د. محمد حسان الطيان
19-06-2006, 11:08 AM
* النفَّـاخ فـي ذكـراه العـاشـرة
{ من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا}.
مرت على وفاة شيخنا النفّاخ سنوات عشر كأنها دقائق عشر , فلم يزل الرجل ماثلاً في الأذهان , حاضراً في الكِيان بما حواه من علم , وما زرعه من مُثُل , وما خلّفه من آثار , وما بناه من رجال , وما وقف من مواقف , بل لن يزال كذلك ما بقي لساننا يلهج بالعربية , وما بقي قلبنا يخفق بحب العربية .
فقد عاش ما عاش لهذه اللغة , لا يكاد يخرج منها إلا إليها , ولا يرى نفسه إلا فيها , ولا ينقلب عنها أو يلتفت عن محبتها’, أو يتقاعس عن الجهاد في سبيلها .
حمل رايتها رَدَحاً من الدهور هو كل ما كتب له أن يعيش في دنيا الناس , وتولّى الذود عن حياضها , والبحث في دقائقها , واكتناه أسرارها وخباياها , واجتلاء معانيها ومبانيها . لم يصرفه عنها صارف , ولم يلتوِ له فيها طريق , ولم يلذَّ له دونها مطعم ولا مشرب , ولم يبال ما أصابه من أذيةٍ في سبيلها’. فهو هي , وهي هو , إنها قضيته التي عاش لها ومات لها , ولقي ما لقي من أجلها , وتلبّس بعزّتها وشموخها ولسان حاله يردد قول القاضي الجرجاني :
يقولون لي فيك انقباضٌ وإنما=رأوا رجلاً عن موقف الذلِّ أحجما
أرى الناس مَنْ داناهمُ هانَ عندهم=ومن أكرمتْهُ عزّةُ النفس أُكرِما
إذا قيل هذا مشربٌ قلتُ قد أرى=ولكن نفسَ الحرِّ تحتملُ الظما
ولم أبتذِل في خدمة العلم مهجتي=لأخدمَ من لاقيتُ لكنْ لأُخدَما
ولو أنّ أهل العلم صانوه صانهم=ولو عظّموه في النفوس لعُظِّما
ولكن أذلّوه جهاراً ودنَّسوا=محيَّاه بالأطماع حتى تجهَّما
* ترفع وشموخ
لم يكن أستاذنا النفاخ ـ أعلى الله مقامه ـ يلتفت إلى شيء من مباهج الدنيا , وكأنه رجل من رجال السلف , يخالُهُ المرء منتسباً إلى القرون الأولى التي وصفها سيد البرية بالخيرية : " خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" لهذا ما كنت تراه يترفّع عن كثير مما يتهافت خاصّة الناس عليه بلْهَ عامَّتهم , وقد وصف يوماً صديقاً له اعتذر عن تسنّم مقاليد وزارة في الدولة بقوله : " إن هذا الرجل يترفّع أن يضع رجله حيث يضع الكثيرون جباهَهم " ويقيني أن أحقَّ الناس بهذا الوصف هو شيخنا النفاخ , فقد كان حقًّا من هذا الصنف الذي لا تستهويه الأهواء , ولا تعصف به الرغائب , ولا تثنيه المكاره .
قلت له مرة , وقد رأيت ما يعانيه في تنقلاته بين البيت والجامعة : " لم لا تتخذ لنفسك سيارة ؟ " فنظر إليَّ شزراً ثم قال : " وهل تريد أن أضع على رأسي قرنين ؟! " .
وطلب إليه أستاذ كبير أن يدرِّس في جامعة تُجزل العطاء لأساتذتها فرد بأنه لو قيِّض له أن يدرِّس ثَمَّةَ لأبى أن يتقاضى فلساً واحداً مقابل تدريسه , فهو أكبر من أي مال مبذول , وعلمه أعظم من أيِّ عَرَض من أعراض الدنيا , من أجل هذا كان يبذله لبعض طلاب العلم الفقراء , ويضنَّ به على كثير من طلاب السمعة والجاه الأغنياء .
ومن هنا كان الأستاذ ـ عليه رحمة الله ـ قاسياً على نفسه أولاً , قاسياً على من حوله ثانياً , ولم تكن قسوته على الناس إلا فرعاً من قسوته على نفسه وجزءاً يسيراً منها , فقد حرم نفسه متاعاً كثيراً , ونعيماً موصولاً , ومراتب تتقطع دونها الرقاب , وقنع بأن يقبعَ في كِسْر بيته على حين ينعم الآخرون بما حصّلوه من غزير علمه , وبما نالوه من عظيم فوائده , وهو في هذا أشبه الناس بالخليل بن أحمد حين قال في حقِّهِ تلميذه النضر : " أكلنا الدنيا بعلم الخليل وهو في خُصٍّ بالبصرة لا يُشعر به " ولئن صدقت هذه الكلمة في رجل بعد الخليل لتصدقَنَّ على شيخنا النفاخ فقد أكلنا الدنيا بعلمه وهو قابع في كِسْر بيته , رحمه الله وعوضه خيراً .
* صلابة في الحق
وقد عرف الأستاذ النفاخ بمواقفه الصُّلبة , وإرادته القوية , لا يداهن صاحباً , ولا يجامل جليساً , ولا ينحني لكبير , ولا يخشى في الله لومة لائم , وإذا ما رأى الرأيَ مضى دونه مجاهداً , لا تلين له قناة , ولا يثنيه هوى , ولا يؤثر فيه ترغيب ولا ترهيب .
كنت عنده مرة فزاره وزير كبير له شأن خطير في دنيا السياسة والرئاسة , فرحب به وأكرم وفادته , وأسمعه من صنوف العلم وأفانين القول ما ملك به فؤاده , وانتزع منه إعجابه , ثم كالَ له من صنوف النقد والتعريض ما لا يقوى عليه أحد في ذلك الزمان , حتى لقد أشفق بعض أهل المجلس على صحة الأستاذ لما اعتراه من حِدّة , وما بدا عليه من أمارات الانفعال , وكأني به الصورة الحية لمقولة الرسول الكريم ‘ : " ألا لا يمنعَنَّ رجلاً هيبةُ الناسِ أن يقول بحقٍّ إذا علمَهُ " . فقد أعلن الحق الذي علمه , ولم يخشَ صولة الحاكم , ولا بأسَ المتحكِّم , وإنما قال : "لا " بملءِ فيه , فكان رجلاً , والرجال قليل , وما أصدق ما قاله الأول فيه وفي أمثاله : " يعجبني من الرجل إذا سيمَ خسفاً أن يقول لا بملء فيه".
