جوتيار تمر
07-08-2006, 02:39 PM
هروب نحو المطر ......
لحنين الى الالـم...... نـ(كانت هي حزينة فصوته كان حزيناً بل كان حزيناً جداً ليلة أمس..ربما هناك ريح تناديه ،وربما الشوق بلغ به حداً لا يطاق..فرحلة البحث لم تنتهي بعد وربما لم تبدأ فعليا بعد..فهو لا يزال يشعر بالضياع والتيه ويبحث عن الأمان….)
كانت هذه الكلمات هي مدار حواره المستمر طوال الليل مع ذاته..الحزن.. الريح.. الشوق..رحلة البحث..الضياع..الأمان..كلها كانت تهطل على روحه كما كان المطر يهطل في تلك الليلة بشفافية ورقة..كانت اللحظات هي من تسير به..وليس هو من يتحكم بها..كانت عقارب الساعة التي ظلت عيناه تطاردها تجعله كناسك يتعبد في معابد تتمايل الشموع أمام عظمة آلهتها.. تلك الآلهة التي ترفض أن تكون أيقونات وتماثيل مجردة على الجدران..وانما آلهة يتصورها العقل فينحني الشمع تهيبا لها..كان كمن يريد أن ينعتق من روح آثمة لبسته جراء أثم قديم لازمه..كان هو.. المؤمن باللامطلق يعيش وفق قوانين تكاد أن تكون وثنية في مجتمع كثرت فيه الآلهة.. وانعدمت سبلها..كان يعيش بين هواجس تداهم عقله كلما فكر بالحزن الذي يغرقه حد اليأس..والشوق الذي تزرعه الريح الاتيه من الجنوب ..كان الضياع المحتم هو مايؤل إليه كلما داهمه أنين الريح..وهذا ماكان يجعله يعيش اللاأمان..والقلق المستمر..ظل يفكر بكل شيء وهو ليس إلا شيء..وكأنه ينتظر(الجينا)القاهر العظيم ليأتي ليعتقه من تلك الروح التي لبسته..والتي أوجبته شرائعه القائله.. أن أي فعل متعمد نتيجته الخاصة تلاحق الفاعل حتى فيما وراء القبر..وهذا ما تجعل الروح في مجرى عملية التناسخ تسكن الأجسام وفق أفعالها الإرادية الخاصة..وكأن( الكرما) أصبحت كائن مادي يخالط الروح..بل يحيط بها كما تحيط الشرنقة بالفراشة..ولاسبيل الى تحرير الروح إلا بأتباع الجينا..هذه الهواجس..جعلته أشبه بطفل رضيع يعلم بوجوده..ويجهل ماهية وجوده.. تلاطمت عليه الأقدار فأفقدته شعوره بوجوده..لانه أدرك ماهيتها..ولم تلبث سوى لحظات حتى كان كشريد يتسكع في الطرقات..وقد شوهد في أوقات عديدة وهو يسير بخطا مثقلة على شارع بعيد عن ضجيج المدينة الغارقة في أوهامها.. كان المطر لم يزل يهطل برقة لامتناهية..وكان هو لم يزل يعيش اللاشيء كله..وفجأة استوقفت خطاه المثقلة سيارة عابرة..لكنه اؤمأ إليها بأنه بخير..فمضت في طريقها.. وظل هو بلا طريق..كانت عقارب الساعة تشير الى انتصاف الليل. .فكر بالعودة.. وعندما عاد الى غرفته المطلة على الشارع العام كان الهدوء يخيم على كل شيء..لانه كان وحيدا..بعيدا..؟ تأمل من نافذة غرفته الشارع المحفوف بالأشجار والأنوار..وشعر في داخله بغبطة لامرئية..غامضة.. وكان المطر المتساقط على تلك الأشجار والذي تعكسه تلك الاضواء على أوراقها وعلى الشارع أدخلت تلك الغبطة إلى أعماقه..شعر بألم يجذبه الى أن يرتمي على فراشه.. ولا أعلم كيف أستجاب وهو المعاند في المطر لذلك الألم.. وهو في فراشه أخرج بعض الأوراق التي ترافقه أينما رحل..فوقع نظره على أسطر التي منحته أمومتها..وأستمر في رحاب صدق روحها الى أن أرهقته.. وبعدها أدار وجهه الى سماء الغرفة..وهمس أين أنا من كل ما يحدث..من كل شيء …ثم ما لبث أن عاد الى أوراقه فاخرج آخر الكلمات التي وصلته منها هي الجاثمة على صدر أقداره في مدينته التعيسة.. وبدأ يردد كلماتها مع نفسه..وهو المرهق..كان المطر آنذاك قد زاد من وتيرته فكانت أصوات زخاته المتلاطمة مع زجاج نافذته تضيف على لحظاته جواً اكثر راحة..واكثر روعة..قرأ أول سطر من كلماتها… (صغيري اقداري قد أضاعتني وضيعت هي ذاتها قبل ضياعي..فلماذا لا تكون أنت المتشرد فوق الأقدار قدري الذي لا أريد لحياتي أن تستمر بدونه..).
