وها نحن قد عثرنا عليها ، وهاهي العيادة قد افتتحت ، لكَ حجرتك المستقلة ، ولى حجرتي المستقلة ، والصالة فسيحة ، وها أنتَ تنفذ ما اتفقنا عليه ، لا تحضر العيادة سوى ثلاثة أيام في الأسبوع ، السبت والاثنين والأربعاء ، والتزمتُ أنا أيضا بأيامي ، الأحد والثلاثاء والخميس ، مؤكد أن اتفاقنا كان صائبا ، فلا يجوز أن يكون في نفس العيادة في ذات الوقت طبيبان لأمراض الباطنة ، أصبحنا نتناوب العيادة أنتَ في أيامك وأنا في أيامي ، أنتَ في حجرتك وأنا في حجرتي ، وأصبح في مقدوري كما أصبح في مقدورك أن أعمل في مستوصف في الأيام الأخرى ، اقتسمنا إيجار الشقة ، واقتسمنا فاتورتي الكهرباء والمياه ، واقتسمنا أيضا الضرائب العقارية التي أصر المؤجر أن نتحملها نحن لا هو ، واقتسمنا كذلك أجر العاملة التي أحضرها لنا عم عبد المحسن صاحب محل الأقمشة المجاور .
نعم لم نتقابل قط بالعيادة ، فنحن نسير في اتجاهين متوازيين ، وأصبح المكان الوحيد الذي يجمعنا هو المستشفى ، أعرف جيدا أنك على خلق ، فعلاقتنا ليست وليدة يوم أو شهر أو سنة ، بل سنوات طويلة ، منذ السنة الأولى بالثانوية العامة ، كنتُ ساعتها أتوق إلى الحديث معك ، لهدوئك ورزانة عقلك ، ولتفهمك الشديد للحياة ، لم تكن تنبهر بالمظاهر كما كان يفعل الجميع ، لم تكن تغريك الفتيات الخليعات ، كانت تحجبك عنهن علامة الصلاة البارزة فوق جبهتك ، لم يثرك نداء بعض الزملاء بكلمة يا مولانا ، كنتَ تبتسم لهم برقة ، لم يتجاوزوا هذه الكلمة ، ولم تنمُ سخريتهم ، كانت ابتسامتك ولطفك وذكاؤك الذي اشتهرت به ، كان كل ذلك يجهض السخرية في أفواههم .
نعم ظللتَ محتفظا بجزء كبير من هدوئك أثناء الكلية ، وفتحتَ نافذة تطل منها على الحياة العصرية ، تعاملتَ مع الطالبات ، كنتَ تستهويهن بعلمك ووسامتك ، فالتف حولك الكثيرات منهن ، واتسعت النافذة التي تطل منها ، وتقلصت مساحة علامة الصلاة على جبهتك ، وازداد شَعرك طولا ، وشاربك كثافة ، ولكن ظللتَ على عهدك لا
تتحدث عن الآخرين سوى بالمدح أو الثناء ، فإذا رأيتَ الزملاء يتحدثون متندرين على زميل غائب ، كنتَ تستأذن معتذرا عن البقاء ، وتنصرف بلطف متعللا بزيارة صديق ، أو شراء بعض الأشياء ، لم تلعب مع زملائك قط لعبة الكوتشينة ، ولم ألعب أنا أيضا ، كنتَ تقرأ كثيرا لا تمل .
كان من دوافع سروري أنني عملت معك فى نفس المستشفى ، بل في نفس القسم ، قسم الباطنة ، تمتعتَ بسمعة طيبة ، كنتُ مجهولا بجانبك ، لكنني لم أحسدك ، لأنني كنتُ أحبك ، نعم تمتعتَ بسمعة طيبة رغم الزوبعة التي أثارتها تلك المرأة اللعوب ، التي ادعت في المستشفى أنك تحرشتَ بها جنسيا ، لم يصدقها أحد ، فقد بدا مظهرها مريبا ، وقلنا جميعا ربما تكون هي التي تحرشت بك ، ولكنك بسبب فطرتك السليمة لم تفهم لغتها ، مما أغاظها ودفعها إلى التقول عليك ، فأنتَ محل إغراء لأي فتاة ، هكذا يقول الجميع ، ومر الموقف بسلام ، أنتَ أيضا صريح معي ، وأنا بالمقابل أقدر صراحتك ، وأحفظ سرك ، وأعلم أنك تكن لي الاحترام والتقدير ، لم يحدث أبدا أن تلفظتُ بكلمة من حديثك معي ، أنتَ تعتبرني صديقك ، نعم أنا صديقك وسأظل ، لأنني أحبك .
أفضيتَ لي بأدق أسرارك ، بكيتَ بين يديَّ ، حدثتني عن تلك الزلة التي انزلقتَ إليها ، كنتَ منهارا تماما ، قلتَ لي أنها كارثة وضياع ، هدأتُك وربتُ على صدرك ، وقلتُ لك أن الندم هو باب التوبة ، قلّت دموعك ثم جفت ، وأخبرتني أن المرأة التي كدتَ تنزلق إلى هاويتها عاودتك ثانية ، وأنها تعمل مضيفة بخطوط أتوبيس سوبرجيت القاهرة الغردقة ، فكرتَ في الله أولا ، ثم فكرتَ في بعض الأمراض ، فكرتَ في مرض الإيدز ، وأصابك القلق الشديد ، لكنى وقفتُ بجانبك ، وطلبتُ منك بحزم أن تنهى هذه العلاقة ، وتطرد هذه المرأة بطريقة مباشرة ، وأن لا تترك نافذة صغيرة تنفذ منها إليك مرة أخرى ، وفعلتَ ، أخبرتني أنها بدأت كمريضة ، تشكو من أعراض لا تنتمي إلى مرض معين ، فاحترتَ في أول الأمر ، ثم ما لبثتَ أن فهمتَ ما وراءها ، حين حدثتك عن ظروف حياتها ، وبُعد زوجها عنها جسديا وعاطفيا ، رغم أنه يعيش معها تحت سقف واحد ، وأنها بكت بين يديك وأشعرتك بدفء جسدها ، ثم أظهرت لك أسلحتها الفتاكة ، وقت الفحص ، فكانت ملابسها الداخلية أشد إغراء من جسدها , وكانت يدك تنزلق في تراخ على بطنها ، فيبدو وجهها محتقنا وهى تنظر ساهمة إليك ، وحدثتني أنك أفقتَ فجأة وأنهيتَ الفحص ، لكن الموقف تكرر بعد ذلك ، وكانت المساحة التي تعبث بها تزداد يوما بعد يوم ، تجولتَ بيدك في الأماكن الأقل خطرا ، لكنك لم تستعمر جسدها كليا ، ولم تستعمر هي جسدك .
نعم أنا صدقتك عندما أخبرتني أنك طردتها من العيادة ، منذ أسبوعين ، وأن دعاء الوالدين أنجاك منها ، وأن رعاية الله تلقفتك قبل الانحدار إلى قاع الهاوية ، وقرأتُ الصدق في عينيك عندما اقترحتَ وجوب إصدار قرار يمنع الطبيب الغير متزوج أن يمارس المهنة ، فوافقتك على ذلك .
نعم حدثتني عن كل شئ ، ولكن معذرة فأنا لا أستطيع أن أخبرك عن شئ ، لا لشيء إلا للحفاظ على مثلك الأعلى ، كل يوم أقرا في عينيك الندم ، وكل يوم أرى في عينيك الدموع ، قلتُ لك كثيرا هوّن عليك ، طالما أنجاك الله ، وطالما لم تأكل من الشجرة المحرمة ، بل تراجعتَ وهى بين يديك ، فكرتَ في الزواج ، ولكن أين الباءة ، صُمْتَ ، ولكن إلى متى ؟ ، وقرّرتَ أن لا تدخل مريضة إليك بمفردها ، واستحسنتُ لك ذلك .
مازلتَ تبث لي همومك ، إنني لم أحسدك في يوم من الأيام ، ولكنى اليوم فقط أحسدك أنك وجدتَ من تبثه همومك ، وها أنا أصبحت على بعد خطوات من عم عبد المحسن ، صاحب محل الأقمشة ، وهو يقف أمام العيادة ، بعد أن قطعتُ أكثر من أربعة كيلومترات من منزلي ، وها هو عم عبد المحسن يخبرني أن مريضة تنتظر بالعيادة ، ويخبرني أنك لم توفق في علاجها ، وأنها كانت تحضر إليك في كل أيامك ، والآن تتردد علىَّ منذ أسبوعين ، وأخبرني أنها تمتدح مهارتي الطبية وأخلاقي العالية وتذمك .
ــــــــــــــــــــــ