* جبل علم هوى
وكان الشيخ النفاخ ـ برَّد الله مضجعه ـ جبلاً من جبال العلم الراسخة , وبحراً من بحور الفهم العميقة , بَرَعَ في علوم العربية المختلفة , فأصبح حجةً في كل فن من فنونها , فما شئت من بصر باللغة , وعلم بالنحو , وفهم بالصرف , وتذوق للبلاغة , وإتقان للعروض , ورواية للشعر , ودراية بالأدب والنقد , ومَكِنَةٍ في الأصول , وتضلّع من القراءات القرآنية صحيحها وشاذِّها , ومعرفة بالأحرف السبعة تاريخها وأسرارها , وخبرة بالتراث العربي مخطوطه ومطبوعه , وقدرة على تحليل النصوص والنفاذ إلى خباياها , ودقة في تحقيق المخطوطات واستدرار عطاياها .
ولو شئتُ أن أمضي فيما افْتَنَّ فيه الشيخ لمضيتُ , ولم وسعَتْني هذه الكُلَيمة .. فما كان النفاخ رجلاً كسائر الرجال .. ولكنه أمّةٌ في رجل :
وقالوا الإمامُ قضى نحبَهُ=وصيحةُ مَنْ قد نعاهُ عَلَتْ
فقلتُ : فما واحدٌ قد مضى=ولكنَّهُ أمّةٌ قد خَلَتْ
وقد عرفته الجامعة ( جامعة دمشق ) محاضراً في غير ما فن من فنون العربية ..
حاضر في الأدب الجاهلي فكان أصمعيَّ عصرِهِ , ودرّس المكتبة العربية والمعجمات فكان جوهريَّ دهره , وقرَّر مادة العروض فكان خليلَ وقتِهِ , وأقرأَ الكتابَ القديم فكان مبرّدَ زمانِهِ , وتصدَّى للنحو والصرف فكان سيبويهِ أوانِهِ , وتناول الدراسات اللغوية فكان ابنَ جني عهدِهِ .
مُلقّنٌ مُلْهَمٌ فيما يحاولُهُ=جمٌّ خواطرُهُ جَوَّابُ آفاقِ
وكان من جميل صنع الله بي أن درست عليه هذه الموادّ جميعاً في سني الدراسة الجامعية العادية والعليا , فتقلَّبت في نُعْمى اختصاصاته , وتدرجت في معارج علومه , ورأيت منه كل عجيبة وغريبة , ورويتُ عنه كل شاذّة وفاذّة , فلا تعجب إن تمثّلت فيه بما أنشده أبو العباس اليشكري في محاسن أبي عمر اللغوي المعروف بغلام ثعلب :
فلو أنني أقسمتُ ما كنت حانثاً=بأن لم ير الراؤون حَبراً يُعادِلُهْ
هو الشَّخْتُ جسماً والسَّمين فضيلةً=فأعجِبْ بمهزولٍ سمينٍ فضائلُهْ
تضمّن من دون الحناجر زاخراً=تغيبُ على من لجَّ فيه سواحلُهْ
إذا قلتُ : شارفنا أواخر علمِهِ=تفجّر حتى قلتُ : هذي أوائلُه
* بناء الرجال
وكان له من وراء هذه الجامعة جامعة أخرى تضمه مع النخبة من صحبه ومريديه’, تلكم هي بيته الذي أصبح مثابة لطلاب العلم وقبلة للباحثين , يؤمونه من كل مكان , ويقصدونه في كل وقت وحين , فلم يكن ـ رحمه الله ـ يخصص يوماً لندوة أسبوعية أو شهرية , وإنما كانت ندوته تنعقد يوميًّا , لا تكاد تطرق بابه إلا وجدت عنده ضيوفاً تعمر بهم الدار , ويلتئم بهم المجلس , ويدور الحديث في كل علم وفن ومعرفة , والشيخ يزينه ويتوِّجه بعلمه الجمِّ , وتواضعه المحبَّب , وصوته المجلجل , وحديثه المفعم بالحبِّ والعطاء ( إن الكلام يزين ربَّ المجلس).
ومن الوفاء لذلك المجلس وصاحبه أن نذكر أسماء بعض رواده الذي أفادوا منه , وأصبحوا ملء السمع والبصر , من مثل الأستاذ الدكتور محمود ربداوي , والأستاذ الدكتور رضوان الداية , والأستاذ الدكتور مسعود بوبو ـ رحمه الله ـ والأستاذ الدكتور وهب رومية , والأستاذ الدكتور عز الدين البدوي النجار , والأستاذ محسن الخرابة , والأستاذ الدكتور مصطفى الحدري ـ رحمه الله ـ , والأستاذة الدكتورة منى إلياس , والأستاذ مطيع الببيلي , والأستاذ الدكتور عدنان درويش , والأستاذ بسام الجابي , والأستاذ نعيم العرقسوسي , والأستاذ إبراهيم الزيبق , والأستاذ الدكتور عبد الله النبهان , والأستاذ الدكتور إبراهيم عبد الله , والأستاذ الدكتور أحمد راتب حموش , والأستاذ الدكتور طاهر الحمصي , والأستاذ الدكتور محمد الدالي , والأخ الدكتور يحيى مير علم , والدكتور عبد الكريم حسين , والدكتور نبيل أبو عمشة, وكاتب هذه السطور .. وغيرهم كثير .
ترنو إليه الحدَّاث غاديةً=ولا تملُّ الحديث من عجبِهْ
يزدحمُ الناس كلَّ شارقةٍ=ببابِهِ مُشرِعين في أدبِهْ
والحقُّ أن الشيخ ـ رحمه الله ـ بنى رجالاً , وخلَّف جيلاً من الباحثين يدينون له بالكثير , حتى لقد أصبح شكره لازمةً لا تكاد تخلو منها رسالة جامعية , أو كتاب محقق , أو بحث علمي لغوي في جامعة دمشق ,
بل لقد تعدى أثر ذلك إلى جامعات أخرى , وإلى مواطن أخرى
يبني الرجالَ وغيرُهُ يبني القرى=شتّانَ بينَ قرًى وبينَ رجالِ
* صنو النفاخ وقرينه
وإذا ذكرنا مجلس الأستاذ راتب فلا بد أن نذكر عَلَماً كبيراً وعالماً وزيراً كان يؤمُّهُ , وقد عرفناه فيه قبل أن نعرفه أستاذاً في كلية الآداب , ومشرفاً على رسائل الماجستير والدكتوراه , ومديراً للموسوعة العربية الكبرى , ورئيساً لمجمع اللغة العربية بدمشق , إنه أستاذنا الدكتور شاكر الفحام صِنْوُ النفاخ وقرينُهُ , وأخو الصدق الذي ما انفكَّ يشدُّ من أزره ويدفع عنه , ويحُوطُهُ بعين عنايته في الحِلِّ والسفر والإقامة والغربة , والسرّاء والضرّاء , آسياً ومؤاسياً , وراعياً ومنافحاً .
