المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : بائعة العصافير



سها جلال جودت
13-06-2006, 09:59 PM
بائعة العصافير

قبل أن يغادر البيت إلى عمله كان يجلس أمام القفص يراقب طيور الحب بألوانها البديعة كيف تتحرك على أنغام فيروز وقد أبدت انتعاشاً يثلج صدر الناظر إليها ويداعب شغاف القلب.

يتأمل كل حركاتها وسكناتها ويفرح مثل طفل صغير حين يراهما ينقران بعضهما بمنقاريهما فينادي على زوجته قائلاً:
- أسرعي بفنجان القهوة، لا أحب أن أتأخر على عملي، تعالي انظري إلى مداعباتهما الصباحية، إنهما أفضل منا!
- ألن تكبر يا رجل ؟
- لا، لن أكبر !
ويقترب منها، يضع أرنبة أنفه على أرنبة أنفها ويداعبها ثم يمضي إلى عمله بعد أن يوصيها بنفسها وبأولادها وبالطيور خيراً.

تستقبل صباحات ومساءات أيامها بهدوء اعتادت على ممارسته كل يوم، وحين يعود الزوج من عمله يلقي برأسه المتعب على وسادته وقد استسلم لخدر الحب والأحلام الراعية لأمنيات تراوده في المنام ولا تراوده في اليقظة، ومع مرور الأيام يباغته المشهد، تنداح الصورة في صدره مثل كابوس أفزع النائم الحالم بفيوض المدارات وانعكاسات الضوء، فينهض مذعوراً ملهوفاً يبحث عن دواءٍ شافٍ، وعن عودة الروح إلى محراب عشقها وحبها وقد رأى بأم عينيه هياج الذكر داخل القفص، لوهلة يقف مندهشاً ذاهلاً وهو يمعن النظر بحزن الطير، فيعرف أن لفقدانها مذاق العلقم في حشاشة الصدر، فيحدث زوجته بمرارة حزن الطير على معشوقته، لكنهم لا يعرفون النحيب والعويل لهذا راح يضرب رأسه وجناحيه بقضبان القفص وهو يصرخ بصمت الضعف والأسر المدجج بالقضبان، لم تفهم الزوجة السر! الذي فهم الحكاية، حكاية الحب برباطه القدسي المبجل الزوج، قطب حاجبيه وراح يلبس ملابسه بهدوء متواتر، تارة ينظر إلى الذكر وقد هاج داخل القفص مثل ريح تتصدى لها القضبان، وأخرى إلى الحبيبة الراقدة وقد تمددت بلا حراك متخشبة، ومن دون إدراك لفحوى النية تقول الزوجة:
- هل سنتركها في القفص هكذا أمامه؟!

يمطرها بنظرة تحمل الوجع والحزن والأسى ثم يغادر البيت، وقبل أن يخرج يقول لها:
- راقبيه حتى أعود، عله يبقى على قيد الحياة!

لم تفهم الزوجة قصد زوجها! لكن شعوراً بالتوتر والامتعاض المؤلم جعلها تختزن في ذاكرتها هذه الصورة الفريدة المأخوذة من وريد القلب، هل كانا قيس وليلى، أم روميو وجولييت ؟ لم تستطع أن تكتم دموعها التي طفرت على خديها رغماً عن إرادتها، دموع لو أرادتها أن تنهمر على شخص عزيز يصاهر العائلة لما وجدتها تنحدر على خديها بهذه السخونة التي شعرت بها!

وفي لحظة عاتمة تخترق هدوء الحياة بين زوجين متفاهمين قانعين راضيين يسري نخر في العظام فيرحل الرجل، يمضي مثل السحاب في شهر موعود بالارتحال، يغيب وجهه وجسده وصوته الحنون وقد لفه قماش أبيض فتعوي في ذاكرة المرأة صورة الذكر الذي انتفض حقده وغضبه وويلات نفسه حين فقدَ شريكة الحب.