كم أدهشته هذه الكلمات..وكأنها جاءت لتؤكد له تلك الهواجس التي شردته قبل لحظات قليلة..لكن أيعقل أنها جاءت هكذا محض صدفة..؟
أدخلته الكلمات في متاهة غريبة..كان يحاول جهده أن يتجنبها..لا لأنها غريبة فقط إنما لأنها تعني ضياعه من جديد في دوامة اللاامان الذي بات سمة حياته.. عصره.. فحاول أن يكمل ما قد بدأ به قبل قليل…!
(اليك..ياوحيدي بعض من الترانيم التي علمتني أن لا أعيش بدونها..ترانيم شاعرك.. مضيفا اليها بعض آهاتي..وأنين ذاتي..آه يا أيها الملاح..الهارب من جحيم أيام هذه المدينة..الغارقة بآثامها..أين أنت الآن..؟ أ..لهذا الحد قد بلغت بك الأشواق لروحها..؟ أ..لهذا الحد قد أضاعتك الأقدار ..فأفقدتك الأمان لتركب البحر الهائج بمركبك الممزق الشراع وتحت جنح هذا الليل المرعب..وسمائها الممزقة بمخلبه..؟ آه..يا ملاحي الحزين فقط لو كنت أعلم بماذا أواسيك لأجعلك تركن لصدري ..فقط لو كنت أعلم كيف أخضعك لأغرسك بين أحضاني الى الأبد ؟ فقط لو أعلم أي موعد هذا الذي ينتظرك.. أي موعد هذا الذي يجعلك ترفع أشرعتك الممزقة..فترعش الليل المظلم ببياض مفاجئ..فقط لو أعلم أي شاطئ هذا الذي لا يبقيك ساكناً.. مستقراً..آه يا طفلي الرضيع..لو تقول لي أنا صاحبة العيون التي لا تغادر بدونهما..عن أي هدف دائما يسعى قاربك الذي لم توقفه الويلات ولاحتى ظلام الليل..ورجائي..!
صغيري التائه..ألا تشعر بصرخاتي ..ألا تشعر بصراخ أم هائمة تبحث في جنح الليل عنك أنت وحدك..أم لم تفقد الأمل لحظة بعودتك الى أحضانها.. واه لو تعلم أي أمل هذا..؟ الذي هو في افضل حالاته ألم ..عذاب..موت.. وانتظار لامنتهي.. انه ياقديسي أمل ليس اليأس منه سوى انه يأس وهو أمل…!!!
أعلم يا وحيدي.. بان قدر سندباد الرحيل..أعلم وهذا ما يواسيني في رحلتي معك..لكن الى متى ستظل صلوات سندباد تهف نحو الظلمة العمياء القائمة كرب هابط منتصب من سماء موحشة تعج بالأماني الضائعة...قل لي.. يا وحيدي الى متى..؟
أليس ظلماً أن أظل أتحدث عن ألمي دون أن ترسل لي ولاحرفا لتجعلني أعرف شيئا عن ألمك..؟ آسف يا وحيدي..ألمك لك وحدك لاتشارك أحداً فيه..نعم..آسف..لكن أمازلت انا أحداً..؟
ألا تظلمني بتصورك لي أحداً..؟ لاتقل لي نظريتك العتيقة التي حفظتها عن ظهر قلب..كجانتية أدمنت تعاليم مهافيرا..التي نادت منذ قديم الزمن بعقيدة اللامطلق..لاتقل بأنك لاتظلم..حتى لاتظلم..آه..ياقديسي انك لكذلك..لا أنكر أنك منزه عن كل ما هو ظلم....إذا ما استثنينا ما هو أنا.....هجرك المستمر...رحيلك الدائم..عن مدني الضائعة بدونك ذنوب...أظنها ذنوب.. أسمح لي أن أعتبرها ذنوب تقترفها بحقي…؟ لا...يا وحيدي لا تبرر...أبداً ليس ذنبا..قد يكون مجرد خطأ..أو لا..لست أبحث عن الثواب والخطأ..لاني في ذاتي قد أيقنت بان رؤيتي لك ..ولو في لحظات يتيمة..هو الثواب الأبدي لروحي..وأنا في ثوابك على خطأ عتابي المستمر أبصر..نعم ثوابك هو ما سيخلصني من الخطأ نفسه..لأنني منك تعلمت بأن الخطأ يحمل عقوبته في ذاته وهجرك الدائم بحد ذاته من سيصحح خطئي..).