ما أعرف نفسي دخلتُ المجمع مرةً إلا رأيتهما معاً , وإن أنسَ لا أنسَ موقفين شهدتهما لهذين العالمين المتحابَّين يدلاَّن على العروة الوثقى بينهما :
الأول : دخولهما معاً قاعة المحاضرة على طلبة الدراسات العليا , في أول عام تفتتح فيه الدراسات العليا في جامعة دمشق , إذ أسند تدريس مادة الدراسات اللغوية إلى الأستاذ الدكتور شاكر فكان يصحب معه الأستاذ راتب ليقرئا الطلاب فصولاً من كتاب الخصائص لابن جني .
والثاني : رِباط الأستاذ راتب بجوار غرفة العناية المركزة التي عولج فيها الدكتور شاكر على أثر أزمة قلبية ألمّت به , فلم يبرحها إلا معه , فأيّ محبة هذه ؟! وأيُّ وفاءٍ هذا ؟! إنه العلمُ الرّحِمُ بين أهله .
* آثارهويأخذ بعض الناس على الأستاذ النفّاخ قلة ما خلفه من آثار , وندرة ما صنعهُ من أعمال , وما أحسن ما قيل في ذلك :
بغاثُ الطيرِ أكثرُها فِراخاً=وأمُّ الصَّقرِ مقلاتٌ نزورُ
فأعمال النفاخ بلغت الغاية دقة وإتقاناً , وفصاحة وبياناً , بدءاً من دراسته لابن الدمينة وتحقيقه ديوانه , ومروراً بصنعه فهارس شواهد سيبويه , واختياراته في الأدب الجاهلي , وانتهاءً بتحقيقه قوافي الأخفش . دع عنك ما حبَّره من مقالات غدت نموذجاً فريداً ومثالاً يحتذى في البحث العلمي , والتحقيق المستقصي , والنقد المحكم , والاطلاع الواسع .
ومن اطَّلع على مكتبة الشيخ رأى عجباً فيما سطّره على هوامش كتبه من استدراكات وتحقيقات ونقدات لم يكد يخلو منها كتاب قرأ فيه , أو اطّلع عليه , أو عرض له . وكان ـ رحمه الله ـ كثيراً ما يقول لنا : إنه ما يكاد يفتح كتاباً حتى تقع عينه على مواطن الخطأ والتصحيف والتحريف فيه , وكأنه موكّلٌ بعثرات المحققين والناشرين , والمؤلفين والباحثين , والسوأة السوآء لمن يقرأ الشيخ عمله على سبيل التتبع والنقد والتعقب والتقويم , إنك عند ذلك لن تجد بياضاً في الكتاب , لا في الهامش ولا في الأعلى ولا في الأسفل , فخط الشيخ يُحدِقُ بالكتاب من كلِّ جانب , بل هو يخالط السطور والأحرف ويدخل فيما بينها معلقاً ومدقّقاً’, ومخرجاً ومحيلاً .. ومقوماً ومعقباً ومُدلّلاً ومستشهداً . وإذا رأيت ثَمَّ رأيتَ علماً غزيراً وفهماً عظيماً .
وقد يُحوجه الأمر إلى إضافة أوراق يودعها الكتاب الذي يتعقبه ليستكمل مسألة يحققها , أو تخريجاً يتتبَّعُهُ , أو إحالة يستوفيها . ولهذا ما كان يبقي على حجم الكتاب كما أخرجته المطبعة لا يقصُّ منه جانباً , ولا ينقص منه هامشاً . وإن أنس لا أنسَ أسفه وحزنه على كتاب تطوَّع أحد أصحابنا بتجليده , فأعمل المجلَّد مقصَّه فيه , فجاء على غير ما يحبُّ الشيخ ويرضى . وإن تعجب فعجب أمر القصاصات التي يجعلها الأستاذ بين صفحات الكتاب ليستدل على مواطن فيه , إذ لا يكاد يخلو منها سفر من أسفار المكتبة .
والحق أن من رواء هذا كله أعمالاً جليلة , كان الأستاذ قد أنجزها أو كاد , ثم حالت حوائل دون إخراجها للناس , على رأسها عمله في القراءات القرآنية والأحرف السبعة , ذلك العمل الذي أكل سني عمره , وكان يعدّه لنيل درجة الدكتوراه , ثم لما بلغ فيه الغاية استنكف أن يتقدم به لنيل الدرجة , وقد حدثني الأستاذ الدكتور عبد الصبور شاهين أنه قدم دمشق فزار الأستاذ النفاخ , وأخبره أن أستاذه الدكتور شوقي ضيف ـ وكان المشرف على رسالته ـ يطلب إليه أن يكتب ولو ورقة واحدة يلخص فيها نتائج بحثه ليمنحه عليها درجة الدكتوراه , فما كان جواب الأستاذ إلا أن أبى مترفعاً ـ وأكاد أقول مستنكراً ـ لأنه كان يرى نفسه فوق تلك الدرجة , بل فوق كثير ممن كان يمنحها .
ومن أعماله الأخرى التي توفّر عليها زمناً طويلاً , وأخذت منه كلّ مأخذ ولكنه لم يخرجها , تحقيقه معاني القرآن للأخفش , ومعرفة القراء الكبار للذهبي , ورسالة الإدغام الكبير المنسوبة إلى أبي عمرو بن العلاء , وكان الأستاذ يعتزم أن يشارك بها في تكريم شيخه أديب العربية الكبير محمود محمد شاكر , رحمه الله . ومن هذه البابة أيضاً مراجعته تحقيق كتاب ( الصاهل والشاحج لأبي العلاء المعري ) وهو تحقيق كان قد نهض به الأستاذ الدكتور أمجد طرابلسي ـ رحمه الله ـ ثم رغب إلى الأستاذ أن يراجعه , فأعمل الأستاذ فيه فكره وعلمه وقلمه , وامتدت المراجعة نحواً من خمسة عشر عاماً شهدتها عاماً عاماً , والشيخ يعيد التحقيق من جديد , يبدي ويعيد في مسائل , ويتوقف عند مسائل , ويرجئ النظر في مسائل على عادته في إتقان العمل وتجويده وتحكيكه وتثقيفه , وطلب وجه الكمال فيه , وأنّى يُدرك الكمال وهو لله وحده سبحانه .