كان الطير يضرب رأسه وجناحيه بقسوة كمن به داء الانتحار! هل تفعل فعل الطير من فصيلة طيور الحب في رحيله وراء معشوقته، فتشرب السم الزعاف كي تلحق بزوجها الذي تركها وحيدة مع أولادها، لكن المرأة الوفية التقية الصالحة لا تنتحب ولا تلطم وجهها وتنتف شعرها وتولول كما تفعل النساء المفجوعات بفقدان أزواجهن، كابدت حرائق الشهقة تلو الشهقة وهي تودعه بعينين بليلتين مخضلتين بدموع تحجرت في المقلتين وفكرت بكلامه عن قسوة الحياة وغائلة الحاجة وكيف أنه استودع قلبها أمانة المحافظة على العصافير فهي السلوى وطرب الفؤاد، على أبواب أقفاصها التصقت أحاسيس أصابع يديه فراحت تتلمسها واحداً واحداً وتردد هكذا كان يفعل أبو الوفاء، فتستسلم للقضاء والقدر وتعلن في صمت أنها سترعاها وتحسن العناية بمشاربها ومآكلها تماماً كما كان يفعل زوجها.

تبدأ في البحث عن عمل يقيها غائلة الفقر والحرمان، فالصغار لا يعرفون الصبر كما تعرفه هي بعد أن غرقت في الديون، تستدين من أختها فيتأفف زوج الأخت، وتستدين من أخيها فتعبس زوجة الأخ، وأخرى من السمان الذي يعلق على زجاج الواجهة لائحة مكتوباً فيها "جاء أول الشهر يا أحباب، إن كنتم أصدقاء عجلوا بالدفع، ولا تتركونا نقرع الأبواب"، فتتراكم الغصات بين حبيبات التذوق فتقلع عن الدين وترضى بالمقسوم من التقتير والتقنين، لكن الأولاد لا يقدرون ماهية ما تعاني من ظلم الحاجة، إنهم يسترسلون في نقهم مثل نقيق الضفادع على حافة ساقية مهجورة، فتعود للدخول في الدائرة ذاتها وهي تكتم غيظاً دفيناً وقهراً مظلماً وظالماً.

بعد القيام بالإجراءات المعقدة من أجل الحصول على الراتب التقاعدي وجدت نفسها غارقة في ديون لا تدري كيف تراكمت بهذا الكم المريب، كأنها قنوات مائية لا تعرف سوى الجريان والضغط على أوتار القلب، فكرت بالبحث عن عمل يناسبها لمعت في ذهنها فكرة بيع العصافير، نعم، لمَ لا، ستبيع عصافير الكناري التي أحضرتها مجدداً وعزلتها عن مكان طيور الحب لتعيش هي وأولادها بقليل من الستر يقيها من الحاجة والفاقة والحرمان، فتبدأ بالعناية بالأقفاص وبحاجات الطيور إلى الدخن وورق الكبوس الأخضر والبيض المسلوق، كانت لا تدرك ماهية تعب زوجها في هذه الأمور، تدفع فاتورة الماء تأتي فاتورة الكهرباء، وتمتعض بألم يضغط على أغصان الذاكرة حين تفكر بالكساء والغذاء والدواء خاصة دواء الضغط الشرياني، الطبيب نبهها إلى ضرورة عدم نسيان تناول الدواء في وقته، كما حذرها من مرض السكر، فتترجى جارتها أن لا ينسى أبو حكمت الذي يهوى زيارة هذه السوق منذ شبابه قبل صلاة الجمعة أن يحمل في يده قفصاً أو قفصين لبيعهما بعد أن اطمأنت إلى ازدياد عدد عصافير الكناري.

