فضل شبلول
10-08-2006, 09:15 PM
الاتجاه الوطني في ديوان "بين نهرين يمشي"
للشاعر أحمد فضل شبلول
ـ الجزء الأول ـ
بقلم: د .إيمان الجمل
بالرغم من أن الحاضر النقدي يهتم بمدخلات عديدة متراكبة كالأبنية الأسلوبية والخيالية والصرفية والإيقاعية، إلى غيرها من المصطلحات القديمة والحديثة، إضافة إلى الجداول والإحصاءات، إلا أنني آثرت أن أتوقف عند ملمح واحد في ديوان "بين نهرين يمشي" للشاعر أحمد فضل شبلول، هو الاتجاه الوطني بدءًا من الإهداء الذي يقول فيه:
"إلى شمس أبي وشمس سليم"
الذي استوقفني والذي يعني من الدلالات والكثير.
إنه إهداء يعني فيما يعني، مكانة الأب والدور شديد التأثير في حياة شاعرنا، حتى اسم هذا الأب يوحي بالكثير أيضا، فهذا الأب بما اتسم به من صفات، وما آمن به من قيم ومثل، كان في ذلك الشمس لشاعرنا: شمس العطاء والدفء والخير والوضوح، شمس العمل والحياة، وأراها شمسا لا تغيب، وإن غابت وتوارت تحت التراب، فإن شمس الروح التي ربت وأدبت وغذت لا تزال مشرقة في روح الشاعر بعدما رسمت معالم شخصيته. إنها تضيء روحه وتسير معه وتصاحبه مرحلة نضوجه ورجولته، والتي سنقف عندها في أكثر من موضع من مواضع هذا اليوان الثري.
وشمس سليم حسن التي مازالت هي الأخرى مشرقة، لا في عقل مصر وروحها فحسب، بل وعلى بدنها كله. سليم حسن الذي أمضى شطرا عريضا من حياته مسخرا قدراته وواهبا فكره، يحركه يقينه ووجدانه لأجل مصر، مؤرخا وجغرافيا وعالم اجتماع.
إن هاتين الشخصيتين الأب وسليم حسن، يمثلان في جانب من جوانبهما، وطنية الشاعر أحمد فضل شبلول، التي تطل علينا من الديوان بأسره. وإذا كان الإحساس بالوطن والانتماء هما محركا الوطنية، فالوطن فيما يضم هو الأب والصديق. وإذا كانت الأجساد تذهب برسمها، فما تحمله من روح الوطن، ومعنى الوطن لا يغيب.
إن الوطن لا يغيب، ولا يذهب بذهاب أبنائه.
"شمس أبي، وشمس سليم" تعني: الوطن لا يغيب.
وأستطيع أن أزعم أن هذا الديوان بما ضم من قصائد، وإن تنوع مضمونها، فإنه يمثل روح الوطن، أو لنقل إن الوطن ظهر في أشكال ورموز عدة.
ووطنية هذا الديوان مغايرة للمفهوم السائد عن الوطنية بما يتراءى لنا من مظاهرها المعتادة من جمهرة وحناجر مجلجلة تدوي بها مكبرات الأصوات، وسرعان ما ينسى الناس ما تهتف لأجله بعد أيام، أو ربما تنسى هي ذاتها، ما هتفت به منذ أيام.
فوطنية شاعرنا رومانسية حانية دافئة دافقة حبا محملا بالكثير من الغضب المتزن حينا، وبالأسى حينا آخر، وبالأمل في بعض الأحايين.
وما بين كل ما يمثل لشاعرنا وطنا، فإن أشباح الموت تتراءى لنا رأي العين، وتلف قصائد هذا الديوان بردائها ليزداد الشعور قتامة، شعور حركة الفقد والموت والاغتراب، حتى داخل الوطن، فمدينته فقدت هويتها، والكثير من المدن العربية.
إن الأحداث على المستوى الشخصي والمستوى العام رسمت ملامح هذا الديوان، وألقت عليه بظلالها.
* مرايا الموت والحجر
وتنعكس صور الموت على المرايا، ويترجم شاعرنا هذا الإحساس لا في قصائده فحسب، وإنما أيضا في مسمياتها. فقد أبدع الشاعر مسميات قصائده، فهذه هي قصيدة "مرايا الموت والحجر" ونقف عند هذا العنوان الذي يفسر إحساسا قويا واضحا بالموت والحجر، وما فيه من معاني القسوة والجمود والحجب.