وتحسن الإشارة هنا إلى أن شيخنا النفاخ راجع الكثير مما أخرجه المجمع من كتب التراث المحققة , أذكر من ذلك على سبيل التمثيل كتاب شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف لأبي أحمد العسكري بتحقيق الدكتور السيد محمد يوسف , وكان الأستاذ يُشركني والأخ الدكتور يحيى مير علم بمعارضته بأصوله , ومن ذلك أيضاً كتاب الأزهية في حروف المعاني للهروي بتحقيق الأستاذ عبد المعين الملوحي , وكتاب شرح أرجوزة أبي نواس لابن جني بتحقيق العلامة الأستاذ محمد بهجة الأثري , وكتابا الإتباع والإبدال لأبي الطيب اللغوي بتحقيق الأستاذ عز الدين التنوخي , ورسالة أسباب حدوث الحروف لابن سينا بتحقيقي مع الدكتور يحيى مير علم .
من ذلك كله يتبدّى أنَّ ما أنجزه الرجل كثير كثير , ولكنه موزّع في بطون الكتب , وحواشي التحقيق , وعقول الطلبة , إذ لم يكن ـ رحمه الله ـ يردُّ طالب علم , أو سائل حاجة , أو ملتمس عون في أي شأن من شؤون العلم , وما أكثر ما كان يُقصَد , وما أعظم ما كان يرفِد :
يسقط الطير حيث ينتثر الحَـ=ـبُّ وتغشى منازلُ الكرماءِ
(ومن قصد البحر استقلَّ السواقيا) .
* صفحة مطوية
ويقودني حديث ما أنجزه من أعمال إلى نشر صفحة مطوية من تاريخه العلمي , تلك هي مرحلة عمله في مركز الدراسات والبحوث العلمية , حيث خطط لمشروع علمي رصين , وأسس بنيانه على قواعد متينة , ثم تخيَّرني مع الأخ الدكتور يحيى مير علم للعمل معه , ذلك المشروع هو إحصاء جذور العربية في خمسة من أمّات المعجمات هي تهذيب الأزهري ومحكم ابن سيده وجمهرة ابن دريد ولسان ابن منظور وقاموس الفيروزآبادي , وقد بدأ الأستاذ المشروع , ثم أتممنا العمل بإشرافه , وكان لتوجيهاته وملاحظاته أثر كبير في استدراك ما فات غيرنا ممن قام بأعمال إحصائية شبيهة .
وشرع معنا أيضاً بعمل آخر يتصل بعلم التعمية واستخراج المعمى ( الشيفرة وكسر التشفير ) إذ استقدم من صديقه الأستاذ الدكتور فؤاد سزكين مجموعاً مهمًّا في هذا العلم , وقام بنسخه بخطه , وأشرف على تحقيقنا رسالة أسباب حدوث الحروف لابن سينا , ورسالة اللثغة للكندي , وكتب توصيفاً دقيقاً لمخارج الحروف وصفاتها من منظور تراثي .
وبهذا يكون نشاط النفاخ قد توزع على أماكن أربعة : جامعة دمشق , ومجمع اللغة العربية , ومركز الدراسات والبحوث العلمية , وبيته .
وما من شكٍّ في أن هذا الأخير ـ أعني البيت ـ لم يكن يقل أهمية عن الأماكن الأخرى , بل هو يجمع بينها , وينظم ما انفرط من حلقاتها . قلت له مرة , وقد بلغني أنه وَجَدَ عليَّ إثر تكليفي بتدريس مادة العروض في جامعة دمشق بعد أن نُحِّيَ عنها : " لأن أكونَ تلميذاً صغيراً في بيتك أحبُّ إليَّ من أن أكون أستاذاً كبيراً في الجامعة " فقد كان بيته بحق جامعة لطلاب العلم , ومجمعاً لرواد المعرفة , ومركزاً للعطاء والإبداع .. إنه بيتٌ دعائمُهُ أعزُّ وأطولُ .
سأشكرُ ما أوليتَ من حسنِ نعمةٍ=ومثلي بشكر المنعمين خليقُ
ولا أودُّ أن أدع القلم قبل أن أتمنّى على ابن شيخنا ـ عبد الله أحمد راتب النفاخ ـ وطلابه ومحبيه أمنيتين :
الأولى : أن يسارعوا إلى تراث الشيخ فينشروه , سواء ما كان منه أعمالاً منجزة , تحقيقاً وتأليفاً , أو ما كان هوامش علمية انطوت عليها أسفار مكتبته , ففي هذا نشر للعلم , ووفاءٌ لأصحابه , ونفع للناس عميم .
والثانية : أن يبادروا إلى تكريم الشيخ فيسهموا في نشر كتاب يحمل اسمه , وينشر فضله , ويدرس آثاره , ويعلي ذكره , ففي هذا إحياء لذكراه , ووفاء بحقه , وردٌّ لبعض جميله على أهل هذا اللسان العربي , وأرجو أن تتحول هذه الأماني إلى حقائق ملموسة , وألا تكون مجرد أمانٍ نعيش بها زمناً رغداً , بعد أن صار الشيخ النفاخ ـ أحسن الله إليه ـ > ميراثاً نتوارثه , وأدباً نتدارسه , وحناناً نأوي إليه < كما قال أديب العربية الكبير محمود شاكر في شيخه الرافعي , عليهما رحمة الله .
* من شعر النفاخ
ولعل خير ما أختم به هذه الكلمة أبيات كان الشيخ النفاخ ينشدها في بعض مجالسه الخاصة , وهي من نظمه , وفيها دلالة على مبلغ فصاحته , وجزالة عباراته , وأصالة انتمائه , وصدق عاطفته , وقد كتبتها من فِلْقِ فيهِ :
جحَّافُ يا ابنَ الأكرميـ=ـنَ من الغطارفةِ الأماجِدْ
لا زالَ ذكرُكَ عالياً=ينثو المكارمَ والمحامِدْ
لمّا تطاولَ دوبَلٌ=واختالَ تِيهاً شِبهَ ماردْ
أرسلتَها في مسمع الـ=أيامِ صَيحاتٍ رَواعِدْ
وشَدَخْتَ أنفَ الشركِ مُصْـ=طَلِماً لكلِّ عَمٍ مُعانِدْ
أكرِمْ بها من فَتكَةٍ=تمَّتْ بها فتكاتُ خالِدْ
وأما أنت يا أبا عبد الله فسلام عليك في الأولين الذين عشتَ معهم بقلبك وفكرك , وسلام عليك في الآخِرين الذي عشت معهم بعطائك وعلمك , وسلام عليك في الملأ الأعلى يوم الدين .
أسأل الله أن يجزيك عن العربية وأهلها خير ما جزى عالماً عن قومه ولغته , وشيخاً عن طلابه وتلامذته , ومجاهداً عن دينه وأمته , وأن يجعل ما قدمت للغة القرآن ذخراً لك وزلفى عند ربك {يوم لا ينفع مال ولا بنون* إلا من أتى الله بقلب سليم } .
