موسى نجيب موسى
17-06-2006, 10:36 PM
مريـــم
سنتان وشهران وبضعة أيام حصيلة عمرها على الأرض سقوط مدوي على إسفلت رأس الشارع من يد ابنة عمها "ثافنوتي".. كسر في الغلاف الخارجي لجمجمتها من الناحية اليسرى.. مئات من علب الأدوية.. مئات من السرنجات المفرغة في جسدها الضئيل.. مئات من الأحلام تنام بين كفيها الرقيقين.. اعتصار قلبي أمها وأبيها في هنات مرضها المتعددة.. قصص وحكايات وألعاب هي غرفتها الخاصة.. هي مريم نور القلب الذي لا ينطفئ وذاكرة القلب التي لن تموت بعد غروب شمس الوجود الأخير.
مفرغــة منويــة
قبلها كنت أخال الزواج مجرد مفرغة منوية يتم كبح جماح الشهوة وإشباع الرغبة في جوفها.. صدمة حب عنيفة نفت القلب إلى هوة سحيقة داخل مقبرة الذات،وقليل من مشاعر تبقت لها في القلب بعد المنفى، ومعرفة وثيقة جداً بها كان القرار.. تم الزواج على يد كاهن المدينة الصغيرة – مطاي – جعلتني منذ أول يوم لي معها على الفراش أن اعرف كيف يكون الحب الحقيقي؟!! أعادت قلبي من منفاه فكانت إلى جانب دورها كمفرغة منوية تحتوي حيواناتي القوية.. أما لنا جميعاً – أنا ومريم ويوسف -ثلاثة أبناء لها لا يفصل بينهم سوى السن والميول والثقافة.. نحتت صورتها في القلب ولم تغادر ذاكرته بعد.
حبيبـة الراهــب
سنوات عمرها فرت من بين يديها.. كان لها رأي فيمن سيتقدم لزواجها.. كثرة التردد.. طول سنوات انتظار ما قد لا يأتي...جسد تحاول ضبط إيقاعه بمعرفة طبيب التخسيس.. أشياء جعلتها تعيد النظر فيمن تريده ولكنها لم تجده.. الأول كان راهباً توهم في جلسة اعتراف صريحة أنه يميل ناحيتها أو هي توهمت ذلك لم يعد يفرق هذا كثيراً. كان يترك الدير وينزل لها في العالم يحاول أنيلتمس من يديها الباردتين أي لمسة دفء يدفئ بها قلبه المتجمد من قسوة برد البرية وشظف النساك.. هرب منها عائداً إلى البرية لكن في هذه المرة اتجه نحو دير أخر غير الذي عرفها فيه.. الآخر محرم عليها أيضاً.. زوجته الجميلة وابنته الأجمل وابنه المنتظر وعقيدتهما الصارمة.. كلها محطات كان يجب عليها الوقوف فيها طويلاً قبل أن يمضى قطار العمر.. لكنه مضى دون أن تترك توقيعها في ذاكرة القلب البيضاء.. رحلت دون عودة أو في انتظار عودة أخرى مع آخر حينما يتغير الموقف.. لم تحدد موقفها حتى الآن.
البشهيـــة *
تلتصق قدماها بأرضية الطابق الثالث من المدرسة.. تستند على السور الحديدي الذي يحول دون سقوط التلاميذ.. تتأمل وتترك عينيها تسبح في الفضاء الواصل بينها وبين البشهية.. لا تشعر بوقع أقدامه رغم اقترابه جداً منها.
أنت اجمل كثيراً بدون النظارة.
حوائط أسمنتية صنعها الصمت المطبق على المكان بين فمه وأذنيها.. أعاد الكلام عليها مرة أخرى:-
أنت اجمل كثيراً بدون النظارة.
اتسعت شفتاها بابتسامة باهتة وزاغت عينيها بين صورته الماثلة أمامها وبين البشهية.. بلا إرادة تملك عليها توجيه أفعالها قامت بنزع نظارتها.. ضحك.. لم تشأ أن تعرف لماذا؟ لكن عيناها امتلأت بالرعب عندما مر من أمام الباب الخارجي أحد أقاربها وأخذ يحملق فيهما.. رجعت عدة خطوات للخلف.
