تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : الكف تناطح المخرز - رواية بقلم : د . محمد أيوب / من الفصل الأول إلى الفصل الخامس عشر



د . محمد أيوب
11-07-2006, 11:17 AM
الكف تناطح المخرز
رواية
بقلم : د . محمد أيوب
الفصل الأول
(1)
هبطت العتمة دفعة واحدة ، نسمة باردة تلامس وجهه .. شعور غريب يلف كيانه .. النعاس يسري خدراً لذيذاً في أوصاله.. تجتاحه رغبة عنيفة في نوم عميق ، والظلمة وحش كاسر يحمل في جوفه ما يحمله من قلق وترقب ، سكون غريب يلف المنطقة .. أصوات تقافز العِرَس هنا وهناك تمزق سكون الليل ، لكن زلزالاً فقط هو الذي يستطيع أن يهز النعاس القابع بين الجفنين .
ألقى النعاس مراسيه في بحر عيون عسلية يسكنها قلق دائم.. تيار الليل يندفع وئيدا وئيدا ، والنوم بحار لجية .. خطوات أثقلها حقد أعمى تجوس الشوارع، تبحث عن صيد سهل تزرع ظلماً آثماً أو تقلع أمنا وطمأنينة ..
دبيب قلق في أيد مرتعشة يلامس جسده ، يتململ ، يفتح عينيه يتساءل ، تهمس زوجته:
- اسمع صوتا بالباب .
كان صوتها جسدا تهزه برودة شديدة حاولت أن تتمالك نفسها وتتظاهر بالطمأنينة .. استطردت :
- لا بد أنهم أصحاب جاءوا للسهر .
تناثرت علامات استفهام تتضخم أمام عينيه .
- كم الساعة الآن ؟
- الثانية عشرة ليلا.
تبعثرت علامات الاستفهام إشارات ضوئية تستل النعاس من بين جفنيه، تلقي بالمرساة بعيدا لينطلق قارب نعاسه في عرض بحر لجى.
أحس وكأنه استيقظ فجأة دفعة واحدة ، همس بصوت مسموع :
- من هو الذي يفكر في زيارتنا عند منتصف الليل ، لا بد أنهم جيش كوني على حذر دعيني أتصرف بهدوء.
حاولت أن تبدو رابطة الجأش ، وعلى الرغم من ارتجاف صوتها فقد أردت أن تبذر بذور الطمأنينة في نفسه:
- سمعت أحدهم يقول : اقذف حجراً على الباب لتوقظهم :
أنبتت بذور الطمأنينة التي زرعتها زوجته علامات استفهام لم تنضج بعد، تطايرت آخر قطرة نعاس من عينيه ، هب واقفا ، صفع أذنيه جرس الباب.. هتف بصوت تعمد أن يبدو خشنا ..من بالباب ؟
أجابه صوت أصفر:
- افتح .. جيش .
تسمرت زوجته في مكانها كأنها أصيبت بصعقة كهربية ، لكنها ما لبثت أن تساءلت :
- هل افتح الباب ؟
همس :
- انتظري .
- صعد إلى السطح ، أطل على الشارع ، طلب إلى زوجته أن تضيء النور تراجعت العتمة إلى الوراء قليلا، تكشفت عن أشباح قلقة ، صاح أحدهم :
- ألا تصدق ؟
بصق كلامه في وجوههم :
- لا أصدق طبعا ، لأن جيشا يحترم نفسه لا يفعل هذا .
صاح أحدهم :
- افتح الباب بسرعة .
شعر بغثيان يجتاح كيانه .. رغبة في القيء فوق رؤوسهم تلاحقه..
يا من يجترون الحقد وآلام الناس .. ألا ترون في النهار ؟ يا بوم الليل وجرذانه، يا دنس العصر وأدرانه.. ألا يحلو لكم إلا إيقاظ الناس من أعماق النوم ؟ أهذا ما يتطلبه أمنكم ؟ لاحقه الصوت بوقاحة :
- افتح الباب قبل أن نكسره.
اندفع صوته بصاقا في عيونهم الصدئة:
- انتظروا فالأطفال نيام.
فتح الباب ببطء ، حاول أحدهم الاندفاع إلى الداخل، اعترضه بيديه:
- لن تدخل قبل أن أعرف سبب هذه الزيارة المقيتة!
أجاب بلطف:
- أين أولادك؟
- وماذا تريد منهم؟ إنهم نائمون.
فح من بين فكيه:
- أريد أولادك .. لدي أوامر يجب أن أنفذها.
- طز.. لن تأخذهم.
تحرك شخص يبدو أنه المسئول عنهم محاولا إخافته :
- أعطني هويتك.
صاح بانفعال :
- فقط ؟!! خذوها فأنا لا أريدها.
صفعته الكلمات بعنف فتدخل كلب حراسة :
- اسكت وألا أشبعتك ضرباً .
طوفان غضب اجتاح كيانه، غلت الدماء في رأسه ، خرج عن طوره وصاح:
- إن كنت راجل اعملها ، والله لأكسر يدك إن رفعتها .
طق الشرر من عينيه:
- يلعن اليوم اللي شفناكم فيه ..أي والله جنوب أفريقيا أشرف منكم.
تدفقت الكلمات طلقات غضب مخزون في أعماق النفس، رشاش الكلمات يهذي ، يقذف ، لكنه يعي ما يقول .
صاح به شرطي مدني :
- مالك يا حاج هل أنت مسطول ؟
أيقظته الكلمات أكثر ، هزت وجدانه ، استفزته بعنف :
- أنا مسطول يا مسطول .. أن أصحى منك .. أصحى من حكومتك. شلّهم ارتباك مفاجئ ، كانوا يظنون أنهم بورقتهم الملعونة يوجهون أصابع الاتهام إليه ، فإذا بهم في قفص الاتهام، اكتست وجوههم بلون الكركم ، ماتت ابتسامة الظفر على وجه المسئول عنهم، داهمه قلق جامح ، ماذا لو تدفق الجيران من البيوت المجاورة ، ماذا لو رشقونا بالحجارة ؟! ماذا سنفعل عندها ؟ هل سنطلق النار كما اعتدنا ؟ كان يجب أن أوقع الرعب في قلوب سكان هذا المنزل اللعين ، فإذا بهذا الأحمق.. هذا المجنون ، يقلب خطتي رأسا على عقب ، فأجد نفسي متهماً بدلا من توجيه أصابع الاتهام .. ترى هل فعل بنا هتلر مثلما نفعل بهم اليوم ؟
خرج حياد من غرفته ببطء كأنما أيقظته أفاع ملعونة في حلم مزعج ، فرك عينيه كأنه يحاول رؤية ما أمامه ، ارتد إلى الوراء قليلا يريد أن يهرب ، لكن إلى أين ؟ المكان مليء بالجنود، جميع الأبواب موصدة بوجه جندي أو بظهره ، سيان ، وصوت أبيه يتدفق طوفانا يغرق صمت الليل .
نهره أحدهم :
- أين هويتك تعال معنا .
صاح أبوه : لا تخف منهم ، البس ملابسك وخذ هويتك ، ولا تخف أنت أقوى منهم ألف مرة ..إنهم جبناء .
أزاح الجندي الواقف بباب حجرته بيده ، دخل بهدوء إلى الحجرة ، خلع بيجامته ، لبس قميصه وبنطلونه، وأدخل قدميه في الحذاء نسى جواربه ،أخذ بطاقته الشخصية ، الوقت يمر سريعا ، أسرع من المعتاد ، لو أن الساعة تقف ، لو أنهم يموتون جميعا قبل أن يأخذوني معهم ، لو أن زلزالا يهدم البيت على رؤوسهم، نظر إلى والده نظرة عتاب تشوبها لوعة ومرارة ، سرح ببصره عبر العتمة التي تحاصر أنوار المنزل ، شرد ذهنه ، لطالما منعتني يا والدي من التعبير عن نفسي، لطالما حذرتني من إيذائهم ، من المساس بهم، " ابعد عن الشر وغني له، وهات فأس وقني له"، وها قد ابتعدت عنهم ، فهل تركوني في حالي ؟ هل ابتعدوا عني ؟ ها قد جاءوا يدقون بابنا عند منتصف الليل ليقصفوا عمر الطمأنينة في عيون أخوتي الصغار ، آه يا والدي .. حتى اسمي ، أسميتني حياد، فإلى متى سأظل حيادا لا طعم له ولا لون ولا رائحة ،إلى متى سأظل متعادلا مثل ملح الطعام ؟ إلى متى يا والدي ؟ إلى متى ؟ إنهم يخرجونني عن اسمي رغما عن أنفك وأنفي ، رغم أنف دعواتك ودعوات أمي الصالحات ، ها قد وضعت رأسي بين الرؤوس فماذا حدث ؟ لقد اختاروا رأسي من بين كل الرؤوس ليقطعوه ، فهل تصدق ذلك يا والدي ، خنعت كثيرا ، تهربت من عيون زملائي سلكت الطرق السلبية ، صليت كثيرا ، لأقنع نفسي أن حياتي لها معنى ، فماذا كانت النتيجة ، ها هم يعكرون صفونا وفي منتصف الليل ! ألم تكن تتوقع ذلك يا والدي وتخشاه ؟ ، كنت تكاد تموت خوفا علي ، وها أنت تكاد تنفجر غيظاً منهم ، أنت المسالم الهادئ .. حتى أنت لم تسلم منهم.
جذبه أحدهم بعنف :
- هيا .. هيا معنا .
- صفعته فكرة قاتلة .. بعد أيام سيكون الامتحان .. امتحان الثانوية العامة ضاع الولد، جن جنونه :
- لا.. لن تأخذوه قبل أن تقتلوني .. لن تأخذوه .
صاح الشرطي المدني :
- لا تخف يا حاج ،إنه مجرد إجراء احتياطي .
- لا أخاف ؟ لا أخاف وأنتم تنتزعون قلبي من بين ضلوعي تستلون روحي بلا شفقة ، تقتلونني بلا رحمة ، لا أخاف !! يا ظلمة ...
صاح:
- تريدون إضاعة الامتحان عليه ، ليكن ، لقد أضعتم عمرنا كله ، طز فيكم وفي الامتحان ، لكني أقسم واسمعوها جيدا ، ثم افعلوا بي ما شئتم ، سيكون ابني فدائياً بعد أن يخرج من السجن ، لن أمنعه من الأخذ بثأره ، بثأر أبناء شعبه الذين شربوا من كأس ظلمكم حتى الثمالة ، اسمعوها جيدا ، وإن كان في جيشكم رجال، فلتحذروا .. إن أبناءنا ..أحفادنا قادمون إليكم ، يزحفون ببطء لكنهم سيصلون مهما طالت الطريق .
صاح المسؤول :
- أين ابنك الآخر ؟
جن جنونه :
- إنه لا يحمل بطاقة هوية .
- وليكن نريد أن نأخذه معنا ؟
يا أولاد الكلب ، تتلذذون على آلامنا ، تبتلعونها ، ثم تعيدون اجترارها في أوقات راحتكم ، انخلع قلب زوجته، حاولت أن ترجو ضابطا يضع على رأسه طاقية صغيرة.
- أنت متدين .
وقبل أن تكمل رجاءها صفعتها كلمات زوجها :
- هذا خرا .. هذا ليس متديناً ، هذا لعنة هو وأمثاله من أدعياء التدين ، ليفعلوا ما يشاءون ، لم أعد أهتم ، لكني أقولها فاسمعوها جيدا:
- افعلوا ما شئتم، سيخرج أبنائي من السجن، إنهم لم يفعلوا شيئاً، مشوا إلى جانب الحائط كثيراً ، طلبوا الستر كثيراً ، فهل نجوا من شركم ؟ سيخرج أبنائي ، وسينضمون إلى صفوف المقاومة، وذنبكم على جنبكم ، انتم تريدونها هكذا فليكن ، وإذا كان لا بد من الاختيار بين الخنوع والمقاومة فنحن مع المقاومة .. مع المقاومة ، اقتلونا إن شئتم ، جذورنا أقوى منكم ، ستنبت جذورنا من جديد ، فهي تمتد عميقا في بطن هذه الأرض ، أما أنتم .. أين جذوركم ، أنتم نباتات صناعية في أصص جميلة لن تصمدوا إن اشتدت الريح قليلاً ، فهل تدركون هذا ؟
انتبه فجأة ، لم يجد إلا ذلك الضابط ذا الطاقية المثبتة على رأسه بمشابك شعر حريمية .. دفعه بعنف :
- أين أولادي . أريد أن أذهب معهم .. أريد أن أذهب معهم .
أجابه ببرود أسود :
- لن تذهب .
- بل سأذهب .. سأذهب .. سأذهب
كانت عيون زجاجية هلعة تطل من خلف شيش النوافذ حين عادت سيارة جيب إلى الوراء بسرعة ، قفز الضابط وجنديان كانا معه إلى السيارة ، صرت العجلات تاركة إياه وسط سكون الليل وظلمته نهبا للأفكار .. أفكار شتى تتنازعه ، لكن فكرة أكبر من كل أفكاره ألحت عليه فهمس :
- عاشت المقاومة .

الفصل الثاني
( 2)
نظر الشرطي المدني إلى ساعته ، وصورة تلك المراة ما زالت تلاحقه ، آثار بصاقها ما زالت تحرق جلده، تمزقه من الداخل ، مسح وجهه للمرة المائة ، لكنه لا يزال يشعر بطعم البصاق يخترق خلاياه، يحرقها ، لم أصادف في حياتي مثل هذا الموقف ، هذا البيت مدبرة حركها طفل أحمق بعصاه ، فاعت دبابير الغضب بدائية شرسة ، كانت الكلمات لسعات دبابير تخز العقل ، تخز النفس .. الله يعدمك أولادك ، دعوة أم محروقة بلهب غاضب همجي انصبت على رأسه ، وهو يحاول تهدئة الموقف ، تلطيف الجو :
- يا حاج إنه مجرد إجراء احتياطي .. احترازي .
شرد ذهنه .. احتياطي !! هل يصدق هذا ؟
لقد تعود أن يبصق تلك الكلمات أينما ذهب ، فهذه مهمته كشرطي مدني .. أن يرش على الموت سكرا .. كان شاهداً تحت الطلب ، كم مرة خرج في مثل تلك المهمات ، لكنه لم يصادف مثل هذه الليلة اللعينة .. دعوات تلك المرأة تلاحقه، تهز كيانه من الداخل .. الله يعدمك أولادك .. تفوو عليك وعلى حكومتك ، ومسح وجهه للمرة الأولى بعد المائة .. هذا البصاق الملعون .. ألا يتركني في حالي .. أحس أن جلداً جديداً ينبت في وجهي من كثرة ما مسحت البصاق ، بصاقها يذكرني بعار هذه البدلة الخاكية اللون ، كان شيوخ بلدتنا يقولون في الجليل :
" لا يدخل الشرطة إلى الداشر " .
وها هي هذه المرأة تصفعني على وجهي ، ليتها صفعتني بيدها ، لقد صفعتني بكل كيانها .. بكل أحاسيسها ، اعتصرت خلاصة جسدها بصاقاً يحمل طعم الاحتقار ولون الحقد.
أحس باختناق شديد .. فك أزرار قميصه .. كابوس ثقيل يلاحقه ، هل هو قدري أن أكون شاهدا على مآسي الناس لا تكاد ليلة تخلو من مأساة مداهمة البيوت التي أصبحت جزءاً من حياتنا .. افتح .. جيش افتح ..جيش .. افتح قبل أن نكسر الباب ، وبصق باشمئزاز .
*******
على الرغم من تجاوز الساعة الواحدة بعد منتصف الليل ، قرر أبو محمود – ذلك الشرطي المدني من الجليل أن ينزل من السيارة التي كانت تقله عائدة به إلى المركز ، قرر أن ينزل ليتحرر من جو العمل الرسمي ولو لفترة بسيطة ، سار ببطء ، تنفس الهواء ببطء شديد.. كان الهواء نديا، سار وسارت معه وساوسه ، أفكار سوداوية تلاحقه، ترى كيف يكون شعوري لو أنني عدت إلى بيتي ووجدت ابني الوحيد محمود وقد حدث له مكروه.. لا .. وحرك يده اليمنى محاولا أن يبعد هذه الأفكار عنه، اقترب من دكان ما زال يفتح أبوابه ، توقف، فهو يعرف صاحب الدكان جيد !
- أهلا أبو محمود .. أهلا يا بركة .
سرح أبو محمود ببصره إلى جهة غير محددة ، بركة .. أنا بركة يا منافق ، إنكم تكرهوننا ، ولكني عربي مثلكم .. قدري الملعون وضعني في هذا المأزق ، أن تكون شرطياً في زمن الاحتلال يعني أن تكون شاهد زور لا أكثر ، شاهداً على ديموقراطية لم تولد بعد ، لقد ترقيت في سلك الشرطة .. إنني أحمل تلك الوردة على كتفي فماذا أفادتني ؟ هل أنا ضابط حقا، هل أملك الحق في قول ما أريد ولو مرة واحدة .. إنني أنفذ ما يريدون فقط.
أيقظه صوت صاحب الدكان :
- تشرب حاجة باردة ؟
- كان يحس بحاجته فعلا إلى شيء بارد يطفئ تلك النار التي تعشش في مسامات الجلد ، لكنه لا يستطيع ابتلاعها ، يحس أن كرة مرة تغلق حلقه .. الله يعدمك أولادك .. ماذا لو سمعت ذلك يا محمود ؟ هل كنت ترضى أن يستمر أبوك في عمله ، أحس برغبة شديدة في العودة إلى ذلك البيت ، تلك المدبرة التي أثارها طفل أحمق فملأت كيانه لسعا ، لكنه لو ذهب فسيواجهونه حتما بتهمة ما ، توقفت أمامه سيارة بصورة مفاجئة ، نزل منها شخصان ، ثم نزل منها الرجل المسطول نفسه ، صاحب ذلك البيت الذي يحمل بين فكيه مدفعا رشاشا .. يلعن اليوم اللي شفناكم فيه .. خذوا هويتكم ، لا أريدها .. جنوب أفريقيا اشرف منكم ، هتلر وما أدراك ما هتلر ، كلمات ليس لها أول من آخر ، ما زال صداها يتردد في أذنيه :
- مساء الخير ، قالها سائق السيارة بتثاقل .
عقب الرجل بهدوء :
- بل صباح الخير .
نظر أبو محمود بدهشة إلى الرجل .. يبدو هادئا ، وكأنه لم يكن بركانا يقذف حممه قبل أقل من ساعة ، يبدو هذا الرجل الآن بحيرة هادئة ، عيون صافية لا يشوبها قلق ، إنه يحسده ، هدوء يسبب له غيظاً غير محتمل ، على الرغم من أننا أخذنا ولديه فهو هادئ ، وكأنه لم يحدث شيء ، دفعه حب الاستطلاع :
- ماذا تريد يا حاج ؟
ابتسم الرجل :
- لا أريد شيئا.. أنت عبد مأمور.. ألم تقل لي ذلك في المنزل، حتى لو أردت، ماذا تستطيع أن تقدم لي ما دمت عبداً مأموراً !؟! زميلي هو الذي أوقف السيارة .
دهش الشرطي :
- إذن .. إلى أين كنتم ذاهبين ؟
رد الرجل :
- إلى مركز الشرطة .. أريد أن أعرف ماذا فعلوا بأولادي .
أحس الشرطي برغبة صادقة في تقديم نصيحة حقيقية :
- يا حاج ،لا تذهب ، بعد أن فعلت ما فعلته بنا في المنزل ، ولولا خشيتهم لأشبعوك ضربا .. كانوا يخشون إثارة غضب الجيران ، عد إلى بيتك وسيطلق سراح أبنائك غدا أو بعد غد ، عد ولا تذهب ، ستجد ما تكره إن ذهبت.
قال السائق : وابني ؟
- سيطلق سراح الجميع ، انه مجرد حبس احتياطي بمناسبة يوم المساواة .
- ارتسمت ابتسامة كبيرة على وجه "أبو حياد" وكلمة طز أكبر أمام عينيه ، فلم يعد يهتم ، ليفعلوا ما يشاءون ،همّ بأن يركب السيارة ، ولكن الشرطي أوقفه :
- يا حاج .
التفت إليه .
- مش حرام مرتك تدعي على ابني ؟
- هيء.. صدرت عن أبو حياد غير مكتملة .
- أنت زعلان ؟ أخذتم أولادي الاثنين وابن الجيران ، والله أعلم اخذ توا مين كمان!! وزعلان من دعوة ؟! يا أخي عنا مثل بيقول "ظالم ما تكون من الدعا ما تخاف" فهل تشعر أنك ظالم أم أنك على حق ؟ ألجمه السؤال فما اعتاد أن يسأل أو يسال ، اعتاد ان ينفذ الأوامر فقط دون أن يسأل : أهي عادلة أم ظالمة ، كل ما يعرفه الآن أن دعوات تلك المرأة تلاحق ابنه الوحيد ، يتخيلها قطاراً يجري بسرعة رهيبة وابنه محمود يلعب أمامه ، لا يدرك حقيقة الخطر الداهم ، طنين الدعوة يمزق أذنيه ، يصمّها .. الله يعدمك أولادك .. الله يعدمك أولادك..
صاح :
- مش حرام مرتك تدعي على ابني ؟
- يا أخي تعال نتفق ، سأغير مضمون الدعاء ، فأنا أمون على زوجتي ، اسمع هذه الدعوة : الله يبعث لكم بجيش أقوى منكم يدخل بيوتكم ويفعل بكم ما تفعلون بنا الآن ، نحن لا نملك إلا البصاق والدعاء فقط .
- والله صعبة يا حاج ، أنا معك ، شيء صعب أن يأخذوا أولادك أن يضربوهم أمام عينيك ، ولكني عربي مثلك .
- هيء .. هيء .. هيء ..
ومزقت ضحكة غير مكتملة سكون الليل :
- أنت عربي ؟! أنت عربي ؟! إذن لماذا تفعل بنا هكذا ؟ إذا كنت عربيا مثلنا .. لا .. لا تقل إنك عبد مأمور .. لا تقلها .
- ولكنها لقمة العيش يا حاج .
- أية لقمة عيش ؟! لقمة مغموسة بآلام الآخرين ، لقمة مرة ، فكيف تستطعمها ؟ كيف تحس أن لها طعماً مريحاً ؟

د. محمد حسن السمان
11-07-2006, 10:19 PM
سلام الـلـه عليكم
الاخ الفاضل الاديب الدكتور محمد ايوب

لقد نجحت في ايصال الفكرة , اليد تناطح المخرز , في جزئيها , عمل ادبي قوي المعالم , يحفّز القارىء على المتابعة , يصور آلام شعب , بحرفية بالغة , وقد نجحت في الحوارات , في تقديم الافكار , واغناء المواقف , وتوضيح حجم المعاناة , وفداحة المصيبة .
اعبّر لك , عن اعجابي بك , فلقد قدمت عملا ادبيا هادفا , ذا مستوى عال .

اخوكم
السمان

د . محمد أيوب
11-07-2006, 10:32 PM
سلام الـلـه عليكم
الاخ الفاضل الاديب الدكتور محمد ايوب

لقد نجحت في ايصال الفكرة , اليد تناطح المخرز , في جزئيها , عمل ادبي قوي المعالم , يحفّز القارىء على المتابعة , يصور آلام شعب , بحرفية بالغة , وقد نجحت في الحوارات , في تقديم الافكار , واغناء المواقف , وتوضيح حجم المعاناة , وفداحة المصيبة .
اعبّر لك , عن اعجابي بك , فلقد قدمت عملا ادبيا هادفا , ذا مستوى عال .

اخوكم
السمان

أخي د . محمد السمان أشكرك على كرمك وأعبر لك عن عظيم امتناني لكريم شخصكم
مع أطيب تحياتي

سعيد أبو نعسة
12-07-2006, 12:03 AM
أخي العزيز د محمد أيوب
إذا كان أول الغيث بهذا الجمال فلا تبطئ علينا بالمطر
عنايتك الدقيقة بالتفاصيل تجعل القارئ يرسم الحدث و الشخوص بشكل جلي تبدو معه الرواية شديدة الواقعية .
دمت في خير و عطاء

د . محمد أيوب
12-07-2006, 12:09 AM
أخي العزيز د محمد أيوب
إذا كان أول الغيث بهذا الجمال فلا تبطئ علينا بالمطر
عنايتك الدقيقة بالتفاصيل تجعل القارئ يرسم الحدث و الشخوص بشكل جلي تبدو معه الرواية شديدة الواقعية .
دمت في خير و عطاء

أشكرك أخي سعيد على هذا اللطف الرائع ، كلي أمل أن تحظى الرواية بإعجابكم وإعجاب القراء الأعزاء ، أرجو المعذرة لقصر الرد لأنني أكتب الرد وأنا أستمع إلى أصوات الانفجارات الناتجة عن القصف في المنطقة التي أسكن فيها
لك أطيب تحياتي
د . محمد أيوب

د . محمد أيوب
18-07-2006, 08:31 PM
[color=#FF0000][B][size=5][font=Simplified Arabic]الكف تناطح المخرز
رواية
بقلم : د . محمد أيوب
الفصل الثالث
( 3 )
تراجع إلى الوراء بخطوات ملسوعة ، أصبعه السبابة في وضع الاستعداد على الزناد ، قفز إلى السيارة ، وتبعه الجنديان ، أخذ نفسا عميقا، امتزجت رائحة البنزين بالهواء الندي ، بوحشة هذا المكان الملعون .. اندفعت السيارة إلى الأمام فتراجع جسده إلى الخلف ، أشعل الجندي ضوء المصباح الكشاف المثبّت على السيارة ، نور الكشاف عينان تتلصصان في جوف العتمة ، العرس "الجرذان " تتقافز مذعورة هنا وهناك ، صرصور يصدر صوتا أشبه بموسيقى الجاز ، يتبعه صرصور آخر ، وآخر ، صوت الصراصير يملأ المكان ، وكأنها تحتج على من أفسد ليلتها بهذا الضوء الساطع ، يلوح عن قرب صندوق القمامة ، عرسة حاصرها النور فالتجأت إلى جانب الجدار وجرت مسرعة ، أصبعه السبابة ما زالت على الزناد ، أحس بارتجاف الجندي الذي يدير الكشاف في المكان ، بدت السيارة بقعة سوداء في بحيرة نور ظالم يود لو يخترق الجدران ، يعرف المخبوء وراءها ، السيارة تطوي بساط النور بسرعة رهيبة ، اختلط هدير محركها بسكون الليل ، بصوت النور المزعج ! فقد أحس أن للكشاف صوتا يحاصره بدلا من أن يحميه ، انحدرت الطريق نحو الشرق بشدة، نبحت كلاب الشوارع بشراسة، لاحقت سيارة الجيب بإصرار عجيب ، ترى هل تعرفنا الكلاب أيضا ؟! هل تدرك الكلاب أننا محتلون ؟ وإذا كانت لا تعرفنا فلماذا تنبح عندما ترانا ؟ ولماذا تسكت عندما ترى هؤلاء العرب ، هؤلاء الجوييم ؟
دارت السيارة إلى اليمين حول منعطف حاد ، كاد كلب ينبح بإصرار أن يقفز داخل السيارة ، مد ماسورة بندقيته الآلية نحو الكلب الذي لم يتراجع بل استمر في ملاحقة السيارة .
تبدو الطريق إلى مقر الحاكم العسكري أبعد مما تصور ، وكأنها تتضامن مع سكان هذا الحي من صراصير وكلاب وعرب ، بصق ، تذكر مثله الأعلى رفول ، وجوكيم بفني بقبوق ، وبصق مجدداً، جوكيم بفني بقبوق ( صراصير داخل زجاجة ) .. هل هم حقا صراصير داخل زجاجة ؟ إنهم أكثر إزعاجا من الصراصير والكلاب ، لقد أثار ذلك الرجل ذو المدفع الرشاش في حلقه – الرعب في قلبي ، أحسست أن لساني قد تيبس وأنا انظر إليه ، هربت الرطوبة من حلقي ضعفت رغم كرهي لهم ، رغم إيماني بسياسة الترانسفير ، ضعفت يا رفول.. يا مثلي الأعلى ، فهؤلاء العرب يثيرون الرعب في القلب ، ينخلع قلبك لمجرد رؤية عيونهم، لا شك أن الصرصور يثير القرف، كنت أعتقد أن وصفهم بالصراصير هو الأنسب ، ولكن وبعد هذه الليلة اللعينة ، هم أكبر من الصراصير ، أكبر من الكلاب ، أكبر منك ومني يا رفول ، نحن الأضعف رغم سلاحنا ، وهم الأقوى وإن كانوا عزلاً ، لم أجرؤ حتى على صفع ذلك العربي في ذلك المنزل اللعين ، كنت في أثناء التدريب أدوس على الصراصير ببسطاري ، أتلذذ حين أتخيل أنني أدوس عرباً تحت قدمي ، أسحقهم فيطقطقون تحت حذائي كما تطق الصراصير القذرة ، اعذرني يا رفول العزيز، لم أستطع صفع ذلك العربي القذر ، داهمه صوت ذلك العربي من جديد، لاحقه صوته مدفعا رشاشا لا يعرف التوقف " يلعن اليوم اللي شفناكم فيه ، جنوب أفريقيا أشرف منكم "، انسابت صفرة فاقعة تحت جلده، وكأنها تود أن تكشف ضعفه ، مسح وجهه بيده لأول مرة ، لسعته آثار البصاق على وجهه ، تلك المرأة الملعونة ، ليست امرأة ، وحشا كانت ، نمرة شرسة ، انطلق بصاقها ممزوجا بشتيمة حارة .. تفوووو عليك وعلى حكومتك.. تفوو عليك وعلى حكومتك.. وسكبت دعاءها سائلا حاراً على وجه ذلك الشرطي المدني..العربي من الجليل.. لا شك أنها كانت تظنه يهوديا ، بصقت في وجهه ، دعت على أولاده، ضعفت في البداية كادت تتوسل إلي ..أنت متدين، كانت تريد استثارة عاطفتي علني أشفق عليها ، وعلى أولادها، تظن أن لي قلبا يعطف، ولكن زوجها ـ ذلك الغبي ـ أفسد علي متعة التلذذ برفض رجائها ، متعة بصق السخرية في وجهها، صاح فيها: هذا خرا .. هذا ليس متدينا ، لم أفهم كلمة خرا ، وإن كنت قد فهمت كلمة دين ومتدين ، فأنا " داتي " ، أكره العرب ، هكذا تعلمت في المدرسة الدينية ، علموني كيف أكره جميع الأجناس البشرية ، وألا أحب إلا اليهود ، ترى هل أحب اليهود حقا ؟ وهل أنا يهودي نقي ؟ وما اليهودية ؟ ولماذا أنا صهيوني ؟ وهل الصيونية مجرد اجترار كراهية العرب ؟!
حك رأسه كأنه تذكر شيئا. هتف :
ـ ياكوف .. ما معنى خرا ؟
تردد ياكوف. لاحت ابتسامة خفيفة فوق شفتيه ، شرد بذهنه .. ألا تظن أنني أجتر هذه الكلمة ؟ أجتر الشتائم التي اختزنتها ذاكرتي ؟ فهذا العربي الملعون كان يحمل بركانا في حلقه ، يقذف حممه شتائم وزعيقا ، ظننته مسطولا كما قال أبو محمود ، لكنه كان بكامل وعيه، فكرت في ضربه ولكنني لم أجرؤ ، هددته بالضرب ، فهددني بكسر يدي إن فعلت، طلب مني أن أقتله، بعد أن شك في رجولتي، ولم أجرؤ على فعل شيء فقد رأيتك يا يوئيل وقد سكن اللون الأصفر تحت جلد وجهك، أتظن أنني لم أدرك أن لعابك قد غاض من فمك تاركا لسانك وحلقك للجفاف، أتظنني غبيا يا يوئيل لقد ابتلعت الشتيمة ولم تستطع التصرف أمام صرصور من صراصير زجاجة رفول العزيز .
- ياكوف .. ما معنى كلمة خرا ؟
انطلقت ضحكة من إسارها لأول مرة منذ أن غادرا ذلك البيت اللعين ، أمسك بمقعده فقد انحرفت السيارة إلى اليسار في طريقها إلى مقر الحاكم العسكري، انقذف جسده نحو اليمين قليلا، نظر إلى يؤيل الذي بادله النظرات.
- لماذا تضحك ؟ قل .. هل هي كلمة صعبة لا تعرف معناها ؟
- ليست صعبة .ولكنها لزجة.
- ما معناها إذن ؟
ضحك ياكوف من جديد :
- أنت مصر على معرفتها، إذن لا تغضب
- قل يا ياكوف ،لقد شوقتني
وقه قه قه ،هيء هيء هيء
- إنها تعني لخلوخ .. لخلوخ طري .
- اختلطت صفرة وجهه بزرقة لحظها ياكوف وتجاهلها ، سرت برودة ما قبل الفجر في أوصاله ، اغتصب ضحكة خرجت مبتورة على الرغم منه .. هيء .. محاولا أن يتظاهر بعدم المبالاة ، حاول أن يجتاز ببصره الجزء المتبقي من الطريق عله يصل بأسرع ما يمكن، فهو يشعر بحاجته إلى الراحة، إلى أن يمارس نوما عميقا إن استطاع، فالنوم العميق هواية الجندي ومتعته بعد أن يعود من مهمة صعبة، لاحقه صوت الرجل ذي المدفع الرشاش في حلقه .. هذا ليس متدينا .. هذا خرا ، وانزلقت الكلمة داخل أذنيه لزجة طرية ، لاحقه إحساس غريب ، فقد أصبح مرحاضاً يستقبل شتائم هؤلاء العرب وبصاقهم ، حجارتهم وهتافات حناجرهم .. أنا خرا ؟ .. لخلوخ طري .. أنا هل تسمع يا رفول ؟ هل تسمع ؟ لماذا لم أقتل ذلك العربي الوقح ؟ لماذا لم أركل تلك المرأة حين بصقت في وجهي ؟ لماذا لم أفقأ الصوت في حنجرة ذلك العربي ؟ الصرصور في زجاجة ايتان لماذا ؟ لماذا؟ ما الذي شل يدي وقتها ؟ ما الذي أوقف عقلي عن التفكير ؟ أهي المفاجأة ؟ أم أنني - وقد اعتدت أن تستجيب الصراصير لحذائي الثقيل فتطق منسحقة بصوت مسموع - توقعت أن يستجيب لرغباتي السامية ، ماتت الكلمات في حلقي فلم أنطق وتيبست يدي فلم أتحرك.. أنا خرا ؟ .. لخلوخ طري؟
ولاحت له الأسلاك الشائكة ترتفع فوق جدران مقر الحكم العسكري تحملها زوايا حديدية تفرد ذراعيها وكأنها تدعو الله أن يخلصها من وضعها ، بينما ارتفعت زوايا أخرى كأنها حراب تريد أن تفقأ عيون السماء الصافية ،لاح له برج المراقبة ممتزجا بلون عتمة الفجر ، انحرفت السيارة إلى مبنى المقر ، توقفت السيارة بحدة ، اهتز إلى الأمام وإلى الخلف عدة مرات ، قفز ، شعر برغبة في التوجه إلى المرحاض لاحقته كلمات ذلك العربي .. هذا خرا .. هذا خرا .
وبعد قضاء حاجته ذهب إلى حجرته وحاول أن ينام .

د. محمد حسن السمان
19-07-2006, 06:58 PM
سلام الـلـه عليكم
الاخ الاديب الدكتور محمد ايوب

رجعت الى الاجزاء : (1 و 2 ) من الرواية , قرأتهما من جديد , ثم بدأت بقراءة الاجزاء الجديدة من الرواية : (3 و4 ) , ووجدت نفسي محقا , فيما كتبت بتعليقي على الرواية حينها , فالعنصر الاهم , وهو التشويق , قد كان ناجحا الى حد بعيد , واسجل لك مقدرتك العالية , في عملية البناء , ومساقات التوتر , مع التفصيلات الدقيقة , التي وظفت بشكل جميل , لخدمة مساق الاحداث , وفكرة الرواية , واعود لاقول لك , ان رواية " الكف تناطح المخرز " , هي عمل ادبي ناجح بامتياز , يقدم معالجات ادبية ونفسية وايدولوجية , بادوات المتمكن , ويتصدى لتقديم فكر , وخدمة قضية .

اخوكم
السمان

د . محمد أيوب
19-07-2006, 11:53 PM
سلام الـلـه عليكم
الاخ الاديب الدكتور محمد ايوب

رجعت الى الاجزاء : (1 و 2 ) من الرواية , قرأتهما من جديد , ثم بدأت بقراءة الاجزاء الجديدة من الرواية : (3 و4 ) , ووجدت نفسي محقا , فيما كتبت بتعليقي على الرواية حينها , فالعنصر الاهم , وهو التشويق , قد كان ناجحا الى حد بعيد , واسجل لك مقدرتك العالية , في عملية البناء , ومساقات التوتر , مع التفصيلات الدقيقة , التي وظفت بشكل جميل , لخدمة مساق الاحداث , وفكرة الرواية , واعود لاقول لك , ان رواية " الكف تناطح المخرز " , هي عمل ادبي ناجح بامتياز , يقدم معالجات ادبية ونفسية وايدولوجية , بادوات المتمكن , ويتصدى لتقديم فكر , وخدمة قضية .