المطر..صوت الريح..انهما فقط من أجبراه على النظر مرة أخرى الى عقارب الساعة التي كانت تعلن بأنه قضى أكثر من ساعة ونصف مبحراً بين تلك الأسطر.. وضع الورقة جانباً.. عاد الى نافذة غرفته وبدأ يتأمل المطر..الهاطل على كل شيء.. كان صوت الريح الذي مزق الهدوء القاتل المخيم على لحظاته..هو نفسه الذي أعاده الى حيث كان..الى حيث الهواجس.. كلماتها هي التي منحته أمومتها.. كلماتها هي التي ترافقه عيناها..وكلماتها هي الأخرى البعيدة..وقبرها هي التي كانت له ألام..انه الريح وكأنه هو الآخر قد خضع لمبادئ جانسينية ترفض حرية الإرادة لدى الإنسان وتؤمن بحتمية الأقدار..فأعادته لقدره ذاك..؟
كان أول ما تبادر الى ذهنه..صور من الألم..فسأل روحه التي تعاني منه ما جدوى كل هذا الألم المغروس في الوجود..؟ لكن صوت الريح ..وزخات المطر التي أصبحت تضرب بعنف زجاج نافذته قطعت حواره مع روحه.. وكأنها أدركت مغزى هذا الحوار..فغضبت منه..نظر الى زخات المطر الملتصقة على زجاج النافذة..وجد نفسه تنجذب لملامستها.. مد..يده..لكنها كانت في الطرف الآخر من الزجاج.....فتحها حاول أن يمسك ببعض قطراتها..تذكر..كلماتها هي التي منحته أمومتها (لم تتجمع قطرات المطر في يديها…) لكنه وجدها تبلل يديه فتغرس في أعماقه شعور متناقض.. الغبطة لان المطر لا يرده..فتجعله يشعر ويوقن بان المطر من صنعه.. وخوف آتي من مجهول ما بأن هناك ألم ما ينغرس غصبا في مكان ما وفي صدر أم قلقة….!
تذكر كلماتها..التي أينما تأتى تنصب في نهر اسمه الروح..فخاطب روحه.. وقال لها أين أنا منك..؟ ولكن كأن روحه لم تلقف منه سؤاله هذا…وراح يسترسل في الحديث معها..مستشهدا بكلمات شاعر متصوف يحبه..((أنا لا اظفر بالراحة.. أنا ظامئ الى الأشياء البعيدة المنال..إن روحي تهفو،تواقة.إلى لمس طرف المدى المظلم،ايه ايها المجهول البعيد وراء الأفق،يا للنداء الموجع المنساب من نايك..))