إن فكرة الموت صريحة، وإن كان التناقض بين طبيعة المرايا وطبيعة الحجر يشير إلى ما يقع في دواخل نفسه، ويبدو استخدام لفظ "المرايا" على صيغة الجمع، معمقا لهذا الإحساس، وكاشفا عن قوته في نفسه.
ومن الجملة الشعرية الأولى، يتضح لنا ذلك التناسق البديع بين العنوان والقصيدة، فأول جملة غاية في الوضوح لا يشوبها ما يحجبها أو يلبس عليها:
أريد أن أموت
وهذا التركيب على بساطته، يحمل قوة هائلة، فقد فضَّل الشاعر الموت على الحياة في وطن ينهش في أبنائه، في معنى وجودهم، وفي شكل بقائهم، ينهش في الرموز التي تحقق الكرامة.
وإذا كان الشارع هو المنتج لكل مظاهر وظواهر المدينة، وهو عنوانها، فإن شاعرنا يخشى أن يداس في الشوارع:
أريدُ أن أموت
قبيل أن يخونني الوطن
قبيل أن أُداس في الشوارع
وتعبر الفئران فوق جثتي
وتأكل القطط
فقط ..
أريد أن أموت
والفئران والقطط كائنات الشوارع ليل نهار، وهي رمز الضياع والتشرد واللاقيمة.
وتظهر روح الشاعر رافضة لهذه الميتة، فهي لا تليق بابن هذا الوطن مع كون الوطن خائن، فالشاعر يطلب أن يموت فوق موجة بعيدة المنال، ويختار من يأكل لحمه، وينقر عينيه: القروش والصقور، لا القطط والفئران:
كأن أموت فوق موجة بعيدة المنال
فتنقر الصقور في عيوني
وتنهش القروش
لحمي السخين
بدا الشاعر هنا عزيزا أنفا حتى في اختياره لمن يعبث بجثته من الكائنات.
ونستطيع أن نرسم من هنا أول ملامح شاعرنا، وسمات روحه.
وفي مقطوعة أخرى في القصيدة ذاتها يقول:
في حفرتي
يغازل التراب دمعتي
ويبدأ الغناء والسفر
وينطق الحجر
إني أراكم في مرايا رحلتي
بلا رتوش أو رياء أو صور
لقد صحب دموعه معه، لمَّا مات وقبر، بكى وطنه، فأحب التراب شكل دموعه ومعناها، والمغازلة: مفاعلة بين اثنين. وجد التراب دموعه جميلة، تستحق المغازلة، فجاوبته، وكأنها ارتضته حبيبا بعد ما هانت على الناس وعلى الوطن فوق الأرض.
إن روحه تبكي وطنه الذي فارق سطحه وما عليه وآثر أن يموت ويدفن في باطنه، وحين يبدأ حياة جديدة، ستكون مختلفة. إنها الحقيقة، وحينما نحيا الحقيقة يتغير وجه الوطن، يتغير قلب الوطن، فيعود للصواب، وتنتهي كل مصائبنا، فنعود نفتديه، سيعود وطننا الذي كان حلمنا صغارا حتى كبرنا، سيعود وطنا يرعى أبناءه ويكرمهم، وسيعود الأبناء لحضنه ولفدائه ولافتدائه، ستعود الحياة التي كان يتمناها قبل الموت، ولم يجد للوصول إليها سبيلا إلا بالموت.
الموت عند شاعرنا، الصواب والعدل والكرامة.
الموت يرفع الظلم ويؤسي الجراح، ويشفي النفس من كل آلامها:
فها هي السماء تنتظر
وها هو الوطن
يجئ بالكفن
فتنتهي كل المحن
فأفسحوا له مكانةً
فربما يعود للصواب
يأخذ العزاء في بنيه
وربما يبكي على ..
ما قد أصابنا ..
فنفتديه.