كعادتها كل صباح جلست كي تشرب فنجان قهوتها، لم تكمل فنجان القهوة حين سمعت هذا اللحن الخالد في شريطه المحزون يئن، يبدأ صوت الأنين كسقسقة ماء ضعيف أو ارتداد ناي بعيد، كانت العصفورة تتألم بصمتٍ سكن جداول ذاكرة جسدها، والمرأة تنظر إليها بعينين مرتعشتين، تنظر إليها كيف ترفع ذيلها إلى الأعلى وهي تصدر أصواتاً ضعيفة يضرب الوهن أعماقها الصغيرة، لم يكن بوسع المرأة أن تفسر السبب، ولم يكن باستطاعتها أن تقدم لها أي معونة أو مساعدة، دقائق مرت والعصفورة لا تكف عن التلميح بألمها بهذه الاستغاثات من الأنين الخافت كأنها تمارس الاحتضار، وبطن جذعها يرتجف ارتجاف المستجير من النار، هل كانت تريد أن تقول شيئاً؟ هل كانت تعيش وجع اللحظة من السر والإيماء؟ لم يكن بمقدور المرأة أن تجلو الحقيقة أمام عينيها، لكن أمراً آخر كان قد بدأ بكشف السر الذي هو من عجائب قدرة الله حين رفعت ذيلها إلى أعلى أكثر من كل مرةٍ ومالت برأسها وبجذعها نحو الأسفل فبانت دائرة حمراء صغيرة وثمة شيء دائري أبيض متكور انبثق من هذه الفتحة، كانت بيضة بحجم حبة البندق أو أكبر قليلاً، اقشعر جسد المرأة، يا لرهبة الوضع! أعادت رسم المشهد في عينيها مثل "كاميرا" التقطت كلّ التفاصيل، تذكرت آلام مخاضها فشعرت بقيمة ما تعانيه الطيور من عذاب مريع وألم فظيع، وفكرت، بعد وضع البيضة سترقد عليها تمنحها الدفء والحماية، وستنتظر بكل ما عندها من صبر، حتى تفقس، وسيخرج إلى الحياة عصفور جديد، سيكبر ومن غير شك سيغرد.

13/4/2003

عبلة محمد زقزوق
14-06-2006, 11:40 AM
رائعة " بائعة العصافير "
فكم هو ممتع أختاه مشاهدة كناريا الحب ، فكان عندي منهم الكثير ، ببركة الله وبزيادة العناية والرعاية لهم زادني الله منهم حتى أنني أهديت منهم الكثير ، فشكرني من إحتضنهم بالرعاية بجميل المؤانسة والصحبة لهم .
أما قصتك فرائعة كروعة العصافير والكناريا ، وجمال التغريد .
وكان الله في عون من إفترق عن الحبيب والشريك ، وكان الله في عون كل زوجة ترعى صغارها بعد موت شريكها ، فتعاني من روتين صرف الراتب التقاعدي ، ومن حاجة الصغار وغول الغلاء وطلبات الحياة من أجل لقمة العيش للصغار .
فصتك أختاه لا مست واقعا مراً ، وبيد أخرى داوت المرارة بعسل العصافير ... فسبحان الله وكأن زوجها كان يدرك أن تلك العصافير سوف تكون مصدر رزق وتقوت لأسرته .
ولكنني أعود لأقول أن الله قبل أن يبتلي يقدر ، سبحان الله ولا حول ولا قوة إلا بالله .
تحياتي وتقديري أختاه .

الصباح الخالدي
14-06-2006, 12:28 PM
سها وقلم يحلق بنا مع عصافير تملك اللب والاحساس
لي قصص مع العصافير منها المحزن ومنها المفرح
شكرا جزيلا لك

سها جلال جودت
14-06-2006, 02:08 PM
أشكرك جزيل الشكر أختي عبلة
إحساسك الرائع دخل في وريد قلبي فغنت له العصافير ورقصت على إبداعه طيور الحب والكناري
دمت بخير مع صافي محبتي وتقديري

سها جلال جودت
14-06-2006, 02:11 PM
الصباح الكريمة التي لا تتوانى عن زيارتي لتتحفني بروائع رصدها أتمنى أن أرد لك الجميل ذات مرة
دمت بخير مع صافي محبتي وتقديري

الصباح الخالدي
15-06-2006, 12:26 PM
اختنا سها
شكرا لك
خوك الصباح

مصطفى بطحيش
17-06-2006, 01:29 AM
الاديبة سها

جميلة قصة بائعة العصافير

وجميلة هذه الواقعية بحزنها والمها واملها

ومدهشة ومحيرة تلك الخاتمة

لك ولقلمك دوام العطاء والرقي

تحية لك

سها جلال جودت
17-06-2006, 01:56 AM
أخي العزيز مصطفى (أبو أحمد)
كلّ التقدير لمرورك الكريم ، منكم أنتم أيها الأفاضل نتزود بسطور الإبداع لنتابع المسير في درب جدُّ طويل.
دمت بخير ولأختي ألف تحية، مع صافي محبتي وجمال تقديري