لماذا تخافين إلا تعصمك هذه "الدبلة" التي تزين بنصرك الأيمن من مجرد الشك؟
الشك ملاذ وخاصة لأمثالي.
لم يفهم معنى كلامها ولكنها عادت تقول:ـ
الشك مقبرة – أشارت إلى البشهية – مثل هذه المقابر الكثيرة التي أتمنى أن تحتويني إحداها في يوم قريب جداً.
لماذا التشاؤم؟
ولماذا التفاؤل؟
عرف بعد ذلك من إحدى زميلاتها القريبات منها أنها مرت بتجربة قاسية ولم تملك حيالها سوى أن توافق على أول من يتقدم لها لتقطع الكثير من الألسنة التي بدأت تلوك سيرتها.. فكان خطيبها الذي ألبسها "الدبلة" ورحل إلى بلاد النفط.. وكانت هي بقايا أنثى تحاول أن تلملم رفاتها في أقرب مقبرة. في صباح اليوم التالي كانت قدماها تلتصق بأرضية الطابق الثالث من المدرسة...تستند على السور الحديدي.. تتأمل ثم تترك عينيها تسبح في الفضاء الواصل بينها وبين البشهية.. شعرت بوقع أقدامه بمجرد أن اقترب منها.
أنت أجمل بدون النظارة.
لم تتسع شفتاها بأي ابتسامه ولم تزغ عينيها بين صورته الماثلة أمامها وبين البشهية.. وملكت أخيراً أرادتها فلم تنزع نظارتها.. لم يضحك.. لم تمتلئ عينيها بالرعب على الرغم من مرور نفس قربيها من أمام الباب الخارجي للمدرسة وحملقته فيهما.
أنت أجمل بدون النظارة.
سمعتها للمرة الثانية.. لكنها لم تشأ أن ترد عليه وراحت تتأمل في البشهية بعمق أكثر وأكثر و.....
* البشهية : منطقة تقع أمام المدرسة الإعدادية بقرية منشأة منبال – مركز مطاي – تضم مقابر أهالي القرية
بقلم / موسى نجيب موسى
سنتان وشهران وبضعة أيام حصيلة عمرها على الأرض سقوط مدوي على إسفلت رأس الشارع من يد ابنة عمها "ثافنوتي".. كسر في الغلاف الخارجي لجمجمتها من الناحية اليسرى.. مئات من علب الأدوية.. مئات من السرنجات المفرغة في جسدها الضئيل.. مئات من الأحلام تنام بين كفيها الرقيقين.. اعتصار قلبي أمها وأبيها في هنات مرضها المتعددة.. قصص وحكايات وألعاب هي غرفتها الخاصة.. هي مريم نور القلب الذي لا ينطفئ وذاكرة القلب التي لن تموت بعد غروب شمس الوجود الأخير.
مفرغــة منويــة
قبلها كنت أخال الزواج مجرد مفرغة منوية يتم كبح جماح الشهوة وإشباع الرغبة في جوفها.. صدمة حب عنيفة نفت القلب إلى هوة سحيقة داخل مقبرة الذات،وقليل من مشاعر تبقت لها في القلب بعد المنفى، ومعرفة وثيقة جداً بها كان القرار.. تم الزواج على يد كاهن المدينة الصغيرة – مطاي – جعلتني منذ أول يوم لي معها على الفراش أن اعرف كيف يكون الحب الحقيقي؟!! أعادت قلبي من منفاه فكانت إلى جانب دورها كمفرغة منوية تحتوي حيواناتي القوية.. أما لنا جميعاً – أنا ومريم ويوسف -ثلاثة أبناء لها لا يفصل بينهم سوى السن والميول والثقافة.. نحتت صورتها في القلب ولم تغادر ذاكرته بعد.