نعم يا أيتها الروح المنسية..كم أنا ظامئ..كم أنا متعب..كم أنا متشوق الى أن أخرق جدران هذه الهواجس التي لانهاية لها..إنها يا أيتها الروح لا تدعني الجأ الى شيء سوى الهرب من كل شيء والعزلة..وها أنا لأيام وحيد بعيد ليس من شيء يحررني من ما أنا فيه سوى كلمات أهدتني إياها صديقة منحتني أمومتها..وانتظار لحظة أمان قد تأتيني بعد سماع صوتها..لكن حتى هذه.. يا أيتها الروح قد تأخرت..وكأن –أميتيه-وأليثيا-التهت هي الأخرى بأوجاعها..؟
ماذا بعد يا أيتها الروح..أ..أعود الى الهواجس..؟ آه..ما أقساها الآن..أتريدين سماع أنين بعضها..؟ اسمعي اذاً..ما مغزى الاستمرارية في هذه الحياة اذا لم يعد فيها شيئا مقدسا..انظري حتى السماء.. المطر..لم يبالوا بصرخات الآلاف من الناس..الأطفال.. الأرواح..وهم تجرفهم الأمواج.. داخل بيوتهم وبين أحضان أمهاتهم..انظري أليها السماء المطر..أ ليست هذه حياة..أليست الطفولة حياة..إذا فهي مقدسة..فلماذا إذا..لماذا السماء من اجل ..... ترمي الحجارة لتحميها.. وتتجاهل صرخات الآلاف…؟ لماذا..لماذا..آه يا أيتها الروح المسكينة..ما ذنبك تعانين..؟هل ذنبك هو فقط انك تسكنين في جسد.. يسكنه اللامطلق.؟
انظري يا أيتها الروح الى تعاليم وشرائع هي من صنع البشر..إنها تنادي ب (الاهمسا) اللاعنف..الحياة عند هولاء بكافة أشكالها مقدسة ولا يجوز الاعتداء عليها حتى الموجدات التعسة بنظرها لا يجوز أذيتها.. وأسمعي لهذه الترنيمة.. (الامتناع عن تناول الطعام بعد غروب الشمس خشية إلحاق الأذى من الحشرات التي تبدأ حياتها وتتولد بعد الغسق..) أنها تعاليم صاغتها عقول بشرية..وإذا بالقدر…يقدم لنا في كل يوم صور من الماضي البليد.. المتمثلة..ب(..بعل صمون..كاتيكويل... قرينة..!!؟).
أرهقته هذه الكلمات..بل حواره اللامجدي هذا..هذا ما تناهى لسمعي.. بعد ان عاد لنافذته..تمعن النظر الى الشارع.. الأشجار..أوراقها..الأنوار.. المطر.. ثم نظر الى عقارب ساعته..تنهد..ودع كل شيء..دخل فراشه.. وقبل ان ينام..لعن كل شيء..ثم غفت عيناه..وقلبه غفى..لكن عقله ظل يترقب..يتقبل الهواجس..!
24-1-2005
قمت ببعض التغيرات الطفيفة على النص..حتى لايتهم بالخروج عن الادب والاخلاقيات
تقديري واحترامي
جوتيار
لحنين الى الالـم...... نـ(كانت هي حزينة فصوته كان حزيناً بل كان حزيناً جداً ليلة أمس..ربما هناك ريح تناديه ،وربما الشوق بلغ به حداً لا يطاق..فرحلة البحث لم تنتهي بعد وربما لم تبدأ فعليا بعد..فهو لا يزال يشعر بالضياع والتيه ويبحث عن الأمان….)
كانت هذه الكلمات هي مدار حواره المستمر طوال الليل مع ذاته..الحزن.. الريح.. الشوق..رحلة البحث..الضياع..الأمان..كلها كانت تهطل على روحه كما كان المطر يهطل في تلك الليلة بشفافية ورقة..كانت اللحظات هي من تسير به..وليس هو من يتحكم بها..كانت عقارب الساعة التي ظلت عيناه تطاردها تجعله كناسك يتعبد في معابد تتمايل الشموع أمام عظمة آلهتها.. تلك الآلهة التي ترفض أن تكون أيقونات وتماثيل مجردة على الجدران..وانما آلهة يتصورها العقل فينحني الشمع تهيبا لها..كان كمن يريد أن ينعتق من روح آثمة لبسته جراء أثم قديم لازمه..كان هو.. المؤمن باللامطلق يعيش وفق قوانين تكاد أن تكون وثنية في مجتمع كثرت فيه الآلهة.. وانعدمت سبلها..كان يعيش بين هواجس تداهم عقله كلما فكر بالحزن الذي يغرقه حد اليأس..والشوق الذي تزرعه الريح الاتيه من الجنوب ..كان الضياع المحتم هو مايؤل إليه كلما داهمه أنين الريح..وهذا ماكان يجعله يعيش اللاأمان..والقلق المستمر..ظل يفكر بكل شيء وهو ليس إلا شيء..وكأنه ينتظر(الجينا)القاهر العظيم ليأتي ليعتقه من تلك الروح التي لبسته..