سعيد أبو نعسة
17-06-2006, 06:45 AM
الأخت العزيزة سها
رائع هذا التماهي بين الكائنات و تبادل الأدوار حين يصبح الكنار ربّ البيت معلنا تواصل الحياة في اندغام شائق .
لغة شفافة و أسلوب سلس يتهادى على زقزقة العصافير و صوت فيروز عاكسا صفاء روح كاتبة تؤمن بالله العظيم و بالقضاء و القدر و بالحب و العطاء .
دمت في خير و عطاء

سها جلال جودت
17-06-2006, 01:34 PM
أستاذ سعيد
لك من قلبي أضمومة محبة صافية
لقد قرأت بوعي المشاعر ولم تقرأ بوعي العيون للبصر، لقد كانت بصيرتك نافذة أطلت على الجوهر بكل إدراك المبدع
دمت بخير مع تقديري وصافي محبتي

سحر الليالي
31-07-2006, 12:34 PM
قصة رائعة يا سها
بإنتظار قلمك ،ودام للنا ابداعك
لك خالص حبي

سها جلال جودت
31-07-2006, 01:11 PM
دمت يا عزيزة القلب قارئة مجدة لك اجمل تحياتي

عبدالله المحمدي
31-07-2006, 02:21 PM
الكاتبة لا تغرق في تفاصيل مملة أو منهكة للقاريء بقدر ما تصف بكلمة أو كلمتين مشهدا متكاملا يعج بالحياة والصور ..


وصف رائع وتعبير نقي يفي بأن يشعرك بما نعانيه عندما تنهار او تختفي الرموز أمامنا ..

وكثير من الكتاب يستهلك الحروف والمعاني ويثخنها بالحشو وكأنه يريد أن يشرح لك كل خطوة في تسلسل الأحداث .. أما الكاتبة هنا فقد قفزت قفزا غير مخل لمراحل مملة سمجة .. أعجبني كثيرا هذا الانتقال السلس غير الممل ..

الاستاذه سها جلال جودت :

قرأتك في ( بائعة العصافير ) وسابقا في ( واصبحت قضية امة واحده ) وجدت قلما لا يمكن أن يكون إلا لمبدعة متألقة ولغة نقية رائعة وحبكة قصصية ممتعة ..

الاستاذه سها :

أشكر لك هذا الإبداع الذي يصلني بشرايين القصة الحقيقية كما تكتب وأتمنى أن أقرأ المزيد ..

دمت بخير وإلى اللقاء

سها جلال جودت
31-07-2006, 03:10 PM
عاشق الخيل قرأت لك اليوم نقداً جميلاً مما يدل على وجود حرفية متمكنة في القراءة الواعية ، أشكرك جزيل الشكر
إذا كنت من سورية فغداً الثلاثاء 1/8/ 2006 لقاء تلفزيوني على القناة الثانية بين الساعة 11إلى 12 من صباح هذا اليوم حول ملتقى القصة القصيرة جداً
العبد للفقير لله طالبة العلم والأدب سها جلال جودت

جوتيار تمر
01-08-2006, 02:08 PM
سها...
عذرا..تخلفت عن الركب طويلا...

سبقوني ...فكتبوا... واجادوا....

للك بصمة لك..في عالم الواقع...روعة...وروعتها تبدأ من كونها... مزيج بين انسانية الانسان الحائر..وبين قدرة القدر الجبارة التي ترهب الانسان بانسانيته..
في كل طلعت لك...رؤيا جديدة معطرة بغصات الانسان الانساني ..باوجاعه وبمخالجات ذاته..بالامه...وبرؤاه...

في كل قصة لك...لوحة حية من واقع الحياة..الحياة التي لاتبالي ابدا بما تخلفه ورائها من اشلاء ونفوس معذبة...

الزوج..الزوجة...الاولاد...الط يور...
انها كلها في ميزان القدر والحياة...سيان....لاشيء...يمكن يغير ويعيق...

صدقا...
قرأت اليوم لك واقعا التمسه كل لحظة...

دمت بابداعاتك...

