صالح أحمد
16-05-2006, 10:07 PM
بلا نهاية
قصة قصيرة
عندما انتصف الليل... ولم يعد يسمع سوى صوت الأنين يشق سكون الليل... قام عمر يجرجر قدميه بتثاقل، وكفه على بطنه تضغط وتضغط... البطن يلتصق بالظهر، والوجه مكفهر كالح اللون، والشفتان مشققتان، والعينان غائرتان، والعقل مشوَّش، والكيان مهزوز...
قام إلى كومة العظام المتناثرة فوق أرض الغرفة... لا يحجبهم عن تراب القاع سوى حصير خشن من عيدان القصب الدقيقة. تأمل عظامهم الناثرة، وجلودهم المتجعدة، وبطونهم الملتصقة بعظام الظهر، وأجسامهم المتآكلة تحت وطأة الجوع والبؤس... أصغى بألم ويأس لأصوات أنينهم تنبعث من هنا وهناك لتستقر في قلبه الحزين، وتهز كيانه المهزوز أصلا... ومن حين إلى حين ينطلق صوت متميز... يشق الأصوات ليستقر في قلبه المكلوم... ذاك صوت قرقرة بقايا المياه المستقرة في البطون الخاوية!!!
أحد عشر صغيرا... بعضهم يستر شيئا من عورته "بفانيلا" رثة... والبقية باتوا يلبسون ألوان جلودهم الكالحة... وسيقانهم وأذرعهم تستلقي الى جانبهم كالعيدان الجافة لا حول فيها ولا حياة... وأمهم تتوسطهم متلوية... يقرضها الجوع ذات اليمين... ويقلبها الكابوس ذات اليسار... وهم في فجوة من قلبها لا يعلمهم الا الله... وصوت أنينها يعلو على كل صوت ومن غير وعي منها أو شعور...
اقتعد عمر الحصير... يشده أنين يعلو هنا تارة... وحشرجة تعلو هناك أخرى.. وارتطام ساق أو ذراع بالحصير من حين إلى أخرى... وكأنه عصا تضرب وجه الأرض...
أمسك رأسه بين يديه... ونَحَب... بل عوى كما يعوي الذيب الجريح وسط الليل... فأحس بتململ أجساد صغاره من حوله... وارتطام أعضائهم بالأرض بتخبط مخيف... فكتم أنفاسه... بكى في جوفه... بكى نفسه وبكاهم حتى اختنق...!!! تحامل على نفسه.. ليقف بعد جهد يجرجر أقدامه بتثاقل فوق الحصير، متفاديا أكوام الجلد والعظم... متجاهلا أصوات الأنين والحشرجات... فتح الباب المهترئ... وأسلم نفسه لوحشة الليل تعصر ما تبقى من صمود نفسه، وأقدامه ترسم خطوطا فوق رمال الزقاقات...
المخيّم هاجع... والليل يبدو كئيبا أكثر من أي وقت مضى... ألواح الزنك تطقطق هنا وهناك... وأقنية صرف المياه هادئة لا خرير يصدر عنها ولا بخار ولا رائحة... وحدها القطط تتزاحف هنا وهناك بنشاط... فالفئران تكثر في المخيم وتتحرك حرة طليقة، غير عابئة ببؤس المكان، وكأنما تعيش عالما يخصّها وحدها، ولا يشغلها أو يقلقها ما يدور حولها في دنيا البَشَر !!!
رطوبة الليل أنعشت جسده قليلا... باتت خطوته تكتسب شيئا من المرونة... وذهنه شيئا من التركيز!! فالأفكار تتسارع في رأسه مرتبة وغير مرتبة... والألم يتحول إلى أصوات تضج وتضرب كأنها المطارق:- عشرون يوما!! نفذ كل شيء... الأفواه تنفتح لدى دخولي البيت... ولا شيء لديّ يسد رمقها.. ويسكت غريزتها!!
عشرون يوما!! وعدني صاحبي المقاول من الداخل بأن يساعدني بتصريح عمل... فما حدث له؟ لماذا لم يأتني بالتصريح حتى الآن ؟ إنه يعرف ما لدي!! يعرف حالي!! يعلم الله أني أحبه... وأعلم أنه يحبني.. فما الذي أخره يا ترى؟!! أأغلقت كل الأبواب ؟!!! لقد حاولت التسول... ولكن أهل المخيم حالهم كحالي... وأنا لا أملك ما يعينني على السفر الى خارج المخيم للتسول ... !!
رفع يديه الى السماء:- اللهم من للجوعى... ومن للثكالى... ومن للحزانى... ومن للمستضعفين سواك؟؟!!