جمال دغيدى
19-05-2006, 12:30 PM
مـلك القصـب
أمسك حسونة سيخ الحديد بيديه كلتيهما ، ورفعه إلى أقصى ما يستطيع ، ونزل به في بطء شديد على عود القصب الملقى أمامه على الأرض ، لامسه بطرف السيخ الحاد ، كأنه يقدر بدقة الموضع المحدد ، عاد فرفع السيخ ثانية حتى لامس ظهره وهوى به فجأة على العقدة القريبة من جذر عود القصب ، ففصلها خالصة ، دون أن تعلق بها قشرة ، هلل الحاضرون :
ـ آدى واحد .
ثم هللوا بعد ذلك :
ـ آدى اتنين ... آدى تلاته ... آدى أربعه .
كان محي الدين صاحب القصب أكثر الحاضرين تحمسا لحسُّونة ، وكان يقول :
ـ دا مين ده اللي يقدر يلاعب حسونة ملك القصب ؟
قال أحدهم متحديا :
ـ ألاعبك يا حسونة بس على الواقف واللي يكسب ياخد
عودين غير عود اللعب .
فرد حسونة وهو يرفع كم جلبابه متباهيا :
ـ على الواقف . على الأرض . نشان . قشرة . زي ما تحب .
ـ اتنين .
ـ تلاتة .
ـ أربعة .
ـ خامسة .
أوقف الشاب عود القصب على الحائط ، وجعله ملاصقا للحائط تماما ، لكن حسونة اعترض بشدة ، وحاول أن يزحزح العود عن الحائط ، ليجعل وراءه مسافة كافية لمرور حافة السيخ الحديد ، واعترض الشاب بدوره وهو يعيد العود ليجعله ملاصقا تماما للحائط ، فقال له حسونة :
ـ هات انت تلاتة على كده .
فقال له الشاب بضحكة ساخرة وهو ينظر للآخرين :
ـ إنت ح تكِل يا حسونة ؟
ـ إنت عارف إن حسونة ما يكلش ، عايز تلعب على كده نتفق .
فقال له الشاب :
ـ واحد .
ـ حلال عليك ... إلعب .
تغيرت ملامح الشاب ، ونظر ذاهلا لحسونة للحظة ، فضحك الجميع .
أمسك الشاب سيخ الحديد بكلتي يديه ، وحركه بعيدا في اتجاه أفقي ، ثم هوى به ناحية عود القصب فإنغرست حافته بالحائط ، فتعالت الضحكات :
ـ حسونة ملك القصب .
كانت لهذه القرية طقوس خاصة ، فحين تجول بين شوارعها نهارا يخيل إليك أن بيوتها قبور ، وسكانها أموات ، فلا تكاد تجد بالشوارع أحدا ، اللهم إلا قليلا من العجائز الذين يجلسون على المصاطب المظللة بظل الحوائط ، هربوا من قبورهم ليلقون نظرة أخيرة على الحياة ، وتشعر بالبعث فجأة بعد الخروج من صلاة المغرب ، تمتلئ الشوارع بالرجال والنساء والأطفال .
كانت لعبة القصب قد أصبحت من الألعاب اليومية المثيرة عند الشباب ، بل أحيانا يلعبها الكبار مازحين متذكرين الأيام الخالية ، وتعددت فنون هذه اللعبة ، فتراهم يستعملون السيخ الحديدي تارة ، وتارة أخرى يلعبون لعبة القشرة ، كانوا يسلخون قشرة من العود عند الجذر ، وعلى المتراهن أن يكمل سلخها دون أن تنقطع حتى يبلغ بها عقلة أخرى أو اثنتين أو أكثر ، وظهرت لعبة القرش ، حيث كان المتراهن يقف بمحاذاة عود القصب ثم يقذفه بالقرش الفضي فيرشقه به .
وقد تجد في الشارع الواحد اثنين أو ثلاثة من باعة القصب ، وقد أوقفوا الأعواد على الحائط ، وجلسوا بجوارها على قطعة من خيش الأجولة الفارغة ، في انتظار من يشترى أو من يلعب ، وليالي الشتاء لا يحلو السمر فيها إلا حول القصب ، وكان بعض الباعة يشعل النار في موقد الخشب ليجتذب الشباب ، الذين سرعان ما يلتفون حوله مستدفئين ، ثم لا يلبث الواحد منهم أن يقول :
ـ ناولني عود قصب ، بس ما يكونش مسوِّس .
فيقوم البائع في نشاط ، ويعرى العود من الأوراق الطويلة الخضراء والجافة ، ويقدمه له ، وكان حسونة يشبه هؤلاء الباعة الذين يشعلون مواقد الخشب بصيادين البعوض ، فلا تكاد النار تضئ في موقد الخشب حتى يأتى الشباب من كل وصوب وفج ، وكان حسونة يقول لأحدهم ساعة يراه يشعل النار :
ـ دقيقة واحدة وتلاقى الناموس محاوطك من كل ناحية.
فيقول له البائع :
ـ بس نَفَسَك معانا يا ملك القصب .
لم يتذكر حسونة أنه اشترى قصبا قط ، كان يكسب في اليوم مالا يقل عن عشرة أعواد ، فذاع صيته وأصبح مضرب المثل ، فإذا أراد أحد أن يغيظ الآخر أثناء لعبة القصب ، يقول له :
ـ أجيب لك حسونة ؟
وكان حسونة يشعر بالخيلاء ، فلا يكاد يعود من أرضه ـ ثلاثة قراريط ـ ومعه جاموسته الوحيدة وحماره النحيل حتى يلبس جلبابه النظيف ، ويحبك الطاقية على رأسه ، ويمسك في يده عصاه الخيزران ، ويسير في شوارع القرية محركا عصاه للأمام والخلف مع كل خطوة يخطوها ، كان يقول متندرا :
ـ دا الجاموسة والحمار بتوعى بقوا مدمنين قصب .
* * *
في أحد أيام الصيف الشديدة الحر ، خرج حسونة راكبا حماره ، وقد أمسك في يده حبل الجاموسة ، كان مرض زوجته ، وذهابه معها إلى الوحدة الصحية ، هو الذي أخره لوقت الظهيرة ، كانت رجلاه مدلاتان على جانب واحد من الحمار ، كان الطريق الزراعي خاويا تماما ، وكانت حقول الذرة الممتدة على الجانبين تحجب الطريق عن بعض الزرائب المتناثرة هنا وهناك ، رمق فتحي على امتداد بصره سيارة نقل تقف وسط الطريق ، وعندما اقترب منها استطاع أن يرى رجلا يقف فوقها وقد أمسك كاميرا كبيرة ، كان يلتقط بعض الصور للطريق والحقول ، اقترب أحدهم من حسونة ، حيَّاه ثم عرض عليه أن يسمح لهم بتصوير الجاموسة فوق السيارة مقابل مبلغ ثلاثين جنيها ، كانوا يصورون فيلما سنيمائيا ، يحتاجون لبعض اللقطات الواقعية من داخل الريف ، قال حسونة في نفسه : كل تأخير فيه خير ، وافق فأنزلوا من الجانب الخلفي للسيارة ألواحا متلاصقة من الخشب على هيئة سلم ، وصعدت الجاموسة يسندها الجميع ، ورجع حسونة بحماره إلى الرواء مسافة خمسين مترا ، ليلتقطوا له بعض الصور الأخرى ، حتى تكتمل اللقطات التي جاءوا من أجلها لقلب الريف ، وهمَّ آتيا في اتجاههم ، ولكنه فوجئ بالسيارة تنطلق بسرعة كبيرة ، مخلفة وراءها الغبار الذي حجبه عن رؤيتها .
بلغ العمدة الذي بلغ بدوره نقطة الشرطة ، لكن لا جدوى .
ومنذ ذلك اليوم انقرضت لعبة القصب ، ولقب حسونة بلقب ملك فيلم الجاموسة ، بدلا من ملك القصب ، يمشى منكس الرأس ، وتجرى خلفه الأطفال مهللين :
ـ ملك فيلم الجاموسة
ــــــــــــــــ

عدنان القماش
19-05-2006, 03:27 PM
المقدمه
في بلادنا الجميله, حيث يخيم الصمت علي كل شئ إلا من أصوات المدافع , كرابيج التعذيب و ألسنه البشاوات الكبار

البدايه دايما هتكون من عند محل البقاله بتاع عم حوده الكينج

فتعالوا بينا بقي نتعرف ببطل الحلقات دي و هو عم حوده الكينج
الرجل الغلبان اللي عنده محل بقاله
و بيحب قوي يقرأ ورق الجرائد اللي بيلف فيه البضاعه للناس
فمع الوقت بقي بسم الله ماشاء الله
حاجه جامده قوي...كأنه حاصل علي دكتوراه في السياسه

فمرحبا بكم في محلات عم حودة الكينج حيث الجبنه و البولاتيكا...
يعني لامؤاخذه السياسه :noc:

و طبعا الناس هتسأل إيه العلاقه بين الجبنه و البولاتيكا و محلات البقاله؟؟؟
طبعا بالنسبه للدول المتحضره فالكلام ده غريب
أما بالنسبه لنا إحنا و الساسه بتوعنا

حيث أن السلام هو العنصرالرئيسي للعمليات السياسيه العربيه
و حيث أنه ال(خيار) الإستراتيجي
و طبعا إنتم سيد العارفين إن الخيار علي علاقه وطيده جدا بالجبنه
و طبعا ما فيش محل في الدنيا مافيهوش جبنه
تبقي البولاتيكا بتيجي من علي أرفف محلات البقاله
اللي زي محل البقاله بتاع عم حوده الكينج...

وهي دي حكايتنا يا إخوانا...
حيث إنه ممكن أي حد يقول إي كلام والناس تصقف. :NJ:
و يا حلاوه, بقي سياسي كبير...
مع إن العمليه واضحه إن مش كل من ركب الخيل بقي خيال...
بس في أيامنا دي بنشوف العجب...

فإن شاء الله هنعيش مع بعض مجموعه حلقات بأسم عم حوده الكينج....
هنحاول نشوف فيها نماذج لمجتماعتنا العربيه و طبعا مواقفنا السياسيه الكبيره قوي..
اللي يعني تقعد طول الليل تفكر فيها و ما تفهمش حاجه...

و هنسخر و هنضحك بس مش هننسي نفكر...
لأن فعلا الفرق بين الإنسان و لامؤاخذه الحيوان هي القدره علي التفكير و التمييز....
و شعارنا دايما هيكون شر البليله اللي من غير لبن ..

تعالو بينا نشوف إيه اللي بيحصل!!!!

----------عم حوده الكينج و الأخر--------------
السلام عليكم و عدنا من جديد
و أدي عم حوده الكينج الجميل...نازل من علي السلالم الشبه مش موجوده....في بيته القديم الشبه منهار
و الرطوبه الناشعه علي الحيطان...و منظر أخر رومانسيه
و بعدين خرج من الباب الضيق اللى يا دوبك خرجه للحاره الأجمل...
و هو بيكلم نفسه...ما هي الدنيا حلوه أهي, أومال الناس ما بقتش طايقه نفسها ليه؟

و تمعنا منه في الجمال قام عم حوده بالتأمل في أحوال الناس...
و كان معدي علي محل الست تقليه للكشري...فصبح علي صبيها عدس
و شاف بنتها القموره كوبشه و هي عماله تفعص في الطماطم و تغني..
و طبعا ريحه الكشري تهوس...دخلت في نخاشيش عم حوده الكينج...
و ريحه الصلصه اللي معموله من الطماطم المضروبه

فقال لنفسه و هو يملأ صدره بالريحه أم بلاش:
يا سلام علي ريحه الصلصه حاجه تجنن...الواحد المفروض يضرب له واحد كشري..فنادي علي الواد عدس
وقال: واحد كشري و كتر الدقه يا واد يا عدس.
عدس: أيوه يا عم حوده, أي خدمه...أنت تؤمر

و مافيش خمسه كان عم حوده راح علي المحل و فتح الباب و رش المياه...
و قعد علي الكرسي و جيه عليه الواد عدس و هو شايل طبق الكشري اللي بالصلصه المضروبه

و هو بيقول: أحلى كشري لأحلي كينج في المنطقه كلها...
فضحك عم حوده و قاله: مش هتبطل بكش بقي يا واد يا عدس...ألا صحيح قولى...لقيت الجبه اللي ضاعت و لا لسه
فضحك عدس و قاله: لا لسه يا عم حوده...أصلها وقعت في شارع ضلمه, فراحو يدوروا عليها في شارع منور شويتين
وضحك الأتنين و راح الواد عدس جري علي شغله...

و عم حوده بدء بقي يمزمز في الكشري السخن..و يدندن و يقول
يا حلاوه الكشري يا حلاوه...يا حلو لو يا حلاوه.

المهم فجأه الدنيا ضلمت و كأنها هتمطر...و سمع فجأه عم حوده صوت بيتكلم عربي مكسر(لامؤخذه خواجاتي)
و بيقول: إزيك يا عم هوده.

فبص عم حوده لفوق لفوق لفوق..أصله كان قدامه رجل فلق...عامل زي الحيطه..
لابس حته بدله عمر عم حوده ما شاف لها مثيل في الكساء الشعبي و لابس بورنيطه...
و نضاره كده زي بتوع الواد أبو عضلات ده بتاع فيلم الكوبوي تيرم نيتور...