محبتي لك
جوتيار

سها جلال جودت
09-08-2006, 12:48 AM
جوتيار اعذرني على تأخري في كتابة كلمة شكر لمرورك الكريم حتى وإن كانت قصيرة.
أشكرك جوتيار أنت متابع جيد تستحق الشكر دائماً
أتمنى لك موعداً لا بد وأن يكون جد قريب مع سلالم الارتقاء في مجال الإبداع
دمت بخير مع صافي محبتي وتقديري

ناديه محمد الجابي
24-10-2014, 08:45 PM
لغة حلوة جميلة عزفت على قيثارة المشاعر الإنسانية
بقصة من الواقع حركت المشاعر ببوح صادق شفاف
ولغة سلسة شائقة وتصوير رائع.
دمت بخير. :001:

اشرف الخريبي
27-10-2014, 06:45 AM
جمال السرد والبناء في قصص بائعة العصافير للكاتبة سها جلال جودت
رؤية نقدية

الروائية والقاصة السورية سها جلال جودت تمثل جيلاً من الكتابة في عالمنا العربي يمنح النص القصصي مذاقاً مختلفاً قادراً على الكشف والغوص في دقائق الأمور كي يثير كثيراً من التساؤلات.ويكشف تناقضات هذا الواقع عبر الذات المغتربة أو الإنسان/الفرد داخل بناء اجتماعي تتهاوى معطياته عبر هذه النصوص في بائعة العصافير والتي تجسد فيها هذا الواقع وتعيد إنتاج الموازي له خلقاً باللغة والتصوير القصصي البارع الذي يستمرىء التفاصيل نابضة حية تمنح اللحظة القصصية بناء محكم بارع في السرد،
لعلها اللغة الخبيئة في منطق البناء والحكاية الملهمة من تفاصيل السرد الأليم تتسرب بخفة ورشاقة إلى نفوسنا وتملؤنا فرحاً شجياً حين الفرح وتبث الإرتعاش اللذيذ حزناً وتعاطفاً ونحن نخوض غمار التفاصيل المفرحة الحزينة على نحو ما، نزاوج الاتجاهات كي تعبث بنا الأقدار ونذهب إلى الشجن متواطئين مع الحزن، أو نعبث نحن بالاحتمالات كي نمزق الأسئلة في انتظار الإجابات، نصوص ترصد الممكن والمتاح وتعيد لنفوسنا هدوءها وروعتها. مزواجة بين المحالين وائتلافاً يرصد الوقائع بعين واعية كي تتراص أمام دهشتنا عن المروى عنه، واختزال الزمن في مروره الرهيب وإحساس الفقد المقيت كثيرة هي الحصارات والهزائم وانكسار الروح وفقد التواصل وهذا الواقع الغني بالحكايات ينهمر بحماس كحماس المبدعة التي تسهم في تشكيل التلقي بأبعاد مختلفة ومواقف متشابكة واعية لحجم مشكلات الواقع وتداخلاته، راصدة للأحداث أو مروراً رهيباً عليها داكناً حد الشحوب الهزيل والعميق في آن واحد. شحوب الهمس لجذب تعاطفك المستمر واستسلامك أمام عدل الشخصيات طيلة الوقت للكاتبة جودت في هذه القدرة على استلاب مشاعرك مع شخصياتها ونماذجها دون رجوع للخلف أو النظر إلى ما سبق من موقف فكرى ورؤية هادئة متوازنة نت أترقب صرير الباب وهمس اللغة الحلوة الممتع وهى ماضية بالسرد ألقاً وحضوراً حيياً كالشخصيات الهامسة القريبة من القلب الواقفة عند الوقائع بخبرة العارفين المطمئنة لتوصيفها الدقيق، هكذا تسكننا الحكاية والتفاصيل الثرية المدهشة، تقنعنا على الدوام بحقيقة الحكاية وحقيقة البناء الذي يعتمد على السرد المختزل الذي يزهو باللغة دون تعقيد وينقل خبرة المروى عنه إلى مخزون الخبرة الإنسانية للمتلقي. تفاصيل ورؤى وحنين بمنطق السينما أحياناً، والحكاية أحياناً والتفاصيل البديعة أحياناً