تابع مسيره، وفي ذهنه تختلط الصّوَر... أطفاله يئنون حوله... وأمهم الصابرة تتلوى جوعا وحزنا... لا تشكو... تنظر اليه... ترسم ألف عذر لزوجها على ملامح بؤسها... تواسيه نظرتها وهي تهمس له بصمت:- أعذرك يا حبيبي... سنصبر، ولنا الله ...
الصبر، الصبر، الصبر... الصبر بلا نهاية يعني الفناء... يعني الاستسلام للتآكل الذاتي... أن تأكل نفسك بنفسك... هذا معنى الصبر الذي لا يبدو له آخر !!
يسوقه الضياع الى باب المسجد... يسلم رأسه المثقل للعتبة... ينام ليستيقظ فجرا... فيعود الى البيت... ليطرده الأنين من جديد... الى الأزقة... يجوب ويجوب بلا شيء... وفي رأسه صدى أنين الصغار... مشاهد تمزق القلب... وأسئلة بلا أجوبة... إلى متى ؟!!!
اقتعد التراب... فأحس بالقشعريرة تسري في جلده... تنفذ الى عظامه... والصور تتلاحق في ذهنه... وأصوات الأنين تحاصره... ولا شيء... زحوف الفئران... وتربص القطط الخبيث الصامت... ووسوسة الليل والعتمة...
انكمش في مكانه... بل جَمَدَ!!
أشرقت الشمس... وعمر لا يزال جامدا في مكانه... وبصره معلق في السماء...
انتفض البيت... أين عمر؟ ما حدث لعمر؟ الكل يتسائل... يقلق... يبحث... وعمر هناك... يجلس جامدا وبصره إلى السماء... على شفتيه ضحكة بلهاء... وفي رأسه صور لم يعد لها أي معنى... وأسئلة لم تعد تتوق إلى أجوبة...
تجمّع القوم حوله... يحدثونه... يسألونه... والضحكة البلهاء وحدها ترتسم على شفتيه الجافّتين... ومن حوله أكف تلطم بعضها... أن لا حول ولا قوة الا بالله... وهو جامد هناك... والبسمة تتحول إلى قهقهة... والجسد يخرج عن سكونه ... ويبدأ بالنطنطة... وبلا نهاية !!!
قصة قصيرة
عندما انتصف الليل... ولم يعد يسمع سوى صوت الأنين يشق سكون الليل... قام عمر يجرجر قدميه بتثاقل، وكفه على بطنه تضغط وتضغط... البطن يلتصق بالظهر، والوجه مكفهر كالح اللون، والشفتان مشققتان، والعينان غائرتان، والعقل مشوَّش، والكيان مهزوز...
قام إلى كومة العظام المتناثرة فوق أرض الغرفة... لا يحجبهم عن تراب القاع سوى حصير خشن من عيدان القصب الدقيقة. تأمل عظامهم الناثرة، وجلودهم المتجعدة، وبطونهم الملتصقة بعظام الظهر، وأجسامهم المتآكلة تحت وطأة الجوع والبؤس... أصغى بألم ويأس لأصوات أنينهم تنبعث من هنا وهناك لتستقر في قلبه الحزين، وتهز كيانه المهزوز أصلا... ومن حين إلى حين ينطلق صوت متميز... يشق الأصوات ليستقر في قلبه المكلوم... ذاك صوت قرقرة بقايا المياه المستقرة في البطون الخاوية!!!
أحد عشر صغيرا... بعضهم يستر شيئا من عورته "بفانيلا" رثة... والبقية باتوا يلبسون ألوان جلودهم الكالحة... وسيقانهم وأذرعهم تستلقي الى جانبهم كالعيدان الجافة لا حول فيها ولا حياة... وأمهم تتوسطهم متلوية... يقرضها الجوع ذات اليمين... ويقلبها الكابوس ذات اليسار... وهم في فجوة من قلبها لا يعلمهم الا الله... وصوت أنينها يعلو على كل صوت ومن غير وعي منها أو شعور...
اقتعد عمر الحصير... يشده أنين يعلو هنا تارة... وحشرجة تعلو هناك أخرى.. وارتطام ساق أو ذراع بالحصير من حين إلى أخرى... وكأنه عصا تضرب وجه الأرض...