فتخض عم حوده و رد بصوت متحشرج و قال: هوده؟ هو ده اللي بنا يا محترم؟
و شكله كان ناوي يستظرف كعادته و لكن لم نفسه لما حس إن عم الوحش ده ممكن ياكله

فسأل عم حوده هذا الوحش و قال: هو حضرتك مين إن شاء الله؟ و عرفت أسمي منين؟
فإبتسم الرجل إبتسامه صفراء و قال: هو فيه حد ما يعرفش عم هوده الكينج؟ كبير المنطقه؟

ففرد عم حوده قلوعه شويتين و شم نفسه و قال: أنا عارف يا أبني...بس أنا ماشفتكش هنا قبل كده و بعدين شكلك مش من المنطقه يعني؟
فقال الرجل: أنا فعلا مش من المنطقه أنا من عند حبايبك الأموريكان...بلاد الكوبوي.
فمصمص عم حوده شفايفه و قاله: أهلا بريحه الحبايب (وفي سره بيقول, هلو هلو..هو إنتم بدأتم توصلوا لهنا)..و الكريم أسمه يه؟
فقاله: أنا اسمي الأخر يا عم هوده؟
فقاله عم حوده: أخر؟ إزاي يعني؟
فقاله الأخر: إيه يا عم هوده هو أنت مش بتشوف وسائل الإعلام العربيه و لا إيه؟
فقاله عم حوده: معلهش يابني,أصل النضاره بتاعتي أتكسرت من مده و انت عارف بقي أنا رجل عضمه كبيره و السن له أحكامه.
فقاله الأخر باستهجان: يا عم هوده؟
فقاله عم حوده: أنا قريت مره مقاله كده لواحد من المطبلين بتوع الزفه اللي عندنا...
اللي هو رئيس تحرير مرتشي و عامل فيها وطني..(و هو وطني فعلا و الحدق يفهم)
المهم عم الوطني ده كان بيقول,إن لازم نحترم الأخر و نتفاهم مع الأخر و نبوس أيد الأخر و نشوف الأخر (شوفه علشان يشوفك)..
و حركات كده يعني...هو ده إنت يا بني؟

فأبتسم الأخر و قاله: أيوه يا عم حوده هو ده أنا,الأخر.

وفجأه سمع عم حوده صوت رفيع كده عامل زي صوت البرص...و بيقول إزيك يا عم حوده
فبص عم حوده لتحت كده عند رجلين الأخر, و لقاه ماسك واحد من قفاه و كان سحبه علي الأرض و مسففه التراب و كانت عنين الكائن ده مزرقه و حالته بالبلا

فسأل عم حوده الأخر و قاله: هو مين ده يا عم الأخر؟ هو ده ابنك و ضيع الجزمه بتاعته؟
و لا عيل بيلعب كوره في الحاره و كسر لك بترينه المحل بتاعك؟
فرد الأخر و قاله: لا يا عم هوده..ده الأخر بردو...بس الإرابيك فيرجن (النسخه العربي يعني)
فاستغرب عم حوده وقال: إزاي يعني..هو فيه كذا أخر و لا إيه؟
فقال الأخر اللي هو النسخه الكوبوي: طبعا يا عم هوده؟ دول الأواخر مقامات...فيه أخر أموريكاني و أخر صهيوني و أخر أوروبي و أخر ياباني
و أخر مالهوش لازمه (الأرابيك فيرجن), أند سو أون (وكده يعني بالبلدي)

فضرب عم حوده كف بكف و سأل الكائن المتبهدل ده وقاله: و إنت يا بني إيه اللي جابرك علي كده؟
فرد الأخر(النسخه العربيه): هو فيه إيه يا عم حوده..هو أنت مش عايش في الدنيا و لا إيه؟
لازم نحترم الأخر مهما عمل؟ و لازم نفهمه؟ و كمان لازم نعمله رز بلبن..أومال إيه؟ هو مش إكرام الضيف و لا ما عدش فيه مرؤه يا عم حوده...
و استطرد و هو لسه مبتسم و قال: و بذمتك يا عم حوده شوف الرجل ده قطع مسافه أد إيه علشان يوصل لحد هنا.

فكان عم حوده عايز يديلوا بالرجل في وشه و ضبه المفتوح ده و مبتسم و هو متمرط في الأرض...بس سبحان الله هيعمل إيه ما هو ما عدش فيه دم و لا نخوه عند الناس..

المهم سأل عم حوده الأخر الأموريكاني و قاله: طب و أنت عايز إيه مني يا عم الأخر؟
فسال لعاب الأخر الوحش و قال: كنت عايز حته حلاوه طحينيه يا عم هوده؟ و بعدين الواد الأخر العربي هو اللي هيدفع طبعا أو تشككها علي حسابه.
و نبقي نخلي صندوق الهدم الدولي, يجدول الديون اللي علي الأخر العربي ده فيما بعد لك يا عم حوده...و يمكن نبقي نضغط عليك و نخليك تخفض الديون أو تلغيها أصلا.
و يبقي علي رأي المثل يا عم هوده, ما الحلاوه ساحت و خلاص ما خلاص يا وله.

فطبعا عم حوده كش و دخل و جاب الحلاوه للأخر الكوبوي...
و شاف الأخر بيبعد لأخر الحاره و بيأكل الحلاوه بإيد
و في إيده التانيه مجرجر الأخر العربي (المبتسم و المتفائل دائما) علي الأرض و بيمسح به المنطقه كلها

و ما فيش خمسه و قعد عم حوده ياكل الكشري اللي برد...و لسه بيسمي و بيرفع الملعقه فلمح بطرف عنيه حاجه أخر دلع..
واحده ست إنما أخر جمال...و بتتمشي بدلع و جايه علي المحل بتاعه...فقام بسرعه وحط طبق الكشري بعيد و مسح فمه بسرعه في طرف البالطو..
و ظبط الطاقيه...أومال إيه...هو كل يوم بيشوف الكلام ده؟

فجت الست و قالت لعم حوده: إزيك يا عم خوده..؟
ما خدش عم حوده باله من لكنه الست أو ما فرقتش معاه و قال: خوده خوده...المهم أعيش, الجميل يؤمر بحاجه؟
فضحكت الست ضحكه أخر صهلله طيرت فيها برجين من عقل عم حوده و قالت: أيوه يا خوده يا خبيبي...هو الواد الأخر الأموريكاني ما عداش من هنا؟
فاستغرب عم حوده و قال: و إنتي إيه علاقتك بقي به إن شاء الله؟
فغمزت له و قالت: ما هو أنا أم الأخر الكوبوي يا عم خوده؟
فاستغرب عم حوده: أم الأخر و اللي جابوه كلهم كمان يا عسل
وسألها: و اسم الجميل إيه؟
فردت عليه بدلال و قالت: فيدرا؟
فأندهش و قال: زوجه الخواجه كوهين الحرامي لعنه الله عليه و علي والديه (راجع حدوته عم حوده و الدستور يا سياد)
فأبتسمت و قالت: أيوه أنا أم الأخر الأموريكاني..تربيه إيدي و بمشيه زي ما أنا عايزه و ما يعصاش لي أمر, و ألا قطعت عنه المصروف

و خمسه كده و جات واحده تخينه و متبهدله يا عيني و سألت عم حوده: ايوه يا عم حوده, ما شفتش الواد أبني الأخر العربي؟
فضحك و قال: أه شفته,الحقي بقي الواد الأخر الاموريكاني مبهدله علي ناصيه الشارع و رابطه في عمود النور و بيفرج عليه خلق الله...
و أبنك عمال يضحك زي الأهبل مش عارف ليه..

فحدث التقاء لنظارات الحاجه أم الأخر العربي...و الست فيدرا أم الأخر الكوبوي...
و قبل ما تنطق أم الأخر العربي,كملت اللمه بقي,بقدوم الست بهانه كوين اللي كانت جايه تاخود حته صابون علشان تحمي الواد بيسه البرنس بن العم حوده

و فجأه و بدون سابق إنذار...قالت الست بهانه كوين بصوت أسد كاسر: فيدار مرات الخواجه كوهين الحرامي لعنه الله عليه و علي والديه؟
فأرتجفت الست فيدرا...فهي علي درايه كامله مين هي الست بهانه كوين فتوه المنطقه و اللي صدت العدوان الثلاثي في الحاره من كل من (فيدرا و ماريكا و راشيل)
و فجأه هجمت الست بهانه كوين علي فيدرا و مسكتها من شعرها و جرجرتها علي الأرض

و قعدت تقول: من ده بكرا بقرشين (أصلها كانت هتتدبحها بمناسبه العيد)
و عم حوده كان فخور بمراته و حس إن فلوسه حلال...مش بيعلف علي الفاضي...

فسألت الست أم الأخر العربي : هو فيه إيه يا خويا...هي الست دي بتضرب الست الغلبانه دي ليه, دي شكلها بنت ناس حتي؟
فقالها عم حوده: بنت ناس؟ ده أنتي طيبه قوي؟ دي أم الأخر اللي مبهدل أبنك و عمله زي الشوخ شيخه

فغضبت الست أم الأخر العربي,و هاجت و ماجت و جريت علي الست 'فيدرا'هي كمان و مسكتها من شواشيها (أم شعرها يعني)
و قعد عم حوده مبتسم ياكل طبق الكشري اللي برد قوي...

و الأخر الأموريكاني ماسك الأخر العربي مطلع عين أهله
(بس علي مين,الأخر العربي ماسك نفسه و مبتسم و لا كأنه فيه حاجه, اومال إيه..ماهو لازم يحترم الأخر)

و الحريم ماسكين في الست فيدرا و مقطعين لها شعرها اللي مكلفها تمن كام بير بترول من بتوع العراق
و شكلها كده يا ولاد, ما عدش بيدافع عنها غير حريمها...أو رجالها بقوا زي حريمها إلا من رحم ربك, ما تعرفش...
و إن شاء الله تعمريها و عيالك يجروا فيها