والتي أوجبته شرائعه القائله.. أن أي فعل متعمد نتيجته الخاصة تلاحق الفاعل حتى فيما وراء القبر..وهذا ما تجعل الروح في مجرى عملية التناسخ تسكن الأجسام وفق أفعالها الإرادية الخاصة..وكأن( الكرما) أصبحت كائن مادي يخالط الروح..بل يحيط بها كما تحيط الشرنقة بالفراشة..ولاسبيل الى تحرير الروح إلا بأتباع الجينا..هذه الهواجس..جعلته أشبه بطفل رضيع يعلم بوجوده..ويجهل ماهية وجوده.. تلاطمت عليه الأقدار فأفقدته شعوره بوجوده..لانه أدرك ماهيتها..ولم تلبث سوى لحظات حتى كان كشريد يتسكع في الطرقات..وقد شوهد في أوقات عديدة وهو يسير بخطا مثقلة على شارع بعيد عن ضجيج المدينة الغارقة في أوهامها.. كان المطر لم يزل يهطل برقة لامتناهية..وكان هو لم يزل يعيش اللاشيء كله..وفجأة استوقفت خطاه المثقلة سيارة عابرة..لكنه اؤمأ إليها بأنه بخير..فمضت في طريقها.. وظل هو بلا طريق..كانت عقارب الساعة تشير الى انتصاف الليل. .فكر بالعودة.. وعندما عاد الى غرفته المطلة على الشارع العام كان الهدوء يخيم على كل شيء..لانه كان وحيدا..بعيدا..؟ تأمل من نافذة غرفته الشارع المحفوف بالأشجار والأنوار..وشعر في داخله بغبطة لامرئية..غامضة.. وكان المطر المتساقط على تلك الأشجار والذي تعكسه تلك الاضواء على أوراقها وعلى الشارع أدخلت تلك الغبطة إلى أعماقه..شعر بألم يجذبه الى أن يرتمي على فراشه.. ولا أعلم كيف أستجاب وهو المعاند في المطر لذلك الألم.. وهو في فراشه أخرج بعض الأوراق التي ترافقه أينما رحل..فوقع نظره على أسطر التي منحته أمومتها..وأستمر في رحاب صدق روحها الى أن أرهقته.. وبعدها أدار وجهه الى سماء الغرفة..وهمس أين أنا من كل ما يحدث..من كل شيء …ثم ما لبث أن عاد الى أوراقه فاخرج آخر الكلمات التي وصلته منها هي الجاثمة على صدر أقداره في مدينته التعيسة.. وبدأ يردد كلماتها مع نفسه..وهو المرهق..كان المطر آنذاك قد زاد من وتيرته فكانت أصوات زخاته المتلاطمة مع زجاج نافذته تضيف على لحظاته جواً اكثر راحة..واكثر روعة..قرأ أول سطر من كلماتها… (صغيري اقداري قد أضاعتني وضيعت هي ذاتها قبل ضياعي..فلماذا لا تكون أنت المتشرد فوق الأقدار قدري الذي لا أريد لحياتي أن تستمر بدونه..).
كم أدهشته هذه الكلمات..وكأنها جاءت لتؤكد له تلك الهواجس التي شردته قبل لحظات قليلة..لكن أيعقل أنها جاءت هكذا محض صدفة..؟
أدخلته الكلمات في متاهة غريبة..كان يحاول جهده أن يتجنبها..لا لأنها غريبة فقط إنما لأنها تعني ضياعه من جديد في دوامة اللاامان الذي بات سمة حياته.. عصره.. فحاول أن يكمل ما قد بدأ به قبل قليل…!
(اليك..ياوحيدي بعض من الترانيم التي علمتني أن لا أعيش بدونها..ترانيم شاعرك.. مضيفا اليها بعض آهاتي..وأنين ذاتي..آه يا أيها الملاح..الهارب من جحيم أيام هذه المدينة..الغارقة بآثامها..أين أنت الآن..؟ أ..لهذا الحد قد بلغت بك الأشواق لروحها..؟ أ..لهذا الحد قد أضاعتك الأقدار ..فأفقدتك الأمان لتركب البحر الهائج بمركبك الممزق الشراع وتحت جنح هذا الليل المرعب..وسمائها الممزقة بمخلبه..؟ آه..يا ملاحي الحزين فقط لو كنت أعلم بماذا أواسيك لأجعلك تركن لصدري ..فقط لو كنت أعلم كيف أخضعك لأغرسك بين أحضاني الى الأبد ؟ فقط لو أعلم أي موعد هذا الذي ينتظرك.. أي موعد هذا الذي يجعلك ترفع أشرعتك الممزقة..فترعش الليل المظلم ببياض مفاجئ..فقط لو أعلم أي شاطئ هذا الذي لا يبقيك ساكناً.. مستقراً..آه يا طفلي الرضيع..لو تقول لي أنا صاحبة العيون التي لا تغادر بدونهما..عن أي هدف دائما يسعى قاربك الذي لم توقفه الويلات ولاحتى ظلام الليل..ورجائي..!