* شمس سليم
وفي قصيدته "شمس سليم" يجسد الشاعر أحمد فضل شبلول، الشارع وطنا مريضا، آل إلى شر مآل مع محاولات المخلصين من أبنائه، فنراه وقد رسم صورة لهم لا تشرِّف الشارع المصري وحده، إنما لا تشرِّف الشارع العربي بامتداده، فسليم حسن حاول ودأب على مشروعه "موسوعة مصر القديمة"، وهذه هي الوطنية التي يختارها شاعرنا:
فاقرأ تاريخك
وانهض في الفجر
تصبح عملاقا
ممتدا كالجذر
ما أحوجنا إلى الوطنية الواعية المتزنة العاملة، الوطنية التي لا تتخلى عن هويتها، لتصير تابعا أو ظلا، وطنية العاملين الذين يفنون حياتهم عملا متقنا مخلصا:
وثمانية زائد عشر
أفنيت سنين فؤادي
فيها
في قلب التربة
من أسفلها حتى عاليها
* البحر والبنايات الشاهقة
ويستمر عزف الشاعر على أوتار الوطن، وتأسيه لما هو عليه من أحوال، ورفضه لها وإفصاحه الهادي عن رغبته في التغيير. نقرأ هنا في قصيدته "البحر والبنايات الشاهقة"، وفيها يرسم صورة المدينة، وما أصابها من ظلم وظلام وكذب:
هبط الليل فوق جفونك
أصبحت عمرا من الأمنيات الكذوب
طريقك ليست تضيء
كما الأمس فينا
عيونك أضحت كليلة
ويأمل الشاعر أن ينجلي كل هذا، ويعود بها إلى سابق عهدها، ويرى أن هذا لن يكون بغير التغيير والتجديد، معتمدا الرمزية في ذلك، فالبحر ومفرداته دلالات التجدد الدائم والحرية والحركة الدائبة:
افتحي بحرك
إن البحار تجدِّد أنفاسها
وتبدِّل أسماكها
وتغيِّر أطيارها
وتزيِّن أقمارها
ويأسى الشاعر، لقد تحول كل شيء في المدينة من البساطة والقناعة إلى التكلف والطمع والشره:
البنايات شاهقة
والعيون على حالها
هبط الليل فوق القلوب
فأصبحت عارا وعريا
الحدائق تخلع أعشابها
ونساؤك يخلعن عطف الأمومة
ينظرن صوب الجحيم
بناتك يخلعن أحلامهن
ويلبسن شوق البنايات للارتفاع
يودعن شط البساطة
ختم الليل على كل جميل في المدينة: حدائقها، نساؤها، بناتها. فجمال المدينة وازدهارها وأصالتها وعطاؤها وحنانها وخصبها وبساطتها وعذريتها، كل ذلك أضحى عارا وعريا، بعدما هبط الليل فوق القلوب، فما كنه هذا الليل الذي هبط فوق القلوب؟ وما يا ترى الأسباب التي أدت إلى هبوطه؟ أعتقد أن الإجابات قد تتعدد وتختلف، وإن كان مصدرها واحدا.
إن الليل لم يهبط على حاضر المدينة وحده، لكنه هبط كذلك على ماضيها، فحجبه عن حاضرها، ولم يعد يرى منه غير بقايا لرموز أمجاد ولت، ولم يعد يسمع منها سوى أصوات ذكريات:
هبط الليل فوق قلاعك
أصبحت ذكرى محارب
وحطام سفينة
وحذاء بداخل متحف
وسيوفا صديئة
غير أن شاعرنا مع كل هذا الظلام الجاثم فوق المدينة ما زال يأمل .. مازال يطالبها ألا تستسلم، وهو في ذلك يلح ويلح مكررا تركيب:
"افتحي بحرك"
افتحي بحرك الآن
افتحي بحرك يا وردة
افتحي البحر
وافتحي بحرك
ربما أستطيع إضاءة قلبك يا زهرة
ربما أستطيع المجيء إليك
فافتحي بحرك
وإن كانت المدينة تبدلت إلى هذا الحد، فإنه مع ذلك لا يملك إلا أن يحبها، وليس بيده إلا أن يتعلق قلبه بها حين يرحل إلى مدينة بعد مدينة غيرها. وقد شكلت الرحلة جانبا كبيرا من وجدان شاعرنا، فطبيعة عمله التي تدعوه إلى كثرة الأسفار فرضت عليه حملا ثقيلا، حيث يترك مدينته إلى مدائن أخرى، ويتجلى هذا المعنى في معظم قصائد الديوان، وبصورة خاصة وصريحة في قصيدة "الإسكندرية" التي هي قدره ومكتوبه، هي كونه وكيانه:
رسمتكِ بين خطوط يدي
فكنتِ غدي
وكنتِ نهارا لشمسي
وكنتِ صلاة لنفسي
وكنتِ ضمير البحار
ينظر الشاعر إلى مدينته نظرة تأملية يماثل فيها بين الموجودات ومظاهر الكون، وبين نفسه وروحه ويمزج بينها، فيتراءان وقد انعكس كل منهما على صفحة الآخر، فيبدوان وكأنهما شيئا واحدا متسقا كأنما اللحمة والسدى.
فهذا هو الكورنيش الذي عشقه أحمد فضل شبلول، وعشق كل ما يميزه حتى الباعة الجائلين عليه: بائع اللب، وبائع الذرة، وباعة الفل والياسمين، ومقاعد حب .. إنها مفردات تشكل كورنيش مدينته، فلا يكون ولا يحلو إلا بها. إن هؤلاء الباعة يشاركون المحبين، ويفهمون أحوالهم وأمزجتهم:
أحبك .. كورنيشنا ..
