سها جلال جودت
19-07-2006, 01:30 PM
وأصبحت قضية أمة
وحيثما وجد نفسه اشتمَ رائحة الغربة وهو مازال طفلاً صغيراً،ترعرع في حضن أمه في حي الشيخ محيي الدين القريب من جبل قاسيون.
كانت أزقة الأحياء الضيقة بلزوجتها الرطبة تُنعش قلبه الصغير وهو عائد إلى بيته منهكاً تعباً،وعلى شفتيه الدافئتين وسامة الحياة !
أسئلة الصغار معقدة والإجابة عنها تحتاج إلى تفكيرٍ وفي كلّ مرة :
- أمي .... حدثيني عن أبي ؟
وبصوتٍ دافىءٍ حزين كانت تقول له :
- عندما تكبر يا ولدي !
كانت تلك المسافات البعيدة هي حلمه وتوقه الوحيد إلى تجاوزها للعيش في أحضان ربوعها المخضرة .
حبُّ الأرض والإصرار على العودة يدفعانه إلى تكرار السؤال والجواب بإشفاقٍ على ملامح الصبي الذي بدأ يكبر يختفي وراء قصة حرب التشرد واللجوء،يختفي متكهرباً من فوضى المصير،يحمل على أجنحته المقصوصة نقض العهود وتخمة الحروب !
وحتى لا يغتاله الزمن فالجواب ما زال معلقاً في ذاكرة الأم،يقف ناهضاً بكلّ قوته والسؤال ملحاح ينبت في حلق الذي ما عاد صغيراً :
- لماذا تركتم الأرض ؟
يحرقه صمت الجواب، وما عاد قادراً على الاحتمال فطوق الصبر انفرطت عقود حباته،وحكايات الرجال عن آثام ُشذاذ الآفاق تُوقظ في القلب الكليم عذابات السنين عن مجزرة دير ياسين وما تلاها !
وقوس الغمام الممتد من أفق النيل إلى أفق الفرات صار باهتاً، فيصرخ حزيناً :
- لماذا ؟
امتدت أمام روحها خارطة الوطن وبعينين اخضلتا بالدمع قالت له:
- لولا دير ياسين،لولا المجازر والخيانة لكنت الآن تكتب أشعارك تحت ظلال دالية العنب أو شجرة الليمون،كان بيتنا جميلاً تدخله الشمس وكان أبوك رجلاً مخلصاً لوطنه وأرضه وعرضه، يحمل كيسه الجلدي ويدور على الناس من الجيران والأقارب والأباعد يمنحهم الشوق والودّ،لا يتوانى في السؤال وفي الانتظار،حتى يطمئن أن الرسالة قد أصبحت في يد صاحبها،ولكم حدثني عن رسائل الشبان إلى الشابات ورسائل الشابات إلى الشبان وفي عينيه بريق الفرح!
توهجت في عينيه ظلال الدموع وانفجرت في داخله تلك الرغبة الكامنة الملحاح فقال :
- كان عليكم أن تبقوا هناك !
أجابته والأسى يقطر من حنجرتها :
- عندما تصلَّبَ قلب العالم قسموا رغيف الأرض بعد أن خلطوه بالحنطة والزعفران ، وكان لزاماً علينا أن نغادر!
دهش من شرائع اليهود الدامية،وفي لحظات دهشته استرجع في ذاكرته قراءاته عن دمامة مجازرهم وخبز الفطير المعجون بدم الأبرياء،استرجع وهو يكتب في مقالاته عن هذه الحقائق بلا خوفٍ أو وجلٍ، يدفعه إلى هذا حق العودة، والأخذ بثأر والده الذي أفشى سره واحد من المخبرين الذين باعوا الوطن، واحدٌ باع الوطن ومئات المناضلين دفعوا الدم رخيصاً بلا ثمنٍ فالثمن كان الكرامة.