و نراكم قريبا في حدوته أخرى من حودايت عم حوده الكينج

موسى نجيب موسى
19-05-2006, 08:41 PM
من مذكــرات طفـل
الساعة تقترب من الثانية عشرة من منتصف الليلة الأخيرة من شهر ديسمبر البارد.. المكان طرف بعيد جداً من المدينة المترامية الأطراف وصوت أجراس الكنيسة يكاد يصل إلى أذن طفل يحتل هذا المكان بجسده الضئيل يشاكس (راكية) النار التي تبعثر رمادها في وجهه الذابل.. يحاول النفخ فيها عله يعيد لها الحياة أو تعيد له بعضاً الدفء الذي فقده منذ زمن.ينظر بعيداً يتأمل وجه المدينة الشاحب الذي تكسوه سحابة ضبابية تماماً وتلقى باقي ظلالها الرمادية على باقي جسد المدينة الواهن من بيوت متناثرة على أطرافه.. الضوء الشاحب المشبع بدخان (الراكية) الذي كاد أن يختنق من موت النار في (الراكية) يكاد يصل إلى عينيه يحاول بصعوبة كبيرة أن يبعث داخله ببعض الأمل الذي طار منه في إحدى ليالي ديسمبر الأولى.. بشر كثيرون.. جيش كبير مدجج بالسلاح يشرخ جدار الليل.. قهقهات وقرقعات وأصوات مبهمة لا تجد أذنه أدنى ألفه لها أو يجد عقله مفاتيح لحل رموزها.. يركلون أباه ويتبادلون لكمه بينهم وسط بريق غريب يملأ أعينهم.. ساحة المعركة انتقلت من جسد أبيه الهزيل إلى جسد أمه البض وجسد أخته البكر.. ابتسامة رائعة كانت تمرح على شفاه أخته قتلتها نزوة أحدهم في غفلة..النار تزداد موتاً يحاول بطرف فستان زفاف أخته -الذي لم تلبسه بعد ويصطحبه معه في كل مكان- أن يعيد بعض الحياة للنار التي ستذهب إلى العدم.. لم تفلح محاولاته.. ماتت النار أخيراً.. أخذ نفساً عميقاً من الهواء المدنس بزفير المدججين بالسلاح.. ضرب بكفه الصغير قلب النار عله ينبض مرة أخرى بعد موات مؤقت لكنه أعادها بسرعة مرة أخرى بعض أن طبعت إحدى الجمرات قبل موتها النهائي قبلة ساخنة على أطراف أصابعه الرقيقة.. من بعيد وفي ضوء أخر عمود إنارة يرقد على فوهة القرية لاح له شبحاً ضخماً فقفزت على شفتيه ابتسامة واسعة أراحت القلب من ركضاته السريعة النابضة بالخوف والوجع.. الشبح يقترب منه أكثر وأكثر.. كل يوم كان أخوه يأتي له بالحلوى التي يعشقها لا يعرف لماذا لم يعد يشترى له الحلوى منذ أن زارهم هؤلاء المدججين بالسلاح؟!!.. كان يذهب معه إلى المدرسة حيث كان يكبره بعدة أعوام وعند العودة يشتري له كل ما يريد ويتمني.عندما كانت تحدث مشكلة – ونادراً ما كانت تحدث – بينهما كانوا يقولون له في كل مرة أنه الأكبر ويجب عليه طاعته واحترامه مثلما يطيع ويحترم أبيه.. لم يعد يذهب للمدرسة كما أنه لم يعد يرى أخيه الذي اصطحبوه معهم هؤلاء المدججين بالسلاح عندما اعترض عليهم بشدة على ما فعلوه بهم جميعاً.. لمحة من حياة ولت برقت في ذهنه مع بعض ذكريات تمني أن تعود.. لم يمل من نفخ النار علها تنبض بالحياة مرة أخرى لكنها لا تستجيب لمحاولاته المتكررة لكن مع أخر محاولة مجهدة لإعادة النار إلى ما كانت عليه شعر بتيار بارد من الهواء يصطدم بوجهه.. تعجب لاستجابة النار لهذا التيار المنعش.. رفع رأسه وجده أمامه بزيه الأحمر المعتاد وغطاء رأسه الجميل الطويل.لحيته البيضاء وشاربه الكث الأبيض يعكسان ضوءاً مبهجاً على وجهه المبتسم.. يلقى خلف ظهره "بُقجة" هداياه الرائعة.. ابتسم له فكشف من بين شعر الشارب واللحية عن صفين من الأسنان اللامعة.. مد الشيخ يده إلى وجهه ليسمح دموعه التي طفرت رغما عنه قال له بصوت حنون لم يعد يسمع مثله:-

أعلم أنك تنتظر أخاك الكبير بعد ضياع الجميع.. أصبر فإن أخاك رهن قضية لا ذنب له فيها ولكنها قضيته وقضيتك أنت أيضاً أيها البريء.انتقض الشيخ فجأة وعاد يقول وهو يلوح بيده تجاه الأرض البراح أمامه:-

وقضية كل إنسان في هذه الأرض المنكسرة الذي فُض غشاء بكارتها قهراً...

نظر إليه الطفل بفرح وهتف قائلاً:-

أنت.. أخيراً جئت لي.. كثيراً ما تمنيت أن أراك وأن أقابلك.. فكثيراً ما شوقتني إليك جدتي العجوز وهي تحكي لي حكاياتها الجميلة عنك وعن عطاياك الإلهية وعن الناس والأرض والأعداء و.... و..

وأين جدتك الآن؟

حقيقي لا تعلم أنت أين جدتي الآن؟ وأن كنت لا تعلم فكيف علمت بغياب أخي وضياع الجميع؟!!

يا أبني أنا سجل حي ينبض بالوجود لكل طفل في هذه الأرض المنكسرة.. أمسح الدمعة.. وأرسم البسمة التائهة في ثنايا نجمة داود التي تكاد تخنق بسداسيتها المقيتة الجميع في هذه الأرض المقدسة.

ابتسم الطفل وأخذت الكلمات تندفع من بين شفتيه الجافتين:-

لقد ذهبت جدتي إلى الملائكة والأبرار.. رغم أنها ذهبت دون أرادتها وإرادتي أنا أيضاً.

ضحك الشيخ وأرسل إلى الطفل حروفه الناعمة:-

طالما أنها عند الملائكة والأبرار فلا تخف عليها إذن ولا تحزن أيضاً.

بعدها سحب الشيخ دفتراًُ أبيض وقلماً أبيض وقال للطفل:-

الآن.. قل لي ما تريد أن تحكيه للتاريخ وأنا أسجله لك.. فأنا أفعل ذلك مع كل طفل أقابله في مثل هذه المناسبة من كل عام.

لم يتردد الطفل لحظة فانفتحت فوهة فمه وانطلقت الكلمات بلا قيود حكى له عن بقع الدم الحمراء التي رآها تلطخ فستان زفاف أخته وعندما وجد جحوظ عينيه من فرط الدهشة سحب الفستان من مكمنه أسفل مقعدته وأراه البقع الكثيرة التي غيرت مع فعل الزمن وجه الفستان الباسم. كذلك حكى له عن أخيه وأحلامه العريضة التي رحلت عن مخدعه برحيله مع هؤلاء المدججين، وعن جدته الغالية التي كانت تجلس معه على عتبة الدار الخارجية تحكي له عن جده وشجاعته في مواجهة الباطل / الغاشم/ المغتصب قبل أن يخطفها الموت عنوة،وعن أمه التي أصابها العمى بمجرد أن ألقى أحدهم بحيواناته المدنسة في جوفها الطاهر وما لبثت أن لحقت بجدته، وعن أبيه الذي لم يجد أحدهم شيئاً يشبع فيه رغبته الشاذة سواه فأستسلم له بوداعه غريبة،وبعد أن رحلوا علق نفسه على أحد أفرع الشجرة التي زرعها ذات صباح لتظلل عليهم وتحميهم من المختبئ لهم في نية الزمن الغادرة.. ابتسم ثم حكى له عنه وعن زملائه الأطفال الذين كانوا يرشقون بالحجارة وجه الحقيقة المزيف حتى يدمى، وحكى له أيضاً عن زميلته "راندا" التي رحلت مع أهلها هرباً من الأرض الشراقي والأغلال الحديدية التي تزينت بها أيدي الجميع دون استثناء.. توقف الطفل ونظر إلى الشيخ الذي ابتلت لحيته البيضاء بالدموع حتى فاضت عنها وأخذت تتساقط بغزارة على صفحات دفتره الأبيض.. بعد أن انتهى الشيخ من تسجيل كل شئ طوى دفتره المبلل ثم دفع إلى الطفل بكره حديدية وقال له:-

هذه هي هديتي لك هذا العام فاحتفظ بها علها تنفعك يوماً.. بعدها هب الشيخ واقفاً وعندما أدار ظهره للطفل انطفأت النار تماماً وهمدت حتى من دخانها.في هذا الوقت تماماً خرج المصلون من الكنيسة يدشنهم صوت أذان الفجر القادم من مئذنة أحد المساجد القريبة.. اتجهوا جميعاً صوب الطفل مباشرة وأحاطوا به فيما يشبه الدائرة واحتلفوا معه بميلاد فجر العام الجديد بينما هو راح يلقي بالكرة الحديدية في الهواء إلى أعلى ثم يتلقفها بيديه التي لم تعد رقيقة بعد.

بقلم / موسى نجيب موسى
محمول : 0103188501

موسى نجيب موسى
19-05-2006, 08:44 PM
بطـل مــن لحـم و دم
لأول مرة يحدث معي هذا فقد تمردت علىّ القصة الجديدة التي أحاول أن أكتبها و لم تكتف بذلك بل حرضت بطلها على عصياني وعدم طاعتي فهددتها بعدم كتابتها وحتى لو كتبتها لن اجعلها ترى النور؛فأنا لن أرسلها إلى أي مجلة أو صحيفة أو حتى أضمها لكتابي الجديد الذي سيصدر قريباً عن إحدى دور النشر الكبيرة في القاهرة.. تآمر معها البطل حتى يدخلاني في دوامة لا مخرج لي منها من شد الأعصاب والتوتر والإرهاق و التشتت.. حاولت أن استميل بطلي لكي يقف بجواري و محاولة تذكيره بأنه لم يعرفها إلا من دقائق معدودة بينما يعرفني أنا على مدى العشرات والعشرات من القصص التي لبيت له فيها كل ما طلبه منى ولم أبخل عليه بشيء.. وجدته ينظر لي نظرة استحقار واشمئزاز وتركني تنهشنى الهلاوس و الأفكار الشريرة وحتى محاولتي المستميتة والأخيرة لإعادته مرة أخرى لسجن الكلمات و الورق في كتابي الأخير-حيث أنني أعلم تماماً كم يكره الحبس وخاصة لو كان انفرادياً في كتاب طويل عريض- باءت هذه المحاولة بالفشل الذريع حين هرب مرة أخرى من خلال فتحة صغيرة توجد أسفل صورتي التي تملأ خلفية الغلاف حيث يتركها الناشر حتى تكون لكتبه علامة مميزة يعرفها بها القارئ.هكذا كان يقول له عقله الذي حبيّ على سلم التعليم حتى وصل إلى السنة الثانية من المرحلة الابتدائية و سقط بعدها صريعاً غير مأسوف عليه. بعد أن هرب لم يجد شيئاً يفعله سوى التسكع على "زهرة البستان" و"الحرية "و"المنظر الجميل" يتسول من أصدقائي الأدباء ثمن لقمته وكوب الشاي لكنهم أعرضوا عنه عندما علموا بما فعله معي.. لم يجد بداً من البحث عنى؛ فبحث عنى في كل مكان توقع أن يجدني فيه،لكنه لم يجدني.. لم يتسرب اليأس إلى قلبه؛ فمازال هناك مكان واحد فقط لم يذهب إليه لكي يجدني حتى يعود لأيام العز والنعيم معي والتي كنت أكافئه فيها كلما ساعدني على إنجاز قصة جديدة.. في "الجريون".. وجدته أمامي بملابس رثة ووجه متسخ و أظافر طويلة لم يعتن بها منذ أن هرب منى.. لم أعره أدنى اهتمام، لكنه كعادته السمجة أخذ يتطفل علىَ وطلب لنفسه زجاجة بيرة على حسابي الخاص وبينما هو يشرب بنهم أخذ يعدد لي الحجج والأعذار حتى يقنعني بما فعله معي أو حتى لماذا فعل هذا كل كلامه كان يقف عند الحافة الخارجية لأذني التي تلفظه لكي يتناثر في الهواء المختنق بدخان رواد (الجريون) الذين لا يكفون عن التدخين.. ظل يراوغني ويراوغني وأنا ثابت على موقفي منه لا أتزحزح مطلقاً حتى نفد صبره وعلا صوته وعندما هم برفع يده في الهواء لكي يهوي بها على خدي التف حولنا رواد (الجريون) في محاولة لتهدئه الموقف.. صعبت علىّ نفسي جداً وأخذت من بين دموعي التي اغرورقت بها عيناي أعدد خيراتي عليه وبركاتي التي لا تحصى وطلباته الكثيرة التي لا تنتهي.. فعندما طلب منى أن يحب لم أتوان عن تنفيذ طلبه فجعلته يحب بإرادته حتى غرق في بحر من العسل والأحلام ولكني اعترف بأنني قسوت عليه قليلاً حيث أنني جعلت من يحبها لا تحبه لكن لم يكن قصدي من ذلك تعذيبي له أو زيادة أحزانه التي حرقت قلبه ومقلتيه بل كان ظناً منى أن الحب الحقيقي لا يكون إلا إذا اكتوى المحبوب بنار الحب المقدسة واحترق بها دون أن تشعر به المحبوبة وأيضاً حتى لا تحبه البطلة وتنتهي القصة بالنهاية التقليدية التي سأم منها الناس كثيراً فحاولت من خلال ذلك أن أكسر حلقات الملل التي ما أن يخرج الناس منها حتى يدخلوا في غيرها في سلسلة لانهائية من الحلقات وكذلك لأني لا أميل إلى مناصرة بطلات أعمالي فدائماً أحب أن أراهن في محنة بل أزيد المحنة أحكاماً عليهن وأوقعن في مورطات كثيرة وأتلذذ بضغط الظروف والحياة عليهن وأتلذذ أكثر وأكثر حين يصرخن ويولولن ويحاولن الاستنجاد بي للخلاص مما هن فيه لكني دائماً انتشي لهذا الإحساس الرائع أن تستنجد أنثى بي وتحاول أن تلوذ بحضن دافئ لكنى أخذلها والحقيقة أنا لا أعرف لهذا الإحساس تفسيراً محدداً.. هل من قسوة أمي الكثيرة عليّ وربطها الدائم لي في رجل (الترابيزة) وسقوطها فوقى بجسدها الضخم وتفجر الدماء من فخذي أثر قرصها المتوالي لي.. لا أعرف؟!! أم من مدرسة العلوم التي كانت تدرس لي في السنة الثانية من المرحلة الإعدادية وكانت إلى جانب جمالها الملفت للنظر تصر كل يوم على طبع شفاهها الساخنة على خدي المتورم حتى ولو لم يكن في جدولنا أي حصة لها في هذا اليوم وقد تركتني فجأة وماتت دون أن تستأذن منى أو حتى تعطيني قبلة أخيرة أحيا على ذكراها ما تبقى من عمري بدلاً من ذلك الهوس الذي أصابني عندما كنت أحاول أن أقيس شفا يفي على أثار شفا يفها المتناثرة في كل مكان على خدودي.. لا أعرف؟!! أم من البنت الوحيدة التي أحببتها بكل مشاعري البكر التي تولدت مع بداية التحاقي بالجامعة وباعتها هي بثمن بخس جداً لعدوي اللدود الذي لا أحبه ولا يحبني؟!! لا أعرف !! أم تلك المرأة الساقطة التي اصطحبني لها صديق لي كان يرغب أن يصبح قساً حتى يتأكد من رجولتي التي ضجر من كثرة حديثي له عنها وكانت تمارس معنا الجنس بكل عنفوانه وآهاته في الطابق الأول لمنزلها بينما كان زوجها ينام في الطابق الثاني.. فقد كنت احتقرها كثيراً وخاصة بعد أن عملت أنها احترفت المهنة وتوسعت في نشاطها بعد أن مات زوجها مقهوراً منها ومن أفعالها.

