المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قصة قصيرة ( شجرة التوت ) حسين علي الهنداوي



حسين الهنداوي
02-07-2006, 11:36 PM
شجرة التوت
لم تكن تنتهي حرب حزيران غير المتكافئة حتى دخل الاحتلال مدينة القنيطرة بهمجية غاشمة و أشعل الحرائق في البيوت المتبقية و التي لم تدمرها قنابل القصف أيام الحرب
كنت في الخامسة من عمري عندما قدم عشرة من جند الاحتلال إلى منزلنا ، و دخلوه بصراخ و عصبية تترية
كانت أمي و جدتي و إخوتي الأربعة جالسين تحت شجرة التوت التي زرعها جدي منذ دخوله هذه المدينة الطيبة الوادعة طلباً للرزق 0 لم يكن لدينا بيت واحد صالح للسكن بعد أن دمرت القنابل الهمجية كل الحي الذي نقطنه ، و قتلت و جرحت أكثر من خمسين طفلة ، و امرأة ً و صبياً و تقدم منا ضابط نحيل الجسم طويل القامة تبدو أنيابه كأنياب كلب مسعور 0
قال بلكنة عربية : أين هم الرجال المختبئون ؟؟
ثم تقدم من جدتي و ركلها بقدمه السافلة ، و قال :
تكلمي أيتها العجوز الشمطاء و إلا قتلت كل من حولك ، و أمطرتهم بوابل من الرصاص ، فأجابته بصوت متهدج يشوبه الحنين و المرارة :
تلك عادتكم أيها المتغطرسون ، تحرقون ، و تدمرون ، و تقتلون ، هذا هو المنزل أمامكم 0 فتشوه كما شئتم 0 لن أقول لكم ليس لدينا رجال ، فرجالنا مازالوا أحياء ، و سترون شجاعتهم عندما تحين الفرصة 0 صرخ الضابط بوجهها ، و قال : اخرسي أيتها الوقحة 0 نحن هنا و لن نرحل عن هذه الأرض ، ثم التفت إلى جنوده ، و قال : فتشوا البيت بشكل دقيق لا تتركوا حتى أعشاش العصافير و إن عثرتم على أي شيء فأتوني به 0 و دخلت ُ في ثوب أمي أنظر إلى ذلك الضابط و قلبي يقفز في صدري حقداً و خوفاً 0
صحيح أنني في تلك السن لم أكن أعي معاني الاحتلال ، و لكنني كنت أشعر من أصوات القنابل و المدافع ، و ما أحدثته من تدمير و حرائق 0 أن من يصنع ذلك لا يعدو يكون همجياً 0 قد ملأ صدره و قلبه حقداً و غّلاً ، بل هو وحش يحاول افتراس ما حوله 0 و عاد الجنود بعد دقائق بالخيبة 0 لم يعثروا إلا على سرج حصان كان والدي يستخدمه في محاربة الفرنسيين 0
و تقدم الضابط منا ، ثم قال بنبرة تشوبها السخرية و الحقد :
أيتها العجوز احملي عكازك و ارحلي أنت ومن حولك 0 لا أريد أن أرى أحداً في هذه المدينة بعد المساء 0 وضعت جدتي يدها الواهنة على كتف أمي ، ثم اتكأت باليد الأخرى على عكازها و قامت و تقدمت من الضابط قائلة :
(( لن تطول غيبتنا عن هذا المنزل ، و سنعود إليه قبل أن تطلع الشمس ))
ثم تقدمت من شجرة التوت ووضعت جبينها المضنى على جذعها و خاطبتها قائلة :
لا تكوني حزينة أيتها التوتة !!
سنرجع إليك و سأعانقك بعد رجوعنا 0 لن ودعك الآن فأنا أعلم أن غيبتنا لن تطول
عن هذا المنزل ، فأعاد الضابط صراخه قائلاً : اخرجوا من هنا لا أريد أن أرى أحداً بعد هذا المساء 0
و خرجت جدتي و أمي من المنزل مطرقتين تجران وراءهما إخوتي و شعرت حين ذاك رغم صغر سني بمرارة الحياة و نظرت إلى أمي بعد أن تجاوزنا المنزل إلى الشارع و قلت لها : و لكن أين والدي و عمي كي يطــــــردوا هؤلاء الجنــــود من منزلنا ؟!! لم أرهما منذ خمسة عشر يوماً 0
نظرت أمي حولها و لم تر أحداً ثم قالت لي : أبوك و عمك مع الجنود المدافعين عن القطاع الشمالي من الجبهة ، ولا ندري أهم أحياء أم أموات 0 كان الله في عونهم ، و التفتت جدتي إلى أمي ثم قالت (( ترخص الرجال فداء للوطن 00 و الله لو كان عندي عشرون ابناً لأرخصتهم فداءً لهذا التراب 000 و الله لو قتلوا أمامي جميعا لما رجف لي قلب و لحمدت الله فالوطن غال ٍ بل هو أغنى من كنوز الأرض 0 توكلي بالله فالأعمار بيده و لن تموت نفس على هذه الأرض حتى تستوفي ما بقي لها من أنفاس )) 0
و مشينا 000 كانت الشمس تنحني نحو الغروب و كان المساء يزحف ببطء كسلحفاة حزينة 0 وما إن قطعنا كيلو متراً واحداً حتى سقطت جدتي على الأرض من الإعياء و التعب فجلسنا حولها و أمي تقول : ما أتعس هذا الحظ !! فالتفتت جدتي إليها ثم قالت : لم أعهد طيلة حياتي أن الظلم دائم و سترين بأم عينيك أن الحق سينتصر 0 صحيح أنهم استغلوا غفلة من الزمن و لكن الرجال استيقظوا و ستسمعين دوي الرصاص في يوم قريب و ستعودين بمشيئة الله إلى منزلك ومن هذه الطريق نفسها و لكن بعزة و شموخ 0 و التفتت أمي إلى الخلف بسرعة لترى سيارة هشة محملة بالنساء اللاتي طردن مع أولادهن من المدينة رفعت يدها مؤشرة للسيارة بالوقوف 0
وما إن ركبنا حتى أسندت جدتي رأسها إلى مقعد قديم و غرقت في نوم عميق لم تصح منه حتى وقفت السيارة في إحدى المدارس الواقعة في طرف المدينة و تقدم منا المتطوعون و أنزلونا من السيارة ثم حملوا الجرحى إلى المستشفيات 0
شرعوا بتوزيعنا على الأماكن الفارغة 00 قضينا أياماً كانت أمر من الجلوس على الجمر و لم يكد عمي ووالدي يعثران علينا إلا بعد مشقة ٍ و تعب كبيرين 0
كان عمي خلال تلك المعارك قد جرحت ساقه اليمنى جرحا بالغاً أعاقه عن المسير
بشكل صحيح 0 و كان والدي قد نجا من الموت بأعجوبة ، فقد أمطر الطيران المعادي خندقه بوابل من القنابل ولولا عناية الله لكان في عداد الشهداء 0
تسارعت الأيام 000 كان الزمن يتمخض عن ولادة جديدة ، و كان الرجال يستعدون لجولة جديدة يشحذون أسلحتهم و يتدربون ليلاً و نهاراً من أجل أن تبزغ الشمس على تراب بلادنا المقدسة 0
و كبرت 000 لقد بدأت أستشعر معاني الاحتلال 0 لم أعد أقرؤها في كتبي المدرسية فقط بل أخذت أعاني من ويلاتها 000 ستة أعوام و أنا أشعر بحنين إلى شجرة التوت 0 كنت كل يوم أجلس بين يدي جدتي لتحدثني عن ماضيها المتجذر في تلك الأرض و كنت أشعر و هي تحدثني أنني جالس تحت ظل تلك الشجرة 00 أسمعها بشغف و هي تقول : (( الوطن غال ٍ يا بني !! من لا وطن له لا قيمة له ))
و جاء رمضان بصفائه و نقائه 000 كان الرجال قد أعدوا أنفسهم ليعيدوا الأرض 00 و لم يمض عشرون يوماً حتى كانت الرايات العربية تخفق فوق جبل الشيخ 0
كانت جدتي تجلس إلينا و تحدثنا عن الشمس التي ستبزغ قريباً 0
ومن إن همدت نار الحرب و عاد والدي و عمي إلينا حتى باشرت جدتي بإلحاح عليهما للرجوع إلى المنزل 0 و استأجرنا سيارة صغيرة و دخلنا المدينة 0 كان الجنود يعلقون على أبوابها أكاليل الفرحة و النصر 0
دخلت جدتي المنزل و نحن نسير وراءها ببطء 000 تقدمت من شجرة التوت 00
عانقتها عناقاً حاراً و التفتت إليَّ و قالت : يا بني هذه شجرة الحياة حافظ عليها كما حافظ عليها أبوك و عمك 000 لا تدع أحداً أياً كان يمسها 0
و الويل كل الويل لك إن لم ترخص نفسك لدفاع عنها 000 تقدم منها 000 عانقها كما عانقها أبوك و جدك 000 و اجعلها محراباً لصلواتك