يسأل الآن عن حبنا
وبائع لب يجول على العاشقين
وحامل فل ينادي على الياسمين
لمن اقتني فرحة البحر والفل والياسمين؟
وشاوي الذرة ..
يخبئ ما نضج الآن من أجلنا
ومقعد حب أقيم لنا
فما خطبنا
وأنت هناك وقلبي هنا ..؟
وتتوالى الأسئلة حيرى، وتنثال الاستفهامات التي لا جواب لها إلا من شغاف القلب:
أحبك
لا جواب يستطيع أن يقدمه إلا:
أحبك
برغم المسافات الممتدة الفارقة، برغم الحدود المتسعة المتباعدة:
أحبك
تذوب في القلب قبل أن تلفظها الشفاه، وتنساب من حنايا الأضلع حنينا وشوقا، لقد جعل من مدينته امرأة حبيبة، يتعشقها، فلا سبيل إلى مفارقتها:
أحبك .. كيف كفوف يدينا ..؟
وكيف السؤال على شفتينا ..؟
وكيف اشتياق الرمال إلى راحتينا ..؟
أحبك .. هل تسمعين النداء ..؟
أحبك .. لمَّا تزل بامتلاء الفضاء
أحبك .. تبحر من شطنا ..
وتبحث عن درَّة في مجاهل أمواجنا ..
فهل تسمعين النداء ..
وهل تعثرين على درتي ..؟
إلى أن يقول:
فكيف ..
فكيف سبيل لقانا ..
وأنت هناك
وقلبي هنا ..؟
* جواز مرور وعشق مقاهي الإسكندرية
إن أحمد فضل شبلول شاعر غارق في حب وطنه، وحب مدينته الإسكندرية، أحيائها الأصيلة، وكل ما يميزها. فهذه هي المقاهي تفتح طاولاتها لتتنسم يود البحار، وكثيرا ما عشق الشاعر مقاهي الإسكندرية، فهي تمثل ركنا ركيزا في شخصية الإسكندرية، فهي ليست مكانا لقضاء الأوقات فقط، بل إنها تقوم بدور أبعد من هذا في تلك المدينة، فقد تكون بورصة، أو غرفة تجارية، وقد تكون ملتقىً أدبيا، أو مقرا لحزب سياسي، إنها تقدم الكثير، ويجلس عليها الكثير من ذوي الاتجاهات والأغراض والأمزجة المتعددة، متفقة أحيانا، ومتباينة أحيانا أخرى.
إنه يذكرها في مواضع عدة من هذا الديوان، ففي قصيدة "جواز مرور" يقول:
أحب شوارعك المستقيمة عمرا
وأعشق فيها المقاهي
التي تفتح الطاولات ليود البحار
وفي قصيدة "صوفية الإسكندرية" لا يعشق المقاهي وحدها، فترام الإسكندرية ذي الطابقين بلونه الأزرق يحظى هو الآخر بهذا الاهتمام، وصوت الشيخ محمد رفعت، ينادي للفجر، فيرقص على إيقاع عجلاتها خط الرمل، ويعلو صوت النداء أمام المقهى النائم في حضن الشاطئ، فيصله فيصلي، ويفطر ويشاركه إفطاره شعاع الشمس وأخشاب سفن غرقى، إنه منتمٍ لهذا الوطن:
هذا فجرك يوقظني قبل صياح الديكة
تتوالد حركة ..
في جنباتك يعزف "خط الرمل" ..
وتبدأ في الرقص المركبة الزرقاء
ويُدار المذياع أمام المقهى النائم في أحضان الشاطئ
يأتيني صوت الشيخ "محمد رفعت"
فأصلي ..
ماء البحر طعامي وشرابي
في هذا الصبح المتجلي
فليفطر معي شعاع الشمس
وعدة أخشاب من سفن غرقى
إن المقاهي تتناثر على الشواطئ، مثلما تتناثر داخل الأحياء ..إنها تشكل ميراثا أصيلا، وحين يختار الشاعر صوت الشيخ محمد رفعت معليا آذان الفجر، فهو يؤكد على التمسك بالرموز وبالأصالة وبالجمال، وهو أيضا بذلك يأمل في فجر، وفي يوم، وفي مستقبل يحمل هذه الملامح.