صغيري التائه..ألا تشعر بصرخاتي ..ألا تشعر بصراخ أم هائمة تبحث في جنح الليل عنك أنت وحدك..أم لم تفقد الأمل لحظة بعودتك الى أحضانها.. واه لو تعلم أي أمل هذا..؟ الذي هو في افضل حالاته ألم ..عذاب..موت.. وانتظار لامنتهي.. انه ياقديسي أمل ليس اليأس منه سوى انه يأس وهو أمل…!!!
أعلم يا وحيدي.. بان قدر سندباد الرحيل..أعلم وهذا ما يواسيني في رحلتي معك..لكن الى متى ستظل صلوات سندباد تهف نحو الظلمة العمياء القائمة كرب هابط منتصب من سماء موحشة تعج بالأماني الضائعة...قل لي.. يا وحيدي الى متى..؟
أليس ظلماً أن أظل أتحدث عن ألمي دون أن ترسل لي ولاحرفا لتجعلني أعرف شيئا عن ألمك..؟ آسف يا وحيدي..ألمك لك وحدك لاتشارك أحداً فيه..نعم..آسف..لكن أمازلت انا أحداً..؟
ألا تظلمني بتصورك لي أحداً..؟ لاتقل لي نظريتك العتيقة التي حفظتها عن ظهر قلب..كجانتية أدمنت تعاليم مهافيرا..التي نادت منذ قديم الزمن بعقيدة اللامطلق..لاتقل بأنك لاتظلم..حتى لاتظلم..آه..ياقديسي انك لكذلك..لا أنكر أنك منزه عن كل ما هو ظلم....إذا ما استثنينا ما هو أنا.....هجرك المستمر...رحيلك الدائم..عن مدني الضائعة بدونك ذنوب...أظنها ذنوب.. أسمح لي أن أعتبرها ذنوب تقترفها بحقي…؟ لا...يا وحيدي لا تبرر...أبداً ليس ذنبا..قد يكون مجرد خطأ..أو لا..لست أبحث عن الثواب والخطأ..لاني في ذاتي قد أيقنت بان رؤيتي لك ..ولو في لحظات يتيمة..هو الثواب الأبدي لروحي..وأنا في ثوابك على خطأ عتابي المستمر أبصر..نعم ثوابك هو ما سيخلصني من الخطأ نفسه..لأنني منك تعلمت بأن الخطأ يحمل عقوبته في ذاته وهجرك الدائم بحد ذاته من سيصحح خطئي..).
المطر..صوت الريح..انهما فقط من أجبراه على النظر مرة أخرى الى عقارب الساعة التي كانت تعلن بأنه قضى أكثر من ساعة ونصف مبحراً بين تلك الأسطر.. وضع الورقة جانباً.. عاد الى نافذة غرفته وبدأ يتأمل المطر..الهاطل على كل شيء.. كان صوت الريح الذي مزق الهدوء القاتل المخيم على لحظاته..هو نفسه الذي أعاده الى حيث كان..الى حيث الهواجس.. كلماتها هي التي منحته أمومتها.. كلماتها هي التي ترافقه عيناها..وكلماتها هي الأخرى البعيدة..وقبرها هي التي كانت له ألام..انه الريح وكأنه هو الآخر قد خضع لمبادئ جانسينية ترفض حرية الإرادة لدى الإنسان وتؤمن بحتمية الأقدار..فأعادته لقدره ذاك..؟
كان أول ما تبادر الى ذهنه..صور من الألم..فسأل روحه التي تعاني منه ما جدوى كل هذا الألم المغروس في الوجود..؟ لكن صوت الريح ..وزخات المطر التي أصبحت تضرب بعنف زجاج نافذته قطعت حواره مع روحه.. وكأنها أدركت مغزى هذا الحوار..فغضبت منه..نظر الى زخات المطر الملتصقة على زجاج النافذة..وجد نفسه تنجذب لملامستها.. مد..يده..لكنها كانت في الطرف الآخر من الزجاج.....فتحها حاول أن يمسك ببعض قطراتها..تذكر..كلماتها هي التي منحته أمومتها (لم تتجمع قطرات المطر في يديها…) لكنه وجدها تبلل يديه فتغرس في أعماقه شعور متناقض.. الغبطة لان المطر لا يرده..فتجعله يشعر ويوقن بان المطر من صنعه.. وخوف آتي من مجهول ما بأن هناك ألم ما ينغرس غصبا في مكان ما وفي صدر أم قلقة….!