{ من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا}.
مرت على وفاة شيخنا النفّاخ سنوات عشر كأنها دقائق عشر , فلم يزل الرجل ماثلاً في الأذهان , حاضراً في الكِيان بما حواه من علم , وما زرعه من مُثُل , وما خلّفه من آثار , وما بناه من رجال , وما وقف من مواقف , بل لن يزال كذلك ما بقي لساننا يلهج بالعربية , وما بقي قلبنا يخفق بحب العربية .
فقد عاش ما عاش لهذه اللغة , لا يكاد يخرج منها إلا إليها , ولا يرى نفسه إلا فيها , ولا ينقلب عنها أو يلتفت عن محبتها’, أو يتقاعس عن الجهاد في سبيلها .
حمل رايتها رَدَحاً من الدهور هو كل ما كتب له أن يعيش في دنيا الناس , وتولّى الذود عن حياضها , والبحث في دقائقها , واكتناه أسرارها وخباياها , واجتلاء معانيها ومبانيها . لم يصرفه عنها صارف , ولم يلتوِ له فيها طريق , ولم يلذَّ له دونها مطعم ولا مشرب , ولم يبال ما أصابه من أذيةٍ في سبيلها’. فهو هي , وهي هو , إنها قضيته التي عاش لها ومات لها , ولقي ما لقي من أجلها , وتلبّس بعزّتها وشموخها ولسان حاله يردد قول القاضي الجرجاني :
يقولون لي فيك انقباضٌ وإنما=رأوا رجلاً عن موقف الذلِّ أحجما
أرى الناس مَنْ داناهمُ هانَ عندهم=ومن أكرمتْهُ عزّةُ النفس أُكرِما
إذا قيل هذا مشربٌ قلتُ قد أرى=ولكن نفسَ الحرِّ تحتملُ الظما
ولم أبتذِل في خدمة العلم مهجتي=لأخدمَ من لاقيتُ لكنْ لأُخدَما
ولو أنّ أهل العلم صانوه صانهم=ولو عظّموه في النفوس لعُظِّما
ولكن أذلّوه جهاراً ودنَّسوا=محيَّاه بالأطماع حتى تجهَّما
* ترفع وشموخ
لم يكن أستاذنا النفاخ ـ أعلى الله مقامه ـ يلتفت إلى شيء من مباهج الدنيا , وكأنه رجل من رجال السلف , يخالُهُ المرء منتسباً إلى القرون الأولى التي وصفها سيد البرية بالخيرية : " خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" لهذا ما كنت تراه يترفّع عن كثير مما يتهافت خاصّة الناس عليه بلْهَ عامَّتهم , وقد وصف يوماً صديقاً له اعتذر عن تسنّم مقاليد وزارة في الدولة بقوله : " إن هذا الرجل يترفّع أن يضع رجله حيث يضع الكثيرون جباهَهم " ويقيني أن أحقَّ الناس بهذا الوصف هو شيخنا النفاخ , فقد كان حقًّا من هذا الصنف الذي لا تستهويه الأهواء , ولا تعصف به الرغائب , ولا تثنيه المكاره .
قلت له مرة , وقد رأيت ما يعانيه في تنقلاته بين البيت والجامعة : " لم لا تتخذ لنفسك سيارة ؟ " فنظر إليَّ شزراً ثم قال : " وهل تريد أن أضع على رأسي قرنين ؟! " .
وطلب إليه أستاذ كبير أن يدرِّس في جامعة تُجزل العطاء لأساتذتها فرد بأنه لو قيِّض له أن يدرِّس ثَمَّةَ لأبى أن يتقاضى فلساً واحداً مقابل تدريسه , فهو أكبر من أي مال مبذول , وعلمه أعظم من أيِّ عَرَض من أعراض الدنيا , من أجل هذا كان يبذله لبعض طلاب العلم الفقراء , ويضنَّ به على كثير من طلاب السمعة والجاه الأغنياء .
ومن هنا كان الأستاذ ـ عليه رحمة الله ـ قاسياً على نفسه أولاً , قاسياً على من حوله ثانياً , ولم تكن قسوته على الناس إلا فرعاً من قسوته على نفسه وجزءاً يسيراً منها , فقد حرم نفسه متاعاً كثيراً , ونعيماً موصولاً , ومراتب تتقطع دونها الرقاب , وقنع بأن يقبعَ في كِسْر بيته على حين ينعم الآخرون بما حصّلوه من غزير علمه , وبما نالوه من عظيم فوائده , وهو في هذا أشبه الناس بالخليل بن أحمد حين قال في حقِّهِ تلميذه النضر : " أكلنا الدنيا بعلم الخليل وهو في خُصٍّ بالبصرة لا يُشعر به " ولئن صدقت هذه الكلمة في رجل بعد الخليل لتصدقَنَّ على شيخنا النفاخ فقد أكلنا الدنيا بعلمه وهو قابع في كِسْر بيته , رحمه الله وعوضه خيراً .
* صلابة في الحق
وقد عرف الأستاذ النفاخ بمواقفه الصُّلبة , وإرادته القوية , لا يداهن صاحباً , ولا يجامل جليساً , ولا ينحني لكبير , ولا يخشى في الله لومة لائم , وإذا ما رأى الرأيَ مضى دونه مجاهداً , لا تلين له قناة , ولا يثنيه هوى , ولا يؤثر فيه ترغيب ولا ترهيب .
كنت عنده مرة فزاره وزير كبير له شأن خطير في دنيا السياسة والرئاسة , فرحب به وأكرم وفادته , وأسمعه من صنوف العلم وأفانين القول ما ملك به فؤاده , وانتزع منه إعجابه , ثم كالَ له من صنوف النقد والتعريض ما لا يقوى عليه أحد في ذلك الزمان , حتى لقد أشفق بعض أهل المجلس على صحة الأستاذ لما اعتراه من حِدّة , وما بدا عليه من أمارات الانفعال , وكأني به الصورة الحية لمقولة الرسول الكريم ‘ : " ألا لا يمنعَنَّ رجلاً هيبةُ الناسِ أن يقول بحقٍّ إذا علمَهُ " . فقد أعلن الحق الذي علمه , ولم يخشَ صولة الحاكم , ولا بأسَ المتحكِّم , وإنما قال : "لا " بملءِ فيه , فكان رجلاً , والرجال قليل , وما أصدق ما قاله الأول فيه وفي أمثاله : " يعجبني من الرجل إذا سيمَ خسفاً أن يقول لا بملء فيه".