والفكرة الناضجة كثيراً، كما في قصتها (من أجل يوم المخاض ) وهى تدافع عن قضايا المرأة. إنها تقدم الملامح الإنسانية لمجتمعها وتركز على هذا الجانب منه وفى كل قصة يجتمع فيها العقل والوجدان معاً لتجذب القارئ وتشده من أول لحظة تقدم الجانب الملموس من حياتنا والمختفي في نفوسنا إلى جانب الإحساس بالقيم الأخلاقية وأهميتها، تلك الفضائل التي أصبحت خارج حساباتنا نراها هنا في فعل النص موحية وزاخرة ضد أفعال أخرى من الواقع المهترئ وبين ذروة الحلم ومرارة هذا الواقع فى أثناء ذلك تلتقط أدق تفاصيل الحياة لكي تقيم الدلالة بين اغتراب الذات وحقيقة وجودها. تقع هذه النصوص وتقدم رؤيتها للعالم مفعمة بالحلم كاشفة لأبعاد هذه المشكلات. وفى اختيار الكاتبة لأحداث قصصها وارتداد الشخصيات إإلى مكونها النفسي في أغلب الأحوال لتحليل عالم هذه الشخصيات كما في قصة عينان مختلفتان أو حب لن يصدقه البشر، تحقق الكاتبة اتساقا وإحكامل فنياً متميزاً، و بين المفارقات القصصية التي تتقدم الكتابة و الروح المغتربة الملونة بالبراءة والحلم في مواجهة القضايا الاجتماعية الكبرى تظهر النصوص بدرجة عالية من التركيز على الأحداث محدثة نوع من التواصل بين العلاقات الداخلية والخارجية في القصص كافة فنرى وحدة المكان والزمان وبناء الشخصيات بشكل متنامي وسرد حكائي يهتم بمكنونات اللغة لإضاءة النص وهذه العناصر في اجتماعها معاً تقدم ملامح الواقع اليومي بصدق مليئ بالخبرة الإنسانية التي تنعكس على عوالم الشخصيات وعلى لغة الكتابة التي تحمل عبء المروى عنه في الغالب وهى داخل النصوص كائن متحرك لغتها شاعرية، وانطلاقاً منها تأتي حميمية هذه اللغة وصدقها وبراءتها فى التعامل مع النص ((أتأمل صورتك الصامتة كوجهك الصامت، أتدحرج على إسفلت الدم والرماد مثل حمامة سقطت من أجنحتها حين اخترقها الرصاص، تراقبني العيون فأشعر بالخوف يعشش في ذاتي)) قصة وتسأله أن يحفظ سرك. الكتابة عند سهي جلال على الرغم من شاعريتها واعتمادها على البنية التقليدية إلا أنها رغم ذلك توجه أفكار قصصها وحواراتها على لسان الأبطال إلى مناطق التفكير العقلي وتصوير الوقائع والهزائم على الدوام عن طريق الوعي بالتجربة وأهمية طرحها واكتشاف مكوناتها فهي لا تقدم العالم زاهياً وجميلاً وفقط من خلال اختيارها لمواد القص وأدواته ولكنها تعنى وتشير إلى التلقي ومسارات القراءة التي تتحدد ملامحها في هذه المجموعة فنسمع صوت الراوي وصوت الشخصيات وتوزيع الأدوار مع اختلاف الشخصيات. كثيرة هي الأدوات وعناصر الكتابة لأنها فى يد خبيرة تعرف متى، وأين، وكيف ؟ الكاتبة تهتم بالحدوتة وتستلهم مفردات السرد من وجود وعي حقيقة الشخصيات وموقفها من العالم، إنه عالم مفتوح على الجرح يتساقط من أوراق اللغة والحروف كي يفرش الأرض/ أرض النص ويبني بنماء طبيعي موقفه من الآخر والذات معاً كما في (نداء الهم) ثري بما يكفي حد الوجع أحياناً والفرح و الاحتفاء بوجوده كعالم مكتمل البناء والمعالم يسكن ها هنا كما في ( بائعة العصافير ) والمواقف المتقابلة في العالم وهى تقول"حين