اخوكم
السمان

أخي الدكتور محمد
أشكرك على حسن رأيك في الرواية وأرجو الله أن أكون عند حسن ظنك وأن تنال بقية أجزاء الرواية إعجاب القراء ، شهادتك أعتز بها
لك مني أطيب تحياتي
د . محمد أيوب

د . محمد أيوب
20-07-2006, 12:05 AM
[align=center][color=#FF0000][B][size=5][font=Simplified Arabic]الكف تناطح المخرز
رواية
بقلم : د . محمد أيوب
الفصل الرابع
( 4 )
الساعة تسير بخطى وئيدة .. بطيئة ، لا تريد أن تتحرك ، حتى الفجر ! فجر تلك الليلة الملعونة لا يريد أن يقترب ، عقرب الثواني سلحفاة بطيئة ، أين ذلك الجندب القافز باستمرار ؟ جالت دمعة حيرى في عيون زوجته ، صوت الصراصير موسيقى جاز همجية تلاحق سكون الليل ، عرسة تصرخ بألم ، ورائحة الأزهار اختلطت بندى الليل ، والليل .. الليل طويل.. طويل .
نظر إلى الساعة التي تجاوزت الثانية بعد منتصف الليل لتوها، بريق الدمعة الحيرى في عيون زوجته يتألق رغم ظلمة الليل ، ترى بماذا تفكرين ؟
أنا شخصيا أفكر في لا شيء ..لا شيء مطلقا!
استلب من شفتيه ابتسامة وتظاهر باللامبالاة :
- كان يجب أن تزغردي ، انتي بهاليوم ، حكومة بحالها خايفة من أولادنا .. من أطفالنا ، اغتصبت ابتسامة تطورت إلى ضحكة في مرحلة الولادة ، جالت الدمعة الحيرى في عينيها ، سكتت ولم تتكلم ، فكثيرا ما يكون الصمت أبلغ من الكلام .
خرج إلى الشارع ، النوم غادر الحارة إلى غير عودة ، الجيران يجلسون على الأرصفة ، أحاديث أشبه بالوشوشة تختلط بسكون الليل ، نور المصابيح المعلقة على أبواب المنازل في الحارة تصنع بؤرا ضوئية تحاصرها العتمة ، تصنع جداراً سميكا يحيط بالبؤر الضوئية ، ولسان الفجر يطل من بعيد ، يحدث عن اقتراب إطلالة النهار .
تمطى الكون وتثاءبت الطبيعة ، صحا النهار من غفوته ، شقشقت العصافير ، صوت بلبل بلون السعادة يهبط من أعلى شجرة في حوش المنزل ، تمترست الشمس خلف الأفق، أطلت بحذر وكأنها ترقب ما يحدث ، تتابعه بفضول ، غسل وجهه، أحس نشاطا غريبا في جسده، فتاء الشباب يعود إليه، رغبة في الصراع تلف كيانه ، كور قبضة يده بعنف ، لوح بها في الهواء ، بصق، صافح شعاع الشمس عينيه، كأنما ليذكره بواجباته ، لم يكن بحاجة إلى لبس ملابس الخروج، لم يستبدل ملابسه منذ تلك الزيارة اللعينة ، لبس ملابسه في لمح البصر فعل ذلك بآلية غريبة أذهلت زوار الليل ، فهم .. جنود الجيش الذي لا يقهر ، لا يستطيعون استبدال ملابسهم بمثل السرعة التي استبدل بها ذلك العربي ملابسه .
نظر إلى زوجته، اختلطت العبرة الحيرى في عينيها بلون السهر ، شحوب باهت يغطي وجهها ، ابتسم مشجعا :
- لا تقلقي إن تأخرت .
كانت لديه أفكار كثيرة ، لا بد من التوجه إلى مكتب الصليب الأحمر ، إلى مديرية التعليم ، إلى مكتب محام ، إلى .. إلى .. إلى ، إلا أنه لم يفكر في ذلك الشيء الذي فكر به جاره، أن يوسط احدهم لبحث الأمر، وإطلاق سراح الأولاد .
***
شارع البحر في خان يونس لم يصح بعد من غفوته ، تلاصقت بيوت المعسكر كأصابع اليد الواحدة ، استلقت البيوت على جانبي الطريق، وكأنها لم تأخذ نصيبها من الراحة ، المدارس ساكنة ، خالية من أية حياة ، شلال الحياة لم يتدفق نحوها بعد، مدرسة الشهيد مصطفى حافظ إلى يساره تقابلها المدرسة الإعدادية التي تربض إلى الشرق منها مدرسة عكا الإعدادية للبنات ، تقبع في حزن وسط مكان منخفض لافت للنظر ، ترى لماذا اختاروا لها هذا المكان الواضح الانخفاض ؟ هل كانوا يفكرون في وأد هذا الاسم أم في إحيائه ؟ ولماذا وضعت عكا بالذات في هذا المكان المنخفض ؟! ألأنها أم الجزار ؟! ألأنها لفت ساقا بساق وامتنعت من نابليون ؟ تلك العذراء التي لن تشيب .. ستظل عذراء حتى تأنس بعريس ترتضيه .
ألقى مستشفى ناصر ذراعا نحو مدرسة عكا الإعداية للبنات يريد أن يحتضنها ، أن يرفعها من ذلك المنخفض التي وضعت فيه رغما عنها ، الأنوار ما زالت تطل من نوافذ المستشفى ، للمستشفى رائحة خاصة تميزه عما حوله ، بوابة المستشفى الغربية مفتوحة على الدوام ، يفتح المستشفى صدره للناس ، بقلبه يحتضن آلامهم، غرفة الاستقبال تبدو من خلال البوابة ، أشاح بوجهه ، هل أجد لديهم علاجا لمثل حالتي ، هام ببصره في الفضاء ، مدارس الوكالة إلى يساره ، الإستاد الرياضي غير بعيد ، يقابله خزان المياه القديم قدم هذا المعسكر ، قدم المأساة التي عاشها بكل جوارحه، كانت هذه المنطقة إلى وقت قريب خالية إلا من أشجار الكازورينا والكينيا ، اقتلعت تلك الأشجار ، زرعوا بدلا منها بيوتا قرميدية بائسة ، أنبتت معسكرات اللاجئين .
الطريق تمتد أمام عينيه، بعض الناس يتوجهون إلى أعمالهم، سيارة هنا وأخرى هناك ، رائحة الفلافل المقلي تندفع عبر منخريه إلى رئتيه ، شعر برغبة حادة في تناول رغيف بالفلافل ولكنه لم يفعل بل تابع الخطى، دقت الساعة السادسة والنصف هنا دار الإذاعة الإسرائيلية ، إليكم موجزا لأهم الأنباء .. المجالس المحلية العربية تعلن الإضراب اليوم ، المساواة وما أدراك ما المساواة ، المساواة بعد أربعين عاما من نزول بركات الاحتلال التي يتحدثون عنها ، لم تتحقق المساواة لعرب الداخل .. المساواة ..الديموقراطية ، مجرد المساواة بين البشر ، حلم صعب المنال، يجب على الإنسان أن يناضل لتحقيقه ، لا تستطيع أن تحلم بالنهار كما تريد ، وفي الليل يصادرون الحلم ، كوابيسهم المزعجة تلاحقنا في أثناء النوم ، وفي النهار تصفعك حقيقتهم كل لحظة ، توقظك رغما عنك، تشدك من حلمك ، تلاحق أحلامك، تبعدها عنك ، تطاردها ، تقتلها ، عرب الداخل يطالبون بالمساواة ، وفي الخارج يحيون عرب الداخل ، عرب الخارج .. عرب الداخل .. الخط الأخضر ، ونحن ؟ من نحن ؟ عرب الداخل أم عرب الخارج؟ أم عرب اللاداخل واللاخارج ؟ أم عرب منطقة تقع في منتصف المسافة بين الداخل والخارج ؟ سكان المناطق المدارة ..المحتلة .. المحررة .. الضفة والقطاع.. القطاع والضفة .. يهودا والسامرة .. خيبل عزة " قطاع غزة " .. أين نحن ؟ في الداخل أم في الخارج ؟! عندما جاءوا الليلة قالوا يوم المساواة ، وقبله يوم الأرض ، وقبلها قالوا لبنان وما أدراك ما لبنان .. أنتم تؤيدون المخربين ، نحن همزة وصل بين الداخل والخارج .. نحن الداخل والخارج معا ، مع المساواة ، مع التحرير .. المساواة .. التحرير ، بعد أربعين سنة لم تتحقق المساواة في واحة الديموقراطية في الشرق الأوسط، يا حلما أفسد روعة الزمان والمكان ، يا حلما داهم صفاء عقولنا ، لوث جو الطمأنينة في النفوس ، لم تتحقق المساواة لعرب الداخل رغم انتمائهم لأب ليسوا من صلبه ، رغم حملهم بطاقات ليست لهم ، لم تتحقق المساواة لهم فكيف تتحقق لنا نحن ؟ نحن الذين يريدون لنا أن نكون نَوَر التاريخ، حتى النَوَر طالتهم نعمة الاحتلال، حدت من حركتهم، قيدتهم ببطاقات شخصية ، المساواة الانتماء ، واللانتماء ، اللامنتمي ، نحن بلا هوية حقيقية، نحمل بطاقات تائهة ، يخشون فلسطينيتنا ، ويخشون اعتبارنا مثل عرب الداخل ، يخشون تركنا في حالنا ، يخشون ، يخشون ، ولهذا لاحقتهم حالة اللاقرار عشرين عاما متتالية .
رائحة مسلخ البلدية تزكم الأنوف ، دم الحيوانات المذبوحة يتجول بحرية في شارع البحر ، يتحف السكان برائحته ، والمارة بقطراته التي ترسلها السيارات المسرعة ، ولون الدم يلوث شعاع الشمس المستلقي على الأرض ، وبيوت المعسكر تتجمع في وضع احتجاجي على هذه الرائحة الهمجية التي تصر على البقاء وسط السكان ، يجب أن يتمتع السكان برائحة ما ، فهم محرومون من حديقة عامة ، فلا أقل من التمتع بمرأى الحيوانات المذبوحة والمنقولة على عربات تجرها الحمير أو البغال ، ورائحة طفح الدم تصدمك على الريق ، تصد نفسك عن الطعام ، تجعلك تتقيأ أمعاءك ، تتقيأ جوفك .
قفز بعيدا فوق الرصيف ليتفادى رذاذ الدم المتطاير من عجلات سيارة عسكرية مرت بسرعة ، دق باب منزل المحامي الذي وجده مستيقظا .
ابتسم :
- صباح الخير
- صباح النور
وابتسامة عريضة تجلت على الشفتين ، استطرد المحامي وما زالت آثار الابتسامة تقبع فوق الشفتين :
- أراك تحمل الندى على رأسك ؟ إلى أين العزم ؟
- لدي مشاوير كثيرة .. أخذوا الأولاد .. أرجو أن تذهب إلى مكتب الصليب الأحمر في خان يونس ، أبلغه بالأمر ، حياد وسلام أخذوهم الليلة .. الساعة الثانية عشرة .
- كيف حدث ذلك ؟ولماذا ؟ أولادك في حالهم لا يفعلون شيئا.
- ليس مهما .
قالها ومد يده مصافحا ، زكمت أنفه رائحة طفح الدم المنبثق من مسلخ البلدية ، تحرك مسرعا ، حث الخطى ، الشارع ينحدر إلى الشرق ، وكأنه صمم خصيصا ليسمح لطفح الدم بالتدفق إلى وسط المدينة ، ليتحف أكبر عدد من السكان برائحته ، وصل إلى آخر الشارع ، نظر إلى الجنوب عله يجد سيارة قادمة من رفح فيها متسع لراكب ، لاحت له قلعة برقوق التي تتشبث بالأرض ، تقاوم محاولات الاقتلاع ، قديمة هذه القلعة قدم الأمل في نفوس البشر، جديدة متجددة مثل الشوق ، قبتها التي حطم الإنجليز معظمها، تقف شامخة، ترنو إلى السماء ، تبثها شوقها إلى الشمس بعد ليل طويل ، بوابة القلعة مفتوحة ، ساحة التاكسيات أمامها تبدو خالية بعد منع سيارات الأجرة من الوقوف فيها، حاجز من المواسير الممتدة إلى يساره ، مبنى البلدية يرقد في تراخ وهو ما زال يرنو إلى الجنوب ، تبدو سيارة مرسيدس قادمة من بعيد ، قلعة برقوق تطل عليه ، برقوق ، قطز ، المماليك، التتار ، الصليبيون ، ما أشبه الليلة بالبارحة ، وصلاح الدين، وما أدراك ما صلاح الدين ؟
اقتربت السيارة ، أشار بيده اليمنى . توقفت السيارة .
- غزة ؟ وفتح الباب ، صعد إلى السيارة ، اتخذ مكانه في المقعد الأوسط ، صافح سمعه صوت مارسيل خليفة يأتي عبر شريط مسجل ، وقفوني على الحدود، قال بدّون هويتي ، سرح بعيدا، الحدود ، الحدود، الحدود والهوية ، في كل شارع يريدون أن نثبت هويتنا ، عند كل منعطف يفاجئك جندي ، يفتشك من الرأس إلى القدم ، يدقق في هويتك ، يسألك عن اسمك ، كأنه لا يعرف القراءة ، وكأنك لا تعرف اسمك أو تنتحل شخصية غيرك ، وكثيرا ما يطلب منك أن تذكر رقم هويتك عن ظهر قلب،وقفوني على الحدود قال بدّون هويتي!التفت،الكتيبة تستلقي على يسار الطريق ، الكتيبة ! أصر الناس على إطلاق هذا لاسم على أول مشروع إسكان تقيمه سلطات الاحتلال بعد أن فتحت عدة شوارع أمنية في المعسكر ، أطلقت عليه اسم حي الأمل "أ" ، وسماها السكان " الشقيري والكتيبة " ، فقد كانت كتيبة القوات الفلسطينية قبل هزيمة حزيران تقبع هنا، هبت رائحة أشجار البرتقال من البيارات المحاذية للطريق ، توقفت السيارة عند مفترق القرارة ، جوش قطيف ، ناحال حازاني ، في هذا المكان وقعت معركة رهيبة ، ومع ذلك خسرنا ، وقبعت في المكان وإلى الغرب ناحال حازاني وجوش قطيف قذىً في عيوننا، الدوريات العسكرية تنتشر على جوانب الطريق أقل من المعتاد ، بدت مستوطنة كفار داروم عن بعد ، عرفها من رائحتها ، رائحة مجاريها ، فقبل أن تنبت كفار داروم في هذه المنطقة لم يكن المرء يشم سوى رائحة زهر البرتقال ، أما الآن فمياه المجاري تتسلل عبر وادي السلقا من تحت جسر السكة الحديد متجهة إلى الغرب وكأنها تحاول الالتقاء بطفح الدم الوارد من مسلخ البلدية في خان يونس لاحاطة السكان بسياج واق من الرائحة الغريبة ، والسيارات تسير، مارسيل خليفة يغني، وقفوني ع الحدود، المعسكرات الوسطى تقبع في هدوء، معسكر المغازي يقابلك أولا من على يمينك، ثم النصيرات يقع في حضن البحر عن يسارك،وقبل وادي غزة وعلى اليمين يرقد مخيم البريج، يتذكر مستشفى الأمراض الصدرية ، زيارته لصديق له رقد فترة هناك ، في هذا المستشفى شعر بخوف غريزي يومها، كان يشعر أن الهواء يحمل ميكروبات السل إلى رئتيه في كل شهيق ، كان يود لو يكتم أنفاسه فلا يتنفس إلا بعد خروجه من المستشفى ، بل من منطقة البريج كلها، الواقف أمام مدخل المستشفى يستطيع مشاهدة الحدود.. الخط الأخضر .. بوضوح وبالعين المجردة ، حتى مستشفى الأمراض الصدرية لم يسلم من القصف المدفعي قبل حرب حزيران ، وادي غزة يستلقي تحت عجلات السيارة، ها قد اقتربنا، ما أبطأ هذا السائق! لافتة كبيرة تطل من بعيد، تقترب،سهم يشير إلى الشرق، بئر السبع، وسهم يشير إلى الغرب ، نتساريم ، هذا الطفح الجلدي الذي شوه بشرة الأرض ، وانطلقت السيارة، قوس كبير يفحج ساقيه فوق الطريق، وكلمات ترحيب باهتة ، غزة ترحب بكم، ويلكم تو جازا " مرحبا في غزة " ، بروخيم هابائيم" أهلا بالقادمين " ،التفت إلى الوراء ، الوجه الثاني للقوس يقول للخارجين رافقتكم السلامة ، جود فوييج " رحلة طيبة " .
*******

د . محمد أيوب
20-07-2006, 12:08 AM
الكف تناطح المخرز
رواية
بقلم : د . محمد أيوب
بقية الفصل الرابع
4
شارع عمر المختار يبدو شبه خال من المارة ، سوق فراس بمحاله المتلاصقة إلى اليسار ، حاجز من الشبك والمواسير الحديدية يقسم الشارع إلى نصفين أعمدة النور تحتمي بقواعد إسمنتية ضخمة تقف شاهدا على الاحتلال ، تذكر بالكفاح المسلح، شركة الكهرباء القطرية تأبى رؤيتنا نضيء بيوتنا بطريقة بدائية تعلمنا معنى الاستقلال ، ويمتد الطريق ، منتزه بلدية غزة، السور الجديد للمنتزه يصافح أشعة الشمس فتنعكس إلى العين مزيجا من نور الأشجار والأزهار داخل المنتزه لم تستيقظ بعد ، ود لو يوقظها من سباتها ، ولكن..، ارتفع صوت بارد من المذياع، نوماتسين.. ودعاية للرشح أو ضد الرشح! لم ينتبه ، ودعاية أخرى لمادة تنظيف الصحون ، للجلي، ها هو شارع الجلاء ، سينما الجلاء ، عيد الجلاء ، طلب من سائق السيارة البيجو أن يتوقف، ترجل من السيارة، صفعه منظر السجن المركزي وهو يحتضن مسجدا صغيرا، ترى كيف يتعايش المسجد مع السجن؟! وكيف احتضن السجن المسجد؟! برج المراقبة يقف على الناصية الشمالية الغربية للسجن، يمسح مفترق الطرق ويتحكم في شارع عمر المختار من الشرق إلى الغرب ومن الغرب إلى الشرق وفي شارع الجلاء من الشمال إلى الجنوب ومن الجنوب إلى الشمال ، هنا دار الإذاعة الإسرائيلية .. إليكم الآن نشرة الأخبار أستهلها بالموجز..إليكم الأنباء بالتفصيل ، ألقيت زجاجة حارقة على سيارة عسكرية ، ولم يصب أحد بأذى، وتقوم قوات الأمن بأعمال التمشيط في المنطقة ، وصلت إلى قطاع غزة أمس البعثة المصرية للإشراف على امتحانات الثانوية العامة ، يوم المساواة ،الإدارة المدنية، التفت إلى الشرق قبل أن يقطع الشارع إلى الجنوب ، مبنى الإدارة غير بعيد.. بدت الأسلاك الشائكة والبوابة الواسعة التي أغلقت ببراميل ملئت بالباطون بعد العمليات الانتحارية في لبنان استبدلوها ببوابة تفتح على الغرب ، صوت إسرائيل ما زال ينبعث من المقهى المجاور ، عاليا، صاخبا، كأنما يريد إيقاظ أولئك الذين ما زالوا يغرقون في النوم ،إليكم الآن عناوين الصحف المحلية ، عبر الشارع بعد أن التفت إلى يساره ناحية الشرق ثم إلى يمينه ناحية الغرب ، أصبح على الرصيف الآخر ، تحت برج المراقبة مباشرة ، وبمحاذاة الأسلاك الشائكة التي استولت على الرصيف ، بكامله لتحمي البرج - هذه النبتة الغريبة- من أية رياح محلية ، اضطر إلى المشي على الاسفلت ، دار يسارا متجها نحو الجنوب ، برج آخر يقبع على بعد حوالي مائة متر ، وبوابة أخرى لا يدري إلى أين تفضي، لم يهتم بقراءة اللافتة، لاحت لافتة بيضاء كبيرة ..مديرية التربية والتعليم، كانت اللافتة قبل يومين ذات لونين يتقاسمانها إلى مثلثين ..أخضر وأصفر ، وها هي الآن بلون أبيض مجرد تغيير ألوان وصياغة العناوين من جديد، ثم يبقى كل شيء على حاله لا يتغير ، ضحك على الذقون لا أكثر، جندي يجلس على كرسي بظهر إلى يسار الداخل تقابله غرفة صغيرة ، في الواجهة باحة صغيرة، درج إلى اليمين يصعد إلى الطابق الثاني ، حيث مكاتب مديرية التربية والتعليم ، والباحة الصغيرة تقود إلى باحة داخلية أوسع، تجاوز الدرج إلى الباحة الداخلية، في جنوب الباحة توجد غرفة الامتحانات ، موظفان كبيران في الإدارة يجلسان عند مدخل قسم الامتحانات كأنهما ينتظران أحدا ما ، تقدم نحوهما :
- صباح الخير
هبا واقفين، صافحاه بحرارة ، ربما اعتقدا أن له صلة بالامتحانات أو بالبعثة المصرية ، قال أحدهما :
- تفضل اجلس .
شكره ولم يجلس ، وصل إلى المكان رجل وامرأة ،قالت المرأة :
- صباح الخير .
رد أحد الرجلين :
- يا صباح الورد، انتظرناكم بالأمس مدة طويلة، فماذا حدث؟
ابتسمت المرأة:
- تأخرنا في نقطة العبور
قال أبو حياد:
- أريد التحدث إلى السيد المسئول .
بابتسامة عريضة قال الرجل :خدمة ؟
- لقد أخذوا أبنائي الليلة ، وأنت تعرف أن الامتحان على الأبواب .
ماتت الابتسامة على شفتيه لحظة ولادتها :
- وماذا أستطيع أن أفعل لك؟!
- أولادي لم يفعلوا شيئا، إنهم يفعلون ذلك مع مئات الطلاب كل عام يعتقلون الطالب بضع ساعات في أول أيام الامتحان أو بضعة أيام قبله أو خلاله ، وببساطة يضيع جهد سنوات.
- وماذا أستطيع أن أفعل ؟
- أدرك أنك لا تستطيع فعل شيء، إنه منصب فخري ، تماما مثل الدكتوراه الفخرية، ولكني أتساءل كيف تقبل ذلك ؟ أبناؤنا هم أبناؤكم، يحطمونهم كل يوم، وبدون أسباب ثم يدعي كل منكم أنه عبد مأمور .. طرطور أو ما شابه، قولوا لا ولو مرة واحدة ، وانظروا ماذا يمكن أن يفعلوا ؟!
بان الذهول على وجه السيدة المصرية ، لم تنطق بكلمة واحدة ، لكن عينيها نطقتا بكل ما يجول في خاطرها.. هؤلاء الفلسطينيون يناطحون قوة تخيف العرب كلهم ، يناطحونها دون كلل، يشتمون ويزعقون، يلقون الزجاجات الحارقة ، يتظاهرون، وأنا يكاد يسقط قلبي بين قدمي، أنتظر بفارغ الصبر العودة إلى مصر، أنا أخاف من اليهود رغم كامب ديفيد، رغم الاتفاقيات التي بيننا .. كل عند اليهودي ونام عند النصراني .. هكذا تعلمت وهي صغيرة، وبدلا من أن نحذر من اليهود، بدءوا يزرعون فينا الحذر من النصارى،يخلقون المشاكل بيننا وبينهم ، ترى هل نحن على الطريق الصحيح؟
استمر صوت الرجل يدق طبلتي الأذن :
- لا أريدك أن ترجو أحدا، فقط أردت أن الفت النظر إلى خطورة الأمر .. يكفيهم استفزازا لنا ، سأذهب إلى الصليب، إلى مراسلي وكالات الأنباء ، إلى المحامين ، سأتحدث ولن أخشى شيئا.
عند تقاطع شارع الوحدة مع شارع الجلاء يقع مكتب الصليب الأحمر بغزة تحرك ببطء، قطع شارع عمر المختار من الجنوب إلي الشمال، ترك بُرجَي المراقبة خلفه ، التفت يسارا، والتفت يمينا، ثم عبر الشاعر، أصبح على الرصيف الآخر ، نظر جهة الشمال، سينما الجلاء وما أدراك ما الجلاء، أفضل صابون للجلي .. ترى هل اشتقت كلمة الجلاء من الجلي، وما هو أفضل صابون لتحقيق الجلاء ؟ هل يأتي يوم تذيع فيه الإذاعة الإسرائيلية دعاية لمثل هذا الصابون، الجلاء والجلي ، النحو والاشتقاق النحو والصرف، اللغة، الدعاية والادعاء ، التنظيف والقاذورات، أفضل صابون للجلي .. هنا دار الإذاعة الإسرائيلية، رائحة الفلافل المقلي تلاحقه، المعدة الخاوية تلاحقه، مشاويره تلاحقه.. إلى أين؟ استمر في المشي ، مكتب الصليب الأحمر ليس بعيدا، ارتفعت الشمس قليلا، غطى النور أرض الشارع، ظلال المنازل العالية تفترش الأرض ، رائحة الياسمين ما زالت تهب مع نسمة الصباح يقترب منه مكتب الصليب الأحمر، يدلف إلى الداخل ، يسأل أحدهم:
-أخذوا أولادي الليلة، فماذا أفعل؟
انتظر في هذه الغرفة، بعد قليل تحضر المسئولة عن مثل هذه الحالات.
انتظر ، الثواني تمر بطيئة جدا، والمسئولة لم تأت بعد، نظر إلى ساعته للمرة العاشرة ، لم يتحرك عقرب الدقائق خطوة واحدة ، وبعد فترة خالها سنة كاملة حضرت المسئولة ، حدثها في الأمر ، حياد في التوجيهي، سلام قدم الامتحان، في الصف الأول الثانوي، أمسكت ورقة وقلما ، سجلت المعلومات، وعدته أن تبذل قصارى جهدها في سبيل الإفراج عن حياد حتى لا يخسر الامتحان .
اختنق صوته وهو يشكرها،صافحها وخرج مسرعا، كاد يضعف ، قاوم الضعف في نفسه ، حاول إخفاء دمعة انزلقت من عينيه ، خرج لا يلوي على شيء ، ولو يا أبو حياد، أنت أول واحد بياخذوا أولاده؟ بالتأكيد لا، ولن تكون آخر واحد يأخذون أولاده، شد حيلك يا راجل ، شدة وتعدي ، شارع عمر المختار يصافح ناظريه من جديد، عبور جديد نحو برج المراقبة والأسلاك المحيطة، عبور وعبور مضاد، ثم عبور جديد وصبرنا وعبرنا ، وفايدة كامل ، وبالبندقية رفعنا العلم ورفعنا، وربك نصرنا ، وربك نصرنا، وربك نصرنا، وربك نصرنا ، وهذا البرج الذي يبصق في عين السماء وهذه الأسلاك الشائكة التي تحرمنا نعمة السير على الرصيف، وهذا الجندي القابع خلف زجاج البرج يتفحص المارة في حذر، وذلك السجن الذي يحتضن المسجد، وهذا المسجد المتلفع بأسوار السجن، والعبور والعبور المضاد ، الدفرسوار، كبريت، فايد .. حرب أكتوبر ،السويس، الكيلو"101" ، ويا بيوت السويس يا بيوت مدينتي، واختراق الحاجز النفسي ، والعبور الجديد نحو السلام، مسيرة السلام ، إلى أين قادتنا؟ هل ذقنا طعم السلام؟ هل أنجبت حرب أكتوبر سلاما حقيقيا؟ تلك الحرب التي قالوا إنها آخر الحروب ، فهل كانت كذلك؟ بصق باشمئزاز، نظر الجندي إليه في ريبة، ربما اعتقد أنه يبصق عليه، على الرغم من أن لعابه انقذف إلى الأرض، ولم يتجه إلى أعلى، هؤلاء الجنود عندهم حساسية مفرطة تجاه أية حركة مريبة تبدو من أي عربي ، فربما كانت البصقة عملا تخريبيا يجب أن يعاقب عليه قانونهم العسكري ، ربما اخترعوا مادة يحاكمون بموجبها أولئك الذين يبصقون على الأرض في وجود أحد العسكريين.. ربما .
******
ساحة التاكسيات في غزة،أو ساحة فلسطين كما يكرهون تسميتها ، تكاد تخلو إلا من بعض السيارات ، بعض السائقين ينادي ، أصواتهم تختلط خان يونس ، رفح ، نابلس .. رام الله.. القدس سأله أحدهم:
- إلى أين؟
- إلى القدس .
أشار له السائق .. القدس ، فتح الباب ، ركب السيارة . باعة الصحف يتسابقون بين السيارات ، أطفال في عمر الزهور ، تركوا المدارس لسبب من الأسباب ، تسربوا في سن مبكرة ، لو أن لنا دولة لما تركت هؤلاء الأطفال يتوهون في الشارع .. القدس ، النهار ، القدس .. أخبار الإضراب ، يوم المساواة ، تقدم منه طفل ، قدم له جريدة النهار ، ابتسم للطفل: هل طلع النهار ؟ هز الطفل كتفيه ومد الصحيفة بإلحاح، سأله:هل معك الشعب ؟ هز الطفل رأسه علامة النفي، هل معك الفجر ؟ نفى الطفل، إذن أعطني القدس، تناول الصحيفة، أخذ يقفز ببصره بين العناوين كأنه يبحث عن شيء محدد!
تنفس الركاب الصعداء حين أدار السائق مفتاح السيارة، فأصدرت صوتا أشبه باحتجاج طفل يريد لعبة لم يحصل عليها بعد، تحركت السيارة ، ساحة الشجاعية تكاد تكون خالية من السيارات أو المارة ، العمال على غير المعتاد ، لا يوجد منهم أحد، السيارة تطوي الأرض ، مصنع السفن أب..مفترق جباليا يقترب ،آثار عجلات مطاطية مشتعلة ، بقايا متاريس ترقد على جانبي الطريق، المنطقة الصناعية تطل من بعيد، دخان يتصاعد من بعض المداخن، يختلف عن دخان المطاط المشتعل ، له طعم آخر غريب، حاجز إيرز، عين شيطانية تختلس النظر إلى كل من هب ودب ، جنود يتسكعون هنا وهناك، شخص بملابس مدنية يقف وفي يده أوراق ينظر إلى السيارات الرائحة والغادية بعين متفحصة، اقتربت السيارة من الحاجز، أبطأ السائق من سرعته حتى كاد يتوقف، انحنى جندي وأطل داخل السيارة ، طلب من أحد الركاب هويته، نظر إلى الهوية دون اكتراث، ثم أعادها وأشار للسائق أن يمشي، جسر ضيق يلوح عن بعد، يافطة تحمل اسم يد مردخاي .. " دير سنيد سابقا "،المجدل تقترب منهم بسرعة جنونية، فالطريق تكاد تكون خالية إلا من بعض السيارات ذات الرقم الأصفر، الرمزور " الإشارة الضوئية " يطل عليهم بعين حمراء تهددهم بالتوقف.. لو أنني أستطيع البصق في عينك، لو أنني أستطيع لفعلت، أشعر أن الرمزور يتعمد إيقاف من هو في عجلة من أمره، يتعمد أن يطيل فترة الوقوف، رفع السائق قدمه عن الفرامل، فقد انقلب اللون الأحمر إلى أصفر، ثم أطلت عين خضراء، فاندفعت السيارة في طريقها .
وجه حديثه للسائق:
- لا توجد سيارات عربية على الطريق، ما السبب يا ترى؟
ابتسم السائق، نظر إليه من خلال المرآة،ونظر إلى الصحيفة نظرة ذات مغزى:
- ألم تسمع بالإضراب .
تجاهل الأمر :
- أي إضراب ؟
أجاب السائق: يوم المساواة ؟
ضحك : مساواة ؟ لمن ومع من؟
بدا الغضب على وجه السائق:
- بين العرب واليهود.
بسخرية: إذن لماذا لم تضرب اليوم؟
انفجر غضب السائق :
- تريدني أن أشارك في الإضراب، إذن اضمن لي دخلا بديلا، لا تقل لي انه مجرد يوم، أيام الاحتجاج أكثر من أن تعد، لو أن لنا نقابة حقيقية، لو أن النقابات تدفع لأعضائها أجرة نصف يوم عمل .. أو ربع يوم عمل ، لما وجدت أحدا يخرج عن الإضراب ، أريد أن أسألك:
- أين تذهب أموال الصمود؟ من المستفيد منها ، وهل يستفيد الفقراء منها شيئا؟ الأغنياء فقط هم الصامدون على غناهم، هم الذين تتسع جيوبهم لأموال الصمود ! لو أنني أدخلت بعضا من أموال الصمود أو حصلت على جزء منها لوضعوني في السجن، أما هم، هؤلاء الأغنياء ، يروحون ويجيئون دون أن يعترضهم أحد على جانبي الحدود،عِلق البر،عِلق البحر ، قال:
ومع ذلك لم يذهب العمال إلى أعمالهم اليوم.
استطرد السائق وكأنه يكمل حديثه:
- العمال أحسن من أنظف لحية في البلد، أنظف من أغنياء البلد، إضراب يعني إضراب ، فكرك أنا طالع الشغل بمزاجي، المعلم صاحب السيارة، رأسه وألف سيف إن ما سرحت اليوم ليطردني ويشغل غيري مطرحي ، السواقين زي الهم على القلب، ما قلتلك مالناش نقابة تسهر على مصالحنا وتحمينا من غول اسمه الطمع.
وهبت نسمة صباحية حملها شعاع شمس اقتحم السيارة لدى التفافها نحو اليمين، دير اللطرون يربض بين الأشجار،القدس تقترب ، وتلك الدبابة التي تقف فوق منصة عالية وكأنها تهدد السماء بسبابتها المعدنية، فهل خافت السماء وعيد تلك الدبابة التي كانت أول دبابة تقتحم الضفة الغربية في حرب حزيران؟ القدس تقترب.. القدس لنا يا فيروز .. القدس يا ابن الخطاب .. القدس تقترب، ترى هل أعطى الرب القدس ليعقوب بعد أن انتصر يعقوب عليه ، وهل حقيقة انتصر يعقوب على الرب ولم يتركه إلا بعد أن أعطاه القدس وما حولها من أرض فلسطين، القدس، الصمود والتصدي، أموال الصمود التي تتحول إلى عمارات يزرعها الأغنياء الصامدون مسامير في عيون الفقراء ، إلى معاصر زيتون لم تعد تجد ما يكفيها – لكثرتها- من ثمار الزيتون لتعصره، فتعتصر جهد العمال وعرقهم ، أموال الصمود التي اشترى بها الصامدون من الأغنياء أراض في مصر خشية ان تنجح سياسة الترانسفير " الترحيل أو الطرد " فيطردهم اليهود من هذه الأرض كما طردوهم أول مرة ، هؤلاء الأغنياء يأخذون أموال الصمود علنا، ويعبثون بأصابعهم الوسطى في إست الثورة سرا، يجاملون الاحتلال ويلعنون دين الثورة في السر، ويهتفون بحياة الثورة والقائد في العلن، ويحيون الأخوة قادة العرب وغير العرب .
تنحنح أحد الركاب في المقعد الخلفي وقال:
- أنت تظلم الأغنياء يا أخي ، ألم يشارك الأغنياء في صنع الثورة، الغنى ليس عيبا في الإنسان.
تنهد السائق بأسى:
- أنا أظلم الأغنياء ، أنا المظلوم أصبح ظالما، هل يمكن أن تخبرني كيف يصبح الغني غنيا؟
أجاب الراكب من المقعد الخلفي :
- رزقكم في السماء وما توعدون.
ثم أردف:
- لكل مجتهد نصيب يا أخي .
- ولكني أحرث طول عمري كالحمار ومع ذلك لم أصبح غنيا! فهل يجتهد الأغنياء أكثر مني ولذلك تأتيهم أموال الصمود! لماذا تنبت هذه العمارات وهذه المشاريع التي لا نستفيد منها باسم الصمود ؟لماذا؟
مسح الراكب في المقعد الخلفي لحيته بيده:
- تستطيع أن تأخذ قرضا وأن تبني عمارة مثلهم.
ضحك بمرارة : منين لي الأرض يا حسرة، شرط أساسي يكون عندك أرض حتى يوافقوا على القرض.
تدخل راكب آخر:
- يا جماعة : قيام الدولة سيحل كل المشاكل.
ضحك أبو حياد:
- أية دولة ؟ دولة الأغنياء ؟ أم دولة الفقراء ؟ دولة يتغير فيها الظالم ويبقى الظلم والمظلومون على حالهم، نريد دولة يتساوى فيها الجميع، ينال الجميع حقوقهم.
ابتسم السائق:
- والله ما بدنا دولة تخلي وضعنا على حاله، الموت أرحم من ظلم القريب وابن البلد، توقفت السيارة أمام حاجز شرطة ، إلى اليمين، تناثرت كلمات عشبية فوق منحدر بسيط، حروف عبرية قصوها في الأعشاب المزروعة .. بروخيم هبائيم ليوروشلايم " مرحبا بالقادمين إلى القدس" ، طلب الشرطي الهويات أخذ يسجل الأسماء في ورقة معه، طلب رخصة السائق ، حقيبة الإسعاف، الطفاية، فتح باب السيارة من الخلف، بحث فيها عن ممنوعات ،ألقى نظرة متشككة على الركاب ، ثم أعاد لهم هوياتهم.
انطلقت السيارة ، عبر السائق شارع يافا، اليهود المتدينون يروحون ويجيئون بلا عمل ، يبدو أنهم يقضون أوقاتهم في تمشيط لحاهم، وتجديل شعر سوالفهم.
وجه أبو حياد حديثه للسائق:
- أريد أن تدلني على مكتب المحامية فيليتسيا لانغر.
ابتسم السائق ابتسامة أكبر من الألم الذي يختزنه بين ضلوعه:
- سأوصل الركاب إلى الموقف وأحجز دورا ثم أعود بك إلى مكتبها.
خيم الصمت على الركاب ، سعل الراكب من المقعد الخلفي سعلة حادة، مسح لحيته بيده:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
ثم وجه حديثه إلى (أبو حياد) :
- يا راجل غزة كلها ما فيش فيها محامين؟ مش لاقي إلا هالكافرة ؟
- وهل عندك أفضل منها.
- نعم يا أخي ، هناك محام له علاقة طيبة مع بيرس شخصيا، لو ذهبت إليه لساعدك كثيرا.
- يا أخي لو وقعت في محنة لا سمح الله ، وخيرت بين صديق بيرس وبين فيليتسيا لانغر فمن تختار ؟
قال راكب : فيليتسيا بالتأكيد.
توقفت السيارة ، قال السائق للركاب :
- حمد لله على السلامة.
ثم استأذن من أبي حياد، سجل اسمه ليحفظ دوره،عاد إلى السيارة ، أدار محركها توجه إلى مكتب المحامية في القدس الغربية، دارت السيارة عدة مرات ، عبرت أكثر من شارع، ثم توقف السائق، نزلا من السيارة ، صعدا إلى بناية لها عدة مداخل ، تجاوزا المدخل الأول والثاني والثالث ، توقفا قليلا، اعتقد أن المكتب هنا، قال السائق، وصعدا الدرج، صافحت عيونهما ورقة معلقة على باب المكتب .. المكتب مغلق بسبب المشاركة في إضراب يوم المساواة ، قفل عائدا، قرر أن يوصي صديقا له أن ينوب عنه في توكيل المحاميـة غـدا .[/font][/size][/B][/color][/align]

د . محمد أيوب
22-07-2006, 11:32 PM
الكف تناطح المخرز
رواية
بقلم : د . محمد أيوب
الفصل الخامس