* جبل علم هوى
وكان الشيخ النفاخ ـ برَّد الله مضجعه ـ جبلاً من جبال العلم الراسخة , وبحراً من بحور الفهم العميقة , بَرَعَ في علوم العربية المختلفة , فأصبح حجةً في كل فن من فنونها , فما شئت من بصر باللغة , وعلم بالنحو , وفهم بالصرف , وتذوق للبلاغة , وإتقان للعروض , ورواية للشعر , ودراية بالأدب والنقد , ومَكِنَةٍ في الأصول , وتضلّع من القراءات القرآنية صحيحها وشاذِّها , ومعرفة بالأحرف السبعة تاريخها وأسرارها , وخبرة بالتراث العربي مخطوطه ومطبوعه , وقدرة على تحليل النصوص والنفاذ إلى خباياها , ودقة في تحقيق المخطوطات واستدرار عطاياها .
ولو شئتُ أن أمضي فيما افْتَنَّ فيه الشيخ لمضيتُ , ولم وسعَتْني هذه الكُلَيمة .. فما كان النفاخ رجلاً كسائر الرجال .. ولكنه أمّةٌ في رجل :
وقالوا الإمامُ قضى نحبَهُ=وصيحةُ مَنْ قد نعاهُ عَلَتْ
فقلتُ : فما واحدٌ قد مضى=ولكنَّهُ أمّةٌ قد خَلَتْ
وقد عرفته الجامعة ( جامعة دمشق ) محاضراً في غير ما فن من فنون العربية ..
حاضر في الأدب الجاهلي فكان أصمعيَّ عصرِهِ , ودرّس المكتبة العربية والمعجمات فكان جوهريَّ دهره , وقرَّر مادة العروض فكان خليلَ وقتِهِ , وأقرأَ الكتابَ القديم فكان مبرّدَ زمانِهِ , وتصدَّى للنحو والصرف فكان سيبويهِ أوانِهِ , وتناول الدراسات اللغوية فكان ابنَ جني عهدِهِ .
مُلقّنٌ مُلْهَمٌ فيما يحاولُهُ=جمٌّ خواطرُهُ جَوَّابُ آفاقِ
وكان من جميل صنع الله بي أن درست عليه هذه الموادّ جميعاً في سني الدراسة الجامعية العادية والعليا , فتقلَّبت في نُعْمى اختصاصاته , وتدرجت في معارج علومه , ورأيت منه كل عجيبة وغريبة , ورويتُ عنه كل شاذّة وفاذّة , فلا تعجب إن تمثّلت فيه بما أنشده أبو العباس اليشكري في محاسن أبي عمر اللغوي المعروف بغلام ثعلب :
فلو أنني أقسمتُ ما كنت حانثاً=بأن لم ير الراؤون حَبراً يُعادِلُهْ
هو الشَّخْتُ جسماً والسَّمين فضيلةً=فأعجِبْ بمهزولٍ سمينٍ فضائلُهْ
تضمّن من دون الحناجر زاخراً=تغيبُ على من لجَّ فيه سواحلُهْ
إذا قلتُ : شارفنا أواخر علمِهِ=تفجّر حتى قلتُ : هذي أوائلُه
* بناء الرجال
وكان له من وراء هذه الجامعة جامعة أخرى تضمه مع النخبة من صحبه ومريديه’, تلكم هي بيته الذي أصبح مثابة لطلاب العلم وقبلة للباحثين , يؤمونه من كل مكان , ويقصدونه في كل وقت وحين , فلم يكن ـ رحمه الله ـ يخصص يوماً لندوة أسبوعية أو شهرية , وإنما كانت ندوته تنعقد يوميًّا , لا تكاد تطرق بابه إلا وجدت عنده ضيوفاً تعمر بهم الدار , ويلتئم بهم المجلس , ويدور الحديث في كل علم وفن ومعرفة , والشيخ يزينه ويتوِّجه بعلمه الجمِّ , وتواضعه المحبَّب , وصوته المجلجل , وحديثه المفعم بالحبِّ والعطاء ( إن الكلام يزين ربَّ المجلس).
ومن الوفاء لذلك المجلس وصاحبه أن نذكر أسماء بعض رواده الذي أفادوا منه , وأصبحوا ملء السمع والبصر , من مثل الأستاذ الدكتور محمود ربداوي , والأستاذ الدكتور رضوان الداية , والأستاذ الدكتور مسعود بوبو ـ رحمه الله ـ والأستاذ الدكتور وهب رومية , والأستاذ الدكتور عز الدين البدوي النجار , والأستاذ محسن الخرابة , والأستاذ الدكتور مصطفى الحدري ـ رحمه الله ـ , والأستاذة الدكتورة منى إلياس , والأستاذ مطيع الببيلي , والأستاذ الدكتور عدنان درويش , والأستاذ بسام الجابي , والأستاذ نعيم العرقسوسي , والأستاذ إبراهيم الزيبق , والأستاذ الدكتور عبد الله النبهان , والأستاذ الدكتور إبراهيم عبد الله , والأستاذ الدكتور أحمد راتب حموش , والأستاذ الدكتور طاهر الحمصي , والأستاذ الدكتور محمد الدالي , والأخ الدكتور يحيى مير علم , والدكتور عبد الكريم حسين , والدكتور نبيل أبو عمشة, وكاتب هذه السطور .. وغيرهم كثير .
ترنو إليه الحدَّاث غاديةً=ولا تملُّ الحديث من عجبِهْ
يزدحمُ الناس كلَّ شارقةٍ=ببابِهِ مُشرِعين في أدبِهْ
والحقُّ أن الشيخ ـ رحمه الله ـ بنى رجالاً , وخلَّف جيلاً من الباحثين يدينون له بالكثير , حتى لقد أصبح شكره لازمةً لا تكاد تخلو منها رسالة جامعية , أو كتاب محقق , أو بحث علمي لغوي في جامعة دمشق ,
بل لقد تعدى أثر ذلك إلى جامعات أخرى , وإلى مواطن أخرى
يبني الرجالَ وغيرُهُ يبني القرى=شتّانَ بينَ قرًى وبينَ رجالِ
* صنو النفاخ وقرينه
وإذا ذكرنا مجلس الأستاذ راتب فلا بد أن نذكر عَلَماً كبيراً وعالماً وزيراً كان يؤمُّهُ , وقد عرفناه فيه قبل أن نعرفه أستاذاً في كلية الآداب , ومشرفاً على رسائل الماجستير والدكتوراه , ومديراً للموسوعة العربية الكبرى , ورئيساً لمجمع اللغة العربية بدمشق , إنه أستاذنا الدكتور شاكر الفحام صِنْوُ النفاخ وقرينُهُ , وأخو الصدق الذي ما انفكَّ يشدُّ من أزره ويدفع عنه , ويحُوطُهُ بعين عنايته في الحِلِّ والسفر والإقامة والغربة , والسرّاء والضرّاء , آسياً ومؤاسياً , وراعياً ومنافحاً .