حبيبـة الراهــب
سنوات عمرها فرت من بين يديها.. كان لها رأي فيمن سيتقدم لزواجها.. كثرة التردد.. طول سنوات انتظار ما قد لا يأتي...جسد تحاول ضبط إيقاعه بمعرفة طبيب التخسيس.. أشياء جعلتها تعيد النظر فيمن تريده ولكنها لم تجده.. الأول كان راهباً توهم في جلسة اعتراف صريحة أنه يميل ناحيتها أو هي توهمت ذلك لم يعد يفرق هذا كثيراً. كان يترك الدير وينزل لها في العالم يحاول أنيلتمس من يديها الباردتين أي لمسة دفء يدفئ بها قلبه المتجمد من قسوة برد البرية وشظف النساك.. هرب منها عائداً إلى البرية لكن في هذه المرة اتجه نحو دير أخر غير الذي عرفها فيه.. الآخر محرم عليها أيضاً.. زوجته الجميلة وابنته الأجمل وابنه المنتظر وعقيدتهما الصارمة.. كلها محطات كان يجب عليها الوقوف فيها طويلاً قبل أن يمضى قطار العمر.. لكنه مضى دون أن تترك توقيعها في ذاكرة القلب البيضاء.. رحلت دون عودة أو في انتظار عودة أخرى مع آخر حينما يتغير الموقف.. لم تحدد موقفها حتى الآن.
البشهيـــة *
تلتصق قدماها بأرضية الطابق الثالث من المدرسة.. تستند على السور الحديدي الذي يحول دون سقوط التلاميذ.. تتأمل وتترك عينيها تسبح في الفضاء الواصل بينها وبين البشهية.. لا تشعر بوقع أقدامه رغم اقترابه جداً منها.
أنت اجمل كثيراً بدون النظارة.
حوائط أسمنتية صنعها الصمت المطبق على المكان بين فمه وأذنيها.. أعاد الكلام عليها مرة أخرى:-
أنت اجمل كثيراً بدون النظارة.
اتسعت شفتاها بابتسامة باهتة وزاغت عينيها بين صورته الماثلة أمامها وبين البشهية.. بلا إرادة تملك عليها توجيه أفعالها قامت بنزع نظارتها.. ضحك.. لم تشأ أن تعرف لماذا؟ لكن عيناها امتلأت بالرعب عندما مر من أمام الباب الخارجي أحد أقاربها وأخذ يحملق فيهما.. رجعت عدة خطوات للخلف.
لماذا تخافين إلا تعصمك هذه "الدبلة" التي تزين بنصرك الأيمن من مجرد الشك؟
الشك ملاذ وخاصة لأمثالي.
لم يفهم معنى كلامها ولكنها عادت تقول:ـ
الشك مقبرة – أشارت إلى البشهية – مثل هذه المقابر الكثيرة التي أتمنى أن تحتويني إحداها في يوم قريب جداً.
لماذا التشاؤم؟
ولماذا التفاؤل؟
عرف بعد ذلك من إحدى زميلاتها القريبات منها أنها مرت بتجربة قاسية ولم تملك حيالها سوى أن توافق على أول من يتقدم لها لتقطع الكثير من الألسنة التي بدأت تلوك سيرتها.. فكان خطيبها الذي ألبسها "الدبلة" ورحل إلى بلاد النفط.. وكانت هي بقايا أنثى تحاول أن تلملم رفاتها في أقرب مقبرة. في صباح اليوم التالي كانت قدماها تلتصق بأرضية الطابق الثالث من المدرسة...تستند على السور الحديدي.. تتأمل ثم تترك عينيها تسبح في الفضاء الواصل بينها وبين البشهية.. شعرت بوقع أقدامه بمجرد أن اقترب منها.
أنت أجمل بدون النظارة.
لم تتسع شفتاها بأي ابتسامه ولم تزغ عينيها بين صورته الماثلة أمامها وبين البشهية.. وملكت أخيراً أرادتها فلم تنزع نظارتها.. لم يضحك.. لم تمتلئ عينيها بالرعب على الرغم من مرور نفس قربيها من أمام الباب الخارجي للمدرسة وحملقته فيهما.
أنت أجمل بدون النظارة.
سمعتها للمرة الثانية.. لكنها لم تشأ أن ترد عليه وراحت تتأمل في البشهية بعمق أكثر وأكثر و.....
* البشهية : منطقة تقع أمام المدرسة الإعدادية بقرية منشأة منبال – مركز مطاي – تضم مقابر أهالي القرية
بقلم / موسى نجيب موسى