أريد أن أمارس رجولتي؟

ذكرته أيضاً بتلك المقولة التي صعقتني حينما قالها لي فأنا كنت أتصور أنه رجل محافظ ومتدين فقد حاولت إغراؤه كثيراً في قصصي السابقة لكنه لم يكن يريد أن يفعل شئ وكان يتعفف على ويترفع على السقوط في مستنقع الرذيلة وكان يعايرني كثيراً بأنه مازال يحافظ على نفسه طاهراً بكراً بينما أنا غارق في بحيرة عميقة جداً ممتلئة بماء كثير من الساقطات التي عرفتهن في حياتي،وحتى عندما حاولت أن أوقعه في الشر بإحدى حيلي القصصية حتى يكف عن معايرتي فقد جعلته ينفرد بإحدى الجميلات التي يذهب بياضهن بنور العيون مع العقول وتركته معها في حجره نومي الخاصة وهي عارية تماماً خاليه من أي شعر في أي منطقة من جسدها حتى رأسها جعلتها تحسرها بغطاء جميل حتى تكون اكثر جمالاً وإغراء إلا أن الذي فعله أذهلني حقاً فقد كنت أتمني أن تنجح حيلتي لكنه وضع ذيل جلبابه في فمه وفر هارباً وظل مختفياً عني مده طويلة حتى أخرجته في قصة أخري حيث كان خادماً لراهب ورع يحب الله كثيراً (قصتي سبط الراهب).

أريد أن أمارس رجولتي واختبار فحولتي.

ذكرته أيضاً بتكراره لطلبه الغريب هذا وإلحاحه الشديد عليُ الذي اضطرني تحت ضغطه الشديد أن ألبي له الطلب فأخذته من يده وذهبت به إلى تلك المرأة المحترفة التي عرفني بها صديقي ذلك الذي كان يريد أن يصبح قساً.. تركته معها حتى تعلمه فنون الكار وتدربه علي أساليب المعاملة الخاصة للمرأة فألقته لإحدى تلميذاتها بينما تفرغت هي في محاولة يائسة منها لاستعاده الماضي الجميل كما كانت تقول أو حتى استعادة بعضه لكن كل محاولاتها ذهبت سدي عندما تأكدت أنني لن أستطيع أن أشبعها كما كنت افعل سابقاً....

فرغ من سكب ما تبقى من الزجاجة التي طلبها منذ قليل في جوفه ثم تجشأ في وجهي برائحة كريهة ولمعت عينيه ببريق غريب وقال لي:-

اطلب لي زجاجه أخري.

طلبتها له دون مناقشة وبعد أن أخذها من النادل شرب جرعة طويلة ثم عاد يقول لي:-

لا تعرف وقتها أو حتى بعدها روعة الإحساس الذي شعرت به.. فوقتها عرفت وعن يقين بالغ بأنني رجل وليس كذلك بل من الممكن أن تتمناه أي أنثى.. فأنت دائماً كنت تحبسني في قصص الحب والرومانسية والأحلام والتهويمات والخيال والعالم الروحي.. يا آه.. كم كنت قاسياً على يا إلهي الخاص. بالفعل كان عتابه في محله فقد كنت اعتقد أن الفن يجب أن يبتعد عن الغرائز وأثارتها ويجب أن يسمو بالإنسان إلى أعلى مراتب الشفافية والنقاء والطهر أيقظني من نوبة التيه التي تهاجمني كل فترة وضحك ضحكة عاليةً أثارت فضول رواد (الجريون) واخذ يعدد إلى هو الأخر خيراته علىُ وبركاته التي لا تحصى وطلباتي الكثيرة التي لا تنتهي.. فقد ذكرني بالفترة التي أعقبت تجربته لرجولته وفحولته فقد كانت من أخصب فترات حياتي الإبداعية وكان طيعاً لي فيها جداً فكتبت العديد من القصص التي حصدت الكثير من إعجاب النقاد على مختلف مشاربهم وحصدت أيضاً الكثير من الجوائز التي حركت قليلاً الجمود المادي الذي كنت أعاني منه في هذه الفترة وكذلك أعادت لي الثقة التي افتقدتها لكفري بالكتابة وجدواها في مجتمع يغرق في مستنقع الأمية الموحش.. لكزته في كتفه الأيسر حتى يفيق ويسمعني جيداً:

أنت لا تستحق أن تكون بطلي بعد اليوم وسوف أقتلك في أقرب قصة سأكتبها ولن أقيمك مرة أخرى ولتذهب إلى الجحيم.

جحظت عيناه وتابع كلامي باهتمام شديد فحياته أصبحت مهددة وتقف على حافة سن قلمي.. أن شئت أن أفعل ما هددته به.. هو يعلم تماماً بأني أستطيع أن أفعل ذلك بل و أكثر من ذلك أيضا أستطيع أن أفعله.

أن تقارن نفسك بي وأن تضعني معك على كفة ميزان واحد فهذا المستحيل بعينه من أنت؟

أنا منك.. جزء منك.. من تكوينك.. من وجودك.

لكني لست دنساً.. وأنت دنست نفسك.

أفق.. وتذكر ما قلته لك منذ قليل.

لقد تبت إلى الله وعدت إلى تعاليمه وأنا واثق أنه سيقبل توبتي.

وأنا أيضاً سوف أتوب إليك وأرجو أن تقبل توبتي.. فلا تنسى أنك أنت الذي فعلت بي ذلك.

كانت رغبتك وكان إلحاحك الغبي.

لكنك تعلم أكثر منى، وأنا مهما فعلت لن أفعل إلا ما تأمرني به وتريده لي أليست مقاديري في يدك أني مُصير لك ولست مخيراً، فأنت ربي وإلهي.وقعت كلماته الأخيرة في أذني كأنها قنابل عنقودية أخذت تتفجر داخلي حتى حولتني إلى شظايا متناثرة لا تصلح لتشكيل إنسان مرة أخرى.. لا أعرف لماذا بعد أن طلبت منه أن يشرب جرعة أخرى من زجاجة البيرة المركونة أمامه شعرت بالذنب؟ فما كان يجب على أن أطاوعه في رغباته الجامحة وكان على أن أوجهه وأقومه وأعود به إلى الطريق القويم بعد أن شط عنه.. وحاولت أن أكفر عن خطيئتي العظيمة هذه. قفزت إلى ذهني فجأة فكرة أن أزوجه وأجعله يعيش في الحلال بدلاً من حياة الليل التي أدمنها هذه وبالفعل في أقرب فكرة قصة ألحت علىّ جعلته فيها يتقرب من إحدى الفتيات الجميلات التي أحبته كثيراً وتمنت أن يكون فارسها المغوار زوج المستقبل لكني لم أعرف حقيقة مشاعره ناحيتها؟! ولم أرد أن أعير هذا الشأن اهتماماً وقلت أن حاله سوف (ينصلح) بعد الزواج فعجلت بإتمام مراسم الزفاف حتى تهدأ ثورة شهوته التي أشعلت جسده كله في إطار شرعي حلله الله ويهدأ أيضاً وخز ضميري الحامي الذي كان يؤنبني باستمرار لأني أورده هذا المورد من التهلكة والضياع في الدنيا والآخرة.. أثرت بعد ذلك أن أبتعد عنه حتى ينعم بحياته الجديدة ولكني كنت بين فترة وأخرى أطل عليه من كوة وجودي المطلة عليه حتى أطمئن على سعادته وراحته وظللت بعيداً عنه حتى أنني لم أشاركه احتفاله الخاص عندما أنجب أبنته الجميلة "مريم" حتى لا أعكر صفو حياته التي أتمنى أن يحياها في أمن وسلام؟ لكني لا أعرف لماذا تبدلت خصاله وأصبحت سيئة جداً؟ فكان فظاً وقاسياً مع زوجته، وفي كل مرة كانت تأتيني تشكو منه ومن سوء معاملته لها كنت ألقي بالمسئولية عليها وأنها يجب أن تفهمه وتحتمل من أجل حبها حتى لا ينهار فوق رأسها.. لم تكن تعلم موقفي القديم من النساء ولكنها كانت تتعجب كثيراً حينما ترى انه بيدي خلاصها مما هي فيه وجعلها تنعم معه بحياة هادئة تربو إليها وتتمناها ولكنى لا أفعل.. امتلأ خزان وجدانها بالكثير من الإهانات والإساءات عن أخره حتى فاض ولم يعد في قلبها أدني حب له وقررت الهروب حيث وجدت جثتها هي وابنتها الجميلة "مريم" عائمة فوق صفحة النيل أمام مبنى الإذاعة والتلفزيون.شرب جرعة جديدة من زجاجة البيرة المركونة أمامه.. حدجنى بنظرة قاسية:-

أريد أن أحب وأريد أن أكون محبوباً؟ لماذا تضعني دائماً في موقف المهزوم ولا تكمل لي قصة؟ فمن أحبها.. لماذا تفعل معي ذلك؟ حتى من زوجتني إياها لم أشعر معها بطعم الحب والسعادة حتى رحلت هي وابنتها وكل ما تغرقني فيه من مشاعر وأحاسيس زيف في زيف.. لماذا كل هذا؟

بعد هذه الجملة الحوارية الطويلة والتي لا أستطيع أن اكتبها في أي قصة من قصصي حتى لا يهاجمني النقاد الذين كثيراً ما هاجموني أو يمل منى القراء ونادراً ما حدث منهم هذا قلت له:

وماذا تريد منى الآن؟

لقد وقعت أنت على صيد ثمين أجعله لي.