تذكر كلماتها..التي أينما تأتى تنصب في نهر اسمه الروح..فخاطب روحه.. وقال لها أين أنا منك..؟ ولكن كأن روحه لم تلقف منه سؤاله هذا…وراح يسترسل في الحديث معها..مستشهدا بكلمات شاعر متصوف يحبه..((أنا لا اظفر بالراحة.. أنا ظامئ الى الأشياء البعيدة المنال..إن روحي تهفو،تواقة.إلى لمس طرف المدى المظلم،ايه ايها المجهول البعيد وراء الأفق،يا للنداء الموجع المنساب من نايك..))
نعم يا أيتها الروح المنسية..كم أنا ظامئ..كم أنا متعب..كم أنا متشوق الى أن أخرق جدران هذه الهواجس التي لانهاية لها..إنها يا أيتها الروح لا تدعني الجأ الى شيء سوى الهرب من كل شيء والعزلة..وها أنا لأيام وحيد بعيد ليس من شيء يحررني من ما أنا فيه سوى كلمات أهدتني إياها صديقة منحتني أمومتها..وانتظار لحظة أمان قد تأتيني بعد سماع صوتها..لكن حتى هذه.. يا أيتها الروح قد تأخرت..وكأن –أميتيه-وأليثيا-التهت هي الأخرى بأوجاعها..؟
ماذا بعد يا أيتها الروح..أ..أعود الى الهواجس..؟ آه..ما أقساها الآن..أتريدين سماع أنين بعضها..؟ اسمعي اذاً..ما مغزى الاستمرارية في هذه الحياة اذا لم يعد فيها شيئا مقدسا..انظري حتى السماء.. المطر..لم يبالوا بصرخات الآلاف من الناس..الأطفال.. الأرواح..وهم تجرفهم الأمواج.. داخل بيوتهم وبين أحضان أمهاتهم..انظري أليها السماء المطر..أ ليست هذه حياة..أليست الطفولة حياة..إذا فهي مقدسة..فلماذا إذا..لماذا السماء من اجل ..... ترمي الحجارة لتحميها.. وتتجاهل صرخات الآلاف…؟ لماذا..لماذا..آه يا أيتها الروح المسكينة..ما ذنبك تعانين..؟هل ذنبك هو فقط انك تسكنين في جسد.. يسكنه اللامطلق.؟
انظري يا أيتها الروح الى تعاليم وشرائع هي من صنع البشر..إنها تنادي ب (الاهمسا) اللاعنف..الحياة عند هولاء بكافة أشكالها مقدسة ولا يجوز الاعتداء عليها حتى الموجدات التعسة بنظرها لا يجوز أذيتها.. وأسمعي لهذه الترنيمة.. (الامتناع عن تناول الطعام بعد غروب الشمس خشية إلحاق الأذى من الحشرات التي تبدأ حياتها وتتولد بعد الغسق..) أنها تعاليم صاغتها عقول بشرية..وإذا بالقدر…يقدم لنا في كل يوم صور من الماضي البليد.. المتمثلة..ب(..بعل صمون..كاتيكويل... قرينة..!!؟).
أرهقته هذه الكلمات..بل حواره اللامجدي هذا..هذا ما تناهى لسمعي.. بعد ان عاد لنافذته..تمعن النظر الى الشارع.. الأشجار..أوراقها..الأنوار.. المطر.. ثم نظر الى عقارب ساعته..تنهد..ودع كل شيء..دخل فراشه.. وقبل ان ينام..لعن كل شيء..ثم غفت عيناه..وقلبه غفى..لكن عقله ظل يترقب..يتقبل الهواجس..!
24-1-2005
قمت ببعض التغيرات الطفيفة على النص..حتى لايتهم بالخروج عن الادب والاخلاقيات
تقديري واحترامي
جوتيار