* الطائر والشباك المفتوح
وعن الوطنية الموروثة التي حملتها إليه جينات أبيه، فإنها تظهر في أروع صورها في قصيدة "الطائر والشباك المفتوح". وفيها تتضح صورة الأب المصري بملامحه المعروفة المتشبعة الناضحة عطفا وصدقا ورجولة وعنادا وصبرا.
لا أدري من أين أبدأ مع هذه القصيدة الرائعة بحق، إنها تحتاج إلى دراسة منفردة، ولكني سأحاول أن اقتطف منها اقتطافا.
نحن الآن نرسم صورة الأب فضل شبلول، لنصل بعدها إلى كم الحزن ومدى الشعور بالفقد، فيكون بذلك ناتجا مقنعا مقبولا، وأول هذه الملامح:
ألست العارف عن عمري
أكثر مني ..؟
أكثر من حبات الرمل على الشطآن ..؟
إنه الأب المتابع لمراحل حياة ابنه بكل دقة واهتمام، يعرف كل ما تتطلبه وتعيه كل مرحلة، فيعمل من أجلها، فيكون بذلك أبا موجودا بشكل مستمر في حياة ابنه، وهذا في أغلب الأحيان الآن غائب عن آباء هذا الزمان:
أتذكر لحظة أن كنا
نخرج للبحر وللأعياد
إنه يخرج به إلى البحر، وما يمكن أن يتلقاه من البحر في طفولته ويؤثر عليه. إن ذلك يعني الخروج للحياة ذاتها، انطلاقة وتجدد وشجاعة وعطاء. سيدخل ويتشبع من كل معنى تأتي به موجة جديدة، والخروج للبحر عند أطفال الإسكندرية وقت الأعياد، هو الأعياد نفسها. إن أهل الإسكندرية يعرفون ذلك جيدا. إنه لا يتركه بل يأخذه، إنه موجود معه، يعلمه، ويجعله يعيش اللحظة بجواره، فيحسها:
ونسير ..
أتأبط بسمةَ عينيك
نحاذي الأنجم والأمواج
تحدثني عن حلم البشرية
في القرن المقبل
وتوجهني ناحية أبي العباس المرسي
نسير ..
وندخل في الأمطار،
وفي العاصفة،
وفي البرق،
وندخل في الرعد،
وفي السحب،
ونصل إلى المريخ
تتبعنا الأقمار
فنصبح شمسين
نحدق في دوران الكون
وفي ملكوت الله
ونجلس فوق شعاع الإيمان
إنها ملامح الأب المصري الحنون الذي يدفع بابنه إلى حيث يجب أن يكون عليه الإنسان عزًّا وعلوًّا ومضاءً وتوثبًا وثورة على الواقع، وحيث يجب أن يكون له دوره الفاعل الذي يأخذ فيه بأسبابه من تحدٍّ وعمل متواصل، حتى يبلغ موقع الريادة، وهو في كل ذلك متوجه إلى منابع الإيمان والحب والصفاء والنور.
وأثناء ما هو يعلم ابنه كل هذه المعاني، فإنه يعلمه بهدوء وحب وابتسامة، وتلك الصورة استلهمها الشاعر من روح أبيه:
أتأبط بسمة عينيك
لنرى من خلالها أبا معلما. إنه يقدم له نموذجا رائعا للأب المعلم، فيا ليت يرى الآباء، ويسمع المعلمون،التعليم بالحب والابتسام، التعليم بمخاطبة العقل والوجدان.
إنها قصيدة نستطيع أن نحصل منها على الكثير، ثم إنه أب يبذل كل طاقاته ليجعل من اسم ابنه اسما له مكانته الرائدة. إنه لا يتركه ليبتلعه البحر ويغرق كما تغرق الكثير من الأسماء. إنه يجاهد ويتعب حتى يصل إلى هذا:
في البحر تغوص الأعلام
تضيع الأسماء
فتنقذها ..
وتجففها ..
وتقبلها
إنها غاية العناية والرعاية واللطف:
وتحمِّلني ما في وسع الطاقة
تدعو لي
تتقدمني
تعلن أني ربَّان الفلك
وربَّان الأيام
وتستمر صورة الأب المصري، الأب الوطن:
وكنتَ الداخل بالفاكهة
وبالتعب اليومي
بالبسمة داخل أطباق الفول
وبالضحكة فوق الشفتين الصادقتين
وبالهمسةِ عند هبوط الليل
وبالبركة
لهذا كله، ولملامح أخرى عديدة، كان إحساس الشاعر بالفقد موجعا، وكان اليتم مفجعا:
في الأفق يرفرف طائر
يتهاوى بين الجرح
وبين دمائي
بين اليتم
وبين سمائي
ومع هذا الحزن يظل التمسك بميراث القدرات :
ـ ليس سواد الوجه يعكِّر ماء الأحلام
ـ في راحتك اليسرى
تتسابق أمواج الموت
وتنطفئ شموع القلب
لكنك ..