(5)
لكمه الجندي في صدره لكمة قوية ، تراجع إلى الوراء قليلا ، انفجر غضب أبيه:
- لا تضرب ابني.
- لم أضربه.
- بل ضربته.
قال الشرطي المدني في هدوء:
- لا تضربه
ثم التفت إلى أبي حياد:
اهدأ يا حاج لن يضربه مرة ثانية. هرول الجنود نحو سيارة كانت تقف عند منعطف قريب ، كان أحدهم يدفع "حياد" بعنف، وآخر يجر "سلام" من يده، توقف الجنود بجانب السيارة وضعوا يدي حياد خلف ظهره وأحاطوها بسوار بلاستيكي رفيع، وكذلك فعلوا مع سلام، ربطوا قطعا من القماش فوق عيونهما ، ربطوهما بشدة أحس معها حياد أن قطعة القماش تضغط على عينيه حتى تكاد تخرجهما من محجريهما .
صاح أحد الجنود:
- اطلع
همس حياد: على فين ؟
لكمه الجندي:
- اطلع في السيارة .
تقدم ببطء وحذر ، اصطدم بمؤخرة السيارة الباور، كيف أصعد السيارة وأنا معصوب العينين مربوط اليدين.
لكمه الجندي :
- أنت ما بتفهم ،اطلع في السيارة .
رفع حياد قدمه اليمنى بعد أن قدر ارتفاع السيارة عن الأرض، حاول الاتكاء بقدمه على جسم السيارة ولكنه أخطأه ومال حتى كاد يقع، قهقه جندي، ولكمه آخر، وصاح ثالث:
- اقذفوه في السيارة .
تناولته أيد بلا رحمة، قذفوا به داخل السيارة، أحس بجسم آخر يتبعه، لا بد أنه جسم أخيه، هدأت نفسه قليلا ،عاجله جندي بضربة من مقدمة حذائه العسكري في جانبه الأيمن ، آلمته الضربة، لم يتأوه، كتم أنفاسه، ربما جاءوا بوالده، لا يريد أن يقلق أبوه عليه، سيتحمل كل ما يفعلونه به، سيتحداهم بصمت ليثبت أنه أقوى منهم، حاول التخلص من السوار البلاستيكي، كان يظن أنه إذا حرك يديه يتسع السوار ويخلص يديه منه ، لكن السوار اللعين كان يضيق مع كل حركة تصدر عن يديه،آلام فظيعة تلاحقه،كان سكينا ثلمة تقص لحم يديه، تحاول قطع رسغيه ببطء وعناد، تحاول فصل الكفين عن الذراعين، لكأنهم يخشون راحة اليد، يودون التخلص منها، خنقها، منع الدماء من الوصول إليها حتى تموت، تذكر ذلك بعد فترة ليست بالبعيدة .. أقل من ستة أشهر، كأنهم كانوا يقرأون الكف، يطالعون الغيب، كأنهم كانوا يعرفون أن هذه الأيدي ، راحات اليد هذه، هذه الأكف الطرية الناعمة ستتحول إلى مقاليع، تصبح طيرا أبابيل، تطير باستمرار لتنشر الغضب في كل مكان، حفرت الأساور في جلد الرسغ أخدودا بدأ يسيل من الدم بطيئا.. بطيئا، والسيارة لم تتحرك بعد، وبعد فترة خالها عمرا بحاله . جأر محرك السيارة ، اندفعت في اتجاه ما ، لا يدري إلي أين ؟ المهم أنها تحركت ، وسيصبح المجهول معلوما بعد قليل، رياح ندية تحمل بشرى الفجر المقترب تلامس جسده، يشعر بانتعاش رعشة خفيفة تداعب جسده، أهي رعشة الخوف ، أم القلق مما تحمله اللحظات التالية، ترى ماذا سيقولون له؟ وبماذا سيجيب، هو الذي لم يفعل في حياته شيئا يمكن أن يقوده لمثل هذا الموقف، هو الذي عاش حياته بلا طعم ولا لون ولا رائحة، متعادل كملح الطعام، إلى متى سيظل حيادا كما أراد له أبوه، وهل بعد ضياع الامتحان يبقى للحياد معنى؟ وسلام أخي ، ماذا فعل هو الآخر ؟ وبماذا سيجيب؟ وما هي خبرته في الحياة ؟ وهل يمكن الركون إليه، أم أنه سيكون هشا ويلبس ثوبا ليس له؟ ولكمة أخرى، وضربة بمؤخرة بندقية تصيب رأسه، افعلوا ما شئتم فلن تفرحوا بها ، لا، لن أقولها ، لن تسمع كلمة آه مني حتى ولو قتلتموني.
*********
تناثرت كلمات عبرية من أفواه الجنود، ممزيريم " أولاد حرام " ، جوكيم " صراصير " ، يوم المساواة ، وبصق أحد الجنود عليهم:
- بدكم أرض يا ممزيريم، بدكم مساواة ، يوم المساواة.
وأطلق ضحكة هستيرية : مساواة يا ممزيريم.
صوت أشبه بصوت مزلاج حديدي، أو احتكاك مواسير ببعضها ، رافق توقف السيارة التي كانت قد أبطأت سيرها، انحرفت السيارة يمينا، سمع صوت تقافز الجنود من السيارة، توقفت سيارة أخرى خلف السيارة الأولى، وقفز جنود آخرون ، صراخ الجنود يملأ المكان، كلمات عبرية مختلطة، هرج ومرج، ضوء مصابيح قوية يتسلل إلى عينيه من تحت العصبة، صوت آذان الفجر يغطي على رطن الجنود ورطانتهم، أحس براحة غريبة، الله أكبر.. الله أكبر، كان المكان جزيرة ضوئية في بحيرة الظلام، سحبه جندي من ياقته، اعتدل، جذبه بعنف،، أرخى يده فوقع على الأرض، ثم وقع فوقه جسم آخر، لعله جسم أخيه، وصوت وقوع جسم ثالث، ورابع، و..
- قوموا .
دفعهم الجندي بشراسة إلى جدار قريب حتى كادوا يدقون رءوسهم بالجدار، أوقفوهم، بدءوا يقصون الأساور البلاستيكية التي ربطوا بها أيديهم، أحس أن راحتي يديه قد انفصلتا عن ذراعيه، لم يشعر أن الكلابشات قد نزعت من رسغيه، ثم بدأ الإحساس يتسلل رويدا رويدا إلى راحتي اليدين ، وكأن الحياة بدأت تدب فيهما من جديد، كما غزا النور عينيه بقوة متوحشة حين رفع الجندي تلك العصبة عن عينيه، ألقى نظرة إلى يمينه، لم يعرف الواقف بجانبه، ثم مال بنظره إلى يساره،خامره شعور بالارتياح، أخوه سلام إلى جانبه، الحمد لله ، إنه بخير.
ارتفع صوت آمر:
- خذوهم إلى الزنزانة.
واقتادهم الجنود إلى غرفة من الزنك ركبت داخل حفرة في الأرض ذات بوابة صفراء، ورائحة عطنة، تشع منها رطوبة قاتلة، دفعوهم داخل الزنزانة، ألقوا لهم ببعض البطاطين، صاح جندي:
- ناموا .. يلا ناموا.
لم تكن الغرفة تتسع لذلك العدد الذي دفعوا به إلى داخلها، وبعد إقفال الباب ، بدأ الحر يشدد الخناق عليهم تدريجيا، امتزجت الحرارة بالرطوبة برائحة العرق، كأنهم سميكات في علبة سردين محكمة الإغلاق خشية التلف! ترى هل يريدون تحنيطنا هنا؟! هل يريدون حفظنا من التلف ؟ أم يريدون قتلنا ببطء؟ ..
تسلل نور الصباح من ثقوب في السقف الصفيح، ها هي عيون النهار تطل علينا ، تحمل معاني كثيرة، وأسئلة أكثر ، هل سنبقى هنا؟ والى متى؟ متى سيبدأون التحقيق معنا؟ وهل؟ وهل؟ وهل ؟
سمعوا صوت احتكاك مفاتيح، وخطوات تقترب ، يد تعبث بباب الزنزانة، ثم فتح باب الزنزانة، أطل عليهم وجه جندي ، أشار إلى أحدهم تعال ، نهض، ذهب إلى الجندي، أخرجه من الزنزانة، أغلق الباب، سمعوا وقع خطوات تبتعد شيئا فشيئا، حتى اختفى صوت وقع الخطوات، اشرأبت أعناقهم أصاخوا السمع، خيم هدوء قاتل على المكان، حتى كاد كل منهم يسمع صوت تردد أنفاسه، هل بدأ التحقيق؟ وماذا يريدون منا؟ ولماذا نحن هنا؟
عاد وقع الخطوات من جديد، صرير المفاتيح المزعج، لمن الدور الآن؟ وأين ذهب رفيقنا الأول؟ ماذا فعلوا به؟ استقر القلق في مآقيهم وتناثرت التساؤلات من عيونهم، لَفَّهم الصمت بردائه، يترقبون الخطوات المقتربة، خطوات أكثر من شخص، التصق كل منهم بالجدار وكأنه كتكوت يخشى أن تختطفه حدأة لحوح، تذكر حياد حدوتة الغولة التي طالما حكتها له جدته، كانت الغولة تستضيف بعض الأشخاص في بيتها ، لم يكونوا يعرفون أنها الغولة، تقدم لهم من الطعام ما لذ وطاب ، وتسقيهم أفضل الشراب ، ثم تأتي كل ليلة تتحسسهم وهم نيام لتتأكد إن كانوا سمنوا ، لتختار منهم من تأكله فيما بعد.
أفاق حياد على صوت المفتاح يداعب باب الزنزانة من جديد، انفتح الباب،أطل الجندي ومن خلفه ظهر الشاب الذي خرج من الزنزانة وهو يحمل صندوقا من الكرتون، أدخله الجندي إلى الزنزانة قال:
- كلوا ، سوف تغادرون إلى أنصار ظهر اليوم .
- لماذا ؟ قال أحدهم، ثم أردف:
- ماذا فعلنا؟
- لا تسألني ، كل ما أعرفه أنكم هنا بمناسبة يوم المساواة .
- قال الشاب:
- يوم المساواة ؟ وما علاقتنا بذلك؟
- يقولون أنكم شيوعيون خطرون، وأنكم ستثيرون المشاكل في هذا اليوم، لذلك قرروا اعتقالكم اعتقالا احترازيا.
ابتسم حياد، طافت بذهنه صورة والده، صوت والده، وهو يلعن دين حكومتهم، يفضل عليها حكومة جنوب أفريقيا، هكذا إذن، ودون مقدمات أصبح شيوعيا، وخَطِرا أيضا!
نظر إليه الجندي ، ابتسم مشجعا :
- كلها أربع وعشرون ساعة ويطلق سراحكم، لكن لا تقولوا أنني قلت لكم ذلك.
نظروا إليه بامتنان، لم تكن الكلمات لتعبر عن مشاعرهم وقتها ، ربما كان هذا الجندي صادقا، ربما كان يتعاطف معهم لأنه يدرك أنهم مظلومون، ربما كان من أنصار السلام الآن، ربما كان ديموقراطيا لا يؤمن بالحركة الصهيونية .
أخذوا يتناولون طعام الإفطار ، وكل منهم لديه ما يشغله من الأفكار..البيت، الوالد، الوالدة، أنصار ، الزنزانة، يوم المساواة، الحبس الاحترازي، الشيوعيون، من هم الشيوعيون؟ وما هي الشيوعية؟ لماذا يخافون من الشيوعيين؟ أفكار وأسئلة لا تحصى راودتهم.
قطع حبل أفكارهم هدير محرك سيارة صرخ بحدة عدة مرات، كان السائق يدوس على البنزين بقوة فيرتفع صوت محرك السيارة شاكيا، فيقوم السائق بتخفيف الضغط على مدوس البنزين، ينخفض صوت محرك السيارة ليعود إلى الصراخ من جديد ، اختلط صوت المحرك بصوت همهمة الجنود ، جلبة في خارج الزنزانة ، حركة نشطة، صوت يتحدث بلهجة آمرة ، صوت جنود يقفزون من السيارة، وآخرون يصعدون، احتكاك مفاتيح، صنبور مياه مفتوح، صوت رشاش الماء، شعور بالعطش ينتابهم، الحر الخانق يكتم أنفاسهم، رغبة للتمرد تنمو في نفوسهم، صوت باب يفتح ويغلق ، صرير عجلات سيارة تدور بسرعة دق أحدهم باب الزنزانة بعنف، لم يتلق جوابا، دق أكثر فأكثر، جاءه صوت جندي :
- اسكت يا حمار.
استطرد الجندي:
- ما فيش مية، تشتوك " أغلق فمك " .
استمر الدق، أعلى ، فأعلى، فأعلى، فأعلى، تدفق معه سيل الشتائم من ذلك الجندي الواقف قرب الباب ، ثم فتح الباب ، أمرهم الجندي بالخروج واحدا، واحدا، كان الجندي يسلم الواحد منهم إلى جندي آخر يضع يديه خلف ظهره، ويحكم ربطهما بكلابشات بلاستيكية، ويربط قطعة قماش على عينيه ، وكأنه يخشى أن يبهرهما ضوء الشمس ، قال الذي كان يدق الباب بعنف :
- ولكنني أريد أن أشرب.
جاءه ذلك الجندي بكوب ماء ، وعندما مد يديه لتناوله ، دلقه الجندي على الأرض ، ثم دفعه إلى الجندي الآخر ، الذي قام بدوره بربط يديه بشدة خلف ظهره، ووضع عصابة من القماش الأسود على عينيه ، وشد بقسوة، صاح شاب آخر :
- أريد الذهاب للحمام .
تظاهر الجندي بعدم الفهم فقال له الشاب برجاء :
- شيروتيم " دورات المياه " .
ضحك الجندي بوقاحة :
- اعملها على نفسك يا جوكي ( يا صرصور)
كظم غيظه كما كظم رغبته في التبول ، ود لو بال في فم ذلك الجندي ، فهو أنسب مكان لذلك لكثرة ما خرج منه من كلمات نابية.
دفعهم الجنود بعنف إلى داخل سيارة عسكرية، ألقوهم على وجوههم ثم صعد الجنود إلى السيارة، وفي أثناء صعودهم داسوا على ظهورهم وسيقانهم وتعمد بعضهم أن يزغدهم ببوز حذائه ، أنفاس مكتومة تترد بدلا من الأنين، وصرخ محرك السيارة، اندفع إلى الأمام بشدة، أثارت غبارا في المكان زكمت رائحته أنوفهم ، دارت السيارة إلى اليمين، وإلى اليسار ، توقفت السيارة قليلا، سرح حياد، لا بد أنه الكف المجاور لمدرستنا( خان يونس الثانوية) ، ترى هل يرتبون المقاعد استعدادا للامتحانات ؟ وهل سيبقى مقعده خاليا؟ أم أنه سيخرج ويتقدم إلى الامتحان كما كان يأمل ؟
اندفعت السيارة من جديد بعد أن حادت إلى اليسار ، اتجهت السيارة شمالا إلى غزة ، صوت عجلات السيارة يشبه مزق القماش الجديد،أصوات سيارات تتجاوزها سياراتهم العسكرية، وسيارات أخرى تتجاوز سيارتهم، رائحة أشجار البرتقال تبدد رائحة الغبار الذي أثارته السيارة واختلطت الأمور، صوت عجلات السيارة بصوت محركها بصوت الجنود برطانتهم الغريبة، برائحة البرتقال التي تملأ الجو من حولهم بأصوات أبواق السيارات المارة على الطريق، وغزة تقترب رويدا رويدا، والسائق يميل بسيارته بحدة مرة إلى اليمين ومرة إلى اليسار ، لتتدحرج أجسادهم هنا وهناك، فتضغط الأساور البلاستيكية على الرسغين لتعمق ذلك الأخدود الذي حفرته بالأمس، وكأنها تريده ذكرى لا تمحى آثارها ...
مالت السيارة يسارا، أخذت تصعد تدريجيا،لا بد أنها دلفت إلى شارع عمر المختار ، أصوات باعة العملة تترد هنا وهناك،... دينار ، دولار، مصري، ريال سعودي ، دينار كويتي، اللي معاه مارك ألماني ، إلي بدو دينار ،إلي بدو دولار، اللي معاه، مين قال خذ ، وتعالت أصوات أخرى .. خان يونس ، رفح، المغازي،النصيرات، البريج، ساحة فلسطين، كراج السيارات، هاهم يقتربون من نهاية المطاف وانحدرت السيارة نحو الغرب ، أبواق السيارات تتردد في الشارع العريض وكأنها تلاحقهم، مالت السيارة إلى اليسار لآخر مرة قبل أن تدور إلى اليمين لتدخل معسكر أنصار .
انفتحت بوابة السجن الكبيرة، دخلت السيارة متجهة نحو اليمين ثم إلى اليسار، وأخيرا توقفت أمام مبنى غير مجهز تماما، أنزلوهم من السيارة ، قصوا الأساور البلاستيكية، فكوا الأربطة عن عيونهم التي دهمها نور شمس الظهيرة فجأة، حاول كل منهم إغماض عينيه على الظلمة التي سربها الرباط المرفوع عن العين إلى الخارج، ثم عادوا ففتحوا عيونهم وأغمضوها، كرروا ذلك عدة مرات حتى اعتادت عيونهم على النور من جديد.
اقتادهم الجنود إلى غرفة من الغرف الأربعة الموجودة ، وجدوا في الغرفة أشخاصا لم يعرفوهم لأول وهلة ، وبعد أن تعارفوا بدأت الأسئلة والأجوبة، كان حياد حذرا ، يدرك أن السجن مملوء بالمصائد والشراك، فهو لا يريد أن يستدرجه أحد على الرغم من أنه لم يفعل شيئا، لطالما حدثه والده عن العصافير وما أدراك ما العصافير، ربما كان بين هؤلاء عصفور أو أكثر ، ابتسم حين سأله احدهم :
- ألا تتذكرني يا حياد.
هرش حياد ذاكرته، أضاءت ظلمة الذاكرة فجأة:
- أوه .. أهذا أنت..آه.. تذكرت..أنت.. تلك القصة، بافل كورتشاغين.. كيف سقينا الفولاذ.. أنت أبو ..أوه لا أستطيع أن أتذكر .
- يا راجل ألا تذكر .. زرتكم في البيت أكثر من مرة، وعندما سألتني عن قصة تريد قراءتها نصحتك بقراءة تلك القصة،" كيف سقينا الفولاذ والفلاذ سقيناه " ، آمل أن تكون قد قرأتها.
- نعم، نعم إنها ملحمة وليست قصة عادية ، قرأت الكثير من القصص.. الرعب والجرأة ،أرض الميعاد، وغيرها وغيرها.
- إذن يحق لوالدك ألا يخاف عليك ما دمت قرأت كل هذا.
- ولكنه ما زال يحسبني طفلا.
- الإنسان بلا وعي أشبه بطفل يحبو على درب الحياة يا حياد.
- ولكنني رجل بدليل أنني هنا.
- لقد أحضروك هنا بالنيابة عن والدك، يريدون معاقبة أبيك.
- ولكن ما سبب اعتقالنا الحقيقي أنا وأخي سلام؟
- إنه يوم المساواة ، يعتقدون أن الشيوعيين هم أصحاب فكرة هذا اليوم، لذلك نحن هنا، يحتاطون لكل صغيرة وكبيرة.
- وهل أنت شيوعي يا عم أبو كفاح؟
- بكل فخر يا حياد.
- إذن حدثني عن الشيوعية.. ما هي؟ وما أهدافها؟ ولماذا يكرهون الشيوعيين ويخشونهم؟
تدفقت الكلمات على لسان أبي كفاح دون توقف، أخذ يحدثه عن الشيوعية، نشأتها ، جوهرها، أهدافها، العمال والفلاحون، طليعة الطبقة العاملة، الصراع الطبقي، وكيف أصبح هو شيوعيا، ولماذا اقتنع بأن يكون كذلك؟ وكيف أنه يبحث عن العدل؟ بل كيف يناضل من أجل توفير حياة أفضل للطبقات المظلومة؟ حدثه عن الملكية العامة لوسائل الإنتاج، عن البروليتاريا ودورها الطليعي في المجتمع، استمر يتحدث .. كان نبع الكلام لا ينضب، وكأن الأفكار أنفاس تتردد مع كل شهيق وزفير، كانت حرارة القناعة تلف كل كلمة ينطقها، ومع كل كلمة، كان حياد يتشوق لسماع المزيد، تمنى لو أنه قرأ الكثير والكثير، ولكن امتحان الثانوية العامة كان يقيد رغبته، فالثانوية العامة جواز مروره إلى الجامعة، لا بد أن يتسلح بالعلم كما يقول والده فمعركتنا هي معركة بين حضارتين والعلم سلاح أكيد في هذه المعركة.
زالت الجفوة، وتساقطت جدران الحذر والحيطة جدارا بعد جدار، دارت الأحاديث حول التجارب الشخصية للكبار... المشكلة الوطنية، النكبة، أحداث 48، التقسيم ورفض الرجعية العربية له، حرب حزيران، أسبابها ونتائجها، الحلول المطروحة، والحلول الواقعية المفترضة، الدولة في الضفة والقطاع، اتفاق شباط مع الأردن وكيف ولد ميتا، دور الشعب الفلسطيني في إحباط المشاريع التصفوية، النضال من اجل المساواة بين العرب واليهود في إسرائيل، الجبهة الديموقراطية للسلام والمساواة(حداش)، القائمة التقدمية، كانت عقولهم نحلات تمتص رحيق الأفكار بسرعة مذهلة، بنهم شديد.
- المقاشات على الباب.
تساءل حياد:
- ما هي المقاشات؟
أجاب أبو كفاح:
- مجاش كلمة عبرية تعني صينية أو طبق.
- إذن جاء وقت الطعام.
وسال اللعاب ، لعاب اللسان، ولعاب العقل، كلاهما يطلب الطعام، فقد مضت فترة الظهيرة في الانتقال من خان يونس إلى غزة، ولذلك ضاعت عليهم وجبة الغذاء، وها هي وجبة العشاء تأتي مبكرة، بعد العصر بقليل، والعقل يطلب المزيد من المعرفة، ود حياد لو يصبح النهار أربعين ساعة بل خمسين، سرح قليلا، قال أحدهم:
- لا تقلق، إن لم يطلق سراحنا الليلة سيطلق سراحنا غدا، لقد مر يوم المساواة،لا ندري كيف مر.
تحلق الموجودون حول أواني الطعام، كل مجموعة في حلقة، بدءوا في تناول الطعام، وفي أثناء ذلك تبادلوا الأحاديث، السجن، الإفراج، الإضراب وهل نجح؟ هل شارك أهل الضفة والقطاع في الإضراب؟ هذا ما يقلق السلطات، أن يلتئم الشمل، أن يصبح الكل في واحد، عرب إسرائيل، الغزيون، أهل الضفة أصبحوا جسما واحدا بعد أن تمزقوا أشلاء مبعثرة، قسم تحت السيادة المصرية ، وقسم تحت السيادة الأردنية، وقسم تحت الاحتلال، وها قد أصبح الجميع تحت الاحتلال الكل في الهوى سوى.
انطفأت الشمس بمجرد اقترابها من سطح البحر، وبدأت الظلمة تسقط على المكان بسرعة، رائحة البحر يحملها النسيم إلى داخل المعتقل، هبات النسيم أطفأت حرارة الجو لكنها لم تلغ تلك الرطوبة الخانقة التي تعشش في المكان، واستمرت الأحاديث تدور وتدور وفي حوالي الساعة العاشرة سمعوا صرير مفاتيح، ووقع خطوات تقترب، انكمش سلام إلى جانب أخيه ، همس:
- ها قد جاءوا، ربما بدءوا التحقيق الآن!
أدار جندي المفتاح في الباب،فتح الباب ببطء، نطق الكلمات بطيئة:
- كل واحد بيسمع اسمه بييجي لهون.
وبدأ ينادي الأسماء واحدا بعد الآخر ، صفهم جندي آخر ، مشى جندي أمامهم وآخر خلفهم حتى أوصلوهم إلى الباب الخارجي .
صرخ جندي:
- يللا روخ البيت.
ذهل حياد، هل يعود إلى البيت في مثل هذا الوقت، وهل سيجد سيارة، أدرك أبو كفاح ما يدور بخلده ، فقال:
- تستطيع أن تبيت عندي بقية الليل وفي الصباح رباح، ثم مال أبو كفاح على أذن حياد هامسا:
- جهز كشف علامات لمنتصف العام، وكشفا بعلامات الإعدادية وسنة أولى وثانية ثانوي، فقد أستطيع أن أوفر لك منحة دراسية في الخارج.
أطلت سيارة عليهم من مسافة ليست بالبعيدة قال السائق:
- اركبوا نحن ننتظركم، هكذا يفعلون دائما، يطلقون المعتقلين في وقت غير مناسب، وأوصلتهم السيارة إلى ساحة التاكسيات، ميدان فلسطين، وتجمعوا في الساحة، بعضهم يريد الذهاب إلى خان يونس وآخرون إلى المعسكرات الوسطى أو جباليا أو الشجاعية بينما مشى سكان معسكر الشاطئ على أقدامهم.

زاهية
24-07-2006, 02:54 PM
د.محمد أيوب أهلا ومرحبًا بك
في ملتقى الواحة سيدي الكريم
أسعدني وجودك كما أسعدتني هذه الرائعة
دمت بخير وعطاء لاينضب له معين
أختك
بنت البحر

د . محمد أيوب
24-07-2006, 04:17 PM
د.محمد أيوب أهلا ومرحبًا بك
في ملتقى الواحة سيدي الكريم
أسعدني وجودك كما أسعدتني هذه الرائعة
دمت بخير وعطاء لاينضب له معين
أختك
بنت البحر

شكرا لك زاهية
من حقي بل من واجبي أن أزهو بهذا اللطف الرائع ، دمت .
سنتواصل في الفصول التالية إن شاء الله
أطيب تحياتي
د . محمد أيوب

د . محمد أيوب
24-07-2006, 04:23 PM
الكف تناطح المخرز
رواية
بقلم : د . محمد أيوب
الفصل السادس
(6)
- عند الامتحان يكرم المرء أو يهان.
قالها أبو حياد وابتسامة عريضة تلون وجهه القمحي، ثم أردف:
- بقي من الوقت اقل من اثنتي عشرة ساعة يا حياد.
ابتسم حياد بثقة ،حاول أن يطمئن والده أن هذه الأزمة العابرة لم تؤثر على تحصيله الدراسي، صحيح أنه خسر أكثر من أربعة أيام بعد خروجه من السجن، لم يدرس خلالها شيئا، فقد تدفق الأصدقاء والجيران لتهنئته بالسلامة، وهو لا يستطيع إلا أن يجاملهم كما جاملوه ، لا بد من استقبالهم والتحدث إليهم، كان البعض يريدون معرفة مدى تأثير التجربة على معنوياته، ولكنه كان معتدا بنفسه، مملوءا بثقة لم يشعر بمثلها من قبل، فقد أعطته هذه التجربة رغم قصرها دفعة قوية إلى الأمام، وقد كان والحق يقال- يود لو أن هذه التجربة طالت، فقد اكتشف أن السجن مدرسة كبيرة، ولعله اكتشف سبب نضج زملائه قبل الأوان، فالسجن أشبه بدفيئات البلاستيك التي تجعل الثمار تنضج في غير أوانها، وهو يشعر أنه نضج، إن السن قد تقدمت به ولكنه ود من أعماقه لو طالت هذه التجربة قليلا، آه..ولكنه الامتحان..ذلك السوط الذي ألهب أعماقه بالشوق إلى الخروج من السجن، لأن أي تأخير ، أية إطالة في هذه التجربة يؤدي بالتأكيد إلى ضياع مجهود عام كامل بل ضياع مجهود اثنى عشر عاما من الجهد المتواصل، ألم يفعلوها مع زميله علي، لقد تم استدعاؤه صبيحة يوم الامتحان، حددوا له الساعة الثامنة صباحا، لم يجرؤ على التأخير عن الموعد، على الرغم من أن زميلا مجربا قد نصحه:
- قدم امتحان اللغة العربية ، ثم اذهب للمقابلة فلن يطلبك قبل الثانية عشرة ظهرا، وربما تركوك تنصرف دون مقابلة.
ولكنه أصر على الذهاب، وفعلا، في حوالي الحادية عشرة، أعاد له الجندي بطاقة هويته وهو يبتسم، قال له:
- بامكانك أن تذهب إلى الامتحان إن شئت .
غلي الدم في عروق علي ، كور قبضة يده، وكادت شتيمة ساخنة تنفلت من عقالها ، لكنه ابتلعها، ورسم ابتسامة عريضة على وجهه مظهرا عدم اكتراثه، وكأن الأمر يعني شخصا آخـر .
كان حياد يخشى أن يحدث معه ما حدث مع علي أو مثل ما حدث مع أحمد وبعد ضياع أول ساعة من امتحان مادة اللغة العربية يطلقون سراحه، وابتسامات الشماتة تلاحقه، ولكن الله سلم، وخرج، لقد عمل حسابه للمفاجئات، ولهذا لم يضع وقته من بداية العام الدراسي ، واظب على الدراسة، تابع معلميه، ناقشهم، فهم واستوعب دروسه، وها هو اليوم يدرك أن الأمور رست على شاطيء السلامة، فالامتحان غدا، وعند الامتحان يكرم أو يهان.
قال له أبوه:
- تصور أن الشرطة لن تقوم بحراسة لجان الامتحان كما كانت تفعل كل عام.
- ليكن، هل يتصورون أننا سنغرق في بحار الفوضى؟
قالت أم حياد:
- الأفضل أن تنام مبكرا يا ولدي حتى تذهب إلى الامتحان وأنت صافي الذهن.
كانت قد أعدت له فراشه بعناية، لم تكن تصدق أنه خرج من السجن ، وأنها تتحدث إليه بشحمه ولحمه، قالت وهي تلمسه بيدها اليمنى:
- قم يا ولدي ، خذ قسطا من الراحة .
وأطفأت الأنوار ، بعد أن ذهب كل منهم إلى فراشه، ليتوسد أفكاره وأحلامه.
********
صباح الأحد، الثامن والعشرون من يونية حزيران سنة سبع وثمانين وتسعمائة وألف، أبواق السيارات تملأ الجو ضجيجا، بعض الشباب الملتحين يجوبون الشوارع بسياراتهم، وبعضهم يقف على أبواب لجان الامتحانات، وطلبة وطالبات الثانوية العامة ينتشرون في طول شارع البحر وعرضه، تنورات الكاوبوي، القمصان الزرقاء ، بنطلونات الكاوبوي، الكتب تتأرجح في أيدي الطلبة إلى الأمام وإلى الخلف وكلهم في عجلة من أمرهم، كأنهم يخشون شيئا ما، لا يدركون ما هو.
سار حياد على الجانب الأيسر من شارع البحر، كانت الطريق طويلة، لكنه قرر أن يخرج مبكرا، وأن يسير مشيا على الأقدام ، ربما رآها في الطريق، فهو يتفاءل برؤيتها، يدق قلبه، يخفق بعنف ، ثم يعود فتنساب خفقاته مثل جدول وجد النهر الذي يحتضنه، فيبوح إليه بما يعانيه من ضيق مجراه، ومن أحد أزقة المعسكر أطل وجهها، رقيقة كالنسيم، ذات صدر بارز ، وعينين في صفاء السماء في عز الصيف، وشعر فحمي اللون على بشرة هادئة البياض، بادلته ابتسامة، رقص قلبه، حيته بحركة خفيفة من يدها، حنى رأسه قليلا، ولما حاذاها همس:
- صباح الخير.
وعلى نفس الوتيرة همست:
- صباح النور، الحمد لله على السلامة، كنت واثقة أنك ستخرج وأن الامتحان لن يضيع عليك.
نظر إليها بامتنان، كان متأكدا أنها تهتم به كما تهتم بدروسها وبأن تشارك في كل مظاهرة طلابية تطوف شوارع المدينة ، فلطالما دعته للمشاركة في تلك المظاهرات، ولكنه كان يتردد، وإن اضطر أحيانا لمجاملتها والسير في المظاهرة فإنه يفعل ذلك ليسعد بوجوده بالقرب منها ، ليسمع صوتها وهي تهتف:
- بالروح بالدم نفديك يا فلسطين.. تسقط سياسة الإبعاد عن الوطن.. عاشت منظمة التحرير، ولكنه كان يستغل الفرص للانعطاف في أقرب زقاق حتى لا يراه والده الذي كان يؤكد أهمية العلم، وأننا بالعلم نبني مستقبل شعبنا، اقتربت منه حتى كاد جسدها يلامس جسده وهي تحاول الهرب من قطرات الدم التي نثرتها عجلات سيارة مرت بسرعة، ففي كل صباح تتدفق المياه القذرة المختلطة بدماء الحيوانات المذبوحة من مسلخ البلدية لتملأ شارع البحر على اتساعه، همس:
- شدي حيلك يا أمل.
- ولا يهمك. ما يجيبها إلا ستاتها.
ومالت إلى اليسار ، سارت على الرصيف المحاذي للسنترال في طريقها إلى لجنة الامتحانات، بينما اتجه نحو اليمين، أطلت عليه قلعة برقوق شامخة متحدية، ساحة التاكسيات خالية، مبنى البلدية ما زال مغلق النوافذ والأبواب، بعض باعة العملات يقفون على الرصيف بالقرب من المبنى ، مال إلى اليسار متجها إلى الشرق، مئذنة جامع السنية تعانق السماء ، تشكلت لجان لحماية الامتحانات ، بعض السيارات تطوف بهم على لجان الامتحانات، فهم يقومون بحراسة لجان الامتحانات، والتي كان من المفروض أن تقوم الشرطة بحراستها ، ولكن الشرطة تخلت عن هذا الدور ! لماذا ؟ الله وحده هو الذي يعلم.
وعند مزلقان السكة الحديد، دفعته سيارة مسرعة حتى شعر أنه على وشك الوقوع أرضا، ابتعد عن الأسفلت، لاحت منه التفاتة إلى السيارة فإذا بها سيارة شرطة، ضحك.. حاميها حراميها..
تابع السيارة بنظره، مالت السيارة يسارا، مرت تحت برج المراقبة الذي يطل على تقاطع السكة الحديد مع الأسفلت العام، مالت السيارة يمينا لتدخل مركز الشرطة، بينما استمر هو في طريقه إلى مدرسة خان يونس الثانوية للبنيين ، إلى يساره مبنى الجوازات الذي من المقرر أن يكون مدرسة ابتدائية، بناها المصريون قبل حرب حزيران بقليل، وإلى الغرب منها مسجد، وإلى اليمين كراج الباصات حيث انتشرت على جانب جداره الشمالي طاولات كتبة العروضات والتصاريح ، وفي الجهة المقابلة للمدرسة الثانوية يقع مقر الحكم العسكري الذي كان يوما مدرسة ثانوية للبنات.. مدرسة حيفا الثانوية للبنات، لطالما حدثه والده عن دوار بني سهيلا، والمظاهرات التي دبرها أعوان الحكومة المصرية ضد الشيوعيين تمهيدا لاعتقالهم ، كما حدثه والده عن تلك المظاهرات التي اندلعت في الخمسينات فأجبرت الحكومة المصرية على عقد أول صفقة أسلحة تشيكية.
دلف إلى داخل المدرسة، فقد تجاوزت الساعة السابعة والنصف بقليل، اقترب موعد جرس الدخول ، والطلاب يروحون ويجيئون في الساحة وهم يفتحون كتبهم، بعضهم يقرأ بصوت مرتفع، والبعض الآخر تتحرك شفاههم حركة عصبية، وهو لا يحاول أن يعكر صفو ذهنه بشيء لم يحضر معه سوى الأقلام والمسطرة.
**********
كانت ساحة المدرسة أشبه بخلية نحل دب فيها النشاط فجأة، اقترب من الساحة الداخلية للمدرسة،عاودته ذكرى ذلك اليوم.. دخلت قوات الجيش إلى المدرسة، كان الطلاب في فصولهم، داهم الجنود الفصول وانهالوا على رؤوس التلاميذ وعلى أجزاء مختلفة من أجسامهم بالهراوات، تدفقت الدماء من الرؤوس بغزارة، كسرت أيدي بعض التلاميذ، ملأ الصراخ المكان ، وقف المعلمون بلا إرادة.. لا حول لهم ولا قوة، يخشون إن تكلموا أن يطولهم العقاب ولكن الناس اخترقوا جدار الصمت المضروب حول المدرسة، اندفعت النسوة من المعسكر البعيد ومن قلب المدينة إلى شارع المدرسة ، صرخن في وجه الجنود، أطلقن الشتائم وعفرن التراب عليهم، تشجع بعض الرجال، اندفع بعض السائقين بسياراتهم نحو الباحة الخارجية للمدرسة، بدأت السيارات في نقل المصابين ولكن الجنود أوقفوا العملية، ونقلوا عددا من الطلاب الى السجن.. إلى معتقل أنصار "2" ، كان بين المعتقلين بعض المصابين الذين لم يسمح لهم بتلقي العلاج ، اشتعلت نيران الغضب في النفوس، لكنها سرعان ما انطفأت بمجرد تجاوز الناس مزلقان السكة الحديد، صحيح أن هذه الحادثة عششت في النفوس، وبقيت حديث الناس لفترة ليست بالقصيرة، لكن المدينة بدت بعد أقل من ساعة وكأنها لم تشهد تلك المجزرة، كان همُّ الطلاب أن يفلتوا من الطوق المحكم الذي فرضه الجنود، وكان هم الأمهات كسر ذلك الطوق ووقف عملية العقاب، وفعلا توقفت العملية، أحس الناس وخصوصا النساء – أن بالإمكان وقف البطش عند حده ، بدأت الحناجر تتعلم فن الصراخ من جديد، تمردت الحناجر على كابوس الصمت الثقيل، وصاح جزء من المخيم ومن قلب المدينة بملء الفم لا.. وألف لا.. لن تنفردوا بأبنائنا ونحن نتفرج، كان التمرد على الصمت محدودا، ولكنه كان أشبه ببداية الانفجار أو بداية الاشتعال في فتيل يتصل بمادة قابلة للانفجار.
قطع حبل أفكاره جرس الامتحان الأول.. جرس الدخول إلى القاعات أخذ الطلاب يغادرون لوحة الإعلانات حيث علقت عليها أرقام الغرف وأرقام الطلاب في كل غرفة ، كان المعلمون يروحون ويجيئون يرشدون الطلاب إلى غرفهم.
دخل حياد قاعة الامتحانات، توجه إلى غرفته، ثم إلى المقعد المخصص له، حيا بعض زملائه، جلس على مقعده، دخل مدرس يتبعه مدرس آخر إلى الغرفة ، كان أحدهما يحمل ملفا به كراسات الإجابة ، بدأ بتوزيعها على التلاميذ، طلب منهم أن يكتبوا أسماءهم وأرقام جلوسهم وكذلك اسم مدرستهم، وحذرهم من كتابة أي شيء آخر في المربع الخاص برقم المراقبة، بينما طلب الآخر منهم ألا يحتفظوا بأية أوراق تتعلق بمادة الامتحان معهم ، وحذرهم من أنه سيقوم بإلغاء امتحان أي طالب يغش في الامتحان.
توقف أحد المشرفين عند باب الغرفة، قدم أوراق الأسئلة للمدرس، سأله وهو يبتسم:
- كل شيء تمام.
- تمام..ولا يهمك.
قال المدرس ذلك وكأنه يؤكد شيئا معينا، دق جرس توزيع أوراق الأسئلة، أخذ المدرس يوزع الأوراق على الطلاب ، وأخيرا قال المدرس الآخر:
- بإمكانكم الآن أن تبدأوا الإجابة .. اقرأ جميع الأسئلة،وابدأ بالسؤال الأسهل . تمهل قبل الإجابة واكتب بخط واضح، تأكد أن جميع المعلومات التي على النموذج كاملة، اسمك، رقم جلوسك، مدرستك.
تنقل حياد بنظرة بين الأسئلة وكأنه يحاول التهامها ..تنفس بعمق ، ابتسم ابتسامة عريضة ، كانت الأسئلة من الموضوعات التي توقعها، انكب على ورقة الإجابة، تدفقت أفكاره على ورقة الإجابة فكرة بعد فكرة، وسؤالا بعد سؤال، طاردته الأفكار وطاردها، لم ينظر إلى ساعته، كان مشغولا تماما عما حوله، جذبه تدفق المعلومات- التي طالما اختزنها في ذاكرته- بعيد بعيدا، لم يكن من عادته أن يتلفت حوله، لم يغش ولا مرة واحدة في حياته، صحيح أنه حاول مرة أو مرتين مساعدة بعض زملائه ممن ينافسونه في الفصل، كان يرشدهم إلى مفتاح الحل فقط، كان يفعل ذلك ترفعا عن المنافسة التي تتحول إلى غيرة وحقد.
أعاده إلى المكان صوت المعلم يردد:
- مضى نصف الوقت.
كان قد أنهى إجابة معظم الأسئلة، شعر بارتياح غامر، لم تؤثر عليه تلك الصدمة، كانت مجرد سحابة صيف، ومع ذلك فقد تركت بصمات لا تمحى في حياته وأطلقت سؤالا ضخما من عقاله ، إذ كان العقاب قد طالني وأنا لم أفعل شيئا، عاقبوني حتى لا افعل شيئا، فلماذا لا أفعل ؟ لماذا لا أفعل ؟ وإلى متى أصمت ؟
انتبه على يد ذلك المعلم الذي كان قد نبه في بداية الحصة إلى عدم إخراج أية أوراق تتعلق بالمادة ، وأنه سيلغي امتحان كل من يغش، انتبه على يده وهي تستقر بهدوء فوق كتفه، نظر إلى المعلم، ابتسم له المعلم، فحاول هو أن يبتسم ، أن يرد المجاملة بمثلها، لكنه لم يستطع، فقد شعر بحالة من النفور وعدم الارتياح لمجرد رؤية هذا المعلم، أحس كأنه يظهر غير ما يبطن! قال له المعلم:
- زميلك محمود يحتاج إلى مساعدة.
- وماذا تريد مني؟
ابتسم المعلم ، ربت على كتفه:
- ليس الآن ، فقط بعد أن تنتهي من الإجابة.
- لقد أنهيت الإجابة، فما هو المطلوب مني ؟
مد المعلم يده إلى ورقة الإجابة ، تناولها، نظر إليها بإمعان:
- إجابتك ممتازة.
قال المعلم ثم أردف:
- سأحضر لك ورقة محمود لتجيب له الأسئلة، وسأترك ورقة إجابتك عند محمود حتى تنتهي من إجابة الأسئلة له.
ضحك بسخرية، تذكر كلام المعلم عن الغش وعن إلغاء الامتحان لكل طالب يغش، وذلك الهيلمان عند بداية الحصة، تذكر نفوره من ذلك المعلم بمجرد دخوله الغرفة ، قارن بينه وبين المعلم الآخر الذي أكد ضرورة التروي في الإجابة والبدء بالسؤال الأسهل، قطب ما بين حاجبيه، رد عليه بسرعة:
- آسف.
تراخت يد المعلم، باخت ابتسامته ، سقطت الورقة من يده، تناولها حياد وبدأ في مراجعة ما كتبه، بينما ابتعد المعلم تدريجيا دون أن يلتفت وراءه، وقف إلى جانب الباب، وقد احمر وجهه، لقد تلقى صفعة من طالب في عمر ابنه، لقد تغيرت الدنيا، ولي ذلك الزمن الذي كان فيه التلميذ يفر من وجه معلمه، وجاء الزمن الذي يرفضون فيه عمل ما لا يريدون، تغير الزمن، إنهم جيل غير جيلنا.
- باق من الوقت عشر دقائق.
قال المعلم الآخر ، ثم أردف:
راجعوا إجاباتكم، تأكدوا أنكم لم تنسوا شيئا، تأكدوا قبل تسليم الأوراق.
كان حياد قد قرر ألا يخرج من الغرفة قبل نهاية الامتحان، كان يخشى أن يقوم ذلك المعلم بإعطاء ورقته إلى محمود لينقل منها الإجابات، وأخيرا دق الجرس ، وتدافع التلاميذ بعد أن سلموا أوراقهم ، نظر حياد إلى ذلك المعلم نظرة خاصة ، أشاح المعلم بوجهه بعيدا عنه، وكأنه لم يشاهد تلك النظرة.