أتسميه صيداً؟

أنها أنثى بارعة الجمال وملفوفة القوام و....

هل هذا كل ما يعجبك في الأنثى جمالها وقوامها؟

لا.......

وماذا يعجبك أيضاً؟

طموحها وأخلاقها وتدينها وفوق كل هذا قلب أبيض كبير يحتويني.

ما كل هذه الرومانسية وهذا الإحساس المرهف هل أترك لك القلم واجلس أن في بيتنا؟

العفو لم أقصد ذلك.

هل فكرت مرة أن نبدل أدوارنا بمعنى أن تكون أنت المؤلف وأكون أنا البطل؟

ولما أفكر في ذلك وأنا راضى عن نفسي تماماً فأنا بطلك المفضل وأنت تعطيني كل شئ.. كل شئ.. فلماذا التعب والإرهاق والدخول في دوامات الأفكار التي لا تنتهي؟

أتعجب كثيراً من تلك الحكمة الرائعة التي هبطت عليك فجأة.. ومن هذه الفتاة التي أشعلت جذوة الحب في قلبك؟

أنا لم أقل لك أنني أحبها.

لا تغضب يا سيدي.. من هي هذه الفتاة التي حركت مشاعرك بهذا الشكل؟

أنت تعرفها جيداً.. ألم أقل لك أنك وقعت على صيد ثمين؟

مــن؟

قبل أن يجيب شرب جرعة أخرى من زجاجة البيرة التي قاربت على
الانتهاء ثم قـــال:-

أنها زميلتك في العمل.

باستعجال وتلهف:-

من تقصد تحديداً؟ قل بسرعة.

رانيــا.

أفلتت الكلمة مني رغما عني:-

يا ابن الكلاب.

الله يسامحك.

ماذا تقول؟

ما سمعته هو الذي قلته.

سوف اعتبر نفسي أنني لم أسمع شيئا.ً

لكنك سمعت وغضبت مني لأجلها.

إنها مخطوبة وسوف تتزوج قريباً.. هل تريد أن أهدم حياتها من أجلك ومن أجل نزواتك المرضية هذه؟

إنها لا تحب خطيبها.

أنا أعلم منك بها.. فعلى الرغم من أنها لا تحب خطيبها لكنها رتبت نفسها على الحياة معه وسوف تواصل معه رحلة عمرها بحلوها ومرها.

طالما أن الأمر هكذا.. لماذا كنت تحكي لي عنها بأنها تعيش في جحيم من جراء تجاربها العاطفية الكثيرة والفاشلة أيضاً.. وكنت دائماً تقول لي أنه من المستحيل أن تعيش مع خطيبها هذا الذي لا تحبه وتعود الآن تقول لي أنها رتبت نفسها على الحياة معه.

هكذا ببساطة تفشي السر ولا تستطيع أن تحتفظ به حتى لنفسك.. إياك أن تكون قد تحدثت مع أي أحد بشأنها وبشأن حكايتها.

لا.

سوف تجعلني أعود إلى قراري القديم وأقتلك وارتاح منك ومن سماجتك التي زادت عن حدها كثيراً أو أضعف الإيمان أتبرأ منك وأودعك أحد الملاجئ.

لماذا كل هذه الثورة.. هدأ من روعك.. هل تحبها؟

أحب.. أحب ماذا؟ وأحب من؟

تحبها هي.. لقد لاحظت في إحدى مرات جلوسك معها بريق الحب يلمع في عينيك.

هذا وهم ولكي أؤكد لك أن ذلك الإحساس إحساسا واهماً سوف أجعلك تجلس معها بمفردك لكني لا أعدك بأنني سوف أجعلها تحبك فهي ليست من أبطال قصصي كما أنها خارج حدود طاقتي الإبداعية.

أفعل ذلك واترك الباقي علىّ.

أخرجت من حقيبتي ورقة وقلم وشردت قليلاً حتى عثرت على فكرة الموقف الذي من الممكن أن يكوناً معاً فيه دون أن يشك أحد من حولهما في طبيعة العلاقة بينهما حتى لا تحرج هي من زملائها في المدرسة،وعندما شرعت في كتابة الموقف كان هو – بطلي – انتهى من إيداع أخر قطرة من زجاجة البيرة في فمه الواسع اكتشفت وقتها أنني انتهيت لتوى من كتابة قصتي الجديدة.