تزرع في الغرف الباردة
شموسا
وقناديل
إن الموت لا يعني انتهاء الحياة، وانتهاء الشاعر، إن أباه معه في كل حين:
كيف أقول وأكتبها
"كنتَ"
فأنت معي مازلت
نناقش أسعار الخبز معا
نسمع نشرة أخبار الثامنة ونصف
معا
وأعد الشاي
أقلبه بدعائي لك
بقصيدة شعر
تترنم بخصالك
أنت معي مازلت
إن وطنية الأب لم تنته بعد رحيله، فقد ورَّثها لابنه:
أنتَ معي ما زلت
تحاول تخفيض الأسعار
وإيقاف نزيف الدم
مازلتَ تحاول
تحرير النفس من النفس
وتقويض الظلم
أنتَ معي مازلت تحاول
رفع الأنقاض
عن الوجه البشري
ولا يغيب عنا دور بنية "معي"، فهذه المعية الدائمة، ودلالات المصاحبة والتواجد والحرص، تؤكد معنى الأبوة والوطنية.
ولهذا كله فإن شاعرنا يمتلك القدرة على التغيير، ويستطيع المواجهة، ولكن بأسلوب وطني رومانسي، رومانسية الواقع لا الخيال:
كنت أغير وجه العالم
أحكمه بقصيدة شعر
ورغيف حنان
إن وسائله للإصلاح والتغيير: الشعر والحنان، إنهما المعلم والمؤثر.
ولأجل كل ما حملته القصيدة من ملامح، فإن شاعرنا مازال ينتظر الطائر يدخل من الشباك، يعود الأب، ولذلك فهو دائم السؤال:
من أي مكان ستطلُّ علي الآن ..؟
من أي الأركان إذن ستجيء ..؟
تتكرر على طول القصيدة، وقبلها وبعدها. يستدعي الشاعر ذكريات محملة بمشاعر ما بين قسوة الفقد، وأمل العودة. سيظل الشاعر فاتحًا شباكه علَّ أباه يعود، فمكانه مازال لا يشغله سواه:
هذا الكرسيُّ المنكفئ على وجه الدنيا
لن تصل إليه الأبدان
إن هذه القصيدة تؤكد في مجملها وطنية الشاعر، وحبه، وانتماءه:
ـ حبات الرمل على الشطآن.
ـ نخرج للبحر وللأعياد.
ـ كان رصيف البحر
وكان الفل لنا
ـ ندخل بيت عروس البحر
ـ توجهني ناحية أبي العباس المرسي
ـ أول أسمائي أنت
ـ بالبسمة داخل أطباق الفول
ـ نناقش أسعار الخبز معا
نسمع نشرة أخبار الثامنة ونصف معا
إنها تجمع مظاهر خاصة بالمدينة / الوطن: الكورنيش، الأعياد، الحكايات الشعبية الخاصة، أشهر المساجد مكانة في القلوب، الأطباق الشهيرة، الهموم والمعاناة.
وهذه المفردات الخاصة بالمدينة تحتل موروثات شعبية، مثل شخصية عروس البحر، وما تطلقه للخيال من تصورات الجمال والمفاجأة والمكافأة والمحال، ومثل مسجد أبي العباس المرسي الذي يمثل الكثير لأهل الإسكندرية، ومن يؤمونها، وصاحبه رمز لثقافة المدينة المنفتحة على العالم المستقبلة للعلم والعلماء.
والمسجد كبناء هو من أشهر أبنية الإسكندرية ومزاراتها، لا من حيث موقعه وحجمه فحسب، إنما كذلك من حيث رقوشه وفنون الزجاج، وغير ذلك. إنه يشير في الوقت نفسه إلى موقع المدينة من التاريخ ودورها الحضاري الذي اضطلعت به.
يتبع ـ دإيمان الجمل
للشاعر أحمد فضل شبلول
ـ الجزء الأول ـ
بقلم: د .إيمان الجمل
بالرغم من أن الحاضر النقدي يهتم بمدخلات عديدة متراكبة كالأبنية الأسلوبية والخيالية والصرفية والإيقاعية، إلى غيرها من المصطلحات القديمة والحديثة، إضافة إلى الجداول والإحصاءات، إلا أنني آثرت أن أتوقف عند ملمح واحد في ديوان "بين نهرين يمشي" للشاعر أحمد فضل شبلول، هو الاتجاه الوطني بدءًا من الإهداء الذي يقول فيه:
"إلى شمس أبي وشمس سليم"
الذي استوقفني والذي يعني من الدلالات والكثير.