د . محمد أيوب
25-07-2006, 07:18 AM
الكف تناطح المخرز
رواية
بقلم : د . محمد أيوب
الفصل السابع
- 7 –
- كان قد بيّت في نفسه أمرا ، فقبل أن يعتقل احترازيا ، اتفق مع صديق له ، ترك المدرسة قبل أن يكمل الثانوية العامة ، اتفق معه على أن يبحث له عن عمل ، لم يخبر والده بما استقرّ عليه قراره ، أرادها مفاجأة لوالده ، فهو يعرف أن الأسرة كبيرة ، وأعباء الحياة صعبة ، ولا بد أن يوفر بعض النقود التي يمكن أن تخفف العبء عن والده حين يحين وقت دخول الجامعة ، فهو يرغب في إتمام دراسته الجامعية ، ووالده مصمم على ذلك حتى ولو كان على حساب قوتهم اليومي ، لذلك لا بد من تحمل بعض المسئولية ، على الرغم من أن والده يعارض عمله في الداخل ، كان والده مقتنعا أن أمور التعليم والزواج والبناء ميَسَّرة ، فالله يسهل السبل ما دام المقصد خيرا ، وهي مستورة والحمد لله .
جاءه صديقه بعد آخر يوم من أيام الامتحان، صافحه بحرارة، ودون مقدمات قال :
- هل أنت جاهز يا بطل ؟
- وهل تشك في ذلك ؟
- لقد وجدت لك عملا لعله يعجبك .. أولام " صالة " .. ما عليك إلا أن تقدم الطلبات للزبائن .. الأجرة كبيرة والبخشيش لا تسأل .
- أولام ؟
- وماذا في ذلك ؟ ألا تريد أن توفر بعض المال لدراستك الجامعية ؟ وها هي الفرصة أمامك .
- وهل تعتقد أن والدي يوافق على ذلك ؟
- لا تقل له إنك ستعمل في عولام ، قل له إنك تعمل في مصنع ، أي مصنع .
- لم أتعود أن أخدع والدي ، كنت صادقا معه وسأظل كذلك .
- هناك عمل آخر ، ولكن الأجرة أقل والجهد أكبر .
- متى يمكنني تسلم العمل ؟
- من الغد إن شئت .
- سأرد عليك في المساء بعد أن أبحث الأمر مع والدي .
- لعله يقتنع .
- لا تقلق ، والدي يثق بي .
شربا القهوة ، تناول حياد طاولة الزهر ، فتحها ، وضعها بينه وبين صديقه ، لعبا لعبة المحبوسة ، كان يقذف الزهر وهو شارد اللب .
دوش يا ظالم ؟ قال الصديق .
ضحك حياد وقال : سأمسكك في الخشب إن شاء الله .
_ طبعا يا عم ، زهرك راكب حصان .
انتهت اللعبة أسرع مما توقع الاثنان ، استأذن الصديق وهم بالانصراف ، صافحه حياد وقال :
- مع السلامة ، سأراك في المساء .
سرح حياد ورنا ببصره إلى الأفق البعيد ، ترى هل سيكون حظه في الحياة كحظه في لعبة الزهر ، أم أن زهر الحياة يختلف عن زهر الطاولة ، ليكن ما يكون ، ها قد بدأت رحلة الألف ميل ، وسأصل إن شاء الله .
على مائدة الغداء، وبعد عودة والده من عمله ، تبادلت الأسرة أطراف الحديث ، قال الوالد :
- حياد ، يجب أن تتابع الإعلانات في الصحف ، لا تنس ذلك، حتى يمكننا معرفة مواعيد تقديم طلبات الالتحاق بالجامعات المحلية .
- لن أنسى ذلك .
تابع والده :
- آمل أن تحصل على معدل عالٍ يتيح لك فرصة دخول كلية مناسبة .
- لا تقلق من هذه الناحية ، فأنا واثق من ذلك ، على الرغم من أن بعض الطلاب غشوا في الامتحان ، ربما حصلوا على معدلات أعلى مني ، ولكن الدراسة الجامعية شيء آخر .
- في بير زيت لا بد من امتحان قبول ، وهذا وحده كاف للكشف عن المستوى الحقيقي للطالب .
قال حياد :
- والدي أريد التحدث إليك في موضوع .
- وهل تحتاج إلى إذن يا حياد ؟ ! قل .
- أرجو أن تفهمني كما عودتني دائما .
- قل يا حياد ، قل ، نحن أصدقاء .
قال بعد تردد :
- لقد طلبت من صديقي يوسف أن يبحث لي عن عمل ، وقد فعل .
قطب الوالد ما بين حاجبيه :
- آه يوسف ، ذلك الشاب الذي ترك المدرسة قبل أن يكمل التوجيهي .
- صحيح أنه ترك المدرسة ، ولكنه حصل على دبلوم من مدرسة الصناعة التابعة للوكالة ، وها هو يعيل أسرته ، وأخلاقه كما تعرف .
حاول الوالد تلطيف الجو قليلا :
- وما العمل الذي وجده لك ؟
- أولام " صالة " ، والأجر مغر جدا .
صعق الوالد :
- أولام يا حياد ؟! أولام ؟ ! هذه آخرتها ؟ هل تظن أنني عاجز عن الإنفاق عليك ؟
قال حياد بتودد :
- والدي لست صغيراً ، أدرك أن العبء ثقيل ، وأنك مثل أي موظف ، دخلك محدود ، وأخوتي يحتاجون إلى مصاريف ، وأنت تثق بي ، أليس كذلك ؟
اغتصب والده ابتسامة لم تكتمل :
- ولكنني أخشى عليك يا ولدي ، أنت ابني البكر ، أرى فيك نفسي ، لا أريد لمفاسد الحياة أن تلوثك .
- ثق بي يا أبي ، وستجدني عند حسن ظنك .
- استسلم الوالد كعادته ، فهو يثق في تربيته لابنه ويثق بابنه ، وبأن ذهابه للعمل سيكون خبرة جديدة تصقله في مواجهة بحر الحياة الهادر .
***
في المساء ، توجه إلى صديقه يوسف وأخبره أنه أقنع والده ، وأنه سيتوجه إلى العمل يوم الأحد ، ذكره صديقه أن يجهز نفسه في تمام الساعة الثالثة صباحا حتى لا يتأخر .
وقبل أذان الفجر كان قد أعد كل شيء ، لم ينم كالمعتاد ، كان نومه متقطعا يشوبه قلق مبهم لا يدرك له سببا ولا يستطيع أن يفسره ، نهض من فراشه قبل الساعة الثالثة ، رجته أمه أن يأكل، فالمشوار طويل ، وربما كان العمل شاقا، وفي تمام الساعة الثالثة كان جاهزا ينتظر قرع جرس الباب ، أخذ يروح جيئة وذهابا ، أفكاره تلاحقه ، الامتحان والنتيجة ، الحبس الاحترازي ، أبو كفاح وأحاديثه في ذلك اليوم الذي ود لو يطول ، العولام وما أدراك ما العولام ، ترى أي نوع من الناس سيصادفهم في العولام ؟
قطع حبل أفكاره جرس الباب وصوت صديقه يوسف :
_ حياد .. يا حياد .
فتح حياد الباب دون أن يرد ، أشار بيده إلى أمه محييا ، سقطت دمعة على خد أمه حاولت أن تخفيها ولكن تهدج صوتها فضح أحاسيسها ومشاعرها :
_ الله يسهل دربك ويرشد نَوّك يا ابني يا حياد ، روح الله يسهل عليك .
صافحه يوسف قائلا : هيا بنا فالشاحنة تتحرك في الساعة الثالثة والنصف ، ولا بد لنا أن نجد مكانا وإلا قضينا طول الطريق واقفين .
- لم أنم هذه الليلة ، لم أشبع من النوم كالمعتاد .
- غمز يوسف بعينه اليمنى ضاحكاً :
- يا سيدي أكمل نومك في الشاحنة .
- وهل يمكنني أن أنام ؟!
- سوف ترى وتسمع .. الكل ينام ، حتى الواقفون يغطون في نوم عميق ، ويتناثر صوت الشخير هنا وهناك ، لا يبقى مستيقظا إلا الشائق ، وربما نام هو الآخر ، كان الله في عونه .
حياد بفزع : وماذا لو نام السائق ؟ يوسف ضاحكا :
- لا تقلق ، فالشاحنة تعرف الطريق ، تحفظه عن ظهر قلب كما كنا نحفظ أناشيد الصباح .
كانا يسيران وهما يتبادلان الأحاديث ، شاهد حياد أشباحا آدمية تجلس القرفصاء على رصيف الشارع .
همس يوسف :
- قرفص يا أبو الشباب ، قرفص إلى أن تأتي الشاحنة .
- جلس حياد القرفصاء ، أخذ يرقب عقارب الساعة وهي تتحرك ببطء شديد ، نسيم الصباح يداعب خصلات شعره ، شعر برعشة في جسده ، كان الجو لطيفا ، بدأ الصباح يتنفس تدريجيا ، وأخيرا جاءت الشاحنة ، بدأ العمال في الصعود واحداً بعد الآخر .
توجه يوسف إلى المقعد الخلفي ، تبعه حياد وجلسا جنبا إلى جنب ، توقف تدفق العمال إلى داخل الشاحنة ، بقيت بعض المقاعد خالية من الركاب ، أدار السائق محرك السيارة التي أصدرت صوتا أشبه بالشخير ، انزلقت عجلاتها تدريجيا، سار السائق ببطء حتى وصل سوق الظهرة قرب مدارس الوكالة ، توقفت السيارة فتدفق سيل العمال من جديد ، امتلأت المقاعد الشاغرة ، أخذ الممر الموجود بين مقاعد السيارة يزدحم بالركاب الواقفين ، تحرك السائق ببطء ليتوقف قرب مسجد بلال ليتدفق العمال من جديد ، لم يعد باستطاعة الشاحنة أن تستوعب المزيد من العمال .
جاوزت الساعة الرابعة حين تحرك الساق للمرة الأخيرة بلا توقف ، وأثناء مرور السيارة بالقرب من مسلخ البلدية طرقت أسماعهم أصوات الذبائح مختلطة بروائح الدم المتخثر والروث المتعفن ، وذلك السيل الكريه الرائحة من مياه غسل الحيوانات ودمائها الذي يتدفق كل صباح منحدراً نحو الشرق وكأنه تحية الصباح يقدمها المسلخ لسكان المعسكر والمدينة القاطنين على جانبي شارع البحر ، أفواج الذباب بدأت تهاجم الشاحنة ، تحاول سرقة النوم من عيون أولئك الذين بدأ شخيرهم يعلو داخل الشاحنة ليختلط بصوت الحيوانات المذبوحة .
انحرف السائق يمينا ثم يسارا ، عمارة " أبو دقة " إلى يمين السائق ، تلك العمارة التي كانت حديث الناس عند إقامتها ، كانت قصرا يومها ، ولكنها أخذت تتضاءل تدريجيا بعد أن بدأت تنبت إلى جانبها عمارات أخرى ـ فقد أصبح الميدان يعج بالعمارات العالية التي تلاصقت في تحد وكأنها تتنافس في الوصول إلى كبد السماء ، جامع السنية " أهل السنة " الذي اتخذه السلفيون مقرا لحركتهم يقبع إلى اليسار، مال السائق إلى اليمين ، دار حول دائرة مزروعة بالأعشاب النجيلية ، هاهو موقف السيارات المؤدي إلى بني سهيلا ، استمر السائق في سيره ، اجتاز مزلقان السكة الحديد ، اتجه شرقا إلى مدرسة حيفا الثانوية للبنات التي أصبحت مقرا للحكم العسكري تطل من اليسار ، ومدرسة خان يونس الثانوية تطل من اليمين ، الشارع المؤدي إلى بني سهيلا يتجه صاعدا نحو الشرق ، مال السائق نحو اليسار تاركا بني سهيلا إلى يمينه وخان يونس إلى يساره ، اتجه شمالا على الطريق الرئيسي إلى غزة ، فكر حياد باستغراب ، داهمته الفكرة لأول مرة : لماذا أصبحت دير البلح مدينة بينما بقيت بني سهيلا في عداد القرى ؟ مع أن الثانية أكبر من الأولى وأكثر عمرانا وسكانا ؟
- إيه دنيا وفيها العجايب .
قالها حياد بصوت مسموع .
ضحك يوسف :
- لم تنم حتى الآن ؟ ظننت أنك شبعت نوما !
- كيف يمكن أن أنام مع هذا الضجيج الذي يصدر عن محرك السيارة .
قال يوسف بلا مبالاة :
- ستعتاد عليه ، بل سيساعدك على النوم ، إنه أشبه بصوت وابور الكاز الذي كانت تشعله أمي لتعد لنا الشاي ، فأغفو على صوته ، كما كنت أغفو على صوت المطر فوق ألواح الأسبست والزينكو التي تغطي غرف الوكالة بدلا من القرميد الذي تلف ولم يعد يجدي نفعا .
اقتربت السيارة من القرارة التي أصبحت قرية وأصبح لها مجلس قروي ، عبر مزلقان السكة الحديد ، إلى اليمين تربض بنايات القرارة ومزارعها ، بينما يطل الأسفلت الممتد إلى مستوطنة " غوش قطيف " من اليسار كلسان ساخر ، يسخر من المارة ليل نهار ، وبعد القرارة بقليل يطل من اليمين شارع ترابي كان يؤدي إلى تبة 86 قبل عام 1967م، لطالما كانت لهذه التبة معاركها ، ولطالما تصدت للاعتداءات الإسرائيلية ، ولكنها أصبحت اليوم في خبر كان ، لم تعد هناك تبة ولا معارك ، بيارة أبو هولي إلى اليسار ، كفار داروم تقترب ، تلك القرحة التي أصابت وجه الأرض على حين غرة ، كانت مدرسة للتجارب الزراعية في زمن المصريين ، وبعد الاحتلال أهملت المزرعة الموجودة غربي الشارع ، وظهرت تلك القرحة شرقي الطريق .. إلى الشمال قليلا من جسر وادي السلقا ، لطالما حدثه والده عن هذا الجسر ، فقد كان المصريون يعسكرون هنا عام 48 ، يحاولون إعادة الناس الراغبين في الهجرة إلى الجنوب بعد أن أضاعوا أسدود والنقب والمجدل .. على رأي المثل : " بعد ما ضرّطت .... " ، كانت هنا مستوطنة دمرها المصريون عام 1949م بعدما اعتدت على جلالة الملك ، لقد ثأر الملك لكرامته ولم يثأر لكرامة الوطن ، مدينة دير البلح ترقد في حضن البحر ، وفي مقابل الشارع الرئيسي المتجه إليها يوجد شارع يتجه شرقا ، وقد ترددت إشاعات بعد شقه بأنه أعد لربط القطاع بالضفة بعد الإعلان عن مشروع المملكة المتحدة.
أخذ السائق يزيد من سرعة سيارته ، معسكر المغازي يتراجع إلى الجنوب ، وها هما مخيما البريج والنصيرات يقتربان ، يحتضنان الشارع العام ، كأنهما يقفان شاهدين على بؤس اللاجئين ، يفقآن بالحقيقة الناصعة عيون المتغنين بديمقراطية العالم الحر ، دلفت السيارة إلى جسر وادي غزة الذي بناه المصريون قبل أن يرحلوا ، كما قال له والده ، لا يذكر ما الذي قاله والده بالضبط ، .. أهي شركة النيل للمقاولات أم شركة عثمان أحمد عثمان هي التي بنت الجسر عوضا عن الجسر القديم الذي كانت تغمره مياه وادي غزة فتقطع الطريق بين غزة وجنوب القطاع ، وتغرق بعض السيارات المارة إلى أن تم بناء الجسر الجديد ، وكأنه فأل نحس جلب معه الاحتلال .
تصعد السيارة من وادي غزة متجهة شمالا ، ينحرف السائق شرقا إلى طريق المطار ، هذه الطريق أقل ازدحاما من منطقة الشجاعية في مثل هذا الوقت ، منعطف حاد يفاجئ السائق ، سيارة صغيرة كادت تدخل تحت الشاحنة لولا أن سائقها انحرف يمينا في آخر لحظة ، قال كهل استيقظ لتوه لدى سماعه صرير الفرامل :
- لقد تسبب هذا المنعطف في حوادث كثيرة ، وعلى الرغم من ذلك لم يفكروا في توسيعه .
علق آخر :
- والمفترق ؟ كم حادثة وقعت فيه بين السيارات القادمة من الشمال أو الجنوب وتلك القادمة من الشرق أو الغرب ؟ .
ساد صمت ثقيل بينما انسابت السيارة في طريقها بين البيارات القابعة على جانبي الطريق ، تنبعث منها رائحة أزهار البرتقال الممتزجة بندى الفجر .
كانت الطريق تتماوج صاعدة هابطة تحت بطن السارة ، هبت رائحة قمامة تحترق ، بخرت من الأنوف والرئات بقايا شذى أزهار البرتقال ، أطلت مصانع تشميع البرتقال عن اليمين ، مال الركاب إلى اليمين وإلى اليسار حين عبر السائق ذلك المنعطف الموجود في المنطقة ، اتجهت السيارة إلى الشمال بينما أخذ مفترق الشجاعية يقترب ، لاحت عن بعد أشباح آدمية ، مئات العمال ينتظرون سيارات تقلهم إلى أماكن عملهم ، أطفال في عمر الزهور التي تفتحت قبل الأوان ينتظرون على الطريق ، البعض يدخن ، وآخرون يشترون ساندويتشات الفلافل والفول ، بعض العمال يجرون هنا وهناك، المفترق يضج بالحياة في هذا الوقت من كل يوم ما عدا يوم السبت ، خلفت السيارة هذا الحشد وراءها لتندفع في طريقها ، صوت طلمبة موتور مياه ينفث دخانه من خلال ماسورة طويلة مصدرة صوتا جميلا متقطعا .. طق .. طق .. طق ، لطالما أثار هذا الصوت أشجان كبار السن ، فقد كان يذكرهم بأيام العز قبل هجرة عام 1948 ، رائحة أزهار البرتقال تشع في المكان، الشارع الرئيسي يطل من جديد ، محطة وقود " ديلك " بلونها الأخضر المميز تطل عن اليمين ، تربض على الزاوية تحت إبط الشارع الرئيسي لتستقبل السيارات القادمة من الجهات الأربعة ، توقف السائق عند الكف ، تأكد من خلو الطريق ، رفع قدمه عن الكابح وأدار مقوده إلى اليمين فاتجهت السيارات إلى جهة الشمال ، إلى الغرب تقع بيت لاهيا ، وهاهي الطريق المتجهة إلى بيت حانون تطل من مسافة غير بعيدة ، مداخن المنطقة الصناعية التي تقبع فوق الرمال في " إيريز " تطل عليهم ، هياكل سيارات الباص القديمة تربض على جانب الطريق ، سيل من السيارات يملأ الشارع طولا وعرضاً ، زاد عدد صفوف السيارات عن خمسة صفوف ، بعض السيارات تميل إلى خارج الطريق من الجهة اليمنى محاولة أن تتخطى دورها علها تصل إلى الحاجز قبل غيرها ، بينما كانت بعض السيارات تحاول التسلل من اليسار ، لكن السائقين كانوا حريصين على عدم ترك أية فراغات بين سياراتهم اللهم إلا بضعة سنتيمترات تكفي لتفادي الاصطدام ، كان السائق يدوس على الكابح ليعود فيطلق له العنان من جديد ، وهكذا تتكرر عملية التوقف والتحرك بشكل ممل ولمسافات قصيرة جدا ، كانت عملية السماح للسيارات بالعبور بطيئة جدا ، كان الجنود ينزلون الركاب ، يطلبون منهم الاصطفاف على جانب الطريق ، ليبدأ أحد الجنود في تفحص بطاقات الهوية بلا مبالاة ، بينما كانت نيران الغضب تشتعل في نفوس المنتظرين ، استمر هذا الوضع أكثر من ساعة ونصف ، تجاوزت عقارب الساعة السادسة بقليل عندما وصلهم الدور، طلب منهم جندي النزول خارج الشاحنة ، بينما طلب آخر منهم إبراز بطاقاتهم الشخصية وأخذ يتفحصها على مهل ، سأله الجندي :
- ما اسمك ؟
اغتصب ابتسامة ، فكر في نفسه .. ترى ، ألا يعرف القراءة أم أنه يتفلسف ؟!
نبهه صوت الجندي :
- ما اسمك ؟
أجاب باقتضاب : حياد .
- من أين ؟
- من المخيم .. مخيم خان يونس .
قال الجندي ببلادة :
ما رقم هويتك ؟ أجاب حياد بانفعال :
- وهل تعتقد أنني أحفظ رقم هويتي ؟
دفعه الجندي في صدره بقوة :
لا تناقش أوامر جيش الدفاع .. لا تناقش . ما رقم هويتك ؟
- لا أحفظه ، قلت لك لا أحفظه .
دفعه مرة ثانية بصورة أكثر عنفا :
- في المرة القادمة يجب أن تحفظ رقم هويتك وإلا ...
تناول حياد بطاقة الهوية بينما أخذ العمال يصعدون إلى السيارة بعد أن نزل منها الجندي الذي قام بالتفتيش داخل السيارة تحت المقاعد وفي أمتعة العمال .
وصلت السيارة أخيرا ، ترجل يوسف وحياد بالقرب من مبنى ضخم يقع في وسط مدينة تل أبيب ، سارا بضع عشرات من الأمتار ثم دخلا المبنى ، صعدا على الدرج ، وفي الطابق الثالث دلف يوسف إلى مكتب مؤثث جيدا ، في صدر المكتب يجلس رجل يلبس نظارات طبية ، وأمامه ملف ضخم يقلب في أوراقه ، وفوق رأسه علقت صورة لضابط ببزة عسكرية، يحمل على صدره عددا من الأوسمة والنياشين ، دقق حياد في الصورة وعاد ليدقق النظر في الشحص الجالس على المكتب ، يبدو أن الصورة لذلك الرجل الجالس على المكتب ، ولكنه الآن أكبر سنا مما هو في الصورة ، وقد بدأ الصلع يغزو رأسه ، وبوادر السمنة تظهر على جسده ، نقر يوسف على الباب المفتوح وقال :
- صباح الخير يا سيد روني .
- بوقر طوف " صباح الخير " .
- ها هو حياد الذي حدثتك عنه .
- ها ها .. العامل الجديد ؟
داس بسبابته على جرس المكتب ، جاءته موظفة شقراء الشعر ذات أنف بارز قليلا وجسم بدين ، رسمت على شفتيها ابتسامة عريضة :
- " سليخاه أدوني " معذرة يا سيدي " .
تحدث معها ببضع كلمات باللغة العبرية ، التفتت إلى حياد ، أمسكت يده اليمنى ، طلبت منه بلغة عربية ركيكة أن يأتي معها ، بينما استأذن يوسف وانصرف بعد أن وعد حياد بأن يلتقيا بعد انتهاء العمل ، قادته الموظفة إلى داخل قاعة ضخمة انتشرت فيها الطاولات والكراسي بنظام خاص ، لاح في آخر القاعة بوفيه ضخم ومكان فسيح يبدو أنه أعد للرقص أو ما شابه ذلك ، دلفت الموظفة إلى ممر جانبي ، على جانبيه أبواب مغلقة ، في نهاية الممر باب مفتوح عبره حياد خلف الموظفة التي تركت يده ، وجد أمامه مطبخا ضخما وعددا من مواقد الغاز ، وثلاجة ضخمة وأفران كهربية ، وعددا هائلا من الصحون ، أشارت الموظفة إلى الصحون :
- شغلك هون .. إنت لازم إغسل صخون كويس .
ابتسم حياد ، وفي ذهنه طاف خاطر .. هاي آخرتها يا حياد .
تفتحت مسام عقله ، نسغت منها تلك البيات التي قرأها في كتاب أدب المقاومة في فلسطين المحتلة ، تذكر قول توفيق زياد :
هنا على صدوركم باقون كالجدار
ننظف الصحون في الحانات
ونملأ الكئوس للسادات .
ونمسح البلاط في المطابخ السوداء
حتى نسل لقمة الصغار
من بين أنيابكم الزرقاء
ابتسم حياد .. فعلا ، نحن كذلك وسنظل كذلك ، حتى الساكتون الصامتون ، بل المحايدون أمثالي ، سنظل في حلوقكم كقطعة ، كالصبار ، وفي عيونكم زوبعة من نار .
أشارت الموظفة إلى صابون الجلي ، والليف الموجود على رف خاص ، ثم غمزت بعينها : أنت بتعرف عبراني ؟
- لأ .
- طيب ، شوية شوية ، أنا أعلم إنت
- وماله .
بدأت تحاول تدريبه على استخدام الكلمات الضرورية في البداية .. سليخاه .. بكاشاه .. أني مودى ليخا ، حاولت أن تبدو لطيفة معه ، قالت : إنت مش بقعد كثير هون ، تعلم بسرعة علشان تقدم طلبات للزبائن ، هلقيت شد خيلك وشوف شغلك .
توجه إلى المجلى ، شمر عن ساعديه ، وبدأ يدعك الصحون بالليفة ومعجون الجلي ، ثم يضعها بعد غسلها على رف خاص لتجف ، بدأ العرق يتصبب من جسده وكومة الصحون لم تتناقص ، همس : كان الله في عونك يمه .
العودة إلى القطاع رحلة عذاب يومية ، تتبعثر المشاعر وتتناثر الأحاسيس أثناء الانتظار ، تتفجر براكين الغضب في النفوس فيأخذ السائقون في الضغط على أبواق سياراتهم بطريقة احتجاجية .
كان حياد قد غادر الأولام " الصالة " في نهاية الأسبوع عائدا إلى البيت ، فقد قرر المبيت هناك ليوفر أجرة الطريق ، اتفق مع بعض العمال أن ينام عندهم طوال أيام العمل ، وقد أمضى الأسبوع الأول على أعصابه ، فالغرفة التي ينامون فيها لا تصلح مكانا لتربية الحيوانات ، جدرانها مليئة بالشقوق التي تبصق آلاف من حشرات شبه دائرية حمراء اللون عند حلول الظلام ، لتبدأ في مهاجمتهم وقض مضاجعهم ، تبدأ هذه الحشرات هجومها وهي رقيقة كأنها قشور السمك ، وما تلبث أن تنتفخ لتصبح في حجم حبة العدس أو أكبر ، وعندما يحاول التخلص منها تنفجر لتخرج دما له رائحة كريهة على أصابعه فتشمئز نفسه ، يشعر بالغثيان الذي يدفعه إلى التقيؤ، ولكن القيء لا يسعفه ليظل الغثيان يتجول في جوفه بحرية تامة ، ضحك أحد العمال عندما لا حظ تقلب حياد في فراشه ، مد يده وأمسك بقة بين أصابعه محاذرا أن يفقأها ، ألقاها على حياد قائلا :
- يا أخي نام .. عمرك ما شفت البق ؟
- آه .. إذن .. هذا هو البق الذي طالما حدثني والدي عنه ، لقد غزا المعسكرات التي بنتها الوكالة في أوائل الخمسينات على شكل عنابر تتكون من ثمانية غرف تفصل بينها جدران طينية عشش فيها البق ، كان والده يسهر ممسكا بيده مصباح الكيروسين بعد أن يشعله في المساء ليتتبع جيوش البق الحمراء التي تسير في طوابير على الجدران ، وما إن تشعر البقة بالحرارة حتى تسقط داخل زجاجة المصباح فتجف وتموت .
- فكر حياد في استخدام مصباح الكيروسين في مكافحة البق، ولكن العمال ينامون في الظلام ، ممنوع عليهم إضاءة النور حتى لا تداهمهم الشرطة فيقضون ليلتهم في السجن إلى أن يفرج عنهم بكفالة إلى حين المحاكمة ، والسجن بالتأكيد ليس أرحم من هذه الغرفة، كما قال له أحد العمال، ضحك عامل آخر كان قد جرب السجن بسبب مبيته داخل الخط الأخضر دون تصريح ، قال العامل :
- يوجد هناك بق أيضا .. لا بد أن تتعود على ذلك .
استفز نفير السيارات أحد الضباط الذي أخذ يعربد على السائقين ويلوح بمدفعه الرشاش مهددا متوعدا ، ولكن نفير أبواق السيارات ظل مستمرا ، فقد ملوا الانتظار ، أكثر من ثلاث ساعات وهم ينتظرون ، أحس حياد خلالها بالضجر يتسلل إلى كل خلية من خلايا جسده ، كان الجنود يطلبون من ركاب السيارات أن ينزلوا وأن يقفوا صفا واحدا بجانب بعضهم ، ثم يأخذ الجندي في تفحص بطاقات هوياتهم ببطء ، وبعد ذلك يطلب من السائق فتح مؤخرة السيارة ليتفحص محتوياتها ، ينتقل بعد ذلك إلى داخل السيارة ، يطلب من السائق رفع المقاعد واحدا واحدا ، وبعد أن ينتهي من داخل السيارة يعود إلى المحرك ليتفحصه ، يقرأ رقم المحرك ورقم الشاصي ، وكان بعض الجمود يطلبون من السائق فك دواليب السيارة واحدا بعد الآخر .

نزل ركاب السيارات من العمال ، أخذوا يتجمهرون ويتدفقون صوب حاجز إيرز ، لم يتمالك الضابط أعصابه فأطلق عدة طلقات في الهواء ، فرد العمال بالتلويح بقبضات أيديهم ، بينما أطلق بعضهم الصفير استهجانا ، صاح أحد العمال : يتعمدون إذلالنا .
عقب آخر : وكأنه لا يكفينا ما نلاقيه من تعب طوال النهار .
خفف الجنود إجراءات التفتيش ، أخذ الضابط يلوح بيده اليمنى للسيارات أن تعبر ، تنفس حياد بارتياح حين أدار السائق محرك السيارة بعد أن أشار له الضابط أن يعبر ، اندفعت السيارة بحدة وكأنها تريد أن تقفز عن الحاجز ، وانطلق المذياع يبث أغنية حزينة .