سمعت هذا اللحن الخالد في شريطه المحزون يئن، يبدأ صوت الأنين كسقسقة ماء ضعيف أو ارتداد ناي بعيد، كانت العصفورة تتألم بصمتٍ سكن جداول ذاكرة جسدها، والمرأة تنظر إليها بعينين مرتعشتين، تنظر إليها كيف ترفع ذيلها إلى الأعلى وهي تصدر أصواتاً ضعيفة يضرب الوهن أعماقها الصغيرة" تقتحم هذه النصوص مناطق متعددة في بناءها التلقائي وتوظف إمكاناتها المختلفة ولوجاً إلى أغوار النفس الإنسانية في إعلاء قيمة الإنسان كإنسان فرد داخل بنية اجتماعية وليس كنمط حياة، الذي يدخل في جذور الشخصيات وعالمها ويرتسم بغلالة سميكة لا مفر منها. الموقف من العالم الخارجي غير معروف مسبقا وحالة البطلة تتداخل ضمن عناصر الحكاية التي تبدو هادئة غير أنها تتخذ الشكل التصاعدي كبداية ووسط ونهاية. هذه القوالب التقليدية حين تمتزج بلغة شفافة وتمزجها بالوقائع تسجل المشهد القصصي بارعاً ومتفاعلاً مع التلقي / مع أحداث ذلك التماثل، وهو الترتيب المنطقي وأحياناً فوضى الترتيب، غير أنه اكتشاف الحياة أو إعادة الاكتشاف وخروج الشبيه إلى موقف العالم " وهي تقول " تذكرت آلام مخاضها فشعرت بقيمة ما تعانيه الطيور من عذاب مريع وألم فظيع، وفكرت، بعد وضع البيضة سترقد عليها تمنحها الدفء والحماية، وستنتظر بكل ما عندها من صبر، حتى تفقس، وسيخرج إلى الحياة عصفور جديد، سيكبر ومن غير شك سيغرد" ترصد المتغيرات والصراع وموقف الشخصيات خلال رحلة من الأحداث مهتمة بالنهاية ودلالة موقفها وأحداثها التي تمور بالحركة الرمزية ( كما فى قصة - امرأة من شمع العسل ) "" فردت أوراق الحياة دفاترها، ورقة، ورقة، كانت ألوانها منغمسة بأرجوان الحقول وببنفسج البساتين وبزهر الكرز واللوز، ومع مرور الزمن اصفرت الأوراق، فاستفاقت الذكرى والتهبت أحداق العيون وهي تعبر الشارع العام المؤدي إلى ميناء الوعد تحمل هدايا القلب المعطر بأريج اللهفة والكلمة المصنوعة من شموع الروح العاشقة""" وترصد رصداً حسيساً ومقنعاً لأحداث الواقع بكل آلامه وآماله وهي تصف ما يدور بهذه الشخصيات و تجسد موقفها من العالم ومن ذاتها ومن الذاكرة ومن هذا الواقع المعيش وتصف باهتمام أبطال قصصها وكأنها تعيش بينهم أو معهم فنشعر بذلك ونتأمل بشوق مايلي من أحداث... اللغة والحدث متجاوران في كل القصص حيث تتلاحق المشاهد وتستغرق اللحظة القصصية وجودها في عالم المفردات البسيطة التي تتخلل السرد وهي تقدم هذا النموذج من الشخصيات الذي يحتاج للسرد الهادئ العميق المقنع الذي يستبيح لنفسه البقاء في نفوسنا وتستقر معه أحلامها الغير مطمئنة لوقوعها غير أنها لابد من مشروعيتها وعذريتها أحيانا. إن جمال الحكايات وروعتها يأتي من تفهمنا لأحداثها وقدرة الكاتب على الالتصاق بوعي المتلقي وتبقى الشخصيات عبر أزمتها الحقيقة – الدراما- بكل تفاصيلها قادرة على طرح أفكارها ووعيها بمصيرها ووجودها في العالم، رغم الشجن المتعب المورق شجراً من الأحزان بلغة الشعرية الممتعة أو الشعرية المتألقة والكاتبة تصف الشخصيات وتربطها بموضوعها بدقة وتجسد الأحداث وتصف المشهد بالتفاصيل كافة ولا تنسى أننا نقرأ ونشاهد معاً .
