تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : المغسّل



سها جلال جودت
22-06-2006, 12:03 AM
المغسّل

في يوم حار طُلب مني أن أذهب بسيارة دفن الموتى إلى بيت يقبع في الجهة الغربية من المدينة، سألت عن بيت المتوفى دلني عليه شاب كان يقف عند البقال، استغربت أن لا أسمع صياحاً ولا عويلاً قلت في نفسي: "عله كهل نهبت السنون عمره فتمنى أهله موته بغية التخفيف من ألمه وعدم سماع أنينه".

حين دخلت البيت ونظرت في وجه الميت طاش صوابي، إنه رجل في مقتبل عمره، جسده المملوء يدل على أنه كان صاحب عافية وصحة جيدة، ترى ما الذي أصابه، كيف تناول ملك الموت روحه ولم يرأف بشبابه ؟

بصرامتي المعهودة سألت رجلاً كان يقف إلى جواري :

- هل الحمام جاهز؟

جاءني من خلفي صوت أجش غليظ النبرة :

- تريث، لم ينته نزاعهم بعد!

التفتت نحو صاحب الصوت وسألته:

- على ماذا ؟
- على الإرث، إنهم مختلفون !

عجبت من جواب الرجل وودت لو أعرف السبب لكنني العبد المأجور لمهمة تعد من أقسى المهن وأصعبها، ورث والدي هذه المهنة عن أبيه وأراد أن أرثها منه ولأني ورثتها بحكم مهنة العائلة فقد كنت أحزم قلبي بقوة هائلة من الجبروت يرافقها هذا العبوس الذي كان يضفي على وجهي هيئة غير مرغوب في معاشرتها أو مخاطبتها أو محاورتها، كان الجميع ينفر مني حتى جيراني، يظن من يراني أنني على علاقة وطيدة مع ملك الموت آمره فينفذ أمري، حتى خيل للجميع أنني وإياه شركاء، المطمئنة الوحيدة إلى معاشرتي زوجتي الباسمة دائماً، كانت إشراقة وجهها تمنحني الاعتزاز بمهنتي رغم اشمئزاز الآخرين من مجالستي.

دخلت بيوتاً كثيرة، كنت أرى الدموع في وجوههم وأسمع صياح النسوة وعويلهن، بعد أن أنتهي أنتظر من يدفع لي البخشيش لا تستغربوا مما أقول، فأنا لست شرطي مرور، أنا رجل مهنة قلبي حديد وعيناي صارختان شدة وقسوة مع هذا أخفف على الميت غسل نفسه فأسأل نفسي هل كان يحب صابون الغار أم الشامبو المعطر ؟ هل كانت مناشفه خاصة به أم يستعملها أهل بيته جميعهم ؟

حين سمعت كلام الرجل همهمت في داخلي "ناس بلا رحمة" ثم التفتت نحو صاحب الصوت مرة أخرى وقلت له:

- كم سأنتظر؟
- لا أدري !

ركب رأسي الفضول فحاولت أن أستفسر من الرجل عن أسباب النزاع في هذه اللحظة الحرجة، فرد عليّ بنبرة فجة أنه لا علاقة لي بما لا يخصني، فالتزمت جانب الحائط وأنا أراقب الوجوه فراق لي أن أقترب من وجه من قرأت في عينيه ظلال الدموع لأسأله: ما صلتك بالميت؟

فهمت من كلامه أنه صديق الطفولة والشباب وقد أبدى استياء أكبر مما ظننته أو تخيلته فربتُ كتفه فانتفض فزعاً وابتعد عني ففهمت قصده ورثيت لحال هؤلاء الذين يتباهون بالقوة وهم أقل ضعفاً من الضعف نفسه.

فكرت بالدخول إلى غرفة تقسيم إرث الميت الذي لم يبرد جسده بعد ولم يفكروا حتى في دفنه، فأعود إلى سؤال نفسي كأن الميت يخصني"تراهم جهزوا قبره أم أنهم هناك أيضاً سيختلفون ؟!"