د . محمد أيوب
27-07-2006, 04:09 PM
الكف تناطح المخرز
رواية
بقلم : د . محمد أيوب
الفصل الثامن
- 8 –
- أهلا أبو كفاح .
قالها حياد وهو يمد يده لمصافحة أبي كفاح الذي جاء لزيارته، ابتسم أبو كفاح في ود ، صافح حياد بحرارة ، وقال معاتباً :
- وعدت أن تزورني ولكن ..
قاطعه حاد :
- صدقني أنني كنت أنوي زيارتك يوم السبت القادم ، أنت تعرف .. الامتحانات والعمل .. الحياة مملوءة بالمشاكل .
قال أبو كفاح بدهشة :
- العمل ؟!
استدرك حياد :
- تفضل يا رجل .. تفضل وسأحدثك عن كل شيء .
دخل أبو كفاح إلى المنزل ، أدخله حياد إلى غرفة الجلوس المتواضعة ، جاء أبو حياد لمجاملة الضيف ، فوجئ عندما رأى أبا كفاح ، مد ذراعيه ، وبالأحضان ، وهات يا قبل ، وهات يا سلامات .
- وينك يا راجل ؟ والله زمان !
- برضه يا أبو حياد ، أنا اللي وين ؟ طيب ، اسأل حياد قديش حملته سلامات إلك .. يا راجل اللي بيشرب من بير ما بيرمي فيه حجر .
- ضحك أبو حياد :
- صدقني ما رميت ولا حتى حصوة .
نظر إليه أبو كفاح نظرة ذات مغزى أعادته إلى أيام صباه ، كان يشارك في النشاطات السياسية دون كلل ، وكيف شارك في جماعات الأنصار في بداية الاحتلال ، كيف شارك في الكفاح المسلح على الرغم من قناعته بأن الجماهير لم تعبأ التعبئة الكافية لمثل هذه النقلة النوعية في الكفاح ، كان أبو حياد يعتقد يومها أنه يجب تربية الجماهير تربية فكرية وسياسية ودفعها إلى ممارسة أشكال نضالية تساعد على تطوير قدراتها على مواجهة الاحتلال بصورة منطقية ، لكن المزاج العام طغى على المنطق الذي كان يطرحه أبو حياد ، كانت عواطف الناس مع الكفاح المسلح ، فكيف يمكن إقناعهم بأهمية الكفاح السياسي أو النضال النقابي أو الفكري، كان أبو حياد يحتد كثيرا ، يصرخ في وجه رفاقه :
- ها أنتم تبدءون الطريق من نهايته ، يا ناس حرام عليكم ، الكفاح المسلح أرقى أشكال النضال ، ولا نستطيع أن نبدأ صعود السلم من آخره ، لا بد من تراكم الخبرات لدى الجماهير ، النجاح في المعارك البسيطة يقود إلى النجاح في المعارك الأكبر والأكثر شراسة ، عدونا متمرس يتمتع بخبرات ضخمة ، خلفه تراث استعماري ضخم ، ودعم استعماري أضخم .
كانت بعض العناصر من الفصائل الأخرى يسخرون من آرائه، ماذا سيفعل المنشور ، بل ماذا ستفعل البيانات والمظاهرات والاعتصامات الاحتجاجية ، وهل نحن بحاجة إلى تأطير العمال في نقابات والطلاب في اتحادات طلابية ؟ وأمام قوة الرأي السائد لم يستطع إلا أن يوافق على الانخراط في العمل المسلح ، وقد استُشهد من زملائه من استُشهد ، واعتقل من اعتقل ، ها أنت يا أبو كفاح تعود إلى العمل السياسي من جديد بعد أن أمضيت عشر سنوات من عمرك في السجن لمشاركتك في العمل المسلح ، أما أنا فقد كدت أقتل في أحد الاشتباكات .
تنحنح أبو كفاح :
- والله سلامات .. لوين وصلت يا راجل .
- أبدا .. طافت بخاطري بعض الذكريات .
- الماضي ؟ ألا تستطيع أن تخرج من إطار هذا الماضي ؟! صحيح أنك كنت على حق ، ولكننا كنا على حق أيضا ، كان يجب ألا نتخلف عن حركة الجماهير .
- وألا نتذيل لها .. يجب ألا ننافق الجماهير ، يجب أن نصارحها مهما كانت الصراحة مؤلمة .. آه لو صعدنا السلم من أوله ، كنا قد وصلنا هدفنا .
- احتاج الأمر إلى علاقة جدلية مع باقي الفصائل حتى استطعنا أن نصل إلى ما وصلنا إليه في الدورة التوحيدية في الجزائر .. أعتقد أن الأمر يدعو إلى التفاؤل .
- أرجو ذلك ، كما أرجو أن تترسخ الوحدة الوطنية حول طرح سياسي موضوعي .
- يا رفيق أبو حياد .. أما آن الأوان لكي تخرج من عزلتك ؟ أما آن لك أن تقتلع جذور الإحباط من أعماقك ؟ وهل تظن أن الحياد والسلبية يحميانك من البطش ؟ ها هم قد اعتقلوا أبناءك بسبب ماضيك ، الماضي يلاحقك في الحاضر والمستقبل .. لقد عرفت ابنك في السجن ، بالكاد تذكرني .
ابتسم حياد وقال :
- كنت صغيرا عندما زرتنا آخر مرة .. كان ذلك قبل حوالي خمس سنوات ولم تتكرر الزيارة .
- حياد .. ليس هذا ما جئت من أجله ، تذكر أنني طلبت منك ونحن في السجن أن تعد لي كشفا بعلامات منتصف العام ، وأوراقا أخرى ، وقد أرسلتها لي كما طلبت منك .
- لقد نسيت الموضوع .
- ولكنني لم انس ، فقد استطعت أن أوفر لك منحة دراسية في الدول الاشتراكية .. أبوك منا وفينا ، وأنت أيضا .
ابتسم حياد :
- وما هو المطلوب مني ؟
- مطلوب منك أن تجهز لاسيه باسيه " وثيقة سفر تصدرها سلطات الاحتلال " وأن تنتظر حتى أبلغك بموعد السفر .
رفرف قلب حياد بين ضلوعه مثل عصفور أطل عليه الربيع فأخذ يصفق بجناحيه متنقلا من شجرة إلى أخرى .
***
في صباح اليوم التالي توجه حياد إلى مكتب الداخلية في المدينة بعد أن عبأ طلبا للحصول على جواز السفر ، قدم الطلب إلى الموظف المسئول بعد أن ألصق عليه الدمغة المطلوبة ، قام الموظف بتثبيت الصورة على الطلب ، ووعده بإنجاز المعاملة بعد أسبوعين أو ثلاثة .
خرج حياد من مكتب الداخلية وقرر أن يتوجه إلى عمله ، فهو الآن بحاجة إلى توفير مبلغ معقول أكثر من أي وقت مضى ، أشار إلى سيارة أقلته إلى ساحة الشجاعية في غزة حيث استقل سيارة من هناك إلى تل أبيب .. إلى الأولام " الصالة " .
- لماذا تأخرت ؟
- لم أجد سيارة .. اليوم الأحد كما تعرفين والمواصلات صعبة .
- حبيبي .. أنت لازم تصحو بدري .
- - إن شاء الله .
توجه إلى المجلى فوجد الصحون أكواما في انتظاره ، شمر عن ساعديه وبدأ العمل بنشاط ، لاحقته الموظفة وهي تبتسم ابتسامة عريضة .
قررت الموظفة أن تساعد " حياد " ، عرضت عليه أن يعمل نادلا في القاعة الرئيسية ، يقدم الطلبات للزبائن ويشاهد حفلات الرقص ، ويحصل على البخشيش .
كانت القاعة تغص بالزوار ، وكان النُدُل يروحون ويجيئون ، بعضهم يحمل الطلبات للزبائن ، والبعض الآخر يحمل الطلبات الفارغة ، توجه حياد إلى المكان الذي يحمل منه الطلبات إلى الزبائن ، وهنا استيقظت ذاكرته فجأة .. ما هذا ؟ ! شاهد رجلا يجلس أمام آلة حاسبة ، له رأس أصلع ووجه دائري ، يضرب بأصابعه على الآلة الحاسبة ، وقف حياد مشدوها .. سبق وأن رأيت هذا الرجل ، ولكن أين ؟ أين يا حياد ؟
رفع الرجل رأسه فالتقت عيناه بعيني حياد ، نظر الرجل إلى حياد فترة وجيزة وعاد لمداعبة آلته الحاسبة بأصابعه ، ولكن شيئا ما دفعه إلى إعادة النظر إلى حياد مرة ثانية .
- يا إلهي !!
قال الرجل ثم أردف :
- هذا أنت ؟ الآن تذكرتك .. لا أكاد أنسى تلك الليلة اللعينة.
- - أية ليلة ؟
- تلك الليلة التي قبضوا عليك فيها .
- آه تذكرتك .. أنت الشرطي المدني الذي كان مع الجيش .
- أي نعم .. أنا هو .
- ولماذا أنت هنا ؟ هل تركت العمل في الشرطة ؟
- إنها قصة طويلة يا عزيزي وسأحدثك عنها في وقت فراغنا .
أخذ حياد يتنقل بين الزبائن ، يقدم الطلبات وهو يوزع معها الابتسامات هنا وهناك آملا أن ينجح في عمله الجديد كما نجح في جلي الصحون .
ما إن جاء وقت الاستراحة حتى جاء أبو محمود متهللا تعلو وجهه ابتسامة عريضة ، جذبه من يده وأخذه إلى ركن قصي مشيراً له بيده أن يجلس ، كان حياد يود أن يسمع قصة ذلك الشرطي المدني ولماذا هو هنا ؟ هل هو موجود خصيصا لمراقبة الموظفين العرب ؟ أم أنه ترك عمله حقيقة ؟ تذكر حياد تلك النصيحة التي قدمها جندي من حرس الحدود المصريين لوالده ، يقول والده إنه صادق ذلك الجندي وجالسه أكثر من مرة في المقهى وفي لحظة مكاشفة قال الجندي لوالده :
- اسمع يا محمد، عاوز أنصحك نصيحة لوجه الله. دهش أبو حياد عندما سمع هذا الكلام ولكنه آثر أن يلوذ بالصمت.
أكمل الجندي المصري :
- ابن الحكومة .. اللي يلبس الكاكي ده ما يتاخدش منه صاحب .
علت الدهشة وجه والده ، ولكن الجندي استطرد : ذمته كاوتش .. تمطها توصل البحر ، تضمها ما تجيش تعريفة ، أنا دلوقت لو عاوز آخذ شريط على حسابك ممكن أحط لك حتة حشيش في جيبك وأضبطك وأنت متلبس وآخذ ترقية وأنت تدخل السجن .
تذكر حياد حديث والده عن ذلك الجندي المصري والذي بلغ به الصدق والصراحة إلى درجة أن يحذر صديقه من أن يطمئن إليه ، كان والده يكرر كلمات ذلك الجندي بلهجته المصرية : ابن الحكومة اللي يلبس الكاكي ما يتاخدش منه صاحب ، ومع ذلك قرر حياد أن يجلس وأن يستمع إلى ذلك الشرطي المدني ، أن يتحدث معه ليرى ويسمع ما عنده ، أعاده أبو محمود من شروده حين سأله :
- كيف الامتحان ؟ يا ترى كنت كويس ؟
ابتسم حياد :
- صحيح أن الموقف أثر علي ، ولكني أعتقد أن النتيجة ستكون جيدة .
توقف حياد ثم أردف :
- أريد أن أسأل : لماذا أنت هنا ؟
- قلت لك إنها قصة طويلة ، ولكني سأحدثك باختصار قبل أن ينتهي وقت الاستراحة ، أتذكر تلكك الليلة وكأنها كانت بالأمس ، طلبوا أن أخرج معهم للقيام ببعض الاعتقالات الاحترازية بين الشيوعيين خشية قيامهم بأعمال شغب أثناء إضراب يوم المساواة .
قاطعه حياد : ولكنني لست شيوعيا .
- هم يدركون ذلك ، ولكنهم كانوا يريدون معاقبة والدك لأنهم يعتقدون أنه شيوعي ، كانوا يريدون أن يؤلموه ، ولكن ثورة والدك فاجأتهم ، ما زلت أذكر بعض عباراته .. حكومة جنوب أفريقيا أشرف منكم .. أبوكم على أبو هويتكم ، لم أشاهد ثورة مثل ثورة والدك ، اعتقدت أنه سكران ، ولما سألته: أنت مسطول يا حاج ؟ شتمنى وقال: أنا أصحا منك ، وحين حاولت أمك أن تستعطف الضابط المسئول نهرها وشجعها على مهاجمتنا ، وقد كان نصيبي بصقة مسحتها بطرف كمي ، ولكن دعاء والدتك على أبنائي آلمني وأزعجني ، هل تعلم أنه ليس لي سوى ابن واحد بين ست بنات ، شعرت حينها أن قطارا سيدوس ابني الوحيد ، قضيت تلك الليلة قلقاً ، كان نومي متقطعا ، ساورني اعتقاد أن مكروها سيصيب ابني ، وعندما حان موعد الإجازة ركبت السيارة متوجها إلى البيت ، كنت أود أن يطير السائق عن الأرض، ولما وصلت البيت كان الذعر يسكن خلايا جسمي ، صحت : أين محمود يا أم محمود .. أين محمود ؟
- رابني صمتها ، نظرت إلى عينيها فلم أجد إلا نظرة جامدة، اندفعت ابنتي الصغيرة نحوي وتعلقت بي ، سألتها : أين محمود ؟
قالت ببراءة : محمود عيان يا بابا .
اندفعت كالمجنون إلى الداخل ، وجدته يرقد في الفراش ، كان جسمه يشتعل من شدة سخونته ، حملته بين يدي وتوجهت فورا إلى الطبيب ، كانت زوجتي تعتقد أنه مصاب بالحصبة فحاولت أن تهون الأمر علي ، أخبرني الطبيب أنه يجب إدخال محمود إلى المستشفى لأنه مصاب بالدفتيريا وهناك خطر على حياته ، نذرت وقتها أن أترك العمل في الشرطة إن من الله على ابني بالشفاء ، وها أنت ترى .
- الحمد لله على سلامة ابنك .
ابتسم أبو محمود ، كنت أعتقد أن والدك مسطول لأنه ثار علينا ، ولكن عندما مرض ابني محمود أدركت أن والدك كان محقا في ثورته علينا ، ولو لم يثر لكان شاذا ومسطولا .
أردف أبو محمود : ستوافق على زيارتي في البيت ، أريدك أن تتعرف إلى أم محمود .
- موافق بشرط أن يوافق والدي .
- ليكن.. تحديد الموعد متروك لك ، والآن هيا بنا إلى العمل.
***
في نهاية الأسبوع عاد حياد إلى البيت ، كانت الأسابيع الثلاثة قد مضت ، وكان كل أمله أن يحصل على جواز السفر ، توجه إلى مكتب الداخلية ، قدم الإيصال إلى الموظف ، وكم كان سعيدا حين ناوله الموظف جواز سفر بني اللون ، كاد يطير من الفرح ، سأل الموظف :
- الآن أستطيع السفر إلى الخارج ؟
ابتسم الموظف : تحتاج إلى إقرار قبل أن تسافر .
- طيب ، أعطني الإقرار لو سمحت .
ناوله الموظف ورقة مطبوعة باللغة العبرية ، وقال :
- عبئ هذا النموذج على الآلة الكاتبة عند أحد الكتبة في الخارج .
خرج حياد بسرعة ، توجه إلى أحد الكتبة الموجودين على الرصيف المقابل ، ناول النموذج للكاتب وطلب منه تعبئته ، طلب منه الكاتب جواز سفره ليأخذ منه المعلومات المطلوبة ، وبعد إتمام تعبئة النموذج ناوله إياه :
- الآن باستطاعتك أن تقدم الإقرار إلى الحاكم العسكري .
- الحاكم ؟! تساءل حياد بدهشة .
ابتسم الرجل وقال :
- لا تقلق ، الإقرار ليس مشكلة ، قد تأخذه فورا ، وإن تأخر فلن يتأخر أكثر من ثلاثة أو أربعة أيام .
مشى حياد متثاقلا .. يقدم رجلا ويؤخر أخرى ، لا بد من تقديم الإقرار الآن ، توجه إلى البوابة الغربية التي تطل على مركز الشرطة ومبنى الداخلية ، قدم الإقرار للجندي الجالس عند المدخل ، طلب الجندي منه بطاقة الهوية ، أشار له أن يدخل بعد أن سجل رقمها ، وفي الداخل وجد جنديا آخر ، ناوله الإقرار فطلب منه أن ينتظر قليلا ، وبعد فترة عاد الجندي وناوله ورقة تحمل رقما وقال : عد بعد ثلاثة أيام .
قرر حياد أن يأخذ إجازة من عمله .. وفي اليوم الرابع توجه إلى مكتب الحاكم العسكري .. قدم الورقة إلى الجندي الذي غاب فترة وجيزة عاد بعدها ليقول :
- الإقرار عند المخابرات ، اذهب إلى هناك بعد أسبوع .. في الساعة الثامنة صباحا .
***
ظهرت نتيجة الثانوية العامة ، كانت قوائم أرقام الناجحين ومعدلاتهم موجودة لدى شخص في معسكر الشاطئ، كان هذا الشخص لا يعطي النتيجة لأي طالب إلا بعد أن يدفع له خمسة عشر شاقلا جديدا ، وإذا كان الطالب راسبا يعيد له المبلغ .
لم يرغب حياد في دفع هذا المبلغ لأن المفروض أن تقوم مديرية التعليم بتوزيع النتائج على المدارس وألا تترك الأمر بيد تاجر يبتز الطلاب ، ولكن والده حثه على الحصول على النتيجة عندما شاهد قلقه .
كانت النتيجة مشرفة ، ولكن القلق لم يغادر قسمات وجه حياد ، فقد بقي المشوار الصعب .. الحصول على الإقرار ، حثه والده على تقديم طلبات التحاق إلى جامعة بير زيت وجامعة النجاح ، قال والده :
- يجب ألا ندلق ما في قدرنا من ماء بانتظار المطر .
علق حياد : ولكن الأمر يحتاج إلى مصاريف كثيرة .
قال الوالد : اطرق جميع الأبواب واختر الأنسب .
أطرق حياد مفكرا .. لو يحصل على الإقرار .. هذا الإقرار اللعين .. تصورت أن الأمر بسيط ولكنه يزداد صعوبة .
استطرد والده : اعمل اللي عليك وخلِّ الباقي على الله .
- ولكن جامعاتنا تفتح شهرا وتتعطل شهرين .
علق الوالد : شيء أفضل من لا شيء ، أخشى ألا تحصل على الإقرار فتضيع جميع الفرص .
اقتنع حياد بوجهة نظر والده ، قرر أن يتقدم بطلبي التحاق لكل من جامعتي بير زيت والنجاح .
مضت أيام الأسبوع بطيئة ثقيلة ، أحس وكأن دهرا قد مر قبل أن يأتي ذلك اليوم الموعود ، ساوره القلق ، ترى ماذا سيحدث اليوم ؟ هل سيقابلني الضابط المسئول ؟ وكيف ستكون المقابلة ؟ وما هي الأسئلة التي قد يطرحها علي ؟ وهل يعطيني الإقرار أم انه سيرفض طلبي ؟
سار بخطى وئيدة متجها نحو الشرق ، لا بد من الذهاب قبل الساعة الثامنة صباحا حتى لا تضيع الفرصة ، وصل البوابة الشمالية لمقر المخابرات في تمام الساعة الثامنة ، قدم بطاقته الشخصية للجندي الجالس عند البوابة ، أشار له الجندي أن يجلس في الخارج حتى ينادي عليه ، مضت الدقائق ثقيلة بطيئة ، كان حياد ينظر إلى ساعته بين الفينة والأخرى ، سأل أحد الشباب الموجودين في المكان :
- متى يمكن أن يطلبونا ؟
- ليس قبل العاشرة .. أنت وحظك .
دقت الساعة في معصمه معلنة التاسعة ولم يحضر أحد ، الساعة التاسعة والربع ولم يحضر أحد ، جاءه صوت مذياع يعبث الجندي الجالس عند البوابة بمؤشر محطاته ، كول يسرائيل مِ يورشلايم " صوت إسرائيل من القدس " .. جالي تصاهل " موجات جيش الدفاع " .. هنا دمشق .. أعلنت الساعة تمام التاسعة والربع .. إليكم موجزا لأهم الأنباء ، كان حياد حاضرا غائبا ، صوت المذياع يطن في أذنيه ، هنا دار الإذاعة الإسرائيلية .. إليكم نشرة الأنباء نستهلها بالموجز ، تابع صوت المذيع وهو لا يكاد يعي مما قاله شيئا .. انبعث صوت أغنية عاطفية من المذياع الذي اختلط صوته بصوت لاسلكي انبعث من الباحة الداخلية ، أشار لهم الجندي أن يبتعدوا إلى الرصيف المقابل ، وفي تمام الساعة العاشرة نادى عليهم الجندي أن يقتربوا ، قال : اللي بده يقابل كابتن دان يجيب هويته .
سلم حياد بطاقة هويته الشخصية آملا ألا يطول انتظاره ، سلم آخرون بطاقاتهم ، قادهم الجندي إلى الداخل وطلب منهم أن يجعلوا وجوههم في مواجهة الحائط ، قام بتفتيشهم واحدا واحداً ، ثم أدخلهم إلى غرفة ضيقة وأغلق الباب عليهم ، وجدوا بعض الأشخاص في الداخل .. نظر حياد إلى الغرفة .. إنها أضيق من أن تتسع لهم ، جلس البعض على أرضية الغرفة ، بينما أخذا البعض ينظر من الشقوق الموجودة في شيش الشباك ، أشعل آخرون السجائر ، أحس حياد أنه يختنق ، بدأ العرق يسيل من الأجساد ، وبعد حوالي ساعة فُتح الباب وأطل الجندي بوجهه :
- أحمد حسين .
نهض شاب وخرج مع الجندي ولم يعد ، وبعد حوالي ربع ساعة أطل وجه الجندي من جديد :
- يوسف أحمد علي .
نهض شاب آخر ، نفخ حياد ، كاد الضيق يخنقه ، وبعد حوالي ثلاث ساعات جاء دوره ، أطل وجه الجندي : - حياد محمد
نهض حياد مسرعا ، خفق قلبه ، لا بد أن يحصل على الإقرار بعد هذا الانتظار الطويل ، ناوله الجندي بطاقته الشخصية قائلا:
- عد بعد يومين .
باخت مشاعره ، تصبب العرق من أنحاء جسمه ، خرج متثاقلا ، ود لو يبصق في وجه ذلك الجندي ، لكنه تمالك أعصابه واتجه نحو البوابة الخارجية والأسى يعتصر قلبه .

د . محمد أيوب
02-08-2006, 10:25 AM
الكف تناطح المخرز
رواية
بقلم : د . محمد أيوب
الفصل التاسع
( 9 )
الإقرار .. السفر .. امتحان القبول في بير زيت ، الجسر .. المطار .. الليسيه باسيه .. نقطة العبور . عمان . . قبرص .. بير زيت .. النجاح .. رام الله .. مجلس الأمناء .. الأولام .. العمل .. حاجز إيرز .. الانتظار اليومي.. العمل أم التعليم؟
هواجس كثيرة كانت تقض مضجعه ، تمزق نسيج الراحة في أعماقه .. هل يحصل على الإقرار ويغادر المنطقة لإكمال تعليمه ؟ أم أنهم سيمنعونه من السفر دون سبب ؟ وإذا قبل في بير زيت فكيف سيكون وضع والده ؟ عبء الحياة ثقيل ، مصاريف الدراسة الجامعية أثقل من الحياة ذاتها .. هل يتخلى عن طموحه ويرضى بالعمل في الداخل ، يجتر الحياة بطعمها القاتم كل يوم ، والده لا يشعره بشيء ، قسمات وجهه محايدة لا يستطيع استقراء شيء منها ، ولكنه إنسان يحس ويشعر ، يرى ذلك القلق الكامن في أعماق والده وكأنه حجر ألقاه طفل وسط بركة راكدة فتولدت فيها مويجات قصيرة الطول قصيرة الأجل سرعان ما تندثر لتعود فتولد من جديد، كان القلق الذي يعشش في أعماق والده مويجات يكبتها والده فتموت وتتلاشى قبل أن تكتمل .
وفي صباح أحد الأيام تناول إحدى الصحف اليومية وبدأ يقلب صفحاتها، وفجأة صافح عينيه إعلان يحدد الدفعة الأولى من الطلاب المقبولين في جامعة بير زيت ، تنقل ببصره بين الأرقام ، هتف فجأة :
- انظر يا والدي .. لقد قبلت في جامعة بير زيت .. في الكلية التي أريدها .
- مبروك .
قال والده ثم أردف : عليك الآن أن تسرع في إتمام إجراءات التسجيل .
نبت خاطر مزعج في أعماقه ، قال بصوت خفيض :
- ولكن ماذا عن الرسوم ؟
- ولا يهمك تتدبر .
***
بعد إتمام عملية التسجيل قرر أن يعمل أطول مدة ممكنة حتى يستطيع أن يوفر بعض المال من أجل الدراسة في الجامعة .
توجه مبكرا إلى الأولام ، وجد أبا محمود هناك فصافحه بحرارة ، سأله أبو محمود :
- ماذا فعلت ؟ هل حصلت على الإقرار ؟
- لا . أجلوني أكثر من مرة .
- حياد .. يجب أن تضع في اعتبارك أنك لن تحصل على الإقرار ، كنت أود أن أقول لك أنك لن تحصل عليه فأنا أعرفهم جيدا ، ولكني لم أشأ أن أضايقك .
- ولكني قبلت في جامعة بير زيت وسأدرس هناك ، سأظل زيتونة تضرب جذورها في أعماق هذه الأرض ، حتى لو حصلت على الإقرار ، سأظل أتنفس ذكرياتي هنا إلى أن أعود ، أشعر أنني جزء من هذه الأرض ، شجرة من أشجارها ، صخرة من صخورها ، قطرة من ينابيعها ، نسمة من هوائها .
- آمل أن توفق في دراستك ولكن .. لا تنس أنك وعدتني أن تزورني في البيت .. أم محمود تريد أن تتعرف عليك .
- إن شاء الله .
- والآن هيا إلى العمل .
انطلق حياد بحيوية ونشاط يعيد ترتيب الأشياء ، يمسح الطاولات بقطعة من القماش ، بدت الطاولات أكثر صفاء من قبل، والستائر تتراقص مع نسمات الريح التي تداعبها برفق، أطل من النافذة ، بدا له البحر لوحة جميلة متناسقة الألوان ، تداخل اللون الأزرق مع اللون الأخضر ليحيط بالصخور البنية أو المائلة إلى السواد ، بدت الصخور بقعة مظلمة يحاصرها الضوء من كل جانب ، الموجات تنساب بحنان ، تداعب رمال الشاطئ برفق ، أحس طعم الحنان الذي كانت تحمله أصابع أمه حين تداعب خصلات شعره أو أجزاء من جسده ، كم هو حنون ذلك البحر في هذا الصباح الرائق الندي، اقترب من البوفيه ، ود لو يتجرع كأساً من إحدى الزجاجات ، ولكنه لا يدري ما هو المشروب الأفضل ، تناول الزجاجات واحدة واحدة ، أخذ يمسحها برفق ويعيدها إلى مكانها في هدوء .
أدرك أبو محمود رغبته ، ابتسم ، ربت على كتفه :
- ليس الآن .. بعد أن تتناول طعام الإفطار .
***
جلس الاثنان إلى المائدة ، وضعا أمامهما كأسين وزجاجة من الويسكي، تناول حياد رشفة من كأسه ، لم يتقبل الطعم في البداية ، ولكنه عاد فتناول رشفة أخرى ، سكب له أبو محمود جرعة أخرى سكبها في جوفه دفعة واحدة ، وما إن انتهى من تناول طعامه حتى قام ليواصل عمله مرة ثانية .
أحس وهو يبدأ عمله من جديد أن جسده بدأ يشف تدريجيا شفافية غريبة كست الأشياء من حوله ، أحس أن الأشياء من حوله ليست غريبة عنه ، كانت أواصر القربى تشده إلى الكراسي والطاولات والستائر والبوفيهات ، تأمل الجدران بلونها الزاهي ، الصالة تكاد تحمله على أجنحتها ، ود لو يطير ، يحلق عاليا في الفضاء ، يجعل من أحلامه وطموحاته أجنحة تحلق به ليستشرف هذه الأرض عن بعد ، بدت آماله أكبر من أن تتسع لها الكرة الأرضية ، حتى الفضاء بدا أضيق من أن يتسع لما تجيش به نفسه .. آه يا حلمي الكبير .. متى تتحقق أخوة الإنسان للإنسان ؟ متى تتاح الفرص لكل الناس على قدم المساواة .. لكل حسب كفاءاته وقدراته ؟ متى يتوقف المنافقون والكذابون والغشاشون عن سرقة فرص أصحاب القدرات الحقيقية ؟ هذه الحياة تتلفع بعباءة سوداء من النفاق والزيف ، تضع الرجل في غير المكان الذي يناسبه تعطي المنافق مكانا أكبر من قدراته فيتسلط وينشر النفاق والكذب ، يستطعم النفاق لأنه السلم الذي أوصله إلى مكان يستحقه غيره , آه يا حلمي الكبير .. آه ، لقد سرقوا بالغش في الامتحانات فرصا كانت من حقي ، المنح التي تقدمها الوكالة، المنح المخصصة للطلبة الأوائل في بير زيت، ضاع تعب الأيام وسهر الليالي في لحظة غش تافهة ، ولكني ما زلت أحلم أن يتغير هذا العالم .. أن نحفر قبراً أبديا للنفاق والخداع والغش ، أن تسود أخوة حقيقية بين البشر ، أن يتوقف الناس عن قتل بعضهم ، أن تتحول السجون إلى مدارس ورياض أطفال ، أن تصبح النصب التذكارية للجنود المجهولين تماثيل لتكريم أولئك الذين بذلوا جهودهم في سبيل سعادة الإنسان ونشر السلام .
ابتسم ، اتسعت ابتسامته ، تطورت إلى ضحكة بصوت مسموع ، رددت الصالة صوت ضحكته ، اعتقد أن الصالة تشاركه الضحك ، بل تشاركه أحلامه وطموحاته .. ياه .. حتى أنت أيتها الجدران ، أيتها الطاولات والكراسي تدركين وتشعرين ، كنت أظنك جامدة بلا أحاسيس فإذا أنت أكثر حساسية وشفافية مني ، تضحكين عندما أضحك وتحزنين عندما أحزن ، آه يا حلمي الكبير آه ، ظننت أنني وحيد في هذا العالم فإذا أنا همسة موسيقى حالمة في سيمفونية خالدة أبدية ، زهرة تتفتح باستمرار ، نحلة لا ترتوي من رحيق الحياة ، آه يا قلبي الكبير .. متى يقر لك قرار ؟ متى تصل إلى شاطئ الأمان ؟ متى ؟
اقتربت الشمس من المغيب ، اكتسى الأفق بلون أرجواني توشح ببعض الغيوم الرمادية ، أطلت الشمس من ورائها مثل غانية تستدرج عشيقها كي يتبعها إلى خدرها ، أحس وكان الشمس تغمزه بعينها أن اتبعني إن كان حلمك كبيرا حقا ، ضحك بصوت مسموع وقال : أكبر منك !التفت أبو محمود نحوه ، ظن أن به مَسّاً من السكر ، ابتسم حياد :
- كنت أتحدث إلى الشمس .
قطب أبو محمود ما بين حاجبيه :
- ماذا ؟ !
ثم وضع يده على جبهة حياد :
- هل أنت مريض ؟ هل تشعر بالتعب ؟
- لم أشعر بالسعادة كما أشعر بها اليوم ، فأنا أقترب من عبور البوابة الكبيرة للحياة ، أود أن أغير هذا العالم وأن أُطَهِّره من الشر والظلم .
- لا تحلم كثيرا حتى لا تقتلع نفسك من أرض الواقع ، سيبقى الظلم والشر طالما بقي البشر .
- ولو يا أبو محمود ! الإنسان أطيب مما تتصور .
***
صدحت الموسيقى فرددت الجدران أصداءها ، أصابته سهام الموسيقى المرتدة عن الجدران ، أحس أنه يترنح تدريجيا ، تكاد تحمله الأنغام فوق أجنحتها ، تحرك وكأنه يطير بين الزبائن ، كان يقم الطلبات وقد علت محياه ابتسامة لطيفة ، أحس أن تكاملا من نوع ما يربط بين موجودات الصالة ، من رجال ونساء وكئوس وأكواب وملاعق وصحون وطاولات ، حتى الجدران ظهرت أمام عينيه وكأنها تشارك بعض الفتيات الرقص ، شعر أن النوافذ عيون تتلصص خلسة إلى ما يجري داخل الصالة وكأنها استطابت المنظر فسمحت لنسيم البحر الندي أن يدخل ليلطف من حرارة الجو ، أو ليشارك الراقصين رقصهم ، صحيح أنهم يرقصون بطريقة مغايرة .. أين هذا الرقص من الرقص الشرقي .. ولكن الإنسان هو الإنسان في شرق العالم وغربه .. شماله أو جنوبه .. يفرح ويحزن .. يحب ويكره.. تصفو له الدنيا فيبتسم ، وتتكدر فيعبس .. هكذا هي الدنيا .. منحنيات بيانية من السعادة والتعاسة ، وها أنا أقف اليوم على قمة منحنى السعادة .. آه يا حلمي الكبير .. كم أود أن أظل متربعا على تلك القمة وألا أهبط إلى ذلك السفح الذي يقودني إلى المنحنى الآخر .
غمزته فتاة تطلب كأسا من الويسكي :
- عود آخاد " واحد آخر "
ابتسم قدم لها الكأس .. مسته بجسدها .. شعر بلهب يجتاح كيانه من الداخل ، احمرّ وجهه ، ابتسمت :
- مُوتِك " لطيف "
مالت ناحيته ، استقر نهدها الأيسر على ساعده الأيمن مثل صاروخ سقط في منطقة آهلة بالسكان ولكنه لم ينفجر ، داهمه ذعر همجي .. استيقظت روحه الشرقية ، ابتعد عنها وذرات كيانه في هرج ومرج ، اصطخبت الحياة في عروقه .. لاحقته بنظراتها ، غمزته بإحدى عينيها .. كم هي وقحة تلك الفتاة .. الشمس الغربة .. أدرك أنها تطلب منه شيئا لا يود أن يمنحها إياه .. بكارته ، فهو يشعر أن للشاب بكارة مثل الفتاة ، يجب أن تظل مختومة بالشمع الحمر ، لا يفضها إلا الشريك الآخر حين يأتي الوقت المناسب ، وسيأتي ذلك الوقت الذي يستطيع فيه الاختيار .. أما أن تجره غمزة أو ابتسامة إلى خدر غانية فهذا من رابع المستحيلات .
***
الجليل .. ذلك الشموخ الرابض في قلب فلسطين يطل من بعيد ، بينما كانت السيارة تغذ الخطى في طريقها إلى زهرة الجليل .. إلى الناصرة ، تلك المدينة التي تتربع فوق عرش الأرض لتعانق السماء .. التفت إليه أبو محمود قائلا :
- سترى في طريقك الكثير الكثير من القرى العربية مثل مَجِدُّو وأم الفحم ، ما زال الطابع العربي يكسو الأشياء على الرغم من تغييرهم لبعض الأسماء والمسميات .
كان حياد شارد الفكر ، فقد تعلق قلبه بالناصرة ، لطالما هامت روحه في شوارعها دون أن يراها ، كان يحب تلك المدينة كما يحب مدينته التي هُجِّرَ أهله منها ، كثيرا ما حدثه أبوه عن الناصرة رمز الشموخ والتحدي ، تلك المدينة التي تعلقت بأهلها فلم يغادروها كما فعل سكان غيرها من المدن العربية ، لذلك بقيت جداراً صلدا في وجه الاجتياح ، شوكة في حلق من أرادوا طمس الملامح العربية لهذه الأرض فأنشئوا الناصرة عيليت " العليا"، ولكن يد الناصرة العربية بقيت هي العليا ، الناصرة ، المسيح عيسى بن مريم عليه السلام ، يوسف النجار ـ النخلة .. المخاض .. متى تأتي أيها المخاض الكبير ؟ متى ؟
استمرت السيارة في طريقها وكأن الطريق لن تنتهي ، كانت القرى العربية تطل عن بعد على جانبي الطريق والناصرة تعانق الأفق .. لا بد لمن يريد الوصول إليها من التعلق بأذيال الأفق القريب البعيد ، ود حياد لو يقضي إجازته الأسبوعية في ضيافة أبي محمود ، كان يريد أن يتعرف على ذلك الرجل خارج تجربته معه ، يريد أن يعرفه في بيته وفي مدينته التي يسكن فيها ، لا بد للسيارة من الصعود في طريق ضيق يرتفع بحدة حتى تستطيع دخول الناصرة ، خفق قلب حياد ، تقلص جسده ، ألقى نظرة على الوادي السحيق الذي تخلصت منه السيارة قبل وقت قصير ، أغمض عينيه بسرعة .. ماذا لو فقد السائق السيطرة على السيارة ؟ ماذا لو هوت بنا السيارة إلى عمق هذا الوادي ، كان يحس بأنه زهرة لم تتفتح بعد ، ولا يريد أن تأتي يد عمياء تقتطفها قبل الأوان ، فقد كان يشعر أن يدا عمياء تلاحقه وهو يفر منها باستمرار .. ترى هل تستطيع تلك اليد العمياء أن تمسك به هنا أثناء صعوده إلى الناصرة لتجره إلى قاع الوادي .
لمست يد أبي محمود كتفه برفق :
- كدنا نصل .
- عاد إليه هدوؤه ، فقد غارت تلك اليد العمياء بعيدا إلى قعر الوادي السحيق ، وها هو يشعر بالطمأنينة .. سيرى الناصرة وتراه ، سيعانقها بنظراته التواقة إليها وكأنه يعرفها منذ زمن بعيد .
- توقفت السيارة ، دعاه أبو محمود إلى النزول ، سارا على الرصيف ، شاهد حركة غير عادية ، وكأن المدينة تعيش حالة تعبئة قصوى .. ترى ، ما الذي يجري هنا ؟
- ابتسم أبو محمود وكأنه سمع تساؤله : إنهم يستعدون لافتتاح المهرجان السنوي للعمل التطوعي الذي تقيمه بلدية الناصرة .
***
عند وصولهما إلى البيت استقبلته أم محمود بمودة غامرة ، فقد عرفته فورا ، نادته باسمه وكأنها تعرفه منذ زمن بعيد :
- أهلا يا حياد يا ابني ، نورت بيتك ومطرحك .
مد حياد يده مصافحا ، اندفع طفل لم يتجاوز السادسة بعد :
- أنت حياد ؟ لماذا دعت أمك علي ؟
ابتسم حياد ، ربت على كتف الطفل ، غمز بعينه ضاحكا :
- اسأل بابا يا حبيبي . تنحنح أبو محمود :
- خلاص عاد .. خلونا نقعد وبعدين بنحكي .
دخل أبو محمود حجرة الضيوف ، تبعه حياد ، بينما دخلت أم محمود إلى المنزل لتعود حاملة أكواب العصير المثلج ، قدمتها إلى حياد قائلة : تفضل .
تناول حياد كأسا ، بدأ يرتشف الشراب في أناة وهو يختلس النظر إلى أم محمود، التصق محمود بأبيه بينما طبع والده قبلة على خده ، قال أبو محمود وكأنه لاحظ نظرات حياد : الضنا غالي ، لقد قدرت موقف والدك ووالدتك وخصوصاً بع مرض محمود ، معزّة الابن تظهر في المواقف الصعبة .
علقت أم محمود : كدنا نفقد الولد لولا لطف الله ، وقد نذر أبو محمود أن يترك العمل في الشرطة إن شُفي محمود ، وبالفعل حصل ، والفضل كله يرجع إلى تلك الليلة ، كانت تجربة قاسية كما حدثني أبو محمود ، لم يشهد في حياته أصعب منها ، كانت دعوات أمك لسعات سوط على جدران قلبه .
التفت أبو محمود نحوها قائلا :
- حضري لنا طعام العشاء ، سأذهب أنا وحياد لمشاهدة المسيرة السنوية التي تسبق افتتاح مهرجان العمل التطوعي، تأبط أبو محمود ذراع حياد وأمسك يد ابنه محمود باليد الأخرى ، خرجوا إلى ساحة العين حيث مكان التجمع لبدء انطلاقة المسيرة ، كانت الشوارع شبه خالية إلا من بعض رجال الشرطة الذين يسيرون هنا وهناك ، بينما كانت سيارات حرس الحدود تمر مسرعة وكأنها تستطلع الأجواء ، كانت أبواب المحال التجارية مغلقة ، ظن حياد أن حظرا للتجول فرض على المدينة ، سار ثلاثتهم بسرعة ، فقد اقترب موعد انطلاق المسيرة ، وحين وصلوا إلى المكان أصيب حياد بالذهول .. بحر زاخر من البشر .. بعضهم يحمل وجها مألوفا والبعض الآخر له ملامح غريبة، ولكن ملامح مشتركة كست وجوه الجميع، الاهتمام والتحفز كانا باديين على الوجوه ، وفجأة أعلن أحدهم عن بدء المسيرة ، كان الجميع مصرين على عدم إتاحة الفرصة للشرطة للتدخل، في مقدمة المسيرة سارت الوفود الأجنبية من مختلف دول العالم، تلتها وفود الضفة الغربية وقطاع غزة ، ووفود المدن العربية واليهودية ، والآلاف من أبناء الناصرة والقرى العربية المجاورة ومن أبناء الضفة والقطاع ، رفرف قلب حياد بين ضلوعه ، كانت الناصرة أشبه بمدينة محررة .. دولة شامخة .. اقتربت الناصرة من السماء فأصبحت أقرب إلى عين الله .. لبست المدينة حلة قشيبة .. كانت عروسا تنتظر عريسها ، اندفع ذلك السيل البشري وئيداً وئيدا ، بينما كانت أسطح المنازل المطلة على الشارع الرئيسي في الناصرة تعج بالناس ، لعلعت الزغاريد في الجو .. كانت كاميرات الفيديو تسجل تلك اللحظة الباهرة ، التفت حياد خلفه آملا أن يشاهد نهاية المسيرة فلم ينجح في ذلك ، كان البشر سيلا يتدفق من عين لا تنضب ، صاح حياد وقد ارتعش قلبه :
- أين الشرطة ؟ أين حرس الحدود ؟ هل يستطيعون أن ينظموا الناس أكثر من هذا ؟ ما رأيك يا أبو محمود ؟
ابتسم أبو محمود :
- إرادة الإنسان تفتت الصخر يا حياد ، لقد بدأت مهرجانات العمل التطوعي متواضعة بسيطة ، لم يكن أحد يتوقع نجاحها ولكنها نجحت ، لقد حاصروا الناصرة بعد نجاح الجبهة في الانتخابات ومنعوا عنها الأموال ، لكن رئيس البلدية المنتخب لم يدر لهم خده الأيسر ، بل صفعهم أقوى من تلك التي وجهوها له ، ابتدع فكرة العمل التطوعي للتغلب على العجز المالي ، تبرع الناس بالطعام والجهد ، بالمال والعرق ، استطاعوا بناء المشاريع التي كانت المدينة في حاجة إليها ، ظنوا أن المهرجان الأول فورة حماس لنجاح الجبهة ، لكن المهرجان الثاني أكد أصالة هذا الشعب وقدرته على العطاء ، آه يا حياد ما أجمل العطاء ! أن تعطي دون أن تنتظر الجزاء يجعل لحياتك معنى .
وصلت طلائع المسيرة إلى الملعب البلدي ، كان في الانتظار عدد من منظمي المهرجان الذين يحملون شارات خاصة ، بدأ الضيوف يحتلون المقاعد الموجود في الساحة الواسعة ، كانت هناك منصة عالية جلس عليها رؤساء الوفود إلى جانب رئيس بلدية الناصرة ، ثم بدأ عريف الحفل يقدم فقرات الاحتفال ، تحدث توفيق زيّاد عن فكرة العمل التطوعي ثم ختم كلمته مطالبا الحضور بالتبرع لتغطية نفقات المتطوعين ، انهالت التبرعات.. بعضها ضئيل وبعضها أكبر، لكن مغزاها كان أكبر من أي شيء آخر ، ثم تحدث رؤساء الوفود .. وفد الكومسومول الروسي، وفد الشبيبة القبرصية، لجان العمل التطوعي في أمريكا ، ثم تحدثت امرأة من مشوهي قنبلة هيروشيما ، فقدت نعمة البصر ، جاءت من اليابان لتعبر عن تضامنها مع حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره ، ثم عرضت على الحضور ، بواسطة أحد مرافقيها ، ألبوما يحوي صورا تسجل حياتها قبل وبعد إصابتها بالإشعاع النووي ، ولكنها مع ذلك تشبثت بالحياة .. تؤيد المظلومين في دفاعهم عن أنفسهم .. استمرت الكلمات حتى الساعة العاشرة ليلا حيث انتهى الحفل على أن يلتقي المتطوعون في صباح اليوم التالي للمشاركة في بناء الناصرة، مدينة السلام ، رمزا للتعاون بين الشعوب .
قرر حياد أن يساهم بيوم عمل تطوعي في الناصرة ، ضحك أبو محمود وقال :
- كنت أتوقع أن أريك معالم الناصرة .
- ولكني سأترك بصماتي فوق قلب الناصرة ، ألا تشاركني يا أبا محمود ؟
- بل أشاركك ، وأم محمود ستشارك أيضا .
دهش حياد :
- أم محمود ؟ وماذا ستفعل ؟
قهقه أبو محمود :
- ستساهم في إعداد الطعام الذي تبرع به المواطنون ، وإلا مات المتطوعون من الجوع ، أليس كذالك ؟
ضحك حياد غامزا بعينه : ومحمود ؟
قال محمود بلهجة احتجاجية :
- أنا بدي أشارك ، بدي أقدم الماء والعصير للمتطوعين .
ربت حياد على كتفه :
- تعيش يا محمود .
***
في صباح اليوم التالي أصبحت الناصرة خلية نحل تمتلئ بالنشاط والحيوية، الشوارع تعج بالبشر من مختلف الأشكال والألوان ، جنسيات مختلفة ، ولغات مختلفة ، لكنهم متفقون على العطاء ، العطاء الذي يجعل لإنسانية الإنسان معنى وأي معنى .. تم تقسيم المتطوعين إلى فئات متجانسة ، هذه فرقة رام الله ، وتلك فرقة بير زيت ، وهذه فرقة خان يونس ، وفرقة النجاح ، وهكذا كان كل فريق في مباراة مع نفسه ومع غيره ، كان يحاول أن ينجز أكبر عمل ممكن في أقصر وقت ، وجد حياد نفسه وبصورة تلقائية ينضم إلى فرقة خان يونس ، ضحك أبو محمود وقال :
- حياد ، هل نسيت أنك ضيفي ؟
رد حياد :
- نعم ، ولكنها روح الفريق ، أنا ضيفك وضيف الناصرة ، ولكن خان يونس مسقط رأسي، ولا بد أن أنضم إلى فريق بلدي ، صحيح أنني من يافا أصلا، ولكني أعشق خان يونس كما أعشق يافا فلا تستغرب ، لو كنت مكاني ، ألا تفعل مثلي ؟
ابتسم أبو محمود :
- بالتأكيد ، وسأنضم إلى فريق خان يونس لأنني لا أقل عنك في عشقي لخان يونس ، امتزج هواؤها بدمائي وذكرياتها بعقلي ، وستظل أم محمود مع متطوعات الناصرة وكذلك محمود .
استمر حياد يعمل دون كلل حتى انتصف النهار وحان موعد الغداء ، كان ما أنجزه فريق خان يونس يثلج الصدر ، فقد تم بناء بعض الجدران الاستنادية وطلاء حجارة الجبهة في الشارع الرئيسي باللونين الأحمر والأبيض .
وبعد الغداء انطلق الجميع إلى العمل وهم ينشدون الأناشيد الوطنية التي تشعل النفوس حماسة .