حسين علي الهنداوي
Hosn955@yahoo.com

حسام القاضي
03-07-2006, 12:14 AM
الأخ الفاضل / حسين علي الهنداوي

تحياتي
قصة رائعة تدل على كاتب متمكن
السرد شيق والأحداث متتابعة
جميل منك إختزان هذه المواقف
والأجمل هو امل الجدة وإيمانها الذي لا يتزحزح

دمت بكل الخير .

أسماء حرمة الله
04-07-2006, 04:55 AM
سلام اللـه عليك ورحمته وبركاتـه

تحيـة ضمّختُها بأريج الورد

حسين علي الهنداوي،

قصة كتبتَها باقتدار، أحسستُ مع كل حرفٍ فيها ووصفٍ وكأنّني أعيشُ الأحداثَ نفسَها، أقرأ تقاسيمَ الجدّة وتقاسيمَ حفيدها وماضجّ بذاكرته، ثمَّ ما مرَّ عليهما وعلى أسرتهما ووطنهما من أحداثٍ، حتّى عادوا إلى فرحتهم التي استُعمِرَتْ زمناً ..
ولاأخفي إعجابي الشديد بالجدّة التي تمسّكتْ بالأمـلِ حتى النهاية، التي ظلّـتْ وفيـةً لشجرةِ التوت في حضورها وغيابها : / شجرة التوت /الوطن/الأمـل/الحلـم الذي لايموت وإن غاب قسراً..

----
توكلي بالله = على اللـه
لا يعدو(..) يكون همجياً = هنا فقط سقطتْ "أنْ"

بانتظارك دوماً على ضفاف الحرف
تقبّل خالصَ تقديري واعتزازي :0014:
وألف باقة من الورد والندى