بعد ملل وكلل من الوقوف أمام باب الحمام خرج رجل عقدة حاجبيه تنم عن لؤم وحقد، صحيح أن عقدة حاجبي تبدو صارمة بسبب مهنتي الصعبة لكنها والحقيقة تعترف بها زوجتي تحمل في طياتها أرق قلب وأنبل معاشرة، المهم أدخلنا الرجل إلى الحمام وما إن بدأت أسكب الماء على جسده حتى شعرت بحركة ما في صدره، أقنعت نفسي أنني توهمت، وعلي أن أعترف الآن أنني حزنت لأجله، ربما كانت المرة الأولى التي أشعر فيها أن الحزن انداح في صدري مثل حِرَبِ بندقية، فجأة فتح عينيه، حدق في وجهي، تسمرت يدي، تخشب جسدي، يا مغيث أغثني، الميت فتح عينيه وما إن سمعت صوته يقول:

- من أنت ؟ وماذا تفعل بي ؟

حتى تلبدت أوصالي، وسقطت طاسة الحمام على الأرض فأحدثت رنيناً ضج عليه ملك الموت فناداني فقلت له:

- أرجوك تمهل، ماذا تفعل بي؟ لست أنا المقصود، إنه هذا المحدق الذي صحا لتوه، إنهم السبب كانوا يتشاجرون على الإرث، أنا لا علاقة لي بتأخري في غسله، صدقني هم السبب!!

قبض على عنقي فضاق صدري واختفت أنفاسي وكادت عيناي تنفجران لكنه الموت، الموت يدخل بي، يتمسك بشراييني، يحاصر جبروتي وإرادتي، يهزمني، أول مرة أشعر بالانهزام وأنا أسقط على الأرض مثل جذع شجرة ضخمة فأعرف أن مهنتي كانت صعبة وقاسية وأظل على حالتي التي أفزعت الجميع وجعلتهم يعيدون النظر في المستندات والوثائق وأنا فاتح عيون روحي أتطلع نحو وجه يشبه وجه جدي أو أبي وربما وجهي كي يعجل بغسلي قبل أن يفوت الأوان.

5/3/2005

سعيد أبو نعسة
22-06-2006, 01:14 PM
الأخت سها
رائع تبادل الأدوار هذا
و الأروع هذا الأسلوب السهل الممتنع و الذي يشد القارئ حتى النهاية .
جمال اللغة يكمن في قدرتها على التصوير و الإحاطة بالمشهد و نقله بدقة أمام القارئ .
دمت في خير و عطاء .
( كيف تناول ملك الموت روحه ولم يرأف بشبابه ؟)
تعلمين قطعا أن ملك الموت مأمور بالمهمة و لا خيار له و الموت في نظر الإسلام استراحة طويلة بين حياتين : الأولى فانية و الثانية باقية .

د. محمد حسن السمان
23-06-2006, 10:50 PM
سلام الـلـه عليكم
الاخت سها جلال جودت
جميلة هذه الفكرة , في شرح فلسفة الموت , خلال قصة قصيرة , وفقت خلالها , في تقديم الصور الواقعية المعبّرة , وربط مسرح الزمان والمكان , والتداعيات السريعة الموفقة , وتكثيف النص , مع استخدام النبض الوجداني والاجتماعي , في عملية بناء القصة , بشكل شيّق وخفيف الظل , على الرغم من قسوة المشهد , ثم جاءت المفارقة , التي تخدم فلسفة وفكرة النص , من خلال النهاية والقفلة الموفقة .
بوركت ايتها الاديبة , وبورك هذا الابداع .

اخوكم
السمان

سها جلال جودت
23-06-2006, 11:20 PM
عزيزي الأخ سعيد
في كلامك بلسم العبق الإبداعي ولكنني من خلال إشارتك إلى ما ذكرت اعتمدت رصد حالة سذاجة وبراءة المغسل لتعاطفه مع الميت الشاب وكانني أردت منخلال هذا التعاطف استبدال الأدوار.
دمت بخير مع صافي محبتي وتقديري
أرجو ان تمر على السلوكية اليهودية في جسر بنات يعقوب
pencel@scs-net.org

سها جلال جودت
23-06-2006, 11:24 PM
الدكتور محمد حسن السمان
يالخيرك الذي يسبق كل كلماتي
أيها الطيب الجميل كلما مررت وقرأت ما تكتبه على متصفحي كلما ازددت إيماناً أن الإبداع ما هو إلا طقس من طقوس العبادة الروحية حين نكتب عن الموت والحب والحياة والإيمان والأحلام البريئة.
دمت بخير مع صافي محبتي وتقديري