أمسك رأسه بين يديه... ونَحَب... بل عوى كما يعوي الذيب الجريح وسط الليل... فأحس بتململ أجساد صغاره من حوله... وارتطام أعضائهم بالأرض بتخبط مخيف... فكتم أنفاسه... بكى في جوفه... بكى نفسه وبكاهم حتى اختنق...!!! تحامل على نفسه.. ليقف بعد جهد يجرجر أقدامه بتثاقل فوق الحصير، متفاديا أكوام الجلد والعظم... متجاهلا أصوات الأنين والحشرجات... فتح الباب المهترئ... وأسلم نفسه لوحشة الليل تعصر ما تبقى من صمود نفسه، وأقدامه ترسم خطوطا فوق رمال الزقاقات...
المخيّم هاجع... والليل يبدو كئيبا أكثر من أي وقت مضى... ألواح الزنك تطقطق هنا وهناك... وأقنية صرف المياه هادئة لا خرير يصدر عنها ولا بخار ولا رائحة... وحدها القطط تتزاحف هنا وهناك بنشاط... فالفئران تكثر في المخيم وتتحرك حرة طليقة، غير عابئة ببؤس المكان، وكأنما تعيش عالما يخصّها وحدها، ولا يشغلها أو يقلقها ما يدور حولها في دنيا البَشَر !!!
رطوبة الليل أنعشت جسده قليلا... باتت خطوته تكتسب شيئا من المرونة... وذهنه شيئا من التركيز!! فالأفكار تتسارع في رأسه مرتبة وغير مرتبة... والألم يتحول إلى أصوات تضج وتضرب كأنها المطارق:- عشرون يوما!! نفذ كل شيء... الأفواه تنفتح لدى دخولي البيت... ولا شيء لديّ يسد رمقها.. ويسكت غريزتها!!
عشرون يوما!! وعدني صاحبي المقاول من الداخل بأن يساعدني بتصريح عمل... فما حدث له؟ لماذا لم يأتني بالتصريح حتى الآن ؟ إنه يعرف ما لدي!! يعرف حالي!! يعلم الله أني أحبه... وأعلم أنه يحبني.. فما الذي أخره يا ترى؟!! أأغلقت كل الأبواب ؟!!! لقد حاولت التسول... ولكن أهل المخيم حالهم كحالي... وأنا لا أملك ما يعينني على السفر الى خارج المخيم للتسول ... !!
رفع يديه الى السماء:- اللهم من للجوعى... ومن للثكالى... ومن للحزانى... ومن للمستضعفين سواك؟؟!!
تابع مسيره، وفي ذهنه تختلط الصّوَر... أطفاله يئنون حوله... وأمهم الصابرة تتلوى جوعا وحزنا... لا تشكو... تنظر اليه... ترسم ألف عذر لزوجها على ملامح بؤسها... تواسيه نظرتها وهي تهمس له بصمت:- أعذرك يا حبيبي... سنصبر، ولنا الله ...
الصبر، الصبر، الصبر... الصبر بلا نهاية يعني الفناء... يعني الاستسلام للتآكل الذاتي... أن تأكل نفسك بنفسك... هذا معنى الصبر الذي لا يبدو له آخر !!
يسوقه الضياع الى باب المسجد... يسلم رأسه المثقل للعتبة... ينام ليستيقظ فجرا... فيعود الى البيت... ليطرده الأنين من جديد... الى الأزقة... يجوب ويجوب بلا شيء... وفي رأسه صدى أنين الصغار... مشاهد تمزق القلب... وأسئلة بلا أجوبة... إلى متى ؟!!!
اقتعد التراب... فأحس بالقشعريرة تسري في جلده... تنفذ الى عظامه... والصور تتلاحق في ذهنه... وأصوات الأنين تحاصره... ولا شيء... زحوف الفئران... وتربص القطط الخبيث الصامت... ووسوسة الليل والعتمة...
انكمش في مكانه... بل جَمَدَ!!
أشرقت الشمس... وعمر لا يزال جامدا في مكانه... وبصره معلق في السماء...
انتفض البيت... أين عمر؟ ما حدث لعمر؟ الكل يتسائل... يقلق... يبحث... وعمر هناك... يجلس جامدا وبصره إلى السماء... على شفتيه ضحكة بلهاء... وفي رأسه صور لم يعد لها أي معنى... وأسئلة لم تعد تتوق إلى أجوبة...
تجمّع القوم حوله... يحدثونه... يسألونه... والضحكة البلهاء وحدها ترتسم على شفتيه الجافّتين... ومن حوله أكف تلطم بعضها... أن لا حول ولا قوة الا بالله... وهو جامد هناك... والبسمة تتحول إلى قهقهة... والجسد يخرج عن سكونه ... ويبدأ بالنطنطة... وبلا نهاية !!!