والقصص تمزج العالم بالحلم والرمز معاً في موقف واحد، ترمز وتطرح على الواقع. الذي نكتشف أبعاده المختلفة عبر السرد في نقدها الاجتماعى لحالته الراهنة من سطوة مشاعله المغيبة لحضور الشخصيات كالجهل والفقر والمرض مثيرة هي الأحداث حين تهتم بالدرجة الأولى بما يدور في أعماقنا من أسئلة تحاول أن تضع لها إجابات وكأننا نرى كل شيء لأول مرة وبأحداث التناقضات المتقابلة للمواقف بهذا السرد الشفاف.
القاصة تصنع شخصياتها وحكاياتها من قلب هذا الواقع وتضعها على الأحداث أو العكس ضمن التفاصيل الثرية تتخذ من الواقع موقفاً أساسياً للبناء وترصد المتغيرات والتحولات الاجتماعية والسياسية
كما فى قصة (انظر إلى قلبي ) تقول: "ما وجدته في مسقط رأسي أوغل الحزن في قلبي، زاد من ألمي، هذا الزحام، هذا الزحف الريفي، أفسد بهجة الشوارع، ضاعت نظافة المدينة بين أقدام الوافدين، امتدت البيوت تغطي جميع الأطراف، كأني أرى تداخلاً بين عمران المدينة وعمران الريف، ما عادت المساحات الزراعية تحيط بسوارها الجميل، ورغم هذا الضغط أشعر بالدفء يغطيني، بالوجوه تحميني، بصنبور الماء يروي ظمئي من دون خوف، أدخل الحمام فأخرج منتعشة، متوردة الخدين، لطعم الليمون وهواء الوطن مذاق حقيقي، صدري الآن يمتلأ من أنسامه العليلة، والغصة في داخلي تحرق بريق كل الأشياء الجميلة المحيطة بي" من خلال بنية الحدث ورصد المتغيرات على الذات بكل التفاصيل الحب\ الشوق\ الحنين \الخ وضمن تفاصيل الحكاية الطويلة في لحظة واحدة ثرية وقادرة على كشف الواقع والمعالجة الفنية بحيث نراها أمامنا موقفاً حقيقياً من العالم من خلال تاريخ الشخصية زمانياً ومكانياً حيث تبقى الشخصية هنا المحرك للأحداث المتضمن أساساً للتفاعل معها وعرض الوقائع بشكل مباشر في لحظة الحكي، وتبقى التفاصيل طازجة غير أنها شجية على الدوام .كما فى قصة ( وجهان للوذعي ) راصدة لنفس ذلك التغير ""ما عادت الجدات في هذا الزمن تجيد فن الحكاية، المهم في هذا الزمن المطعون بغربلة عاداته وتقاليده الحميدة الرفيعة أن فتاة حاولت أن تقلد يوماً برنامج "الكاميرا الخفية" فتنكرت بزي شاب أجنبي وحاولت أن تنزل إلى الشارع فلحقها شاب، كان من أحد الشوارع الشعبية وسألها: • هل أنتَ يهودي ؟
الأمر اختلط عليه كما اختلط عليّ يوم صدقت أن في قلبك روحاً نبيلة قد تنتشل ضفة أحزاني نحو السمو والرفعة، البنت خافت وعادت أدراجها راجفة الخطوات، لاهثة، وقالت لأمها: - توبة، لن أكررها ثانية! """
من هذه الخبرة الراقية في الرصد إلى مستوى أفقي في اللغة تتفاعل التقنيات الفنية المقصود بها إحداث تراكم نفسي لحياة الشخصيات بحيث تدور الأحداث وتتفاعل الشخصيات وتذوب تفاعلاتها مع الحدث والواقع المباشر وتتهاوى القيم الأخرى وتتراجع إلى الخلف محدثة انقلاباً هذا ما يحدث في العالم القصصي المهتم والمتفاعل مع الحكاية الذي هو أساس البناء.كي تقدم رؤية شفيفة راصدة وواعية للواقع تحدث نوعاً من التواصل والتلاقي مع المتلقي تاركة لهذا الأخير تفاعله مع النصوص بحرية وتواصل دائم .