بقلم / موسى نجيب موسى
محمول : 0103188501

صابرين الصباغ
20-05-2006, 01:52 AM
طعــــــم النـــــــار ..!!!!
أعمل بمستشفى خاص ، أحلق بكل الأدوار ماعدا الدور الثالث ، كلما مررت به شعرتُ برائحة غريبة، أسدُّ أنفي لكن يد الرائحة كانت تجذب يدي لأشمها عنوة ..!! أهرب مسرعة حتى لا تلحق بي تلك الرائحة ، تستعمر حواسي ..
- نعمة ، ماهذه الرائحة الغريبة..؟
- إنها رائحة حرق ، هذا الدور به ثلاث نساء محروقات ..
- تعالي .. أعرفكِ عليهن ، لا تخافي .. شكلهن ليس مرعباً ، كما تتخيلين ..
- لا ، أرجوكِ .. أنا أخاف جداً ، أشعر أني أستنشق رماد جلودهن ..!
- جبانة .. انتظرينى هنا ، سأعطيهن العلاج وأعود إليكِ ..
- سمية .. هناك عملية ستُجرى اليوم ، هل ستحضرينها ..؟
- هل هي ولادة ..؟
- كلا .. إنها لواحدة من النساء المحروقات، نُزيل عنها الجلد المهترئ ، لينمو جلد جديد ..
- لن أحضر ، أنا أخاف رؤيتها ..
تضحك زميلتي ، تذهب ، لتجهز غرفة العمليات ..
هذه أول مرة أصافح تلك الغرفة المرعبة ، وعلى حين غرة ..
تدخل المحروقة تسير على قدميها ، تبتسم لي ببقايا ملامحها التي لم تلتهمها النار ، ما أقساها من مخلوق يعبث بمقدرات الناس ، تموت الرهبة ، أمام نظرات الحب التي تشع من عينيها ، لم تستطع النار قتلها فيها ...
تصعد فوق السرير تبكي ، من الخوف ، أنا أبكي شفقة عليها ، تناشد الأطباء أن يزيدوا نسبة المخدر ؛ حتى لا تضرب رياح الألم جزر صبرها ، يكفي ما فعلته النار بها ..
تأخذ جرعة المخدر ، لتبقى جسدا يتنفس ، لا هوية ، لا عنوان ، لا رائحة إنسانة تملكه ..
يلتف حولها الأطباء ، جسدٌ مُلْقى على قارعة حجرة عمليات ، ما أرخص الإنسان ..!!
بدأ الأطباء ، يسكبون ماء الملح ، يفركون جلدها بمنتهى القسوة ، كأنه طلاء قديم فوق جدران جسدها ، تغني طبيبة ، يمزح طبيب مع صديقه ، يشربون الشاي ، يمزحون بالنكات ، أقف بعيداً أشاهد ، أكاد أتنازل فيها عن رخصتي بأني إنسانة .. ينادي عليَّ طبيب ..
- تعالي .. هل أنتِ جديدة هنا ..؟
بدون إجابة .. لم ينتظرها ، اقتربي، أمسكي يديها ..
أمسك طرف إصبعها ، لأنها بدينة ، ثُقل يديها يجعل جلد إصبعها يخرج في يدي ، أنظر لجلدها الذي ينسلخ بين أصابعي ، أقع بين أيديهم ، فاقدة إنسانيتي .....
تضيّق الدنيا خناقها علي بغياب الحبيب ، كل من بالمستشفى يضطهدني ، تلتهم حيرتي شبابي ، أرى الأحزان ترفع أعلامها على سفارات جسدي ، وجدت نفسي أحترف لغة الدمع ..!!
لتضيع زهوَةُ الأشياء في عينيَّ ، تصدأ معادن المعاني ، نفض حزني كل أفراحي ، تتعلم السعادة خيانتي على مضاجع أيامي ، أفر حيث يسيل العذاب ، يصل لمصاف النجوم ، يرتقي فوق سماوات مشاعري ..
صعدتُ إلى صاحبة الحزن المترهل ، الذي ذاب فوق جدران جسدها ، مع أول حصص البكاء ، دروس الحزن المكثفة ..
بقدم تخطو للأمام وأخرى تتقهقر ألف مرة ، طرقت باب غرفتها ، أسمع صوتها يدعو الطارق إلى الدخول ، يضرب صوتها أطراف روحي - أرتجف – أرتعد - أفتح الباب ،كأن بالداخل وحشا سيهجم عليَّ ليفزعني ..!!
- تفضلي .. تعالي ، هل تخافين مني ..؟
- كلا .. فقط أخاف أن أُقلقكِ ..؟
- تقلقينني ..؟!! بل تقلقني الوحدة ، النار التي تتراقص حولي هنا ، تخرج لي لسانها ، لأنها سرقت مني كل شيء ، لم يحاكمها أحد ..!! بل تركوها تعيث فساداً ؛ لتلتهم غيري ..
تدخل جوارحي سيوف الخوف بغمدها ، أمام تلك الإنسانة التي تعاني الأمَرّين ، جمالها - شبابها ، شعورها بالنار - حرارتها ، حتى وإن انطفأت بذوبان مياه جلدها ..
- هناك .. قطع شيكولاته ، اذهبي خذي منها ..
- كيف ارتديت ثوب النار ..؟
تبتسم ، كأن الابتسامة طبيب تجميل أعادت لها بعض ملامحها الجميلة المندثرة ..!!
أحكي لكِ .. والحزن يقتات من شراييني عمره ، كنتُ شابة أسمع وشوشات السوسنات ، ثناؤه على جمالي ، كان أصدقائي الفرح والسعادة والحب دوماً يجتمعون عندي نتسامر ..
أختال في ثوبِ الشباب المرصع بالجمال ، رأيته ، يمتطي صهوة نبضه ، معه لوحة أحلامه تنطبق بكل ألوانها على لوحتي ، ضمني كزهرة إلى بستانه ، لنبدأ معاً عصرا جديدا.!!
بدأ يرتقي سلم المجد في عمله ، كل نجاح له ؛ أوقن أنه نجاح لي ، علقتُ على نوافذنا عنقوداً من السعادة ، تتساقط حباته على عمرنا ..
بدأ يأخذني معه في حفلاته الكثيرة ، أتعرف على هذا وهذه ، حتى تقابلنا ..
رئيسه في العمل وسيمٌ ، على قدرٍ كبيرٍ من الوجاهة ، كأنه سلطان أتى من التاريخ ، الجميع يجلس لخدمته ، أولهم زوجي ، أجلس بعيدة في أحد الزوايا ، أنظر لهذا المغرور الذي يتلذذ بما يفلعه معه الآخرون ، كم أغضبني زوجي وهو يُطأطىء رأسه له ، يجلس تحت قدميه كخادم ، عبد ينتظر أوامر سيده ..!!
تركتُ الحفل .. خرجت للشرفة أنظر للقمر الذي دعاني ، لرحلة خاصة له ، بسطتُ أجنحتي ، رحلتُ إليه ، دقائق ، أجد يداً تجذبني ، أستيقظ من غفوتي بحجرة القمر ، لأجده السلطان ، ترك عرشه وعبيده وأتى .......
تتحدث .. تبتئس مرة - تتنهد مرات ، كأنها تغوص في بحار الماضي تنتشل منها الذكريات ، تطفو لتحكي ...
اقتربَ مني المدير .. سألني هل أحبُ القمر ..؟ أخبرته ، وأنا أبتسم وضوء القمر يفترش وجهي ..!! أعترف أمامكَ سيدي أنه حبي الأول ، مالي لا أعشقه ..؟ أقفُ معه بالساعات ، نتهامس ، نتحاور ، لا يفضحنا أحد ، ولا يكون عشقه وصمة عارٍ في جبيني ..!!
نسيتُ مع من أتحدث ..!!
عندما تتحدث عن الحبيب ، تنسى من حولك ، تتحدث كأنك تناجيه ..
- جميل عشقكِ سيدتي ، هل لجأتِ لعشق القمر ؛ لأنكِ لم تجدي على الأرض من يحتويكِ..؟
سؤاله أربكني ، أعادني لرشدي ، لم أجِبْه ، أفقتُ ، أبحث عن زوجي من خلال نافذة الشرفة ، أجده ينظر إلينا من بعيد - قرأته - كم تدهشني المباشرة في نظراته ، حتى الإسقاط أكتشفه ..!!
عُدنا لمنزلنا ، يقتله سؤال ؛ عمّاذا كان يحدثكِ المدير ..؟ يتظاهر بأنه لم يرنا ، لم أشأ إخباره ، لتأكله نار خبثه ..! أرتَمي على فراشٍ من الجمر ، وأنا أبتسم بدهاء ..!!
أنظرُ لتعابير عينيها ، أشعر بفرحها مما فعلته ، جذبتني لمعرفة باقي التفاصيل ..
عاد من العمل .. سعيداً..!! منحه المدير مكافأة ، سألته .. ما مناسبتها ..؟ قال ساخراً : .. قال لي : اسهر بها اليوم مع القمر ..!! عرفت أنها رسالة وجهها إليَّ المدير ....
يحدثُ نفسه .......
- أمن لقاءٍ عابرٍ واحد ، تُعطيني مكافأة ..؟ ألهذا الحد استهوتكَ زوجتي ..؟ يا تُرى ماذا قال لها ..؟ هل أطرى على جمالها ..؟ هل قال لها عبارات غزل ..؟ أكاد أنفجر ..
من خمس دقائق أحصلُ على مكافأة ..!! ماذا سيفعل معي إن جلس معها يوماً كاملاً ..؟ ماذا تقول هل جننت ..؟ مصلحتكَ تُنسيكَ رجولتك ..؟ كلا ، لن يحدث هذا ، هه ..
لماذا لا أستفيد من مجرد إعجابه بها ..؟ هل سأظل مرؤوساً وخادماً ..؟ سأترقى سريعاً ، بعدها أهشم عظامه إن تجرأ ، وتحدث معها مجرد حديث ....
- وفاء .. سأستضيف المدير على العشاء ، انظري ماذا ستفعلين لتحيته ..؟
- استضفه ، خارج البيت ..
- كلا .. في بيتنا أفضل ، سيكون اللقاء أكثر حميمية ..
- بالرغم من رفضي ، كما تريد ..
لازلتُ أقرؤكَ ، الأنانية تتسلق كل أسوارك ، تقفز من كل نوافذ كيانك ، تتحكم فيك ، حتى تصل لرغباتك تُضحي بكل شيء ..
زججتَ بأختكَ الوحيدة في زواجٍ فاشل ، مع رجلٍ مزواج ؛ لتشاركه في مشروعٍ تجاري ، لم تجنِ لا أنتَ ولا هو ، بل جنت المسكينة أطناناً من العذاب ..!!
يأتي الليل .. يصطحب ضيفه الرقيق ، يقدم لي هدية طاقم من الماس ، لم ترتده ملكة ..
زوجي يبتسم لا أدري ، هل ابتسامة رضاً ، أو ابتسامة حنق عليه ..؟ لم يعد يهمني ، يتعمد الخروج كثيراً ، يدعي أنه يبحث عن أوراق يريد أن يراها المدير ، ما إن يخرج يسألني ..
- كيف حال عاشقة القمر ..؟ يستطرد ، والله إني لأحسده ، عندما أنظر في وجهكِ ، سؤال يحيرني .. ؟
- ما هو ..؟
- من فيكما القمر ..؟
أحاول الخروج لأرى أين ذهب زوجي ، يمسكني من معصمي ، بمنتهى الرقة ، اجلسي ..!!
يأتي زوجي خاليَ الوفاض ، يسأله أين الأوراق ..؟ نسيتها ، سأذهب لأحضرها ..
- هل أنتِ سعيدة مع زوجك ..؟
- نعم .. سعيدة ..
- لا أرى أنكِ سعيدة .. !!
- لماذا ..؟!
- التي تحب زوجها لا تخونه ..
- أنا خائنة ..؟!
- ألا تخونينَه مع القمر ..؟
أبتسمُ في استحياء ......
- إنها يا سيدي خيانة مشروعة .. لا يعاقب عليها لا قانون ولا دين ..
يضحكُ ، ينفتحُ قلبي له ، كأن صوته - ضحكاته جلجلتْ مفاتيح لقلبي ...
يرحلُ .. لكنه لم يرحل كاملاً ؛ بل وقع منه شيء ، أعتقد أنني رحبتُ به ..
في شهرين ... ترقى زوجي ، وصل لمنصب مدير مكتبه ، ترقى هو ليكون حارس نبضي الجالس على مدخل شراييني ..!!
أحببته ، لا تندهشي ، عندما تجدين رجلاً رقيقاً ، يحترم أنوثتكِ ، يراعي مشاعركِ ، وآخر يبيع أنوثتكِ ، يفرط في رجولته ، يضحي بكِ أمام مصلحته ، أيهما تعشقين ..؟
أستمع .. أكادُ أموت حنقاً على زوجها ، هذا الــ..!!
أستمع لصديقتي ، أجمع رماد حروفها الذي تنعس تحته نيران خامدة إلى حين ..
لتكمل حروف النار ، تلفح بها صواوين أذني ..
عشقته .. كلما ابتعد ولم يَرني ؛ صرخت جوارحه ، زوجي ، لم يتوان أن يستضيفه كثيراً بمنزلنا ، يتركنا معاً ، يخرج ليشتري شيئاً لا نحتاجه ، الأولاد يتركوننا بمفردنا ، صاركأنه واحدٌ من البيت .. يتجول كما يشاء ، بعدما سلمه زوجي مفاتيح حياتنا ..
هل تعرفين كمَّ البُغض والتقزز من هذا الزوج ؛ الذي يذبح رجولته على أعتاب مصلحته الشخصية ..؟ كرامته تلطخها نذالته ، كرهته ، كلما زاد كرهه ، زاد عشقي للمدير ..
الآخر يلبي لي أوامر لم آمره بها ، في كل مرة يحضر لي هدية ثمينة ، يحدثني في الهاتف طوال اليوم ، أدمنتُ وجوده وحواره ...
الآخر يحدث نفسه ....
- ماذا أفعل ..؟ مالذي جنيته من هذا كله ..؟ يطعنني هو وزوجتي في ظهري ، أنا أرى وأصمت ، هل هذا جُبنٌ ، أم أنها موافقة صامتة .. ترقيّتُ ، نعم ترقيّتُ ..!! ماذا بعد ..؟؟ كنتَ تتمنى أن تصل إلى ماوصلتَ إليه ، وها قد حدث ما رغبته ..
ينظر للكرسي من بعيد ، سحقاً لكَ .. الجلوسُ عليكَ كلفني كرامتي ، عزتي ، سربلتني بثوب الخزي والعار ، الآن فقط تيقنتُ أنكَ لا تُساوي ما دفعته فيك ..!!
يذهبُ ليجلسَ عليه ، ينهضُ مسرعاً مرتجفاً ..!!
- شوكُ المهانة يملأ جوانبك ، لا أستطيع حتى الجلوس عليك ، لماذا فعلتَ هذا بي .. ؟ ماذا فعلتُ بنفسي ..؟ أراه يحدثها وتحدثه ، كأنهما لا يريانِنِي ، كأني هواء ، صوتي خواء ، ماذا فعلتُ لها ، لتفعل بي هذا ..؟ لماذا لم تحترم رجولتي ..؟ لماذا تخونني ..؟ ألستُ أنا زوجها الحنون الرقيق ، من منا المخطىء ..؟
طبعاً هي ، نعم هي ، كان يجبُ أن تحترمَ زوجها ، حتى وإن تركتهما سوياً ، كان يجبُ أن تحفظني في بيتي ، عِرضي ..
يصرخ بلا صوت ، يدكّ جدرانَ كيانه ، لن أصمت بعد الآن، ليذهب الكرسيُّ أدراج الرياح .. بصراخ ..
- وفاء .. هل حدثكِ المدير اليوم ..؟
أنظرُ له نظرة كلها سخرية ، أنصرفُ من أمامه غير عابئة به ، يشتد غضباً ، يمسكني من يدي ، حتى إن يدي صرخت من قوته ..
- ألا أُحدثكِ .. ما الذي يحدثُ بينكما ..؟
- ما الذي يحدث ..؟!!
- يأتى للمنزل ، وأنا خارج البيت والأولاد بالمدرسة ..
أنظرُ لهُ بازدراء ، أرى الشيطان ينام على فراش جفنيه مبتسماً ، كأنه يتذوق ثمار ما زرعه في بيتنا من خيانة وفرقة ...
- أجيبيني .. تخونينني معه ..؟
- ماذا حدث لكَ اليوم ..؟ هل تتعاطى شيئا ..؟
أهمُّ بالانصراف من أمامه ، يقترب مني ، يلطمني على وجهي ، أصرخُ فيه ..
- أنتَ ، أنتَ من فعل هذا ، أحضرته لمنزلنا ، دعوت الشيطان معه ، ليسكن بيتنا ، كُنتَ تعلمُ كلَّ شيء ، كنت تتركنا ، أنتَ تعلمُ أنه يشتهيني ، مصلحتكَ - أناننيكَ أنستكَ رجولتكَ ، كرامتكَ ، تنساها أنتَ أو أتذكرها أنا ..؟
كنتَ تنامُ على ظهركَ ، طافياً فوق بحر الخيانة ، يكفيك أن تجني لآلئ أعماقه ، حتى إن كانت مدنسةً بالفحش ..!!
- أنتَ سببُ كُلِّ شيء ، الآن فقط تتهمني ، أني لم أحترم رجولتكَ ، أينَ كانت، وأنت تدعوه كُلَّ يوم ..؟ تتركنا بمفردنا ، تذهب هنا وهناك ، أين كنتَ ، وأنتَ ترى الهدايا التى يُغدقها علينا ..؟ بل أنا من يطلب منكَ ثمن خيانتي لك ..
يُحدث نفسه .....
ألهذا الحد صِرتُ ضئيلاً ، أكنتِ تشعرين بكل ما أفعل ..؟!! تخيلتُ أنني الوحيد الذي أرى دناءتي ، أنني الوحيد الذي أمقتُ نفسي ، كيف أحترم نفسي ..؟ كيف لي العيش الآن معها ، وهى لا تحترمني ..؟ كيف أنظرُ في عينيها ؛ أراه داخلهما ..؟!
الحل ... يجب أن تذهبي بعيداً ؛ حتى أنسى ما فعلتهُ بحقي - حقها ، يجبُ أن أقتلَ نفسي ، ماذا ، ماذا ..؟ أقتلُ نفسي ..!!
كيف أقتلُ نفسي ..؟ لمن أتركُ منصبي..؟ لزميلي الذي يتمنى أن يرى جثتي ، ليسير فوقها ويجلس على الكرسي .. ماذا أفعل ..؟ السارق يتخلص من أدلة الجريمة ، نعم سأتخلص من دليل جريمتي ..!!
دقائق مرت .. كأنها الدهر كله ، يفرُ من أمامي مسرعاً ، قتلني الرعب ، قلتُ لعلهُ يُحضر سكيناً ، ليقتل نفسه أو يقتلنا معاً ..
أرى بيده زجاجة الكحول ، أنظر إليه لم أستطع قراءته ؛ كان غريباً ، لغة عينيه جديدةٌ ، لم أقرأها من قبل ..!!
يقتربُ مني .. يأمرني بأخذ زجاجة الكحول و سَكبِها على نفسي ، أضحك ساخرة ..
- سحقاً لكَ .. سأفعل ، لكن كُنْ على يقينٍ ، أن القرف والتقزز منكَ ؛ هو من سيجعلني أفعل هذا ..
تريد التخلص مني لتنسى قُبح فِعلتك ، والله لن تنساها ، ستظل تطاردكَ مدى الحياة ..
أسكبُ على نفسي الكحول ، أهدده ، تخيلتُ أن يتراجع ، لم أكنْ أرى ..........