جوتيار تمر
25-06-2006, 12:35 AM
سها...
المغسّل


تذكرت وانا اقرأها قصيدة حفار القبور للشاعر الاقرب الى نفسي بدر شاكر السياب..
حيث تلاحقت صوره على ذهني..
حفار القبور..في مقبرة مظلمة..بيده المعول...ينتظر كل يوم شخصا يموت..ليعيش هو..
وكأني بتلك الصورة التي يقف فيه على تل..ينظر الى اضواء المدينة..وينظر بعدها الى السماء وهو في ذاته يناجي الاله..ا لن يموت اليوم احد..أ لن اكسب اليوم قوتا...
أ لن اكسب مالا فاذهب للبيت واحمل معي بعض الخبز الجاف لاسد به رمق اطفالي..
اذا..ايها الاله...اليوم لاموت...فلا...شيء اطعمه لاهلي...
وهكذا حال المغسل..وجدته صورة حية من حفار القبور...يعيش عندما يموت احد..
مهنتهما..تحتاج الى ارادة صلبة..وقوة..وقساوة...
ومن يختلط بالموتى..يكسب لااراديا بعض ملامحهم...
وكم اجد في نظرة الاجتماع اليهم شيء من الغرابة...
فهولاء..حياتهم..قوتهم..يتوقف على موت احد ما..لايهم...من يكون...
فاجد الاجتماع يحتقر المهنة...وكأنهم يرون فيهم هم من يأخذون الارواح...
حفار القبور..المغسل...اصحاب قلوب رقيقة...فقد احتملوا الحياة مع الاموات..واحتملوا مصاحبة الاموات..
من اجل..قلوبهم الطيبة..والتي ان كسبت بعض ملامح القسوة فلانها..لن تستطيع ان تكمل بدونها..
لكنهم في الاصل..يفعلون ذلك..من اعلة اطفالهم وعوائلهم..
وانظروا..الى من يتحمل رؤية الموتي..بل الى يمتهن غسل الموتي او حفر القبور لهم.. من اجل اطعام اطفاله..انه لرجل عظيم..
وعظمته تكمن في انه انسان مثل الاخرين لكنه يمتهن الموت ليعيش لغيره..
وعندما يزوره الموت..يكون حينها..مجرد انسان..كمن كان يغسله..ويحفر له...
في هذه القصة..استطعت ان تظهر ملامح المغسل بصورة دقيقة..وبقدرة فائقة طبع في ذهن القارئ ملامحه ومن جهة اخرى..كان لحواره الذاتي مع نفسه..اثر كبير في اظهار صفاته كقوله صلابتي المعهودة..وووو.
هذه الامور اجتمعت لتقدم لنل صورة حية عن حياة اخرى لاتقوم الا على اجساد غادرتها الحرارة واصبحت باردة زرقاء لاحركة لها..اجساد تخلت عن ارواحها..فالمغسل..وان كان عالمه الاموات..فانه يظل انسان يحمل في ذاته مشاعر..ومن خلال هذه الصورة التي قمت برسمها لنا هنا..ظهر انه يعيش كباقي الناس.. فها الفضول يقدوه الى معرفة ما يحدث قي تلك الغرفة..بل قبلها..عند سؤاله لذلك الرجل..وها هو في لحظة ما..يتطرق الى موضوع مهم جدا..كثيرا ما نجده يحدث في مجتمعاتنا ايضا..حسم الارث قبل دفن الميت.. بل نسيان الميت بسبب الارث.
لقد تم توظيف اهم ركائز القصة القصيرة الناجحة من اجل اظهار هذا العمل الادبي بصورته الحية الجميلة.
تقديري واحترامي
جوتيار

سها جلال جودت
25-06-2006, 12:55 AM
العزيز جوتيار
هذه القصة أحدثت جدلاً حولها يوم نشرتها في موقع القصة العربية ، كما أنها رسمت في ذاكرة من قرأها منشورة في صحيفة صورة لم يستطع نسيانها أبداً وثمة من سألني لماذا اخترت هذه الشخصية ولماذا مغسّل الأموات، طبعاً أنت تعرف الجواب لأنك عبرت عنه من خلال ما ذكرت من تعليق بل تحليل نقدي، ولأنه إنسان لابد ليد الموت من أن تطاله كما تنال من غيره.
أشكرك جوتيار ، بل أشد على يديك في متابعتك لرصد ما تقرأ بهذا التحليل لتكون ناقداً صاحب تميز.
دمت بخير مع صافي محبتي وتقديري