بعد تفجير معسكر الأعداء، تسرّب الخبر إلى قائد كتيبة المعسكر الثاني،أن أبا ماجد ساعي البريد شوهد عائداً من "تل الفخار" حيث تختفي أشباح المناضلين بين رؤوس القبور.
قبل دخوله الحارة بخمس دقائق سمع صوت صياح أخت الرجال أم ماجد تصرخ في وجههم وقد أتخموها بتكسير الأواني وخلع خشب الخزانة والسرير والكراسي وهم يقذفون بها إلى أرض الحارة خارج الدار وبلغتهم العبرية يشيرون إلى أنها امرأة وقحة والأولاد الصغار ينشجون في بكاءٍ ماطرٍ وهم يصرخون : يامّا ... يامّا والصغير ماجد بين يدي أمه يُغْرقُ في البكاء ويتقلص !
وحين رأى هذا المشهد أبو ماجد ضجت في رأسه صرخات الصغار وصيحات أخت الرجال،ولوهلة لم يصدق أن الرصاص قد ثقبه حتى الاهتراء،كان يتقدم نحو زوجه ورجلاه ثابتتان، وما إن أصبح قريباً حتى هوى على الأرض وقبل أن تفيض روحه قال لزوجته :
- عليكِ بماجد ليتابع الطريق !
والذي كبر وما عاد صغيراً بعد أن جهد وجاهد حتى أصبح رجل ثقافةٍ وعلمٍ ألقى رأسه على صدر أمه التي قالت:
- أما زلت مصراً على السفر ؟
- لم تعدْ قضية واحدة ، أصبحت قضية فكر أمة ! وعليّ أن أفعل شيئاً،ادعي لي.
على سلم الطائرة كان منظار القناص من عصابات "المافيا الإسرائيلية" ُيسدد رصاصة واحدة إلى ظهر ماجد مكان القلب ، وفي الجهة الأخرى كانت زوجه تضع مولوداً ذكراً حين انطلقت الرصاصة!!
30/ آذار/ 2000
تمّ نشر هذه القصة عام 2004 في المجلة الثقافية الصادرة عن الجامعة الأردنية
وحيثما وجد نفسه اشتمَ رائحة الغربة وهو مازال طفلاً صغيراً،ترعرع في حضن أمه في حي الشيخ محيي الدين القريب من جبل قاسيون.
كانت أزقة الأحياء الضيقة بلزوجتها الرطبة تُنعش قلبه الصغير وهو عائد إلى بيته منهكاً تعباً،وعلى شفتيه الدافئتين وسامة الحياة !
أسئلة الصغار معقدة والإجابة عنها تحتاج إلى تفكيرٍ وفي كلّ مرة :
- أمي .... حدثيني عن أبي ؟
وبصوتٍ دافىءٍ حزين كانت تقول له :
- عندما تكبر يا ولدي !
كانت تلك المسافات البعيدة هي حلمه وتوقه الوحيد إلى تجاوزها للعيش في أحضان ربوعها المخضرة .
حبُّ الأرض والإصرار على العودة يدفعانه إلى تكرار السؤال والجواب بإشفاقٍ على ملامح الصبي الذي بدأ يكبر يختفي وراء قصة حرب التشرد واللجوء،يختفي متكهرباً من فوضى المصير،يحمل على أجنحته المقصوصة نقض العهود وتخمة الحروب !
وحتى لا يغتاله الزمن فالجواب ما زال معلقاً في ذاكرة الأم،يقف ناهضاً بكلّ قوته والسؤال ملحاح ينبت في حلق الذي ما عاد صغيراً :
- لماذا تركتم الأرض ؟
يحرقه صمت الجواب، وما عاد قادراً على الاحتمال فطوق الصبر انفرطت عقود حباته،وحكايات الرجال عن آثام ُشذاذ الآفاق تُوقظ في القلب الكليم عذابات السنين عن مجزرة دير ياسين وما تلاها !