د . محمد أيوب
08-08-2006, 11:13 AM
الكف تناطح المخرز
رواية
بقلم : د . محمد أيوب
( 10 )
موعد بدء الدراسة في بير زيت يقترب ، الأمل الكبير يدق جدران القلب بعنف ، كلها أربع أو خمس سنوات ويتخرج من الجامعة .. سيكمل دراساته العليا ، سيحصل على الماجستير والدكتوراه في الفيزياء النووية ، ستكون لنا دولة ولو بعد
حين ، وسيكون لنا مركز للأبحاث ، فلماذا لا أتخصص في فرع الفيزياء النووية ؟ وهل نحن أقل ذكاء من بقية شعوب الأرض ؟
كانت الجامعة قد نشرت عدة إعلانات في الصحف المحلية تبين أن موعد بدء الدراسة سيكون آخر يوم من شهر تشرين الثاني " نوفمبر " ، قرر حياد أن يودع زملاءه في الأولام ، وأن يعد للدراسة عدتها ، فقد قرر شراء بعض الملابس الجديدة وبعض الحقائب ، قرر أن يتوجه إلى بير زيت قبل موعد بدء الدراسة بوقت كاف حتى يستطيع استئجار سكن مناسب .
عاد إلى البيت وقلبه يفيض بالأمل والسعادة .. عيناه تطفحان بالمودة والثقة ، استقبله والده بفرحة واضحة ، قبله قبلة أودعها كل عواطفه :
- دقت الساعة يا أبو الشباب ، آن الأوان كي تثبت أنك ابن أبيك ، صحيح أنك لم تحصل على الإقرار ، وأنهم أضاعوا عليك المنحة الدراسية ، ولكنهم يغلقون بابا فيفتح الله أبوابا غيره ، تنهد حياد بأسى :
- ولكن .. المصاريف يا والدي ؟
- يدبرها ربنا .. ولو ، ألا تعتمد على أبيك يا حياد ؟
- عند الضرورة أقوم بعمل إضافي .. سنأكل الخبز والملح .. المهم أن تتعلم ، ولا تنس أنك يمكن أن تعمل أثناء العطلة الدراسية لتدبير جزءٍ من المصاريف .. نحن في التفكير والله في التدبير .
ابتسم حياد ، ود لو يعانق والده ، فالفرحة تكاد تحمله على أجنحتها وتطير به ، أحس أن العالم أضيق من أن يتسع لسعادته الغامرة .
- حياد .
داهمه صوت والده ليخرجه من نشوته الغامرة .
- أريد التحدث إليك
- تفضل .
وضع الوالد يده في يد حياد وتوجها إلى غرفة الجلوس ، أخذ الوالد نفسا عميقا وكأنه يراجع ما يود قوله كلمة كلمة ، سرح الوالد ببصره عبر النافذة، وبعد فترة صمت انطلق صوته رزينا حزينا :
- الموضوع الذي سأحدثك عنه هو موضوع سبق أن ناقشناه، إنه موضوع جديد قديم ، ولكن الوقت لم يأت بعد لإثبات ما أود قوله .
تنبهت مشاعر حياد وتفتحت مسام عقله :
- خير يا والدي .
وضع الوالد يده على كتف حياد برفق :
- أنت تعرف أن الجامعات ميدان لحركات مختلفة .
- أعرف ذلك .
- وتعرف أن بعض هذه الحركات تنادي بالكفاح المسلح وكأنه الطريق الوحيد لنيل حقوقنا .
- وأعرف أنك ترفض فكرة الكفاح المسلح .
- أعوذ بالله يا ولدي ، يبدو أنك أخطأت فهمي .. أنا لا أعارض الكفاح المسلح باعتباره شكلا من أرقى أشكال النضال ، ولكني أعارض اعتباره الشكل الوحيد للنضال ، كنت أقول لك دائما إننا بدأنا كفاحنا من حيث كان يجب أن ينتهي ، كان يجب أن نبدأ نضالا سياسيا وفكريا واعيا لغرس الوعي في أذهان الجماهير ، حتى تصبح الجماهير سياجا يحمي الكفاح المسلح عند انطلاقه ، من السهل إلقاء قنبلة أو إطلاق رصاصة ، ولكن ليس من السهل خلق إنسان واعٍ يعرف لماذا يلقي القنبلة ويطلق الرصاصة.
- ولكنه سيزرع الرعب في قلوبهم .
ضحك الوالد :
- وهل تعيش النبتة خارج تربتها ؟
قطب حياد ما بين حاجبيه :
- بالطبع لا .
قال الوالد :
- الجماهير يا بني هي التربة المناسبة التي تساعد على نمو المناضل وتطوره ، وهي الوعاء الذي نغرف منه ليزداد عدد المناضلين ، هل تعتقد أن عملا مسلحا يمكن أن ينجح بمعزل عن الجماهير ، العمل المسلح يجب أن يأتي تتويجا لنضالات متعددة الأشكال والألوان ، نضالات سياسية و فكرية ونقابية وطلابية .. ثم أين دور المرأة الحقيقي في حياتنا ؟ لماذا تظنون أن النضال حكر على الرجل فقط ؟ حياد .. فكر بهدوء وستجد أن كلامي هو الصحيح وأننا يجب أن نبدأ بداية جديدة ، أذكر أن حركة سرية وزعت منشورا في بداية الاحتلال ركزت فيه على شعار خاطئ هو " لا تعليم تحت ظل الاحتلال " !!! ترى من الذي سيتضرر من هذا الشعار ؟ وعلام يدل هذا الشعار ؟ في اعتقادي أن هذا الشعار يدل على أن تلك الحركة السرية لم تكن تعي طبيعة المرحلة وأبعاد المؤامرة الاستعمارية على حركة التقدم العربية ، لقد حاول الاستعمار ، ونجح في محاولته للأسف ، كسر شوكة الحركة الناصرية ، وذلك بسبب التحول الموضوعي الذي طرأ على فكر عبد الناصر الذي وصل إلى قناعة راسخة بأنه لا توجد في العالم سوى اشتراكية واحدة هي الاشتراكية العلمية ، وبسبب هذه القناعة وقع العدوان عام 67 بتشجيع من أمريكا ودول الغرب ، وبعد ذلك نجد حركة ترفع شعار " لا تعليم تحت ظل الاحتلال " ، وأنا أسألك : هل يمكن مواجهة الاحتلال بشعب جاهل ؟
قال حياد :
- بالطبع لا ، ولكن طريق نشر الوعي بين الجماهير طريق طويل وشاق .
- ولكنه أقصر الطرق وأقلها خسارة ، إن أي عمل يتم بمعزل عن الجماهير هو عمل محكوم عليه بالفشل ، هل تعتقد أن توزيع منشور أو بيان هو أمر سهل ؟ إن توزيع المنشورات يحتاج إلى الحرص والحذر ودقة الملاحظة، إن هذا العمل الذي يبدو تافها في نظر الكثيرين هو الذي يصقل الشباب ويفرز من بينهم أولئك الذين يمكن أن يكونوا مناضلين حقيقيين ، ثم إن الشاب لو ضبط وهو يوزع بيانا ، ما الذي يمكن أن يحدث له ؟ النتيجة هي بضعة أشهر في السجن وتجربة غنية يخرج منها الشاب أكثر صلابة ووعيا بظروف التحقيق وملابساته وأساليب المحققين ، وبالتالي لا يسهل اصطياده مرة ثانية .
- وماذا ستحقق لنا المنشورات والبيانات ؟
ضحك أبو حياد :
- قالوها منذ القدم : " في البدء كان الكلمة " وأنا أدرك أن الكلمة لم تأت من فراغ ، بل أتت من واقع معين ، إن كلمات البيان تفتح عيون الناس على واقعهم وما فيه من سلبيات يجب الثورة عليها ، عندها يبدأ التململ وتبدأ الاحتجاجات صغيرة .. صغيرة ، في المدارس والمصانع والجامعات لتنتقل بعد ذلك إلى الأزقة والحواري والشوارع، عندها تتحول الاحتجاجات إلى اعتصامات ومسيرات ومظاهرات .
- أبي ، ها نحن نتظاهر ، عندما يخرج الصغار في مظاهرة ، ماذا تقولون عنهم ؟ وماذا يقول الكبار ؟ تقولون إنهم دشر ومنحرفون ، أليس كذلك ؟
- البعض يقولون ذلك يا بني بسبب عدم وعيهم ، ولكن لا تنس أن هذه المظاهرات التي تبدو صغيرة ستقود في النهاية إلى الانفجار الكبير .
- متى يا والدي ؟ متى ؟
- هذا مرهون بطبيعة الظروف الموضوعية والتراكمات الكمية للأحداث .
- ولكن العمل المسلح أجبر إسرائيل على تبادل الأسرى وإطلاق سراح عدد كبير من المعتقلين .
- أنصحك يا بني ألف مرة ألا تتورط في عمل غير واعٍ، تسلح بالوعي ثم افعل ما شئت ، فالعمل الذي ينطلق من الوعي لا بد أن ينجح مهما طالت الطريق .
***
لليوم الأول في الحياة الجامعية طعم خاص ، استيقظ حياد مبكرا بعد أن أعد للأمر عدته ، كان قد توجه إلى الجامعة قبل بدء اليوم الدراسي الأول وحصل على برنامجه الدراسي ، كان عليه أن يدرس في الحرم الجامعي الجديد الذي أقامته الجامعة قبل وقت ليس بالبعيد ، كانت أعمال البناء ما تزال جارية في كلية التجارة ، بينما انتظمت الدراسة في كلية الهندسة وكلية العلوم ، كان الحرم الجامعي الجديد يتربع بين الجبال في منطقة تقع على طريق بير زيت رام الله ، وحين توجه إلى الجامعة كانت الشمس في خدرها لم تستيقظ بعد ، هذه الطريق الوعرة ، أين هي من سهول قطاع غزة وتلاله الرملية ؟ ترى كيف يعيشون في هذه المناطق ؟ وكيف سأعيش أنا هنا ؟ ، ألقى نظرة على منخفض سحيق بين جبلين بينما أطلت الشمس من خلف أحد الجبال ملقية خصلات شعرها الذهبية على قمم الجبال لتكسوها ببريق أخاذ .. آه ما أجمل الشروق ! إطلالة الشمس فيه أشبه بطلعة العروس ليلة زفافها ، لها طعم خاص ومتجدد ، كم أشرقت أيتها العروس على أناس قبلنا وكم سيستمر طلوعك على أناس بعدنا ؟ كم شهدت من الحروب ؟ وكم شهدت من الانتصارات والهزائم ؟ وها أنت تقفين شاهدا على هزيمتنا التي لا تود أن تزول ، ترى كيف تخلى قادتنا وجنودنا عن هذه الحصون الطبيعية ؟ وهل كان ما خاضوه حربا أم مهزلة؟ وهل يصدق عاقل أن هذه الجبال سقطت دون مقاومة ؟ آه لو تنطقين أيتها الشمس لكنت تحدثت بالحقيقة التي لا يعرفها أحد سواك .
تابع طريقه إلى الحرم الجامعي الجديد ، سار ببطء كأنه يريد أن يتعرف على أدق التفاصيل في طريقه ، تحسس جيبه بيده ليطمئن على برنامج المحاضرات ، الحصة الأولى ستبدأ في الساعة الثامنة صباحا، وها هي الساعة تقتر من السابعة، لا بأس من قضاء بعض الوقت قبل بدء الحصة الأولى ، ود أن يتعرف على الأمور بطريقته الخاصة ، بعينيه وليس من خلال عيون الآخرين ، فقد حاول نشطاء الكتل المختلفة اجتذابه من الوهلة الأولى ، منذ بداية التسجيل حاول الجميع تقديم المساعدات للطلبة الجدد والتقرب منهم ، ما إن يتركه مندوب كتلة حتى يتقدم منه مندوب الكتلة الأخرى سائلا إياه:
- الأخ طالب جديد ؟
ويجيب بفتور واقتضاب : نعم .
تكرر هذا المشهد عدة مرات وتكرر السؤال وكذلك الإجابة ، زاد ضيقه ، هل يظنون أننا سذج إلى هذا الحد .. تذكر كلام والده عن الحركات المختلفة في الجامعات ، والنضال وأشكاله المتعددة ، وطلب والده منه أن يتروى قبل الإقدام على أية خطوة تجاه الحركات المختلفة في الجامعة ، لاحت في مخيلته صورة أبي كفاح وحديثه المتدفق عن الثورة والتقدم وتوفير الحياة الأفضل .. كان أبو كفاح يتحدث بصدق ولذلك استقرت كلماته في وجدان حياد ، ومع ذلك لم يتخذ موقفا حتى الآن .. لعلها كلمات والده أو لعلها تجربة والده المليئة بالمعاناة قبل وبعد حرب حزيران ، فقد اعتقل والده أيام الحكم المصري في قطاع غزة ، وتكرر اعتقاله في بداية الاحتلال ، كان يتحدث عن تجربته بمنطق الوالد الذي يريد أن يجنب ابنه سلبيات تجربته وما ترتب عليها من معاناة .
تنقل من مكان إلى آخر داخل الحرم الجامعي ، طالعه شاب أثناء تنقله ، بدا له وكأنه يعرفه منذ مدة طويلة ، حياه الشاب بابتسامة عريضة ومد يده مصافحا ، لم يعرض عليه خدماته بل وضع يده في يده وسارا معا ، ضحك الشاب ضحكة قصيرة وقال :
- - يبدو أنك لم تنم الليلة .
- نمت مثل نوم الذئب ، عين مفتوحة وأخرى مغلقة ، كنت نصف نائم طوال الوقت .
- آه يا عزيزي .. عليك أن تستعد لمشوار طويل وصعب ، الدراسة في بير زيت هي صورة من صور معاناة شعبنا ، تدخل الجامعة وأنت شاب فتخرج منها وأنت كهل ! تدخلها الفتاة زهرة متفتحة وتخرج منها وقد ذبلت وأدبر عنها الجميع ، كل ذلك بسبب الإغلاق المتكرر للجامعة .
- ولكني آمل أن تستمر الدراسة في الجامعة دون إغلاق .
- أرجو ذلك .
ثم أردف : أعتقد أنك ترغب في التعرف على مباني الجامعة .
ابتسم حياد موافقا فقال الشاب : هيا بنا إلى الكافتيريا لنشرب شيئا ثم ننطلق إلى بقية المباني .
علق حياد : ولكنا لم نتعرف بعد !
- ألا تشعر أنك تعرفني ؟
- بلى أشعر ، أعتقد أنني رأيتك من قبل ، ولكني لا أذكر أين رأيتك .
- بالتأكيد رأيتني ، ولكن الدراسة كانت تشغل بالك ، لقد زرت والدك أكثر من مرة ، رأيتك لفترات قصيرة متباعدة .
وصلا إلى الكافتيريا .. طلب حياد كوبا من الشاي بينما طلب يوسف فنجانا من القهوة ، شربا على عجل وخرجا للتعرف على المكتبة ، ذهل حياد لكثرة ما فيها من كتب ، كان عليك أن تترك الأشياء التي تحملها عند المدخل ، وبعد ذلك يمكنك الطواف بأقسام المكتبة المختلفة أو الجلوس في قاعة المطالعة للاطلاع على أي مرجع تريده ، تحدث يوسف مع حياد حول تنظيم المكتبة وطريقة عملها وكيفية الاستعارة ، ثم غادرا المكتبة إلى كلية الهندسة تاركين كلية العلوم إلى المرحلة الأخيرة لأن حصته الأولى ستكون فيها .
وقف على باب الغرفة التي سيتلقى فيها المحاضرة الأولى في تمام الساعة الثامنة صباحا ، دخل حياد فوجد شابة تقف أمام الطلاب ، حياها وجلس على أقرب مقعد ، بدأت المعلمة حديثها بلغة عربية ركيكة ، فهم من حديثها أنها ستقوم بتدريسهم اللغة الإنجليزية وأن عليهم الانتباه والسؤال عن أي شيء يجدون صعوبة في فهمه .
مضت المحاضرة الأولى أسرع مما تصور ، تلتها المحاضرة الثانية .. توالت المحاضرات والاستراحات بينها ، وتوالت لقاءاته بالطلاب القدماء والجدد، وتوالت الأيام ، مضى الأسبوع الأول على خير ما يرام .. وفي مساء الثلاثاء الثامن من كانون الأول " ديسمبر " ، وبينما كان يداعب مفتاح الراديو بأصابعه داهمه خبر قصير مفاده أن حادث طرق وقع بين مقطورة إسرائيلية وسيارة من نوع بيجو كانت تقل عددا من العمال العرب مما أدى إلى مقتل ركابها .
اعتقد حياد أن الحادث كان عرضيا وأن ضحاياه أقل بكثير من ضحايا الشاحنة التي صدمتها سيارة عسكرية بالقرب من أسدود قبل سنوات ، نظر إلى الأمر ببساطة ولم يدر بخلده ولو للحظة أن ذلك الحادث سيكون القشة التي تقصم ظهر البعير وأنه سيغير مجرى حياته .

د . محمد أيوب
12-08-2006, 11:47 PM
الكف تناطح المخرز
رواية
بقلم : د . محمد أيوب
الفصل الحادي عشر
( 11 )
حين ينفجر البركان يكتسح كل شيء في طريقه ، وحين ينطلق الطوفان يجتاز كل العوائق ، كان ما حدث أشبه بانفجار البركان وانطلاقة الطوفان ، لم يتوقع أحد حدوث ما حدث ، حتى أبو حياد الذي طالما تمنى أن يرى جماهير الشعب الفلسطيني تصحو من غفوتها وتنطلق كما انطلقت جماهير جنوب أفريقيا ، كانت تلك الأمنية تراوده وكأنها حلم من أحلام اليقظة .. كان يشاهد غضب جماهير جنوب أفريقيا على شاشة التلفزيون فيرتعش قلبه مثل عصفور أصابه شيء من البرد ، ولكنه يعود فيصحو على الواقع ليعتقد أن الماء سيأسن من كثرة الركود .
انطلق البركان من جباليا ، خرجت الجماهير دون خوف لتشييع قتلى حادث السيارة عند حاجز إيرز ، انطلق الغضب من العيون وحشاً كاسرا يطوف الشوارع ، انفجرت الحناجر هتافا غاضبا يهز النوم في عيون ذلك الليل الطويل ، ولم يصدق العسكر أن الماء الراكد قد تحرك ليتخلص من العفن الذي أخذ يتسلل إليه .
تذكر أبو حياد دروس العلوم في المدرسة ، كان يقوم بإجراء التجارب أمام التلاميذ ، وعندما كان يقوم بإجراء تجربة تحديد درجة غليان الماء ، كان يبدو للعين المجردة وكأنه لم يتغير ، في حين أنه كان يختزن الحرارة في بطء ، وفجأة تنفجر الفقاقيع ويتصاعد البخار ، كان غليان الماء ، على أية حال ، حالة يمكن قياسها ، لكن ما يحدث الآن لم يكن في الحسبان ، سقط شهيدان آخران في جباليا ، اعتقد أبو حياد أن الأمر سيتوقف عند هذا الحد ، موجة غضب تمتد لتعود فتنحسر مثل سابقاتها ، ولكن الموجة كانت أكبر ، أوسع ، أعلى وأعنف من كل سابقاتها ، قفزت الموجة إلى الجنوب فانطلق الطوفان غاضبا في شوارع المخيم في خان يونس ، هتافات الناس من كل الأعمار تهز السماء ، شاهد أبو حياد ما يحدث وهو لا يصدق عينيه ولا أذنيه .. أفي يقظة أنا أم في حلم؟! هل انتقل فيروس الغضب من جنوب أفريقيا إلى هنا؟ هل استيقظ أهل الكهف من سباتهم العميق ؟ لا بد أنهم استيقظوا ، كان أبو حياد يعتقد أن الجماهير هي المعلم ، وها هو المعلم يبدأ الدرس الأول في سفر المستقبل ، اختلطت أصوات الهتافات بأصوات الرصاص ، وكتبت الجماهير السطر الأول في كراس الانتفاضة ، سقط شهيد في شارع البحر ، طفل في العاشرة أو الحادية عشرة من عمره ، عربد الغضب في العيون وفي الصدور ، نيران الحقد تأججت في النفوس ، سرى الخبر سريان النار في الهشيم .. أطلقوا النار على رأسه .. خرج المخ من جمجمة الطفل أشبه بمرهم أبيض .. جرى الطفل ، قطع شارع البحر من الشمال إلى الجنوب ، سقط على الرصيف المقابل .. حملته الأيدي لإنقاذ حياته ، لكن الحياة كانت قد غادرت ذلك الجسد الصغير إلى الأبد لتدب في ذلك الجسد الكبير الذي اعتقد الجميع أن الحياة تفر من أوصاله .. هاجت الجماهير .. خرجت النسوة إلى الشوارع .. الكل ينعي الشهيد وكأنه أحد أبنائه ، خرج الشباب إلى الشوارع لا يهابون الموت ، تعددت المسيرات ، تلاقت وافترقت ، مسيرة نسائية قادمة من الشرق .. انطلقت الزغاريد والأناشيد :
هبت النار والبارود غنى اطلب شباب يا وطن وتمنى
وقف شعر رأس أبي حياد دون إرادته ، بينما كان الشباب القادمون من المعسكر الغربي يرددون :
يا أم الشهيد زغردي كل الشباب أولادك
تدفق سيل الشباب إلى داخل المستشفى ، حملوا جثمان الشهيد وطاروا به نحو بيت أهله ، ثم إلى المسجد فالمقبرة ، مئات بل ألوف الشباب يتدفقون وينشدون والزغاريد تنطلق من أفواه النسوة تحولت الجنازة إلى عرس حقيقي ، رحمك الله يا خليل ، همس أبو حياد ، فقد عادت به الذاكرة عشرين عاما إلى الوراء ، حين استشهد خليل وخرجت أمه مع الجنازة ، وبدلا من أن تذرف الدموع فتحت زجاجة عطر وأخذت ترش العطر على المشاركين في الجنازة ، نثرت الملح فوق الرءوس كأنما لترد عيون الحاسدين ، هاهو التاريخ يعيد نفسه ، كل النساء أصبحن أم خليل ، أصبحن أمهات الشهيد ، كلهن يزغردن تحديا للرصاص ، تدفق الجرحى إلى المستشفى ، انطلقت مكبرات الصوت في الشوارع ومن المساجد تطالب الناس بالتبرع بالدم ، وانطلقت الأناشيد الوطنية من مكبرات الصوت في المساجد :
ما بنتحول ما بنتحول يا وطني المحتل
هذي طريقنا واخترناها واحنا بنتحمل
.. اشهد يا عالم علينا وعَ بيروت اشهد بالحرب الشعبية
واللي ما شاف من الغربال يا بيروت أعمى بعيون أمريكية
وامتدت الأذرع بالعطاء .. خمسون جريحا وصلوا المستشفى، بل سبعون جريحا .. مائة جريح ، والمتبرعون بالدم بالمئات، لم تستطع أطقم الاستقبال في المستشفى إرضاء كل المتبرعين فقام عشرات بالتطوع لمساعدة الممرضين في سحب الدم من أذرع الشباب المتبرعين ، تدفقت صناديق العصير إلى ساحة المستشفى ، عشرات الشيوخ والنساء يقدمون زجاجات العصير للمتبرعين بالدم .. يا الله ما أجمل العطاء ، تنهد أبو حياد بارتياح ، اندفع وكأنه يحمل قلب طفل ليتبرع بدمه ، لم يعد يؤمن بالحياد في معركة حقيقية بدأت .. ها هو يمد ذراعه للعطاء .. ما أشد إيمانه بالعطاء .. شابا صغيرا عاد ، لم يفقد إيمانه بهذا الشعب ، ولكنه كان يعتقد صادقا أنه لا بد أن تنضج الظروف الموضوعية حتى يصل هذا الشعب إلى حافة الثورة الحقيقية ، وها هم يضعون أقدامهم على أول الطريق ، كان يعتقد أن الجماهير يمكن أن تصنع المعجزات شريطة توفر القيادة الواعية ، وها هو البركان ينفجر ، الطوفان ينطلق ، يسبق الجميع ، يكتسح الشوائب من الطريق .
***
قامت الدنيا ولم تقعد ، لم يستطيعوا تهدئة الأوضاع على الرغم من الرصاص المتطاير في الجو ، انطلقت دباباتهم ومجنزراتهم وأنصاف مجنزراتهم تعوي وتنعق .. تبذر الرعب هنا وهناك ، لكن القمقم انكسر وانطلق المارد من سجنه الرهيب ، لم يعد للخوف مكان في الصدور على الرغم من عواء مجنزراتهم ودباباتهم ، انطلق الناس من كل سن يملئون الشوارع هتافات تهز أعماق الإنسان ، حتى أولئك الذين طال انسلاخهم عن جسد شعبهم ودوا لو يستطيعون الاندماج في هذه الحركة المتناسقة وكأنها سيمفونية رائعة عزفتها أصابع فنان يجيد العزف على أوتار القلوب التي طال انكسارها .
اقتلع الشباب حجارة الأرصفة وأقاموا منها متاريس تعيق حركة آلياتهم ، وضعوا عربات القمامة والثلاجات القديمة وهياكل السيارات والحجارة مختلفة الأشكال والأحجام في عرض الشارع ، قامت مجموعات أخرى بإشعال الإطارات المطاطية لترتفع ألسنة اللهب والدخان إلى عنان السماء ، تلبد الجو بالسحب السوداء ، أمطرت السماء حجارة من سجيل فتراجعت آلياتهم مذعورة وكأن الخوف انتقل فجأة وبلا مقدمات من قلوب المقهورين إلى قلاع القاهرين وقلوبهم .
توالى سقوط الشهداء وتوالت المسيرات ، امتنع العمال عن العمل في الداخل ، إنها حرب من نوع جديد تشنها الجماهير العزلاء ضد عدو مدجج بالسلاح من الرأس حتى أخمص القدمين ، أخذ الجيران يشاهدون بعضهم كل يوم ، امتنع الطلاب عن الذهاب إلى المدارس ، ولم تعد النسوة يلتزمن بيوتهن ، الكل يريد أن يشارك في صنع الأحداث ، حتى الأطفال الذين لا يجيدون الكلام تعلموا كيف يفرقون بين السبابة والوسطى ليصنعوا من علامة النصر سهما في عيون الغاصبين ، وفي وقت العصر وبعد المواجهات العنيفة كان الناس يتحلقون حول أجهزة الراديو لسماع الأخبار.. هنا لندن .. إذاعة دمشق تحييكم وتقدم لكم نشرة الأخبار .. صوت العرب من القاهرة .. راديو مونت كارلو .. دار الإذاعة الإسرائيلية من أورشليم القدس ، كانت كل المحطات تتحدث عن الانتفاضة التي انتقلت من غزة إلى الضفة الغربية، فانطلقت المسيرات السلمية من جامعة بير زيت وغيرها من الجامعات ثم انطلقت المظاهرات عنيفة صاخبة مما جعل السلطات تغلق الجامعات والمدارس .
أصبح تجمع الناس عادة يومية يتناقشون ويتشاورون : كلها شهرين ويرحلوا عنا . قال أحد الجالسين وابتسامة عريضة ترتسم على شفتيه ، علق أبو حياد ، إذا أردنا أن نكون واقعيين علينا أن نوطن أنفسنا على أن المشوار طويل وأننا لم نزل في بداية الطريق .
رد ثالث : ولكن أبو عمار طلب من الأمم المتحدة أن ترسل قوات دولية إلى القطاع والضفة .
- وهل تعتقد أن أمريكا ستوافق على ذلك .
أمَّنَ أبو حياد على ذلك بقوله :
- لا بد أن تستخدم أمريكا حق النقض ، لن تتخلى أمريكا عن إسرائيل إلا إذا أدركت أن إسرائيل أصبحت عبئا عليها .
تنهد الشخص الأول وقال بمرارة : ومتى يأتي ذلك اليوم ؟
ابتسم أبو حياد وقال في هدوء : إذا استطعنا أن نحافظ على استمرارية الانتفاضة وتصاعدها فلا بد أن يأتي ذلك اليوم .
قال رجل مسن يجلس في طرف الحلقة : ولكن الكف لا تلاطم المخرز .
رد أبو حياد : وماذا تسمي ما يحدث الآن ؟ إنه الكف بل الأكف تلاطم مخارزهم التي لا بد أن تنثني وتتثلم أمام صلابة كفوفنا ، يجب أن ندرك أن مشوارنا الحقيقي لم يبدأ بعد ، وأن معركتنا طويلة تحتاج إلى سنوات ، لا بد من تقديم المزيد من الضحايا والمعتقلين والجرحى حتى نعيد عقولهم إلى رءوسهم ، مخطئ من يظن أن إسرائيل سترفع الرايات البيض أمام شهر أو شهرين من المظاهرات .
قال أحد المتحمسين :
- ولو .. شو متشائم هالراجل .
ثم أردف:
- يا راجل قول خير تلاقي خير ، احنا بنتوقع قيام الدولة قبل صيف هذا العام ، يدوب يخلص الشتاء وفي الربيع عليك خير نتقابل .
قال أبو حياد بهدوء : إن شاء الله ، ولكن التفاؤل المفرط يساوي التشاؤم المفرط . . الزايد أخو الناقص .. اللي بيطخ فوق زي اللي بيطخ تحت ، الاثنين ما بيصيبوا الهدف .
أمَّنَ أحد الجالسين : أبو حياد بيحكي دوغري .
واصل أبو حياد : انتفاضتنا سلمية لا يستطيعون دمغها بالإرهاب ، لا نملك سوى الحجر، وقد بدأ العالم يدرك من هو الإرهابي .. نحن أم هم ؟ هذا هو أول إنجازات الانتفاضة، نفت عنا صفة الإرهاب التي يحاولون دمغنا بها.
سأل أحد الحاضرين : معذرة يا أبو حياد على المقاطعة .. بدي أسأل سؤال.
قال أبو حياد مبتسما : تفضل .
استطرد الرجل : هل تعتقد أن الانتفاضة ستقودنا إلى الدولة المستقلة ؟
قال أبو حياد : لا أريد أن أقول بحماسة المتفائلين نعم ، كما أنني لا أريد أن أتلفع بإحباط المتشائمين فأقول لا .. ليس الأمر على هذه الصورة من الحدية والقطع .. يجب ألا نحمِّل الأمور أكثر مما تحتمل ، يجب أن نميز بين الأهداف المرحلية وبين الأهداف الإستراتيجية ، هدفنا المرحلي الآن هو جر إسرائيل إلى مائدة المفاوضات ضمن إطار مؤتمر دولي فعال، إذا نجحنا في تحقيق هذا المطلب بها ونعمت ، وإن لم ننجح في ذلك يجب تصعيد الانتفاضة باتباع أساليب متعددة وصولا إلى أرقى أشكال النضال وهو الكفاح المسلح الذي يجب أن ينطلق من قلب غابة الجماهير ويحتمي بها ، هذه الجماهير الغاضبة يا عزيزي لا بد أن تصل إلى هذه القناعة عاجلا أم آجلا ، وساعتها يا ويل اللي ما حط عقله في راسه .
***
عاد حياد من الجامعة بعد أن قررت السلطات إغلاق الجامعات والمعاهد العليا لمدة شهر ، قرر أن يعود إلى بلدته ليشارك في صنع الأحداث مثل غيره من الشباب ، ركب السيارة من بير زيت إلى رام الله ومنها إلى غزة عن طريق القدس ، كانت الأجواء أشبه بأجواء الحرب ، كان الجو شاحبا مشحونا بعبوس غريب ، كان يود أن يصل إلى خان يونس في غمضة عين، أغمض عينيه وألقى برأسه على المسند الموجود فوق الكرسي الأمامي ، تحسس بيده حزام الأمان ليتأكد أنه مثبت جيدا ، ترى كيف حال الجيران الآن ؟ وما هو موقف أبي من الأحداث ، لطالما حدثني عن أن الثورة بدأت من الآخر ، من حيث كان يجب أن تنتهي .. بدأت بالكفاح المسلح وما أدراك ما الكفاح المسلح ، كثيرا ما كان يقول لي إن الكفاح المسلح هو أرقى أشكال النضال ، وأنه بالتالي يجب عدم اللجوء إليه إلا بعد أن تخوض الجماهير نضالات متعددة الأشكال والألوان وصولا إلى أرقى أشكال النضال ، يعتقد أبي أن للبيان السياسي والمنشور والتظاهرة والاعتصام والمسيرات الاحتجاجية نتائج إيجابية لا ينكرها إلا جاحد ، هذه الأشكال المتعددة للنضال تصقل وعي الجماهير وممارساتها اليومية ، وتجعل الخبرات الكفاحية تتراكم لديها مما يؤهلها لخوض المعركة الفاصلة.. آه يا أبي .. كم انتقدت التركيز على الكفاح المسلح ودور الطليعة المسلحة وإغفال دور الجماهير في بداية الاحتلال ، وكم انتقدت التركيز على الخارج والإصرار على توليه إدارة دفة الداخل ، كنت ترى أنه لا بد أن تنشأ علاقة جدلية بين الداخل والخارج حتى تكون القرارات مستوعبة لطبيعة الظروف في الداخل ، وكم كانت فرحتك عندما استطاعت لجان العمل الوطني خوض الانتخابات البلدية على الرغم من تخوف الخارج ، ونجاح العناصر الوطنية في هذه الانتخابات والتي أصبحت سندا حقيقيا وتجسيدا واعيا لإرادة جماهيرنا ، وها هو حلمك يتحقق ، لقد انفجر البركان وانطلق الطوفان .
فتح حياد عينيه ، كانت السيارة قد اقتربت من دير اللطرون ، وتلك الدبابة التي تتوعد السماء بسبابتها ، يا الله ، متى تنكسر تلك الأصبع المعدنية ؟ متى تتلاشى كل هذه الأسلحة ليسود السلام بين البشر ليتحول الصراع نحو البناء وتوفير الرخاء لكل إنسان على هذه الأرض بدلا من التوجه نحو الهدم واستغلال الآخرين .. يا رب ، لماذا ترضى بوجود الظالمين على سطح الأرض ؟ لماذا نضطر للدفاع عن أنفسنا ضد الظلم ؟ ولماذا لا ترفرف رايات العدل في سماء هذا الكون ؟!
استمرت السيارة تطوي الأرض طيا ، أفكاره تلاحقه ، والشوق إلى القطاع يتلظى بين ضلوعه .. المجدل تقترب ، الإشارة الضوئية تحملق في السيارات العابرة ، تغمض عينا لتفتح أخرى .. أحمر – أصفر – أخضر، أخضر أحمر أصفر، لماذا لا يفكرون في طرق بلا إشارات ضوئية ؟ لماذا لا يفكرون في إلغاء التقاطعات بين الطرق ؟ حاجز إيرز بكل ذكرياته السيئة يطل من بعيد، أشباح جنود تتحرك في المكان، وعندما اقتربت السيارة من الحاجز طلب أحد الجنود من السائق أن يتوقف، سأل بلهجة تنم عن التوتر:
- لآن هولخيم ؟ إلى أين تتوجهون ؟
أجابه السائق في هدوء : إلى غزة . سأل الجندي : من أين أتيتم ؟
أجاب السائق : من القدس .
أشار الجندي للركاب أن ينزلوا ، طلب منهم الوقوف في صف واحد ، بدأ في استعراض بطاقاتهم الشخصية وتفتيشهم بعد أن أمرهم برفع أيديهم إلى أعلى ، مر بذراعيه تحت ذراعي حياد عند الإبطين نزولا إلى الخاصرتين فالفخذين فالساقين فالقدمين ، نظر إليه مرتابا ً : شو كنت بتعمل في أورشليم ؟
- كنت أدرس في جامعة بير زيت .
سأله الجندي : معك أي شيء في السيارة ؟
- طبعا معي شنطة الكتب .
- طلب الجندي من السائق فتح حقيبة السيارة ، فتش ما في داخلها تفتيشا دقيقا ، ثم عاد إلى حياد : ليش راجع خان يونس ؟
- راجع للبيت .
- راجع للبيت ولا بدك ترمي حجار على الجيش ؟
- لأ راجع للبيت .
- التفت الجندي إلى زميله قائلا : كولام زوركيم أفانيم " كلهم يرجمون الحجارة " ، ثم أشار للركاب أن يصعدوا إلى السيارة ، وبعد ذلك أعاد لهم بطاقاتهم الشخصية ، صعد السائق إلى السيارة وأدار المحرك وغادر المكان ، بصق السائق باشمئزاز بينما ردد رجل مسن يجلس في المقعد الخلفي : الله يخلصنا منهم .. الله يخلصنا منهم .
***
خان يونس تتلفع بعباءة سوداء من دخان الإطارات المشتعلة، أصوات الرصاص تسمع بعد، مختلطة بهدير أشبه بهدير البحر، أصوات بشرية هائجة تملأ الجو، سرت قشعريرة باردة في جسد حياد، ترى أي نوع من الحجر ذلك الذي حرك تلك البركة الراكدة؟ أي صوت أيقظ النيام من سباتهم؟
خان يونس الخانعة المستكينة يلفها لهيب الغضب ، يا إلهي ما أكرمك !
أنزله السائق قرب مركز التموين معتذرا بأنه لا يستطيع دخول المدينة ، اضطر حياد للمشي بحذر وهو يرى الغبار والدخان يلف المدينة .
اتجه نحو الغرب ، مزلقان السكة الحديد تغطيه صناديق القمامة والثلاجات القديمة ، بينما كانت الإطارات تشتعل على طول شارع سوق الخضار وحسبة السمك ، صوت ناقلة جنود مجنزرة تدفع المتاريس أمامها ، بينما يكاد صوت احتكاكها بالأسفلت يكاد يصم الآذان ، أطلق أحد الجنود الرصاص عشوائيا في الهواء ، أزت رصاصة قرب رأس حياد فالتصق بأحد الجدران وانعطف إلى شارع فرعي بينما أخذت دبابة تقترب من الشارع الفرعي ، اختلط سيل من الشتائم أطلقه الجنود بصوت هدير محرك الدبابة ، أحد الجنود يسب الرب والدين للناس وآخر يزعق بحدة : " زوت هممشالاه شلاخم " هذه حكومتكم " .
وأطلق صلية من الرصاص في الهواء في حين انهمر على رأسه سيل من الحجارة ، صرخ جندي أصابه حجر في رأسه: - أوي فبوي " يا ويلي"
تناول حياد حجرا وقذفه نحو الجنود ، وبنشوة تناول حجرا آخر وقذفه ، وثالثا ورابعا ، ثم أخذ يجري مع الشباب وصرخات الجنود تختلط بهدير محركات آلياتهم ، في حين يغطي عليهم ذلك الهدير الواعد :
الله أكبر .. الله أكبر .
لا تهتموا ، لا تهتموا ، الشهيد ضحى بدمه .
بالروح بالدم نفديك يا فلسطين .
انطلقت الزغاريد من أفواه النسوة بينما سرح حياد .. ترى أين أنت الآن يا أمل ؟ هل تشاركين في الانتفاضة كما كنت تشاركين في كل مظاهرة ؟ كنت أكثر جرأة مني يا أمل ، أعتقد انه آن الأوان لكسر جدار الخوف الذي بنوه داخل كل منا .
***