إنه إهداء يعني فيما يعني، مكانة الأب والدور شديد التأثير في حياة شاعرنا، حتى اسم هذا الأب يوحي بالكثير أيضا، فهذا الأب بما اتسم به من صفات، وما آمن به من قيم ومثل، كان في ذلك الشمس لشاعرنا: شمس العطاء والدفء والخير والوضوح، شمس العمل والحياة، وأراها شمسا لا تغيب، وإن غابت وتوارت تحت التراب، فإن شمس الروح التي ربت وأدبت وغذت لا تزال مشرقة في روح الشاعر بعدما رسمت معالم شخصيته. إنها تضيء روحه وتسير معه وتصاحبه مرحلة نضوجه ورجولته، والتي سنقف عندها في أكثر من موضع من مواضع هذا اليوان الثري.
وشمس سليم حسن التي مازالت هي الأخرى مشرقة، لا في عقل مصر وروحها فحسب، بل وعلى بدنها كله. سليم حسن الذي أمضى شطرا عريضا من حياته مسخرا قدراته وواهبا فكره، يحركه يقينه ووجدانه لأجل مصر، مؤرخا وجغرافيا وعالم اجتماع.
إن هاتين الشخصيتين الأب وسليم حسن، يمثلان في جانب من جوانبهما، وطنية الشاعر أحمد فضل شبلول، التي تطل علينا من الديوان بأسره. وإذا كان الإحساس بالوطن والانتماء هما محركا الوطنية، فالوطن فيما يضم هو الأب والصديق. وإذا كانت الأجساد تذهب برسمها، فما تحمله من روح الوطن، ومعنى الوطن لا يغيب.
إن الوطن لا يغيب، ولا يذهب بذهاب أبنائه.
"شمس أبي، وشمس سليم" تعني: الوطن لا يغيب.
وأستطيع أن أزعم أن هذا الديوان بما ضم من قصائد، وإن تنوع مضمونها، فإنه يمثل روح الوطن، أو لنقل إن الوطن ظهر في أشكال ورموز عدة.
ووطنية هذا الديوان مغايرة للمفهوم السائد عن الوطنية بما يتراءى لنا من مظاهرها المعتادة من جمهرة وحناجر مجلجلة تدوي بها مكبرات الأصوات، وسرعان ما ينسى الناس ما تهتف لأجله بعد أيام، أو ربما تنسى هي ذاتها، ما هتفت به منذ أيام.
فوطنية شاعرنا رومانسية حانية دافئة دافقة حبا محملا بالكثير من الغضب المتزن حينا، وبالأسى حينا آخر، وبالأمل في بعض الأحايين.
وما بين كل ما يمثل لشاعرنا وطنا، فإن أشباح الموت تتراءى لنا رأي العين، وتلف قصائد هذا الديوان بردائها ليزداد الشعور قتامة، شعور حركة الفقد والموت والاغتراب، حتى داخل الوطن، فمدينته فقدت هويتها، والكثير من المدن العربية.
إن الأحداث على المستوى الشخصي والمستوى العام رسمت ملامح هذا الديوان، وألقت عليه بظلالها.
* مرايا الموت والحجر
وتنعكس صور الموت على المرايا، ويترجم شاعرنا هذا الإحساس لا في قصائده فحسب، وإنما أيضا في مسمياتها. فقد أبدع الشاعر مسميات قصائده، فهذه هي قصيدة "مرايا الموت والحجر" ونقف عند هذا العنوان الذي يفسر إحساسا قويا واضحا بالموت والحجر، وما فيه من معاني القسوة والجمود والحجب.
إن فكرة الموت صريحة، وإن كان التناقض بين طبيعة المرايا وطبيعة الحجر يشير إلى ما يقع في دواخل نفسه، ويبدو استخدام لفظ "المرايا" على صيغة الجمع، معمقا لهذا الإحساس، وكاشفا عن قوته في نفسه.
ومن الجملة الشعرية الأولى، يتضح لنا ذلك التناسق البديع بين العنوان والقصيدة، فأول جملة غاية في الوضوح لا يشوبها ما يحجبها أو يلبس عليها:
أريد أن أموت
وهذا التركيب على بساطته، يحمل قوة هائلة، فقد فضَّل الشاعر الموت على الحياة في وطن ينهش في أبنائه، في معنى وجودهم، وفي شكل بقائهم، ينهش في الرموز التي تحقق الكرامة.