ما أعرف نفسي دخلتُ المجمع مرةً إلا رأيتهما معاً , وإن أنسَ لا أنسَ موقفين شهدتهما لهذين العالمين المتحابَّين يدلاَّن على العروة الوثقى بينهما :
الأول : دخولهما معاً قاعة المحاضرة على طلبة الدراسات العليا , في أول عام تفتتح فيه الدراسات العليا في جامعة دمشق , إذ أسند تدريس مادة الدراسات اللغوية إلى الأستاذ الدكتور شاكر فكان يصحب معه الأستاذ راتب ليقرئا الطلاب فصولاً من كتاب الخصائص لابن جني .
والثاني : رِباط الأستاذ راتب بجوار غرفة العناية المركزة التي عولج فيها الدكتور شاكر على أثر أزمة قلبية ألمّت به , فلم يبرحها إلا معه , فأيّ محبة هذه ؟! وأيُّ وفاءٍ هذا ؟! إنه العلمُ الرّحِمُ بين أهله .
* آثارهويأخذ بعض الناس على الأستاذ النفّاخ قلة ما خلفه من آثار , وندرة ما صنعهُ من أعمال , وما أحسن ما قيل في ذلك :
بغاثُ الطيرِ أكثرُها فِراخاً=وأمُّ الصَّقرِ مقلاتٌ نزورُ
فأعمال النفاخ بلغت الغاية دقة وإتقاناً , وفصاحة وبياناً , بدءاً من دراسته لابن الدمينة وتحقيقه ديوانه , ومروراً بصنعه فهارس شواهد سيبويه , واختياراته في الأدب الجاهلي , وانتهاءً بتحقيقه قوافي الأخفش . دع عنك ما حبَّره من مقالات غدت نموذجاً فريداً ومثالاً يحتذى في البحث العلمي , والتحقيق المستقصي , والنقد المحكم , والاطلاع الواسع .
ومن اطَّلع على مكتبة الشيخ رأى عجباً فيما سطّره على هوامش كتبه من استدراكات وتحقيقات ونقدات لم يكد يخلو منها كتاب قرأ فيه , أو اطّلع عليه , أو عرض له . وكان ـ رحمه الله ـ كثيراً ما يقول لنا : إنه ما يكاد يفتح كتاباً حتى تقع عينه على مواطن الخطأ والتصحيف والتحريف فيه , وكأنه موكّلٌ بعثرات المحققين والناشرين , والمؤلفين والباحثين , والسوأة السوآء لمن يقرأ الشيخ عمله على سبيل التتبع والنقد والتعقب والتقويم , إنك عند ذلك لن تجد بياضاً في الكتاب , لا في الهامش ولا في الأعلى ولا في الأسفل , فخط الشيخ يُحدِقُ بالكتاب من كلِّ جانب , بل هو يخالط السطور والأحرف ويدخل فيما بينها معلقاً ومدقّقاً’, ومخرجاً ومحيلاً .. ومقوماً ومعقباً ومُدلّلاً ومستشهداً . وإذا رأيت ثَمَّ رأيتَ علماً غزيراً وفهماً عظيماً .
وقد يُحوجه الأمر إلى إضافة أوراق يودعها الكتاب الذي يتعقبه ليستكمل مسألة يحققها , أو تخريجاً يتتبَّعُهُ , أو إحالة يستوفيها . ولهذا ما كان يبقي على حجم الكتاب كما أخرجته المطبعة لا يقصُّ منه جانباً , ولا ينقص منه هامشاً . وإن أنس لا أنسَ أسفه وحزنه على كتاب تطوَّع أحد أصحابنا بتجليده , فأعمل المجلَّد مقصَّه فيه , فجاء على غير ما يحبُّ الشيخ ويرضى . وإن تعجب فعجب أمر القصاصات التي يجعلها الأستاذ بين صفحات الكتاب ليستدل على مواطن فيه , إذ لا يكاد يخلو منها سفر من أسفار المكتبة .
والحق أن من رواء هذا كله أعمالاً جليلة , كان الأستاذ قد أنجزها أو كاد , ثم حالت حوائل دون إخراجها للناس , على رأسها عمله في القراءات القرآنية والأحرف السبعة , ذلك العمل الذي أكل سني عمره , وكان يعدّه لنيل درجة الدكتوراه , ثم لما بلغ فيه الغاية استنكف أن يتقدم به لنيل الدرجة , وقد حدثني الأستاذ الدكتور عبد الصبور شاهين أنه قدم دمشق فزار الأستاذ النفاخ , وأخبره أن أستاذه الدكتور شوقي ضيف ـ وكان المشرف على رسالته ـ يطلب إليه أن يكتب ولو ورقة واحدة يلخص فيها نتائج بحثه ليمنحه عليها درجة الدكتوراه , فما كان جواب الأستاذ إلا أن أبى مترفعاً ـ وأكاد أقول مستنكراً ـ لأنه كان يرى نفسه فوق تلك الدرجة , بل فوق كثير ممن كان يمنحها .
ومن أعماله الأخرى التي توفّر عليها زمناً طويلاً , وأخذت منه كلّ مأخذ ولكنه لم يخرجها , تحقيقه معاني القرآن للأخفش , ومعرفة القراء الكبار للذهبي , ورسالة الإدغام الكبير المنسوبة إلى أبي عمرو بن العلاء , وكان الأستاذ يعتزم أن يشارك بها في تكريم شيخه أديب العربية الكبير محمود محمد شاكر , رحمه الله . ومن هذه البابة أيضاً مراجعته تحقيق كتاب ( الصاهل والشاحج لأبي العلاء المعري ) وهو تحقيق كان قد نهض به الأستاذ الدكتور أمجد طرابلسي ـ رحمه الله ـ ثم رغب إلى الأستاذ أن يراجعه , فأعمل الأستاذ فيه فكره وعلمه وقلمه , وامتدت المراجعة نحواً من خمسة عشر عاماً شهدتها عاماً عاماً , والشيخ يعيد التحقيق من جديد , يبدي ويعيد في مسائل , ويتوقف عند مسائل , ويرجئ النظر في مسائل على عادته في إتقان العمل وتجويده وتحكيكه وتثقيفه , وطلب وجه الكمال فيه , وأنّى يُدرك الكمال وهو لله وحده سبحانه .