صابرين الصباغ

ميس أبوصلاح
21-05-2006, 08:03 AM
بينما كان سليمان الاسكافي مارَّاً بالسوق عاري القدمين – كعادته منذ دفعت به أمه إلى الحياة - ، أعجبه حذاءٌ معروض في واجهة أحد المحلات الضاجة بالديكورات و الزينة. عَزَمَ على شراء الحذاء، لكنه فوجىء بسعره و قرَّر أن لا يكف عن العمل حتّى يصبح سيّد النعل و المسؤول عن صولاته و جولاته.
و ما إن وصل الخبر إلى أظافر قدميه حتّى هاجت و ماجت و شحبت و رفضت بشدة هذا القرار الخطير، فهو يعني زوال كيانها و تهديد رخائها و حريتها، فقدَّمت اعتراضاً رسمياً إلى سليمان، لكنه استهتر بكل توسلاتها و استمر في تنفيذ مخططه، فأضربت عن الطعام و ذبلت و اصفرّت و تشقّقت و انكسرت، فتنهَّد بارتياح و ازدادت كثافة أحلامه بصديقه البرّاق.
أما قدماه فقد رفضتا تصديق الخبر و قالتا بأنه إشاعة مغرضة هدفها الإخلال بالوحدة الوطنية، بَيد أنها حالما رأت مصير الأظافر - بأم عينيها – صمَّمت على فتح تحقيق رسمي للكشف عن ملابسات الحادث المؤلم، و ما إن ظهرت النتائج التي لا تحتمل الشك حتى عزمتا على الاستقالة لمسؤوليتها غير المباشرة عن ذلك بصفتها من ستسكنان ذلك الدخيل الذي سيحصل عليه سليمان.
و عندما حاول صاحبنا الوقوف و المسير - كما يفعل كل يوم - لم يستطع، فهو لم يكن يعرف أن الوقوف و المسير يحتاجان إلى رجلين! حَزن كثيراً، و فكَّر أكثر، و تراجع متردداً عن فكرته الأولى، و أعاد القدمين إلى موقعهما، فانتفضتا فرحاً و ألقتا خطبة عصماء في تأبين الأظافر المناضلة، الشهيدة، صاحبة القضية و المبدأ. أمّا هو فظلّ بعدها كئيباً ينظر متحسراً إلى أرجل المارة إلى أن صدمته سيّارة فارهة كانت تسير كأفعى – قبل أن يبصق عليه صاحبها -، فتحلّق حوله الناس فترة ثمّ رفعوه و قذفوه في حفرة في مقبرة قريبة رثّة الملامح، و قبل أن يرموه بالتراب أوقفهم صراخ رجل أنيق يلهث على باب المدافن، فقال لهم:
- ((انتظروا لو سمحتم. جائني الليلة الماضية في المنام رجلٌ يحثّني على أن أهدي هذا المركوب الجديد خاصتي إلى أول رجل يُحمَََلُ إلى هنا، و على هذا عزمت. ألبسوه إياه لوسمحتم.))
فرح سليمان كثيراً بضيفه الجديد، و شعرت صديقتاه بالحنق، و حسده جيرانه الحفاة، و تمنى لو أن ذلك السائق قذفه إلى هنا منذ زمن بعيد.

ميس أبوصلاح

محمد عطية محمود عطية
21-05-2006, 10:42 AM
قصة قصيرة

فــواصــل ضـيـقـة

استحالت بنايات القبور فى عينيى الدامعتين , المباغتتين بأشعة الشمس الباكرة , إلى أشكال باهتة متلاصقة , لا يفصلها عن بعضها فاصل . صار ما يميزها , من أسماء وتواريخ , سطور مشوهة تبدو للعيون المنقادة .. تستجدى دليل المكان .
لم أكن أعلم إلى أى مدى سوف تأخذنى خطواتى فى البحث عن قبر جدى .

" ثلاثون عاماً مضت , لم يدر بخلد احد من عائلتنا أننا سوف نحتاج لفتحه . حتى لما ماتت جدتى , دفنت بمدافن أهلها البعيدة .

كانت جدتى – قبل رحيلها – ترعى بناء القبر .. تسقى حوضه المعتلى قمته كلما جف .. تغرس فيه الصبار الجديد , كلما تأخرت عنه – لمرضها – وذبل القديم .. تضع حبات القمح أعلى جانبى مقدمته فى إناءين فخاريين صغيرين .. تبارك الزرع النضير , الذى كان ينبت ربانياً , عند مقدمة النزول إلى جوفه , وتقول :
" العمل الصالح ينبت نباتاً ربانياً صالحاً .. يلطف ويؤنس "
صارت أمى , بعد رحيل جدتى , تتعهد قبر جدى بالرعاية .. تسقى الصبار , وتقوم عليه بالدعاء والتلاوة , حتى استسلامها لمرض أقعدها عن الحركة " .

مرت الدقائق ثقالاً , حتى بدا أحد الحفارين من أطراف الجبانة , تسترعى لهفتى وحيرتى انتباهه ؛ فقد تغيرت معالم الممر الذى كنا نلج فيه – أنا وأمى – كى نصل إ لى قبر جدى للزيارة , كما ضاق الممر الرئيسى الذى كان يشطر الجبانة من داخلها إلى شطرين.
لم يفلح الرجل فى تحديد المكان , وغادرنى مغمغماً .
ـ معذرة , فقد حل على الجبانة آلاف المرتحلين .

" قبيل الفجر , مع رنات الهاتف المتوالية , لفتنا رياح الحزن الباردة .. تقبض القلب الواهن .. تعتصره .. يعلو وجيبه , تقتلع الصحو من عيوننا الغافية .. تلسع الاجساد المسترخية .. تبعث الرعشة فى الأوصال , واليد الممتدة – بخليط من التوجس والرهبة والانفعال – تلتقط السماعة , لينبعث الصوت محترقاً مهلهلاً .. يحمل فى تردداته شجناً مضنياً , ونبأً غاصاً فى لوعة مشاعر النهايات المحتمة ؛ فيتلجم اللسان .. تنفلت الآهة , يجأر بها حلق مختنق . ويشرح عويل أمى – من مرقدها – صمت الكرى , وتنطلق المدامع مفعمة بالنشيج .
لم أدر كيف تلاحمت الأصوات مع مشاعرها على الهاتف – الذى لم ينقطع رنينه حتى طلوع الشمس – وتجمعت أوصالها وتوحدت ؟!! "


علا قرص الشمس ؛ لتزداد حدة أشعتها المستقرة على الأجفان , وخلف الرقاب .. تضغط الرأس المثقل.
سرت فى الأرجاء حركة لأناس جاءوا أيضاً ؛ ليجهزوا لفقيد لهم . كانت خطواتهم تسعى فى دروب سهلة معلومة لهم , وكانت استجابة العاملين بالجبانة لهم سريعة .
اجتاح صمتى المتأجج , رنين الهاتف المحمول .. يحمل فى خفاياه وجلاً من تأخر العثور على المكان , مع أمل أن أصل لخيط نحو تحديده , لكن الرنين انقطع قبل إدراك رد أو جواب عما يجتاحنى من حيرة وألم , بعدما ضاعت محاولة الاستعلام من خلال سجلات غير متاحة .
تذكرت قولة أمى بأن القبر مجاور لمدفن عائلة معروفة . جاهدت ذاكرتى حتى تذكرت الإسم , لكن بعد تفرق كل من كان حولى من العارفين بدروب المكان .
فى ظل هيكل لشجرة عتيقة تشعبت لها جذوع , امتدت فروعها الجافة الخاوية , وتداخلت , وتوغلت ؛ لتحجب نهاية جدار قديم بالمدخل .. لاح احد الطاعنين فى السن , يعمل فى حفر الأسماء على قطع رخامية فى وهن .
اقتربت منه , مودعاً فى إذنه اسم جدى . هز رأسه نافياً معرفته . عاجلته بإسم العائلة الأخرى . أشار – بعد لؤى – إلى اتجاه تحريته بين فواصل ضيقة , اقشعر لها بدنى كلما وطئتها قدماى .
حمل المكان لى يأساً أخر ؛ إذ طمست أغلب الشواهد , وتهدمت البنايات , أو هبطت حتى كادت تسوى قممها بالأرض , وتقلصت تماماً المسافات الفاصلة بينها .. بينما بدت جلية حداثة التواريخ الملتصقة بشواهدها المستجدة .
استدرت بلا وعى .. تجتاحنى عبرة متجددة . ماكدت ألتفت حتى وقع بصرى على قطعة رخامية غير مكتملة , ملقاة على الأرض , يكاد يغطيها التراب .. تحمل جزءاً كبيراً من أسم جدى .. تتوسط المسافة بين عدة قبور مطموسة , لا يزال يحف بعضها بعض نبتات خضراء واهنة .