د . محمد أيوب
16-08-2006, 01:48 PM
الكف تناطح المخرز
رواية
بقلم : د . محمد أيوب
الفصل الثاني عشر
( 12)
إلى سكان معسكر خان يونس .. ممنوع التجول من الآن وحتى إشعار آخر .. يفرض حظر التجول من الآن وحتى إشعار آخر .. ممنوع التجول ، ممنوع التجول .. الله أكبر .. الله أكبر .. بالروح بالدم نفديك يا فلسطين .
اختلطت أصوات الجماهير الغاضبة بأصوات مكبرات الصوت الناعقة بفرض نظام حظر التجول لأول مرة منذ سنوات طويلة .
استقبل الناس مكبرات الصوت بالهتافات المتحدية والحجارة فارتبك الصوت وعادت السيارات على أعقابها ، ولكنها سرعان ما جاءت بقوة أكبر وتكرر الصدام وتطاير الرصاص في جميع الاتجاهات ، سقطت أعداد كبيرة من الجرحى ، قامت سيارات الإسعاف بنقلهم عبر طرق ملتوية تفاديا لسيارات الجيش المنتشرة والتي تعيق وصول المصابين إلى المستشفى .
بدأت الشمس تغطي وجهها بغلالة رمادية من السحب ، احمر الأفق خجلا من عدم قدرته على تسجيل الحدث حتى نهايته ، حل الظلام ومع ذلك لم يدخل الناس إلى بيوتهم ، الرصاص يحمل الموت في كل مكان ، وقنابل الغاز تخنق الجو نفسه ، وتتابع انفجار قنابل الصوت والقنابل المضيئة .
بدأت الدبابات تدخل الشوارع الضيقة ، هدمت الجدران التي تعيق حركتها وبدأ الجنود يداهمون المنازل ، يحطمون ما فيها من أشياء ويضربون من يجدونه بالعصي ضربا مبرحا يصل إلى حد تكسير الأطراف ، فقد الكثيرون ممن ضربوا وعيهم ، صرخت النساء وبكى الأطفال من شدة الخوف .
أخذ الشباب يتراجعون أمام شدة الهجوم ، فر معظمهم إلى منطقة حي الأمل الذي لم يصله نظام حظر التجول ، بدأ سكان حي الأمل بفتح بيوتهم لإيواء الشباب وتقديم الطعام لهم .
مع انتصاف الليل سرت شائعة مفادها أن المستوطنين هاجموا معسكر القطاطوة ، خرج سكان حي الأمل عن بكرة أبيهم وهم يحملون العصي والفئوس والسكاكين لنجدة إخوانهم في المعسكر ، وعند معمل الترتوري وجد الناس أنفسهم وجها لوجه مع الجنود ، زعق الناس بصوت واحد هز أركان الليل : الله اكبر عليكم .. الله اكبر عليكم .
صاح صوت غاضب : عليهم يا شباب .
اندفع الناس دون وعي ، أطلق أحد الجنود نيران رشاشه فوق الرءوس ، ولكن الناس استمروا في التقدم ، عندها تراجعت سيارات الجيش إلى الوراء وبدأ الجنود يتركون بيوت المعسكر .
هدأت الأصوات داخل المخيم وبدأ سكان حي الأمل يعودون إلى بيوتهم وقد أحسوا أنهم حققوا نصرا وأجبروا الجنود على وقف مداهمة البيوت ، ولكن نظام حظر التجول استمر .
كان العمال قد توقفوا عن العمل في الداخل وتفرغوا للمشاركة في الأحداث بكل إمكانياتهم ، بدأ الشباب يستخدمون مكبرات الصوت لبث الحماسة في نفوس الناس ودعوتهم للصمود ، وبعد مضي حوالي أسبوع على منع التجول قامت قوات الاحتلال برفع حظر التجول عن النساء فقط لمدة ساعتين ، خرج الشباب إلى الشوارع بعد أن قامت النساء بشراء ما يلزم بيوتهن من مواد تموينية .
انطلقت الحجارة لتتساقط فوق رءوس الجنود، عربد الرصاص في الجو ، ونعب صوت أصفر بفرض حظر التجول ولما يمضي على خروج الناس من منازلهم أكثر من نصف ساعة .
اعتقد أبو حياد أن حظر التجول لن يستمر طويلا، ولكنهم أعادوا فرضه لإشعار آخر ، لا بد من التحرك السريع في هذه الحالة ، تشكلت لجان لجمع المواد الغذائية وإدخالها إلى المخيم أثناء الحصار .
كانت الدوريات تجوب الشوارع الرئيسية في ، المعسكر بينما كان الشباب يتنقلون عبر الأزقة الضيقة التي لا يجرؤ الجنود على دخولها ، كانت النسوة يحملن سلال المواد التموينية إلى كل بيت محتاج ، بينما قام آخرون بتوصيل علب الحليب الجاف إلى البيوت التي يوجد فيها أطفال رُضَّع .
أبدى حياد وسلام نشاطا ملحوظا في توزيع المواد التموينية سرا حتى لا تكتشف السلطات أمرهم ، ازداد نشاط حياد بعد أن زارهم أبو كفاح زيارة مفاجئة وخاطفة ، طلب من والده أن يساهم في توزيع بيان موقع باسم القوى الوطنية يدعو إلى تضييق الخناق على الجنود وتصعيد الهبة الجماهيرية ، كما طلب أبو كفاح تشكيل لجان شعبية متعددة المهام والمسئوليات ، بعضها يختص بتوزيع المواد التموينية على المحتاجين ، والبعض الآخر يهتم بتقديم المعونات الطبية للمرضى والمصابين .
تلفع أبو حياد برداء أسود وخرج مع أبنائه لتوزيع البيان في شوارع حي الأمل والمعسكر ، وكم كانت فرحته حين أخذ الناس يتناقلون ما ورد في البيان .
اندفع حياد دون تردد إلى العمل من أجل توصيل المواد التموينية لكل محتاج في عز النهار ، وفي الظلام اعتاد على توزيع البيانات التي تدعو الجماهير إلى الإضراب وإلى مقاطعة البضائع الإسرائيلية والتوقف عن العمل في الداخل ، أصبحت البيانات تحمل توقيع القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة ، التف عدد من الشبان حول حياد ، كانوا يعملون ليل نهار ، يكتبون على الجدران شعارات تدعو إلى تصعيد الكفاح ضد الاحتلال، ويعلقون الملصقات التي تحمل توجيهات اللجان الشعبية على أعمدة الكهرباء ، كما ألصقوا صور الشهداء في الأماكن العامة ، وتشكلت لجان لعيادة الجرحى في المستشفيات ولجان للإعلام لنقل أخبار الأحداث إلى وكالات الأنباء بسرعة .
***
مع استمرار حظر التجول زاد اهتمام الناس المجاورين للمعسكر بتوصيل المواد التموينية إلى المحاصرين ، وكان الجنود يتربصون بالنسوة ويتلفون ما يحملنه من خضار وفواكه حتى لا تصل إلى المحتاجين في المعسكر ، ضج الناس وبدءوا يفكرون في كسر حظر التجول والخروج لمواجهة الجنود بصدورهم وهم يحملون أطفالهم .
***
وجه الحاكم العسكري دعوة لبعض الشخصيات للالتقاء به في المجلس البلدي لمناقشة مطالب الناس والتعرف على أسباب ما حدث ، وقد أجمع الجميع على أن المشكلة تحتاج إلى حل سياسي يرضي الجميع ويضمن حقهم في حياة آمنة ، على أن تكون هناك مبادرة حسن نية من سلطات الاحتلال بسحب الجيش من المناطق المزدحمة بالسكان والإفراج عن كافة المعتقلين ، ولكن السلطات لم تر ولم تسمع سوى ما تريده ، هدد المسئولون العسكريون وتوعدوا ، قالوا إنهم لم يستخدموا كل ما لديهم من أساليب وقدرات ، فقد استخدموا أقل من اثنين بالمائة مما لديهم ، لا شك أنه كان لديهم الكثير ، ولكن الناس لم يبق لديهم ما يخسرونه أو يخافون عليه ، بلغ السيل الزبى ولم يعد ينفع التهديد ولا الوعيد ، كل شيء حولهم يضغط عليهم ، ولما زاد الضغط عن الحد حدثت الطفرة المنتظرة وانفجر البركان ، انطلق الطوفان من عقاله ليكتسح كل الشوائب من الطريق .
في حوالي الساعة الرابعة صباحا ، وبعد مضي سبعة عشر يوما على فرض حظر التجول على المعسكر ، انطلقت مكبرات الصوت تنادي : إلى سكان معسكر خان يونس ، يرفع حظر التجول من الآن وحتى إشعار آخر.. يرفع حظر التجول من الآن وحتى إشعار آخر .. يرفع حظر التجول من الآن وحتى إشعار آخر .. على جميع العمال الخروج إلى العمل .. خرج العمال ، وانهالت الحجارة فوق السيارات التي تجوب الشوارع معلنة إنهاء حظر التجول .. ترددت الهتافات مع الفجر .. الله أكبر .. الله أكبر ، زعق مكبر الصوت بغضب .. يرفع حظر التجول من الآن وحتى إشعار آخر .. ممنوع التجول من الآن وحتى إشعار آخر .. ممنوع التجول من الآن وحتى إشعار آخر ، دوى الرصاص جمرا يمزق سواد الليل وطراوته .
استمرت المظاهرات إلى ما بعد شروق الشمس ، والرصاص لم يسكت، أخيرا وجه الجنود رصاصهم إلى الصدور مباشرة، اخترقت رصاصة قلب شاب كان يقذف الحجارة بعنف فسقط مضرجا بدمائه ، حمله الشباب ووضعوه داخل سيارة نقلته إلى المستشفى ، أعلن الطبيب وفاة الشاب ، حاول الجيش التحفظ على الجثة ، ولكن حشدا غفيرا من الشباب اندفعوا داخل المستشفى واختطفوا الجثة ، طاروا بها إلى المقبرة ، تحولت الجنازة إلى مسيرة ملتهبة ، استعان الجنود بطائرة هليوكوبتر حلقت فوق المتظاهرين وأخذت تلقي الحجارة على المتظاهرين ، كما ألقت قنابل الغاز المسيلة للدموع ، تدافع المتظاهرون وقد سالت دموعهم وبدأت جلودهم تحرقهم ، ولكنهم عادوا فتجمعوا جداول بشرية تصب في النهر الكبير ، كان الملتقى عند بيت الشهيد في بلوك " G " ، قام الشباب بنصب سرادق ضخم ، صُفَّت الكراسي لاستقبال المعزين ، قام بعض الملثمين بلصق صور للقادة الفلسطينيين على الأعمدة والجدران ، رفرفت الأعلام الفلسطينية والشعارات الوطنية التي تدعو إلى استمرار المسيرة الثورية .
تقاطر المعزون من كل حدب وصوب ، شاركوا في العزاء على الرغم من فرض نظام حظر التجول ، وقد حاولت بعض سيارات الجيش مداهمة المكان لكن الشباب التفوا حولها مثل خلية نحل ، حاصروها من جميع الجهات فلم يجد قائد الدورية بدا من التفاهم مع أحد المسنين ، طلب منه المحافظة على الهدوء في مقابل انسحاب الجيش من المكان .
وفي الليل بدأت سيارات تحمل مكبرات الصوت تجوب الشوارع وتطالب الرجال بالخروج والتجمع في الإستاد الرياضي ، هددوا وتوعدوا كل من يتخلف في البيت ، بدأ الشباب والشيوخ والأطفال يخرجون من منازلهم ليفاجئوا بركلات الجنود وعصيهم تنهال عليهم ، وسيل من الشتائم يلوث الهواء .
كانت برودة كانون الثاني تعصف بأجساد الصغار والشيوخ ، ارتعشت بعض الأجساد عندما امتزجت برودة الجو بالخوف الذي نشره الجنود هنا وهناك .
خرج أبو حياد وخرج سلام إلى الإستاد الرياضي ، كان جسد سلام يرتعش وقد أصابه برد مفاجئ ، أخذ يعطس بطريقة شبه متواصلة ، لحقتهم سيارة جيب عسكرية ، توقفت لمحاذاتهم ، طلب الضابط منهم أن يركضوا بأقصى سرعتهم وإلا داسهم بسيارته ، أطلق الضابط طلقتين في الهواء فوق رءوسهم وصرخ :
- نو .. يلا أركض .
اضطر أبو حياد وولداه للجري أمام السيارة العسكرية ، استمر حياد يجري ويجري ، وكذلك جرى سلام ، لكن أبا حياد بدأ يشعر بالتعب ، بدأت مفاصله تخونه تدريجياً ، وأخذت خطواته تقصر شيئا فشيئا ، وفجأة توقف، التفت إلى الخلف رافعا سبابته في عيني سيارة الجيب وقال للضابط :
- لن أجري بإمكانك أن تدوسني .
- يلا أركض يا حمار .
- أنت الحمار ، لن أركض ، افعل ما شئت ، طز .
جلس على الأسفلت ومدد ساقيه ، اضطر سائق السيارة إلى الضغط على الفرامل بقوة ومال بالسيارة ليبتعد عن أبي حياد، توقفت السيارة ، نظر الضابط نحو أبي حياد ، شتم بالعبرية وصاح : يلا أركض .
- لن أركض ، بإمكانك أن تقتلني .
- صاح ضابط آخر : دعه .. يبدو أنه مجنون .
***
استمر حياد وسلام يجريان حتى كادا يفقدان قدرتهما على التنفس ، ومع ذلك ظلت السيارة الجيب تلاحقهما ، وفجأة انهار سلام ووقع على الأرض ، دهمته السيارة العسكرية بمقدمتها ، صرخ من الألم ، توقفت السيارة ، هبط أحد الجنود ، هوى بعصاه على رأس سلام ، انفجر الدم ساخنا ليغطي وجهه ، أحس بغشاوة لزجة تغلق عينيه ، دارت الدنيا به ، ولم يعد يعي شيئا .
التفت حياد إلى الخلف بعد سماع صراخ أخيه ، وجد أخاه ملقى على الأرض ، ارتد كالمجنون :
- قتلتم أخي سلام؟ الحق يا والدي قتلوا سلام .. قتلوا سلام.
نهض الوالد وقد ذهب إحساسه بالتعب ، سيطر عليه خاطر مرعب .. أن يفقد أحد ولديه .. يا الله ما أبشع هذا الخاطر ! اندفع نحو ولده ، احتضنه ، تحسس وجهه بيده ، أحس بلزوجة قاتمة ، انفلتت أعاصير الغضب من عقالها ، وانقذف سيل من الشتائم من فمه :
- قتلة .. قتلة .. نازيون .
لكمه الجندي بقبضة يده ، لم يحترم سنه ، أصابت اللكمة وجهه فوقع أرضا ، ولكن سيل الشتائم استمر يتدفق ، أدار السائق محرك سيارة الجيب ، جأرت السيارة واندفعت بحدة ، زعقت العجلات بوقاحة وتناثر الغبار في المكان ، وسيل الشتائم يتدفق : قتلة .. نازيون .. قتلة .. قتلة .
صرخ حياد يحدوه الأمل :
- ربما لم يمت يا والدي .. لنتعاون معا وننقله إلى المستشفى فهو قريب من هنا .
شعر الوالد بارتياح غريب ، ربما لم يمت ، عاد إليه شبابه ، حمل ابنه بين ذراعيه وانطلق يجري مثل طفل صغير ، وصل إلى المستشفى ، كانت غرفة المستشفى تعج بالأطباء والممرضين الذين اندفعوا للمساعدة ، أدخلوا سلام إلى الغرفة ، فحصه الطبيب بدقة ، بينما كان القلق يسكن عيني أبي حياد ، وبعد فترة خالها أبو حياد دهرا ، خرج الطبيب ليعلن أن سلام لم يمت ، كل ما في الأمر أنه دخل في حالة غيبوبة بسبب صدمة السيارة وضربة العصا على رأسه ، قرر الطبيب إدخاله المستشفى بعد أن قام بخياطة الجرح الموجود في الرأس ، أما الكسر الموجود في الساق فلا بد من استشارة اختصاصي العظام .
***
رن جرس التليفون في بيت الطبيب المختص ، لبس ثيابه على عجل ، كانت سيارة الإسعاف قد وصلت لتوها ، صعد إليها بسرعة وانطلقت به نحو المستشفى ، قرر الطبيب وضع ساق سلام في الجبس ، وطمأن والده أن الأمر أسهل مما يتصور :
- كلها شهر زمان وبيرجع زي الحصان .
- الله يطمنك يا دكتور .
- الحقيقة يا أبو حياد سلام يحتاج إلى شخص ينام عنده .
قال حياد :
- أنا مستعد أنام عنده .
تدخل الطبيب قائلا :
- الأفضل أن يبيت والدك عنده ، لأن الجيش يأتي إلى المستشفى بين وقت وآخر ويعتقل الشباب الموجودين عند المرضى .
ولكن حياد أصر على المبيت عند أخيه سلام والسهر على راحته .
***
مستشفى ناصر يعج بالزائرين من كل سن ، الجميع يودون مجاملة الجرحى والمصابين وتقديم الهدايا لهم ، أعضاء اللجان الشعبية يوزعون علب الحليب على الأطفال المرضى ويقدمون باقات الزهور للجرحى والمصابين ، وقد علقت يافطات تحمل عبارات الشكر للأطباء على حسن معاملتهم للمصابين .
كان سلام يشعر بارتياح غريب ، لم يعد يشعر بالألم بسبب ما يشاهده من تعاطف الناس معه ، كانت الأمهات يعاملن المصابين كأبنائهم ، شعر سلام أن له أكثر من أم ، صحيح أن أمه بقيت إلى جانبه طول الوقت ، لكن نساء المخيم أصبحن في مكان أمه، وأصبح شباب المخيم في مقام أخوته.

د . محمد أيوب
20-08-2006, 02:57 PM
الكف تناطح المخرز
رواية
بقلم : د . محمد أيوب
الفصل الثالث عشر
( 13 )
الليل طويل طويل ، وحياد يتقلب في فراشه ، يطارده أرق ممل ، عيناه تنظران إلى سقف الغرفة ، يحاول أن يطبق جفنيه على نوم هادئ، لكن النوم يفر منه تاركاً إياه فريسةً لأفكار شتى.. ترى أما لهذا الليل من آخر؟! وهل سنقضي حياتنا في صراع دائم ، لقد قضى والدي معظم حياته في كرب دائم ، ولد في حرب ، وعاش في حرب ، وهاهو يشيخ ولما تنتهي الحرب بعد ، أما آن لنا أن نستقر ؟ وأن تكون لنا حياتنا الخاصة مثل بقية شعوب الأرض .
بدأت عيناه تذبلان مثل نبتة منع عنها الماء ، أغمض عينيه وبدأ يستسلم لما ظن أنه النوم، زاره طيف أخيه سلام، كان يتأبط عكازين ويبتسم ابتسامة عريضة، وإلى جانبه فتاة .. دقق النظر فإذا هي أمل وقد ارتسمت على شفتيها ابتسامة عريضة ، ابتسم .. مد يده ليصافحها ، إلا أنها سحبت يدها وتراجعت كأنها تريد أن تفر منه .
صحا من غفوته القصيرة وقد ضايقه موقف أمل ، تناول زجاجة ماء .. تمضمض وبصق الماء في المغسلة ، وبعد ذلك شرب ، التفت حوله ، وجد الجميع في نوم عميق ، استعاذ بالله من الشيطان الرجيم وأوى إلى فراشه، كانت الساعة قد تجاوزت الواحدة والنصف بعد منتصف الليل ، وبلا مقدمات راح في نوم عميق .
***
استيقظت أم حياد مفزوعة ، صوت طرقات عنيفة على الباب أيقظتها من نومها ، كانت بين النوم واليقظة ، فقد كان نومها متقطعا ، لا تكاد تغفو حتى تستيقظ وكأنها تتوقع أن تفاجأ بشيء تكرهه ، وها هي الطرقات العنيفة على الباب تبعدها عن حافة النوم التي كانت تقاربها وتبتعد عنها ، حاولت أن تتظاهر بالنوم وعدم سماع الطرقات ، لعلهم جاءوا من أجل إخراج الشباب لتنظيف الشوارع ومسح الشعارات عن الجدران ؛ إذا كان الأمر كذلك فسوف يذهبون ويدقون أبوابا أخرى ، أخشى إن فتحت الباب لهم أن يصيبوا سلام في ساقه المكسورة فتزداد حالته سوءاً ، ولكن صوت الطرقات تواصل دون انقطاع ، وصوت غليظ ينادي : افتح الباب .. جيش .
- الله يفتح نافوخك يا ابن الحرام .
استمرت الطرقات واستمر الصوت ينادي ، أيقظت أبا حياد وتحركت بتثاقل لتفتح الباب ، وما إن فتحته حتى اندفع أحد الجنود إلى الداخل بعنف فألقاها أرضاً ، صرخت من الألم :
- الله يعمي قلبك .
تدافع الجنود داخل المنزل يركلون أبواب غرف النوم ، ضرب أحدهم جهاز الراديو فحطمه ، بينما داس آخر على قدم طفلة نائمة فصرخت بحدة ، فتحت عينيها فصرخت في فزع ، استمرت الطفلة تصرخ وقد وضعت يديها فوق عينيها :
- يهود .. يهود .
دخل الجنود جميع الغرف، فتشوا دورة المياه ، قلبوا الفراش، بعثروا الدقيق على أرضية المطبخ، سأل ضابط يلبس الملابس المدنية : وين حياد؟
أشار أبو حياد إلى ابنه دون أن يتكلم، طلب الضابط بطاقة الهوية من حياد، تحدث باللغة العبرية مع ضابط آخر يلبس ملابس عسكرية، اقتاد الضابط حياد إلى الخارج دون أن يسمح له بأن يلبس ملابسه أو حذاءه ، أخذه بالبيجاما والشبشب ، وقبل أن يخرج ركله الجندي في إليته ، وعندما صار خارج البيت وضعوا عصابة من القماش على عينيه ، جذب الجندي يديه ووضعهما خلف ظهره وأحاطهما بسوار بلاستيكي ضغط عليهما بشدة ، جذبه جندي من كتفه وطلب منه أن يسير معه ، حاول حياد تحريك يديه ليمدهما أمامه حتى يتلمس بهما طريقه ، جذبهما ألم فظيع إلى الخلف ، استمر الجندي يمشي وهو يدفع حياداً بعنف مسافة ليست بالقصيرة ، وأخيرا طلبوا منه أن يصعد إلى سيارة باور كانت تقف في الشارع ، لم يستطع الصعود ، حمله جنديان بفظاظة وقذفا به داخل السيارة ، ارتطم رأسه بحافة بارزة ولكنه كتم صيحة ألم كادت تفلت من فمه ، أحس بوجود جسد بشري ملقى في السيارة ، حاول أن يتحرك ، لكن الأساور البلاستيكية كانت تضيق على يديه كلما تحرك ، بدأت يداه تفقدان الإحساس شيئا فشيئاً، حاول أن يوضح الأمر ، وما إن فتح فمه حتى هبد حذاء ضخم فوق صدره قطع أنفاسه ، ومعه غارت الكلمات قبل أن تخرج، بينما دلق أحدهم فوقه جردل ماء قذر.
لامس الماء جسده ، أحس ببعض الانتعاش لكن الألم ظل يعتصر يديه عند الرسغين ، وأحذية الجنود تداعب خاصرتيه بين لحظة وأخرى ، وأخيرا تحركت السيارة ببطء ، كان الجنود ينشدون ويُغًنُّون ، يضحكون ويبصقون ، دفعه أحدهم بمقدم حذائه ، طلب منه أن يشتم ياسر عرفات .. سكت ولم يفتح فمه ، صرخ الجندي :
- قل عرفات كلب .
لم يتفوه بكلمة ، صفعه آخر ، قال : ما بدك تقول ؟!
لكمه في صدره واستطرد : بترمي حجارة وبتشتم شامير ؟
لم يتكلم وكأن شفتيه ألصقتا بمادة لاصقة .. وصلت السيارة إلى مبنى المخابرات ، أنزلوهم من السيارة ، أجلسوهم القرفصاء وأعينهم مغماة ، وأيديهم مربوطة خلف ظهورهم ، طلب أحدهم من الجندي أن يتبول ولكنه لم يسمح له ، وبعد فترة طلب منهم الجنود أن يصعدوا إلى السيارة وهم معصوبو الأعين ، كان سلم الشاحنة يمتد رأسيا ، بدأ الجنود يدفعونهم إلى سلالم الشاحنة ، بدأ البعض يصرخون من الألم وركلات الجنود ولكماتهم تلاحقهم ، جاء دور حياد ، طلب منه الجندي أن يرفع قدمه ويضعها على أول السلم فرفع قدمه اليمنى في الهواء وهبط بها ، ولكنها هوت إلى الأسفل فانكفأ إلى الأمام وارتطم رأسه بالسلم ، ركله الجندي ورفع قدمه ووضعها على أول درجات السلم ، ضغط بقدمه على السلم وحاول الصعود، آلمته يداه .. دفعه الجندي .. نقل حياد قدمه اليسرى ووضعها على السلم فاستقرت إلى جانب قدمه اليمنى ، ثم رفع قدمه اليمنى إلى الدرجة التالية ، وهكذا حتى اجتاز سبع أو ثماني درجات ، انكفأ على وجهه داخل الشاحنة بعد أن دفعه أحد الجنود بحدة ، تدفق سائل حار من أنفه ولكنه لم يتكلم .
بدأ الشباب يتكلمون ، حاولوا التعرف على بعضهم مما استفز أحد الجنود فطلب منهم النزول من السيارة ليصعدوا إليها مرة ثانية ، صرخ الشباب معربين عن احتجاجهم ، ولكن الجنود أجبروهم على القفز من الشاحنة وهم معصوبو الأعين وأيديهم مربوطة ، وتلا ذلك عملية تكرار مؤلم للنزول والصعود .
وبعد فترة كأنها سنوات تحركت السيارة ، وشتائم الجنود تلاحقهم، وأصوات سوداء وصفراء تردد :
- زوركيم أفانيم .. زوركيم أفانيم " يقذفون الحجارة .
وفي الطريق كان السائق يتعمد السير بسرعة كبيرة والانتقال من أقصى يمين الطريق إلى أقصى اليسار ، مما جعلهم يتأرجحون داخل السيارة يميناً ويساراً ، وأخير خففت السيارة من سرعتها وانعطفت إلى اليسار ، سمع الشباب صوت بوابة تفتح وحديث بعض الجنود ، دخلت السيارة ببطء وأخيرا توقفت ، طلب الجنود منهم أن ينزلوا من السيارة ، صفوهم جنبا إلى جنب وبدأ جندي برفع الغطاء عن عيونهم بينما قام آخر بقص الأساور البلاستيكية .
أحس حياد كأن النور يتراقص أمام عينيه وسرى خدر وقح في كفيه ، نظر إلى رسغيه فرأى الدم يسيل منهما ، فقد انغرست الكلابشات فيهما وحفرت أخدوداً عميقاً .
بدءوا في إعطائهم أرقاما معينة ، ثم أخذوا يتسلمون ما لديهم من أمانات " ساعات أو نقود أو غير ذلك" ، تلفت حياد حوله، الممر الذي يقفون فيه يتجه من الشمال إلى الجنوب ، وإلى الغرب ينتصب سياج من الشبك والسلك يأتزر بإزار من الخيش لحجب الرؤية ، نهره أحد الجنود وطلب منه عدم الالتفات حوله ، وأخيراً طلبوا منهم السير واحداً بعد الآخر ، دخلوا إلى ساحة محاطة بالأسلاك من جميع الجهات ، هبت نسمات تحمل في طياتها رائحة ملوحة ماء البحر ، شعر حياد بحنين إلى البحر .. آه ما أجمل البحر !.. لا بد أننا موجودون في معتقل " أنصار2 " الذي زرناه زيارة خاطفة قبل بضعة أشهر ، لكن الدنيا غير الدنيا ، أصبح أنصار 2 سجنا حقيقيا ، والله وحده يعلم كم سيطول بقاؤنا هنا .
صفهم الجنود بحيث اصطف كل أربعة أو خمسة أشخاص في صف ، وضعوا أمام كل منهم كيسا فارغا، وضعوا أمامهم ملابس السجن وطلبوا منهم أن يخلعوا ملابسهم وألا يبقوا عليهم غير الملابس الداخلية ، وأمامهم وضعت طاولة وكرسي ، حضر رجل بنظارتين طبيتين ، جلس على الكرسي، فتح ملفا فيه بعض الأوراق وبدأ في استدعاء المعتقلين واحدا بعد الآخر ، يبدو أنه طبيب ، لا بد أن أريه ما فعلته أساورهم بيدي ، ولما جاء دو حياد سأله الطبيب :
- اسمك ؟
- حياد .
- عمرك ؟
- عشرون سنة .
- عندك أمراض ؟
- لا .
- أدر ظهرك .
أدار حياد ظهره ، ثم طلب منه الطبيب أن ينصرف ، ولكن حياد توقف ومد يديه أمام الطبيب ، تظاهر الطبيب بعدم رؤية الدم أو الجرح الذي خلفته الكلابشات ، قال له حياد :
- انظر ما فعلته أساوركم بيدي .
أشاح الطبيب بوجهه بعيدا وقال :" ما يخبتلي " لا يعنيني.عاد حياد إلى مكانه ، بدأ يلبس ملابس السجن ، احتفظ بالورقة التي سجلوا عليها اسمه ورقمه والأمانات الخاصة به ، وما إن انتهى الفحص الطبي الروتيني حتى جاء أحد الجنود وقام بتوزيعهم على الغرف والخيام المختلفة ، كان نصيب حياد في غرفة رقم 12 ، غرفة خانقة لها باب وشباك يفتحان جنوبا، بينما كان الشمال والغرب بلا نوافذ ، دخل حياد الغرفة ومعه ثلاثة شبان من الذين اعتقلوا معه ، أحس أن شيئا ما يربط بينهم ، جال ببصره في الغرفة، كان جردل البول يقبع في الزاوية الجنوبية الغربية ، بينما يقبع جردل الماء قرب باب الغرفة .
دعاهم رجل يبدو أنه في العقد الخامس من عمره إلى الجلوس ، حياهم قائلا : أحس حياد بالراحة عند سماع صوت الرجل ، تذكر أبا كفاح وتلك الليلة التي قضاها في الغرفة رقم 11 المجاورة للغرفة الحالية .. يا إلهي ! ما أشبه الليلة بالبارحة ، ولكن الغرفة تمتلئ اليوم بالشباب ، بدأ حياد في عد زملائه في الغرفة ، كان العدد خمسة وثلاثين شخصا ، الأمل يشع من عيونهم ، بدأ الشباب يقدمون أنفسهم لزملائهم الجدد :
- محسوبكم أبو عنتر .. عربجي .. عندي حصان أصيل .. أستغفر الله .. حمار أصيل ، مش كديش .
تم التعارف ودارت الأحاديث بينهم ، لطالما قيل له إنه يوجد في السجن بعض العصافير .. ترى هل يوجد بيننا عصفور ؟ ومن هو هذا العصفور ؟ وما قصة هذا الأبو عنتر الذي يبدو أنه ظريف وصاحب نكتة ! التفت حياد نحو أبي عنتر الذي قابله بابتسامة وطلب منه أن يجلس إلى جانبه ، بدأ أبو عنتر حديثه قائلا :
- - أنا متأكد أنك تسأل نفسك : ليش حابسين هالعربجي ؟
ضحك حياد ، اعتقد أن أبا عنتر يقرأ أفكاره ، ولكنه صمت بينما استطرد أبو عنتر :
- محسوبك اشترك في مسيرة ، حملت الشباب على الكارة ، وفجأة وقفت فوق الكارة .. قبعت في رأسي ولقيت الكلام بيطلع لحاله ، هتفت وهتف الشباب وراي :
والله لأعزك يا شامير زي ما عزِّيت حماري
واشتري لك رطلين شعير ويلعن أبو المصاري
وفجأة وقعت أنا والحمار بين أيديهم ، لكن الله سلم الشباب ، وهياني زي ما أنت شايف ، أحمد الله إنهم ما حبسوا الحمار.
***
تنحنح ذلك الكهل بعد أن قدم الجميع أنفسهم إلى حياد وزملائه ، نظر إلى حياد نظرة تحمل معاني كثيرة ثم قال :
والآن جاء دوري لأتعرف إليك .. أنا أبو الفهد من مخيم جباليا ، أنتظر الترحيل إلى معتقل أنصار 3 في النقب .
قطب حياد ما بين حاجبيه متسائلا :
- لماذا لا تبقى هنا ؟
- المعتقلون الإداريون ينقلون إلى النقب .
- وماذا فعلت حتى يسجنوك ؟
- ابتسم أبو الفهد ابتسامة تطفح حنانا :
- تهمتي أنني شيوعي .
وضع حياد أصبعه فوق شفتيه وهمس :
- ألا تخشى العصافير ؟
- العصفور يا حياد يظل عصفورا لا حول له ولا قوة ، هذا أولا ، أما نحن فلا نخشى العصافير لأنه ليس لدينا ما نخشاه ، سلاحنا هو الكلمة .. الكلمة الجريئة الصادقة ، يقول بعضهم : قل كلمتك وامض ، ولكننا نقول كلمتنا وندافع عنها ، سنبقى .. لن نمضي بل سنفقأ عيونهم قبل أن نمضي ، سنبقى جدارا فوق صدورهم وزجاجا في عيونهم حتى يرحلوا هم .
ابتسم حياد وتذكر قول الشاعر المصري أحمد فؤاد نجم ، دندن أغنية كان قد سمعها قبل فترة :
دور يا كلام على كيفك دور
خللي بلدنا تعيش في النور
نرمي الكلمة في بطن الضلمة
تحبل سلمى وتولد نور
ربت أبو الفهد على كتف حياد :
- أنت في عمر ابني .. تعال إلى جانبي يا بني .. أريد أن أنصحك نصيحة.. قل كلمتك ما دمت تعتقد بصدقها ولا تخش شيئا .
همس حياد :
- وهل يعلمكم الحزب ذلك ؟
- الحياة هي المدرسة الكبرى ، والحزب يناضل من أجل أن يحيا الناس دون استغلال أو ظلم .
- وهل يمكنني أن أنضم إلى الحزب ، لقد سجنوني لمدة أربع وعشرين ساعة على اعتبار أنني شيوعي ، وها هم يعتقلونني اليوم مع أنني لم أفعل شيئا .. طول عمري وأنا أبتعد عن طريقهم ، ولكنهم لم يتركوني في حالي .
- اسمع يا حياد .. الحزب يرحب بك .. هل تعرف أبا كفاح ؟
- أعرفه .. هو صديق والدي ، وقد رأيته في السجن في يوم المساواة .
- إذن ، اذهب إليه ، قدم له طلب عضوية، أبلغه سلامي عندما يخلون سبيلك، أعتقد أنك لن تبقى في السجن أكثر من ثمانية عشر يوما .
قطع الحديث صوت ينادي :
- مقاشات على الباب .
قام شاويش الغرفة ، فرد المقاشات فوق ألواح خشبية ، جاء بعض المسجونين وبدءوا يسكبون الطعام في الأواني ، شعر حياد بالجوع وكأنه لم يأكل منذ سنوات ، انتظم المعتقلون في مجموعات وبدأ شاويش الغرفة في توزيع أوعية الطعام ، وبعد حوالي ساعة جاء أحد السجانين وفتح الغرفة ، طلب منهم أن يخرجوا لقضاء الحاجة وغسل أواني الطعام .
فوجئ حياد بانقطاع المياه .. ترى كيف يمكن أن يقضي الإنسان حاجته دون ماء ؟ وكيف يمكن أن يعيش دون استحمام .
قال أبو الفهد وكأنه قرأ أفكار حياد :
- يقطعون المياه عمدا لاستفزازنا ولكنا سنتحمل ، سأدبر لك طريقة ، بإمكانك أن تذهب لغسل الصحون مع الشباب ، في القسم الآخر يوجد حمام ومجلى ، بإمكانك أن تأخذ دشا في قسم الخيام ، التفت أبو الفهد إلى شاويش الغرفة وهمس في أذنه ، ابتسم الشاويش " مسئول الغرفة " وهمس في أذن أحد الشباب فتنحى جانبا وحل حياد محله ، توجهت المجموعة نحو البوابة .. دخلوا إلى مردوان الخيام ، وهناك رأى حياد عددا من زملائه في المدرسة ، لوح له الشباب بأيديهم :
- - شد حيلك يا حياد .
لوح بقبضته في الهواء مبتسما ، سأله أحدهم :
- أنت موجود في الغرف ؟
- أيوه
- في أي غرفة ؟
- غرفة 12 .
- اسمع يا صاحبي .. هذه الغرفة إما للمعتقلين احترازيا أو إداريا .
ارتعش قلب حياد : إداري ؟ وماذا فعلت حتى يعتقلونني إداريا .. غاضت الابتسامة ، ولكنه تظاهر بعد الاكتراث ، طمأن نفسه : إداري .. إداري ، وليكن .. سأجد رفاقا أطمئن إليهم .. يكفيني أبو الفهد .
عاد حياد إلى الغرفة ، استقبله أبو الفهد بابتسامة :
- ها .. إن شاء الله تدشدشت .
ولكن حياد لزم الصمت ، أردف أبو حياد :
- مالك كفانا الشر ، رحت بتضحك رجعت مكشر ؟
تساءل حياد :
- يعني معقول يعطوني إداري ؟
ضحك أبو الفهد بصوت مسموع :
- ول .. إداري مرة واحدة ، يا راجل بلاش قلة عقل ، حتى لو أعطوك إداري .. هل الإداري غول بياكل الناس .
- ابتسم حياد : يللا ، بنرافقك .
مضت الأيام بطيئة كالحة ، لم يغير طعمها سوى أحاديث أبي الفهد المشجعة التي تبث الثقة في النفس ، وفي أحد الأيام وبينما كانوا واقفين للعدد ، أخذ السجان ينادي الأرقام بينما يقول كل سجين اسمه ويستدير إلى الخلف ، وبدلا من أن يعيدهم إلى الغرفة أوقفهم قائلا :
- كل واحد يسمع رقمه يطلع بره .
- وبدأ ينادي الأرقام .. خرج أبو الفهد ، همس أحد السجناء: ترحيلة للنقب .
بينما استمر السجان في قراءة الأرقام ، قرأ رقم حياد " شيشت ألافيم عسريم بشلوش " 6023 " ، لم يرد حياد لأول وهلة ، كرر السجان الرقم ، لكز أحد السجناء " حياد " في جانبه ، رقمك .. خرج حياد متباطئا ، بينما ابتسم أبو الفهد مشجعا ، قال السجان :
- كل واحد يلف بطانيته ويجهز حاجياته .. اليوم بتروحوا سجن النقب " أنصار 3 " .
***
تجمع السجناء في الباحة التي استبدلوا فيها ملابسهم قبل أيام ، وضعت أكياس الأمانات أمامهم ، بدءوا يخلعون ملابس السجن ، لبسوا ملابسهم ، سلموا العهدة الموجودة لديهم إلى عمال المخزن ، ثم ساروا صفا واحدا إلى غرفة الاستقبال حيث أعيدت لهم أماناتهم من ساعات أو نقود ، بدأ الجنود يضعون الأساور البلاستيكية حول معاصمهم ، ورباط من القماش حول عيونهم ، أدخلوهم واحدا بعد الآخر إلى الباص.
أدار السائق محرك سيارته ، بدأت السيارة تخرج من معتقل أنصار2 ، قام الجنود بإنزال ستائر الباص ، في حين صرخ جندي بصوت آمر : تريد هروش " اخفض رأسك "
وضغط بيده على رأس حياد بعنف فارتطمت بالأسطوانة المعدنية المثبتة في الكرسي الموجود أمامه .
حاول حياد أن يسمع أصوات الناس أو السيارات ، ولكنه لم يسمع شيئا ، همس للشخص الموجود بجانبه :
- يظهر أن اليوم إضراب .
دوى صوت رصاص في الجو ، ومن بعيد جاء صوت طائرة هليوكوبتر مختلطا بهدير يردد : الله أكبر .