وتحسن الإشارة هنا إلى أن شيخنا النفاخ راجع الكثير مما أخرجه المجمع من كتب التراث المحققة , أذكر من ذلك على سبيل التمثيل كتاب شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف لأبي أحمد العسكري بتحقيق الدكتور السيد محمد يوسف , وكان الأستاذ يُشركني والأخ الدكتور يحيى مير علم بمعارضته بأصوله , ومن ذلك أيضاً كتاب الأزهية في حروف المعاني للهروي بتحقيق الأستاذ عبد المعين الملوحي , وكتاب شرح أرجوزة أبي نواس لابن جني بتحقيق العلامة الأستاذ محمد بهجة الأثري , وكتابا الإتباع والإبدال لأبي الطيب اللغوي بتحقيق الأستاذ عز الدين التنوخي , ورسالة أسباب حدوث الحروف لابن سينا بتحقيقي مع الدكتور يحيى مير علم .
من ذلك كله يتبدّى أنَّ ما أنجزه الرجل كثير كثير , ولكنه موزّع في بطون الكتب , وحواشي التحقيق , وعقول الطلبة , إذ لم يكن ـ رحمه الله ـ يردُّ طالب علم , أو سائل حاجة , أو ملتمس عون في أي شأن من شؤون العلم , وما أكثر ما كان يُقصَد , وما أعظم ما كان يرفِد :
يسقط الطير حيث ينتثر الحَـ=ـبُّ وتغشى منازلُ الكرماءِ
(ومن قصد البحر استقلَّ السواقيا) .
* صفحة مطوية
ويقودني حديث ما أنجزه من أعمال إلى نشر صفحة مطوية من تاريخه العلمي , تلك هي مرحلة عمله في مركز الدراسات والبحوث العلمية , حيث خطط لمشروع علمي رصين , وأسس بنيانه على قواعد متينة , ثم تخيَّرني مع الأخ الدكتور يحيى مير علم للعمل معه , ذلك المشروع هو إحصاء جذور العربية في خمسة من أمّات المعجمات هي تهذيب الأزهري ومحكم ابن سيده وجمهرة ابن دريد ولسان ابن منظور وقاموس الفيروزآبادي , وقد بدأ الأستاذ المشروع , ثم أتممنا العمل بإشرافه , وكان لتوجيهاته وملاحظاته أثر كبير في استدراك ما فات غيرنا ممن قام بأعمال إحصائية شبيهة .
وشرع معنا أيضاً بعمل آخر يتصل بعلم التعمية واستخراج المعمى ( الشيفرة وكسر التشفير ) إذ استقدم من صديقه الأستاذ الدكتور فؤاد سزكين مجموعاً مهمًّا في هذا العلم , وقام بنسخه بخطه , وأشرف على تحقيقنا رسالة أسباب حدوث الحروف لابن سينا , ورسالة اللثغة للكندي , وكتب توصيفاً دقيقاً لمخارج الحروف وصفاتها من منظور تراثي .
وبهذا يكون نشاط النفاخ قد توزع على أماكن أربعة : جامعة دمشق , ومجمع اللغة العربية , ومركز الدراسات والبحوث العلمية , وبيته .
وما من شكٍّ في أن هذا الأخير ـ أعني البيت ـ لم يكن يقل أهمية عن الأماكن الأخرى , بل هو يجمع بينها , وينظم ما انفرط من حلقاتها . قلت له مرة , وقد بلغني أنه وَجَدَ عليَّ إثر تكليفي بتدريس مادة العروض في جامعة دمشق بعد أن نُحِّيَ عنها : " لأن أكونَ تلميذاً صغيراً في بيتك أحبُّ إليَّ من أن أكون أستاذاً كبيراً في الجامعة " فقد كان بيته بحق جامعة لطلاب العلم , ومجمعاً لرواد المعرفة , ومركزاً للعطاء والإبداع .. إنه بيتٌ دعائمُهُ أعزُّ وأطولُ .
سأشكرُ ما أوليتَ من حسنِ نعمةٍ=ومثلي بشكر المنعمين خليقُ
ولا أودُّ أن أدع القلم قبل أن أتمنّى على ابن شيخنا ـ عبد الله أحمد راتب النفاخ ـ وطلابه ومحبيه أمنيتين :
الأولى : أن يسارعوا إلى تراث الشيخ فينشروه , سواء ما كان منه أعمالاً منجزة , تحقيقاً وتأليفاً , أو ما كان هوامش علمية انطوت عليها أسفار مكتبته , ففي هذا نشر للعلم , ووفاءٌ لأصحابه , ونفع للناس عميم .
والثانية : أن يبادروا إلى تكريم الشيخ فيسهموا في نشر كتاب يحمل اسمه , وينشر فضله , ويدرس آثاره , ويعلي ذكره , ففي هذا إحياء لذكراه , ووفاء بحقه , وردٌّ لبعض جميله على أهل هذا اللسان العربي , وأرجو أن تتحول هذه الأماني إلى حقائق ملموسة , وألا تكون مجرد أمانٍ نعيش بها زمناً رغداً , بعد أن صار الشيخ النفاخ ـ أحسن الله إليه ـ > ميراثاً نتوارثه , وأدباً نتدارسه , وحناناً نأوي إليه < كما قال أديب العربية الكبير محمود شاكر في شيخه الرافعي , عليهما رحمة الله .
* من شعر النفاخ
ولعل خير ما أختم به هذه الكلمة أبيات كان الشيخ النفاخ ينشدها في بعض مجالسه الخاصة , وهي من نظمه , وفيها دلالة على مبلغ فصاحته , وجزالة عباراته , وأصالة انتمائه , وصدق عاطفته , وقد كتبتها من فِلْقِ فيهِ :
جحَّافُ يا ابنَ الأكرميـ=ـنَ من الغطارفةِ الأماجِدْ
لا زالَ ذكرُكَ عالياً=ينثو المكارمَ والمحامِدْ
لمّا تطاولَ دوبَلٌ=واختالَ تِيهاً شِبهَ ماردْ
أرسلتَها في مسمع الـ=أيامِ صَيحاتٍ رَواعِدْ
وشَدَخْتَ أنفَ الشركِ مُصْـ=طَلِماً لكلِّ عَمٍ مُعانِدْ
أكرِمْ بها من فَتكَةٍ=تمَّتْ بها فتكاتُ خالِدْ
وأما أنت يا أبا عبد الله فسلام عليك في الأولين الذين عشتَ معهم بقلبك وفكرك , وسلام عليك في الآخِرين الذي عشت معهم بعطائك وعلمك , وسلام عليك في الملأ الأعلى يوم الدين .
أسأل الله أن يجزيك عن العربية وأهلها خير ما جزى عالماً عن قومه ولغته , وشيخاً عن طلابه وتلامذته , ومجاهداً عن دينه وأمته , وأن يجعل ما قدمت للغة القرآن ذخراً لك وزلفى عند ربك {يوم لا ينفع مال ولا بنون* إلا من أتى الله بقلب سليم } .