وقوس الغمام الممتد من أفق النيل إلى أفق الفرات صار باهتاً، فيصرخ حزيناً :
- لماذا ؟
امتدت أمام روحها خارطة الوطن وبعينين اخضلتا بالدمع قالت له:
- لولا دير ياسين،لولا المجازر والخيانة لكنت الآن تكتب أشعارك تحت ظلال دالية العنب أو شجرة الليمون،كان بيتنا جميلاً تدخله الشمس وكان أبوك رجلاً مخلصاً لوطنه وأرضه وعرضه، يحمل كيسه الجلدي ويدور على الناس من الجيران والأقارب والأباعد يمنحهم الشوق والودّ،لا يتوانى في السؤال وفي الانتظار،حتى يطمئن أن الرسالة قد أصبحت في يد صاحبها،ولكم حدثني عن رسائل الشبان إلى الشابات ورسائل الشابات إلى الشبان وفي عينيه بريق الفرح!
توهجت في عينيه ظلال الدموع وانفجرت في داخله تلك الرغبة الكامنة الملحاح فقال :
- كان عليكم أن تبقوا هناك !
أجابته والأسى يقطر من حنجرتها :
- عندما تصلَّبَ قلب العالم قسموا رغيف الأرض بعد أن خلطوه بالحنطة والزعفران ، وكان لزاماً علينا أن نغادر!
دهش من شرائع اليهود الدامية،وفي لحظات دهشته استرجع في ذاكرته قراءاته عن دمامة مجازرهم وخبز الفطير المعجون بدم الأبرياء،استرجع وهو يكتب في مقالاته عن هذه الحقائق بلا خوفٍ أو وجلٍ، يدفعه إلى هذا حق العودة، والأخذ بثأر والده الذي أفشى سره واحد من المخبرين الذين باعوا الوطن، واحدٌ باع الوطن ومئات المناضلين دفعوا الدم رخيصاً بلا ثمنٍ فالثمن كان الكرامة.
بعد تفجير معسكر الأعداء، تسرّب الخبر إلى قائد كتيبة المعسكر الثاني،أن أبا ماجد ساعي البريد شوهد عائداً من "تل الفخار" حيث تختفي أشباح المناضلين بين رؤوس القبور.
قبل دخوله الحارة بخمس دقائق سمع صوت صياح أخت الرجال أم ماجد تصرخ في وجههم وقد أتخموها بتكسير الأواني وخلع خشب الخزانة والسرير والكراسي وهم يقذفون بها إلى أرض الحارة خارج الدار وبلغتهم العبرية يشيرون إلى أنها امرأة وقحة والأولاد الصغار ينشجون في بكاءٍ ماطرٍ وهم يصرخون : يامّا ... يامّا والصغير ماجد بين يدي أمه يُغْرقُ في البكاء ويتقلص !
وحين رأى هذا المشهد أبو ماجد ضجت في رأسه صرخات الصغار وصيحات أخت الرجال،ولوهلة لم يصدق أن الرصاص قد ثقبه حتى الاهتراء،كان يتقدم نحو زوجه ورجلاه ثابتتان، وما إن أصبح قريباً حتى هوى على الأرض وقبل أن تفيض روحه قال لزوجته :
- عليكِ بماجد ليتابع الطريق !
والذي كبر وما عاد صغيراً بعد أن جهد وجاهد حتى أصبح رجل ثقافةٍ وعلمٍ ألقى رأسه على صدر أمه التي قالت:
- أما زلت مصراً على السفر ؟
- لم تعدْ قضية واحدة ، أصبحت قضية فكر أمة ! وعليّ أن أفعل شيئاً،ادعي لي.
على سلم الطائرة كان منظار القناص من عصابات "المافيا الإسرائيلية" ُيسدد رصاصة واحدة إلى ظهر ماجد مكان القلب ، وفي الجهة الأخرى كانت زوجه تضع مولوداً ذكراً حين انطلقت الرصاصة!!
30/ آذار/ 2000
تمّ نشر هذه القصة عام 2004 في المجلة الثقافية الصادرة عن الجامعة الأردنية