د . محمد أيوب
24-08-2006, 03:57 PM
الكف تناطح المخرز
رواية
بقلم : د . محمد أيوب
الفصل الرابع عشر
( 14 )
النقب ، ذلك الفرن اللافح ، يشع الحرارة نهارا والبرودة ليلا، تكاد تتذوق طعم الحرارة بكل خلية من خلايا جسدك المتعب بمجرد أ ن ينفتح باب الباص، تصدر من أفواه الجنود كلمات آمرة تطلب من المعتقلين النزول ، يصفونهم بجانب بعضهم ، ما زالت الأيدي مربوطة ، تكاد قدماك تغوصان في الطين الناعم ، يفكون الربطات عن العيون فتضيق حدقاتها لتتقي شر الضوء المشبع بحرارة الجو وبالعرق ، تدور العيون في مآقيها حيرى قلقة تحوم أمامها علامات استفهام كبيرة .. ترى أين نحن ؟ وماذا يدبرون لنا ؟ وهل هذه هي كيتسيعوت " أنصار 3 " ؟ أم أنه سجن جديد افتتح خصيصا لنكون أول رواده ؟ أسئلة حيرى كثيرة داهمت مخيلة حياد الذي التقت عيناه فجأة بعيني أبي الفهد ، ابتسم أبو الفهد مشجعا ، اغتصب حياد ابتسامة لم يطل عمرها ، حاول ابتلاع ريقه فلم يجده ، جف حلقه .. آه يا بحر غزة .. كم أفتقدك الآن ، كنت أتذوق طعم الملوحة مع كل نسمة هواء باردة تصافح جسدي، وها أنا الآن أتذوق طعم حرارة الصحراء مع كل حركة .
طلب منهم الجنود أن يقفوا صفا واحداً وأن يسيروا وراء بعضهم البعض ، ساروا مسافة طويلة والحرارة تطاردهم ، وصلوا إلى مكان محاط بالأسلاك الشائكة ، انتصبت بداخله ثماني خيام قسمت إلى مجموعتين متواجهتين ، وفي إحدى الخيام تناثرت بعض الصناديق الكرتونية المملوءة بقمصان زرقاء أو بنية اللون ، وفي خيمة أخرى تكدست مجموعة من الملابس الداخلية .
بدءوا يدخلون إلى المنطقة ، أجلسوهم في الشمس ، أحضروا لهم جالونا أسود اللون مملوءا بالماء ، خاطبهم أحد الجنود قائلا : اشربوا الماء حتى لا تصابوا بالجفاف .
حاول حياد أن يشرب ، تناول كأسا بيده المربوطة ، تجرع الماء تدريجيا ، فقد الماء طعمه من شدة الحرارة ، شعر حياد أنه يتجرع شربة من زيت الخروع الممزوج بالماء الساخن ، أصدرت أمعاؤه صوتا ، انتابته رغبة في القيء ، ودون إرادته صدر عنه صوت أشبه بالصوت الذي يصدر عن إنسان يتقيأ ، لكن شيئا لم يخرج من جوفه ، تذكر أنه لم يتناول طعاما منذ مساء اليوم السابق ، لم يفطر ولم يتناول وجبة الغداء ، وهاهي الساعة تتجاوز الثالثة ولم يقدموا لهم سوى ذلك السائل الذي يشك في أنه ماء ، وبعد جلوسهم تحت أشعة الشمس أكثر من ساعتين طلبوا منهم أن يجلسوا في الظل داخل إحدى الخيام .
قام أحد الجنود بفك وثاقهم ، طلبوا منهم أن يستبدلوا ملابسهم ، أعطوا لكل واحد منهم كيسا ليضع ملابسه فيه ، تململ بعض المعتقلين ، تناثرت همسات هنا وهناك .. ولكننا معتقلون إداريون ، والمعتقل الإداري يبقى بملابسه المدنية ، ارتفع الهمس تدريجيا حتى أصبح كلاما واضحا ، سمعهم احد الضباط فصاح فيهم :
- أنتم هنا مساجين وعليكم أن تلبسوا ملابس السجن .
رد أبو الفهد :
- ولكننا معتقلون إداريون وسنبقى بملابسنا المدنية .
انفعل الضابط :
- لا تسبب المشاكل لزملائك .. استبدلوا ملابسكم .
- لن نستبدل ملابسنا، إلا إذا كان لديكم قانون آخر للإداريين.
- صاح ضابط آخر : لا تتكلم في السياسة .
قال أبو الفهد : نريد مقابلة المسئول .
- إذن ، انتظروا حتى يأتي المسئول .
وبعد لحظات جاء ضابط برتبة كولونيل يرتدي طاقية تتدلى أطرافها حول رأسه ، فتل شاربيه ونظر باحتقار نحو المعتقلين :
- مين فيكم اللي بيعمل مشاكل هون ؟
وقف أبو الفهد قبل أن يشير الضابط إليه ، قال : أعتقد أن من حقنا أن نبقى بملابسنا المدنية .
ابتسم الكولونيل ساخرا :
- كان زمان يا حبيبي ، قبل الانتفاضة ، اليوم كلكم مساجين.
- وإذا لم نستبدل ملابسنا ؟
- سنجبركم على ذلك بالقوة .
ساد صمت رهيب ، لوح الجنود بعصيهم في الهواء بينما تدخل الضابط الأول : سنعطيكم فرصة للتفكير ، وسترون أن زملاءكم الذين سبقوكم استبدلوا ملابسهم .
تنفس حياد الصعداء .. إذن لسنا وحدنا في هذا الجحيم ، هناك آخرون يعيشون في هذا الفرن ، وهم ما زالوا أحياء لم يموتوا ولم ينهاروا ، ستكون بداية تجربة جديدة ، وسأخرج منها أقوى من قبل إن شاء الله .
بدأ المعتقلون في التشاور، وأخيرا استقر رأيهم على أن يستبدلوا ملابسهم، وإن وجدوا من سبقوهم بملابسهم المدنية فإن من حقهم أن يكونوا مثلهم .
بدءوا يستبدلون ملابسهم واحدا بعد الآخر ، أخذ حياد يتلفت حوله ، وقعت عيناه على بعض الأيدي تلَوِّح لهم من معسكر قريب ، صاح بفرحة الأطفال : أخوتنا يلوحون لنا .
أخذت الأيدي تلوح ردا على التحية ، بدأ المعتقلون يحاولون التعرف على بعض الوجوه ، إلا أنهم لم يتمكنوا من ذلك .
تمت عملية استبدال الملابس ، صفهم الجنود في طابور وساروا بهم إلى معسكر الاعتقال ، كانوا أربعة وعشرين معتقلا مشوا حوالي نصف كيلومتر حتى وصلوا إلى القسم الذي سينزلون فيه .
صفوهم في إحدى الطرقات من جديد ، مروا بعملية تفتيش دقيقة ، أخذوا منهم مقصات الأظافر والساعات ، كانوا قبل ذلك قد أخذوا منهم النقود ، ثم أدخلوهم إلى القسم الخاص بهم ، تدفق الأخوة والرفاق نحوهم، البعض يسأل عن الخارج .. أما زالت الانتفاضة متدفقة ؟ وهل معنويات الأهل مرتفعة ؟ نهرهم الجنود وهددوهم بأن عليهم أن يلتزموا الصمت وإلا ...!
عجب حياد .. وإلا ماذا ؟ هل هناك أكثر مما نحن فيه ؟ هل هناك ما هو أسوأ من هذا الفرن ، هذه القطعة من جهنم ؟
صاح شاويش المردوان : يللا يا شباب كل واحد يروح لخيمته ، بلاش يقمعونا .
صاح شاب من بعيد : اللي معاهم يسووه .. قال للقرد بدي أسخطك .
رد عليه شاب آخر : خلوا الشباب يرتاحوا .
بدأ الشباب يتفرقون ، توجه كل منهم إلى خيمته ، بينما بدأ النزلاء الجدد يرتبون أماكن نومهم بمساعدة بعض الشباب القدماء في المعتقل .
***
قد يأتي النوم دفعة واحدة فينام الإنسان نوم أهل الكهف، وقد يقترب النوم ويبتعد فيظل الإنسان يراوح بين النوم واليقظة . ولعل حالة حياد كانت أقرب إلى المراوحة بين النوم واليقظة، حاول أن ينام إلا أن نومه كان متقطعا تشغله أفكار شتى ، كان الحر شديدا في ذلك اليوم ، وها هو الجو يميل إلى البرودة الآن، تذكر ما درسه في الجغرافيا عن المناخ القاري، وها هو يعيش في هذا المناخ ، والأسوأ من ذلك أن العقارب كانت تنتشر في المكان ، وهذا يعني أنه معرض للسعة عقرب أو لدغة أفعى ، فقد أخبره بعض الشباب أنهم قتلوا أفعى سامة قبل يومين .. يا إلهي ، ما أسوأ أن يموت الإنسان بالسم في مثل هذا الجحيم ، ولكن .. لا ، لن تنجح عقاربهم وأفاعيهم في إبعاد النوم عن عيني ، حاول أن يطبق عينيه على النوم حتى لا يفر منهما ، ولكن النوم كان يجيد فن الهرب .
وفي حوالي الخامسة صباحا استيقظ حياد على صوت صرخات تنذرهم بأن عليهم أن يستيقظوا :
- ما زيه ؟ بيت ميلون بو .. تقوموا .. " ما هذا .. فندق هنا ؟ قوموا . "
نهض حياد واستيقظ المعتقلون ، طلب منهم شاويش المردوان أن يرتبوا بطانياتهم ، وأن يرفعوا أطراف الخيمة من جميع الجهات حتى يتمكن الحراس من رؤية كل إنسان داخل الخيام .
توجه حياد من خيمته إلى دورة المياه ، وجد أعداداً كبيرة من المعتقلين ينتظرون دورهم ، كانت دورة المياه عبارة عن خندق طوله حوالي خمسة أمتار وعرضه حوالي ستين سنتيمترا ، ركبت فوقه ألواح خشبية بها فتحات واسعة بطول حوالي أربعين سنتيمترا وعرض حوالي خمسة وعشرين سنتيمتراً ، تفصل بين هذه الفتحات جدران من الصفيح ، ولكل قسم باب دون سحاب يساعد على إغلاقه ، وعندما دخل حياد لقضاء الحاجة وجد بقايا ماء في جالون من البلاستيك، وقد اضطر إلى الإمساك بالباب طيلة الوقت حتى لا ينفتح فيشاهده زملاءه في وضع غير مستحب ، وحين انتهى من قضاء حاجته ، توجه إلى صنابير المياه ليغسل يديه ، ولكنه وجدها خالية من الماء ، شعر بقرف شديد ، ترى هل يمكن أن يتناول الإنسان طعام الإفطار دون أن يغسل يديه ووجهه .
جلس حياد إلى جانب الخيمة ، سرح بأفكاره بعيدا حتى وصل إلى المنزل ، كان ينام حتى الساعة الثامنة أو التاسعة يوميا، خصوصا بعد أن أنهى دراسته الثانوية ولأن الجامعات مغلقة، وها هو اليوم يستيقظ من الساعة الخامسة صباحا ، ولا يجد الماء ليغسل وجهه ويديه ، حتى ماء الشرب كان قد نفد من الجالونات الموجودة في الخيام .
في حوالي الساعة الثامنة والنصف حضرت عربة المياه وأفرغت ما فيها في خزان أسود موجود خارج الأسلاك الشائكة على حامل خشبي يبلغ ارتفاعه حوالي ثلاثة أمتار ، تهللت الوجوه وبدأ الشباب يغسلون وجوههم وأيديهم ، بدأت مجموعة من الشباب في توزيع طعام الإفطار على الخيام المختلفة ، كل خيمة فيها ثمانية وعشرون معتقلا ، نصيبهم قالب من الزبد انتهت صلاحيته للأكل ويبلغ وزنه 200 جرام، وبضع ملاعق من المربي وأربع أو خمس حبات من الزيتون لكل فرد، وسبعة أرغفة من الفينو وقليل من الفول المسلوق.
نظر حياد إلى الطعام ، فكر في الامتناع عن الأكل ، لكن معدته الخاوية قرصته ، فاضطر لمشاركة زملائه الطعام .
كانت أفواج الذباب القادمة من دورات المياه القريبة من الخيمة تشن غاراتها على صحون الطعام وعلى وجوه النزلاء الجدد ، بدأت أعصاب حياد تتوتر وهو يحاول إبعاد الذباب عن عينيه وشفتيه ، شعر بالغثيان ، رغبة شديدة في القيء تلاحقه ، لكنه تماسك حتى لا يبدو ضعيفا في نظر من لا يفهم طبيعة مشاعره .
ارتفعت الشمس في كبد السماء ، شعر حياد أن الحر يكاد أن يخنقه ، فتح أزرار قميصه الأزرق على نسمة تخفف من وطأة الحر ، خرج ليساعد زملاءه في غسل أواني الطعام، هنا ، رأى الجندي أزرار قميصه المفتوحة، ناداه وأمره أن يقف ووجهه نحو السلك الشائك المحيط بالخيام وأن يرفع يديه إلى أعلى ، ولما حاول شاب آخر أن يوضح للجندي أن حياد معتقل جديد أمره أن يقف إلى جواره في الشمس .
مضت ساعة والجندي مصر على إبقاء الاثنين في الشمس، ثم مضت ساعة أخرى ، ثم ساعة ثالثة ، حاول شاويش المردوان لأن ينهي الأمر ، لكن الجندي أصر على موقفه ، انفجر حياد دون وعي منه وقد ألهبت حرارة الجو كيانه : الله اكبر عليكم .. الله اكبر عليكم .
فتح الجندي بوابة القسم ، نادى على حياد : تعال هون .
لم يتحرك حياد ، دخل الجندي اقترب من حياد ، لكمه في صدره ، أحس حياد بدوار شديد ووقع مغشيا عليه على الأرض ولم يتحرك ، أغلق الجندي البوابة بسرعة وخرج ، تقدم شاويش المردوان من حياد ونادى على الجندي أن يفتح البوابة لنقل حياد إلى العيادة ولكن الجندي رفض ، هب السجناء : الله اكبر .. الله أكبر .
اهتز المعتقل ، وتكرر الهتاف المقدس ، ذعر الجنود وتدفقوا نحو القسم وأحاطوا به من جميع الجهات ، ولكن الهتاف استمر : الله أكبر . الله اكبر.
انطلقت قنابل الغاز إلى داخل القسم ، بدأ المعتقلون يجرون وراء قنابل الغاز ، أمسك أحد الشباب بإحدى قنابل الغاز وردها نحو الجنود الذين فروا مذعورين ، بينما ذهب غاز القنابل الأخرى بعيدا عن القسم مع اتجاه الريح ، واستمر الهتاف الراعد حتى جاء مدير المعتقل ، وتم نقل حياد إلى العيادة حيث اكتشف الطبيب أنه يعاني من الجفاف ، قاموا بإعطائه محلول إشباع .
مضت على تلك الحادثة بضعة أسابيع ، وفي إحدى الليالي ، وبعد حوالي الساعة الثانية بعد منتصف الليل ، صحا المعتقلون على صوت طرقات على أسياخ الحديد التي تثبت زوايا الخيام بالأرض ، فتح المعتقلون أعينهم ليشاهدوا أعداد ضخمة من الجنود ، طلبوا من كل معتقل أن يلف بطانياته وأدواته في صرة واحدة ، وأن ترص المشاطيح * الخشبية فوق بعضها، ثم بدءوا يفتشونهم واحداً واحدا وببطء شديد ، أمسك الجنود مع أحد المعتقلين مسمار مدقوقا في قطعة خشبية ، أخذوا المسمار ونقلوا المعتقل إلى الزنزانة ، وفي تمام الساعة الخامسة وخزهم ذلك الصوت :
- ما زيه ؟ بيت ميلون بو .. تقوموا .
.............................
• كلمة عبرية دخلت حيز الاستعمال الشعبي ومفردهامشطاح، وهو عبارة عن مجموعة ألواح خشبية لنقل البلاط وحجارة البناء ، تستخدم بدلا من الأسِرَّة والتخوت لينام عليها المعتقلون
***

د . محمد أيوب
26-08-2006, 01:34 PM
الكف تناطح المخرز
رواية
بقلم : د . محمد أيوب
الفصل الخامس عشر والأخير
( 15 )
تجمع الأخوة والرفاق في إحدى الخيام وبدءوا يتحاورون ويتناقشون حول تطور الأحداث الأخيرة في المناطق المحتلة وفي الخارج ، كانت الصحف تصل بصورة متقطعة ، إلا أن ما كان يرد فيها يشكل مادة للحوار، كانت وثيقة أبي شريف، على قلة ما نشر عنها في الصحف ، مادة للحوار، وقد أصبح الخروج برأي واضح حول الوثيقة أمرا صعب المنال ، إلا أن أبا الفهد ومن خلال قراءته للصحف المتاحة مثل القدس والجروزالم بوست وهآرتس وصحيفة السجن ، استطاع أن يخرج برأي لصالح الوثيقة ، وفي إحدى الجلسات طرح عليه أحد الأخوة سؤالا حول الوثيقة ورأيه فيها ، بدا الاهتمام على وجه أبي الفهد ، ساد الصمت في انتظار إجابة أبي الفهد ، قال :
- أنا مع الوثيقة حسب المعطيات المتوفرة ، إلا أن الرأي النهائي لا يمكن أن يتبلور إلا بعد قراءة النص الكامل للوثيقة .
سأله حياد :
- ما هي النواحي الإيجابية في الوثيقة حسب رأيك ؟
- أعتقد أن أهم ما في الوثيقة هو التركيز على حق تقرير المصير للفلسطينيين وحقهم في إقامة دولتهم .
تنحنح أحد الرفاق وقال :
- ولكننا نرفض إجراء استفتاء في المناطق المحتلة .
تساءل أبو الفهد : لماذا ؟
قال الرفيق : لأن الاستفتاء قد يعطي الفرصة لمناهضي منظمة التحرير للظهور على أنهم بديل للمنظمة ، هذا أولا ، وثانيا : لأن الشعب قال كلمته.
- وهل هناك ما يمنع من أن يقول الشعب كلمته مرة أخرى ، وهل تعتقد أن ما سيجري هو انتخابات ؟ إنه مجرد استفتاء يا رفيق ، سيكون أمام الفلسطيني سؤال واحد يجيب عنه ب " نعم أو لا " ، وهذا هو السؤال : هل توافق على أن منظمة التحرير هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني ؟ إضافة إلى أن الاستفتاء لن يتم إلا تحت إشراف جهة محايدة ، وهنا أتساءل مرة أخرى : ترى ، ما نسبة أولئك الذين سيقولون نعم لمنظمة التحرير ؟
أجاب الرفيق : أكثر من تسعين بالمائة دون شك .
ابتسم أبو الفهد : أنا لا أريد تسعين بالمائة ، يكفيني أغلبية مطلقة تضع في فم كل متشكك حجرا يخرسه ، وتفقأ عيون أولئك الذين يشككون في وحدانية تمثيل منظمة التحرير للشعب الفلسطيني ، أما إذا كنت تعارض الاستفتاء لأن البعض عارضه ، فأنا أعتقد أن ما يقال في الخارج هو مجرد توزيع أدوار بين الفصائل، مواقف تكتيكية مختلفة ضمن إستراتيجية عامة، ولا بد لنا من أن نفهم أن الوثيقة هي مجرد بالون اختبار لنوايا الطرف الآخر ، فإن نجحت تبنتها منظمة التحرير ، وإن كانت استجابة الطرف الآخر لها سلبية فإنها تظل وثيقة فردية لا تمثل إلا صاحبها .
هنا تدخل أحد الأخوة :
- ولكن ، ألا ترى أن المفاوضات المباشرة تعني اعترافاً صريحا بإسرائيل ؟
ضحك أبو الفهد متسائلا : وما معنى أن تجلس إسرائيل مع وفد فلسطيني ؟ ألا يعني ذلك اعترافا بمنظمة التحرير ووحدانية وشرعية تمثيلها للشعب الفلسطيني ؟
تدخل أحد الأخوة : ولكن الوثيقة لم توضح حدود الدولة الفلسطينية حسب ما توافر لنا من معلومات .
قال أبو الفهد : وهل تعتقد يا أخي أن إسرائيل بعد أربعين سنة من قيامها قد رسمت لنفسها حدودا واضحة أو حتى دستورا واضحا ؟ هذه ميزة في صالح الوثيقة وليس ضدها إن صح ذلك ؛ وهذا معناه أن الحدود أمر قابل للتفاوض ، هناك حد أعلى نطالب به هو حدود التقسيم حسب القرار رقم 181 ، وهناك حد أدنى هو دولة في حدود الرابع من حزيران" يونيو " 1967 .
- وهل يجوز لنا أن نقبل بذلك ؟
رد أبو الفهد بسؤال آخر : وهل باستطاعتنا حسب المعطيات العربية والدولية الحالية أن نوقع الهزيمة بإسرائيل وأن نحرر فلسطين كاملة ؟ وهل بإمكان أي فصيل أو حتى الفصائل مجتمعة تحرير فلسطين بالوسائل الحربية في ظل هذا المناخ العربي السيئ وغير المواتي ؟ إن هجوم السلام الفلسطيني يشكل مأزقا بالنسبة لإسرائيل ، فلماذا لا نعمق هذا المأزق ؟ لماذا ننقذها من مأزقها بأطروحات تضرنا قبل أن تضر غيرنا ؟
نادى المؤذن لصلاة المغرب فقام الأخوة للصلاة ، أفسح لهم الرفاق المكان وانتقلوا إلى خيمة أخرى حتى يتمكن المصلون من أداء صلاة الجماعة .
***
بعد بضعة أيام فوجئ أبو الفهد بأن للرفاق في الأقسام الأخرى رأيا آخر في وثيقة أبي شريف ، طلب منه الرفاق في القسم عدم تأييد الوثيقة ، ولكنه أكد أن معارضة الوثيقة لا تنسجم مع الفهم الماركسي للأمور ، وأن الأمور ستتضح فيما بعد ، وعد ألا يدافع عن الوثيقة ولكنه احتفظ بحقه في عدم مهاجمة الوثيقة أو الوقوف ضد فهمه لما جاء في الوثيقة ، وكم سعد حياد حين جاء رأي الحزب في الخارج متطابقا مع رأي أبي الفهد ورؤيته الصحيحة للأمور ، ولكن أبا الفهد اعتبر أن ما حدث من التباس ناتج عن خطأ يقع فيه البعض بسبب عدم وضوح الرؤيا ، وأن الفهم الصحيح للماركسية اللينينية يجعل رؤية الجميع لأمر ما رؤية موحدة مهما بعدت المسافات .
***
أحد أيام أغسطس ، يوم عادي مثل بقية الأيام في النقب ، استيقاظ في الساعة الخامسة صباحا ، المشوار اليومي مع أبي الفهد .. يروحان ويجيئان معا ، يتحدثان عن تجارب الشعوب النضالية وعن تجارب بعض المناضلين في العالم ، حدثه أبو الفهد عن تجربته في سجن الواحات في مصر ، وكيف استطاع المناضلون هناك تحويل الصحراء إلى جنة خضراء، تمكنوا من زراعة ما يلزمهم من خضار ، وهاهم المعتقلون في النقب يطورون تجاربهم ، فقد صنعوا من زجاجات الكولا البلاستيكية مصائد للذباب ، كما جدلوا أليافا خاصة يدهنونها بالزبد منتهى الصلاحية ويشعلونها ليلا بعد إغلاق الخيام عليهم ليشعوا منها سجائرهم ولطرد البعوض ، كما صنعوا أغلفة لجالونات المياه البلاستيكية من البطاطين الممزقة ، كانوا يبللونها بالماء حتى يظل الماء داخل هذه الجالونات باردا على الرغم من حرارة الجو القاسية ، وقبل أن يحين موعد الإفطار تعود حياد أن يجلس إلى جانب أبي الفهد في ظل إحدى الخيام لمتابعة الأحاديث واستخلاص العبر من هذه التجربة الفريدة ، قال أبو الفهد : صحيح أنه كانت هناك بعض السلبيات ، لكن هذه السلبيات يجب ألا تحجب رؤيتنا للإيجابيات ، يجب أن نخرج من هذه التجربة أكثر صلابة ووعيا.
وما إن حضر الطعام حتى تناولاه على عجل ، وكان غذاء المعدة لا يسد مكان غذاء العقل ، كان حياد يرغب في أن يدرك كل شيء .. آه لو توفرت لديه الكتب المناسبة ، لكان انتصر على الوقت بالقراءة والمعرفة ، ولكن هيهات .. هيهات .
***
عند الظهيرة قام بعض الجنود بإخراج بعض الشباب المحكومين من قسم المتاريس كما كانوا يسمون قسم الشباب المحكومين ، وسبب هذه التسمية هو أن معظم التهم الموجهة لمعتقلي هذا القسم هي إقامة المتاريس والحواجز في الطرق.
وعندما وصل الجنود ببعض الشباب أمام القسم الذي يتواجد فيه حياد وأبو الفهد ، انهال الجنود عليهم ضربا بالعصي وركلا بالأقدام ، تدفق الدم من رأس أحد الشباب ، بينما وقع آخر أرضا ، أخذ أحد الجنود يدوس على بطنه وصدره بحذائه الثقيل والشاب يئن من الألم .
حاول بعض الشباب الاحتجاج إلا أن شاويش المردوان نصحهم بالتريث قليلا ، أملا في أن يتوقف الجنود عن فعلهم الاستفزازي ، ولكنهم استمروا في ضرب الشباب دون رحمة فتدفق الهتاف من حناجر نزلاء القسم بركانا غاضبا يهدر :
- الله أكبر .. الله أكبر .
اقتلع بعض الشباب الزلط من التربة الزلطية التي تغطي أرض القسم وقذفوا الجنود به ، بينما قام البعض الآخر بقذف الجنود بالمقاشات " صواني الطعام " وأسياخ الحديد التي تثبت الخيام ، اقتلعوا بعض الأخشاب وقذفوها على الجنود ، قذف الجنود قنابل الغاز على القسم ، رد حياد واحدة منها باتجاه الجنود ، تفرق الجنود وهربوا بعيدا ، أطلق جندي الرصاص ، هاج القسم المقابل ، تدفقت منه الحجارة والقضبان الحديدية ، اهتزت أركان المعتقل بهتاف الله أكبر .
أطلق الجنود النار بطريقة عشوائية ، انبطح الشباب أرضا واستمر إطلاق النار ، تراجع الشباب إلى الخيام ، عندها حضر مدير المعتقل وصاح بأعلى صوته : أنا لازم أربيكم يا خولات .. اللي بيخرج من الخيمة لازم أضربه بالنار ، عاملين رجال وأنتم أقل من نسوان .
اندفع حياد دون تردد إلى وسط الساحة بين الخيام، شد جانبي قميصه وصاح :
- إن كنت راجل طخ يا مرة .
ساد صمت قاتل للحظات، نهش الغضب أعصاب مدير السجن، اختطف بندقية آلية من أحد الجنود ، وبحركة سريعة انطلقت دفعة من الرصاص خرجت من ظهر حياد ، كان أبو الفهد قد اندفع وراء حياد لإعادته إلى الخيمة ، ولكن سهم القضاء قد نفذ ، اخترقت الرصاصات صدر حياد عند القلب وخرجت من ظهره، وضع حياد يده على ظهره فوق مكان خروج الطلقات، سار بضع خطوات نحو خيمته ، وعند باب الخيمة ترنح وسقط ، رفع يده المبللة بالدم ، باعد بين السبابة والوسطى راسما علامة النصر في الهواء ، ارتخت ذراعه وهوت يده إلى الأرض وعلامة النصر تستقر بين السبابة والوسطى وعيناه مفتوحتان تنظران إلى السماء ، وابتسامة خفيفة ترتسم على شفتيه يلونها خيط من الدم أخذ يتدفق من فمه .
انتهت
11 / 11 /1989 م ، الموافق 12ربيع الثاني سنة 1410 هـ

وفاء شوكت خضر
26-08-2006, 04:18 PM
الأخ الفاضل / د. محمد أيوب ..

عمل فاق التميز ،،
بداية من العنوان وحتى الفصل 14 .
فقط اقتراح أتمنى أن لا يزعجك .....
ليتك تتابع الأجزاء في نفس المكان حتى يتسنى لنا الرجوع إليها بمتابعتنا .
يمكنك نقل الجزئين الأخيرين هنا حيث تكون أجزاء القصة متكاملة .

لك منيكل التقدير ولقلمك السامق ..
كلي فخر بمتابعة هذا العمل الرائع .

لك كل الود .
أختك ..
دخون .

حوراء آل بورنو
27-08-2006, 02:25 PM
هي تهنئة بانتهاء الرواية ، و لكن سأعود حتما للحديث حول ما فيها .

تقديري .

د . محمد أيوب
27-08-2006, 03:23 PM
الأخ الفاضل / د. محمد أيوب ..
عمل فاق التميز ،،
بداية من العنوان وحتى الفصل 14 .
فقط اقتراح أتمنى أن لا يزعجك .....
ليتك تتابع الأجزاء في نفس المكان حتى يتسنى لنا الرجوع إليها بمتابعتنا .
يمكنك نقل الجزئين الأخيرين هنا حيث تكون أجزاء القصة متكاملة .
لك منيكل التقدير ولقلمك السامق ..
كلي فخر بمتابعة هذا العمل الرائع .
لك كل الود .
أختك ..
دخون .
أشكرك على الملاحظة وعلى هذا اللطف وأتوقع أن تقوم إدارة المنتدى بنقل الفصول المطلوبة إلى أماكنها مع تحياتي وتقديري للجميع
كل المودة
د . محمد أيوب

د . محمد أيوب
27-08-2006, 03:29 PM
هي تهنئة بانتهاء الرواية ، و لكن سأعود حتما للحديث حول ما فيها .
تقديري .
أشكرك من القلب ، بانتظار عوتدك ورأيك في الرواية .
كل المودة والتقدير
د . محمد أيوب