وإذا كان الشارع هو المنتج لكل مظاهر وظواهر المدينة، وهو عنوانها، فإن شاعرنا يخشى أن يداس في الشوارع:
أريدُ أن أموت
قبيل أن يخونني الوطن
قبيل أن أُداس في الشوارع
وتعبر الفئران فوق جثتي
وتأكل القطط
فقط ..
أريد أن أموت
والفئران والقطط كائنات الشوارع ليل نهار، وهي رمز الضياع والتشرد واللاقيمة.
وتظهر روح الشاعر رافضة لهذه الميتة، فهي لا تليق بابن هذا الوطن مع كون الوطن خائن، فالشاعر يطلب أن يموت فوق موجة بعيدة المنال، ويختار من يأكل لحمه، وينقر عينيه: القروش والصقور، لا القطط والفئران:
كأن أموت فوق موجة بعيدة المنال
فتنقر الصقور في عيوني
وتنهش القروش
لحمي السخين
بدا الشاعر هنا عزيزا أنفا حتى في اختياره لمن يعبث بجثته من الكائنات.
ونستطيع أن نرسم من هنا أول ملامح شاعرنا، وسمات روحه.
وفي مقطوعة أخرى في القصيدة ذاتها يقول:
في حفرتي
يغازل التراب دمعتي
ويبدأ الغناء والسفر
وينطق الحجر
إني أراكم في مرايا رحلتي
بلا رتوش أو رياء أو صور
لقد صحب دموعه معه، لمَّا مات وقبر، بكى وطنه، فأحب التراب شكل دموعه ومعناها، والمغازلة: مفاعلة بين اثنين. وجد التراب دموعه جميلة، تستحق المغازلة، فجاوبته، وكأنها ارتضته حبيبا بعد ما هانت على الناس وعلى الوطن فوق الأرض.
إن روحه تبكي وطنه الذي فارق سطحه وما عليه وآثر أن يموت ويدفن في باطنه، وحين يبدأ حياة جديدة، ستكون مختلفة. إنها الحقيقة، وحينما نحيا الحقيقة يتغير وجه الوطن، يتغير قلب الوطن، فيعود للصواب، وتنتهي كل مصائبنا، فنعود نفتديه، سيعود وطننا الذي كان حلمنا صغارا حتى كبرنا، سيعود وطنا يرعى أبناءه ويكرمهم، وسيعود الأبناء لحضنه ولفدائه ولافتدائه، ستعود الحياة التي كان يتمناها قبل الموت، ولم يجد للوصول إليها سبيلا إلا بالموت.
الموت عند شاعرنا، الصواب والعدل والكرامة.
الموت يرفع الظلم ويؤسي الجراح، ويشفي النفس من كل آلامها:
فها هي السماء تنتظر
وها هو الوطن
يجئ بالكفن
فتنتهي كل المحن
فأفسحوا له مكانةً
فربما يعود للصواب
يأخذ العزاء في بنيه
وربما يبكي على ..
ما قد أصابنا ..
فنفتديه.
* شمس سليم
وفي قصيدته "شمس سليم" يجسد الشاعر أحمد فضل شبلول، الشارع وطنا مريضا، آل إلى شر مآل مع محاولات المخلصين من أبنائه، فنراه وقد رسم صورة لهم لا تشرِّف الشارع المصري وحده، إنما لا تشرِّف الشارع العربي بامتداده، فسليم حسن حاول ودأب على مشروعه "موسوعة مصر القديمة"، وهذه هي الوطنية التي يختارها شاعرنا:
فاقرأ تاريخك
وانهض في الفجر
تصبح عملاقا
ممتدا كالجذر
ما أحوجنا إلى الوطنية الواعية المتزنة العاملة، الوطنية التي لا تتخلى عن هويتها، لتصير تابعا أو ظلا، وطنية العاملين الذين يفنون حياتهم عملا متقنا مخلصا:
وثمانية زائد عشر
أفنيت سنين فؤادي
فيها
في قلب التربة
من أسفلها حتى عاليها
* البحر والبنايات الشاهقة
ويستمر عزف الشاعر على أوتار الوطن، وتأسيه لما هو عليه من أحوال، ورفضه لها وإفصاحه الهادي عن رغبته في التغيير. نقرأ هنا في قصيدته "البحر والبنايات الشاهقة"، وفيها يرسم صورة المدينة، وما أصابها من ظلم وظلام وكذب:
هبط الليل فوق جفونك
أصبحت عمرا من الأمنيات الكذوب
طريقك ليست تضيء
كما الأمس فينا
عيونك أضحت كليلة
ويأمل الشاعر أن ينجلي كل هذا، ويعود بها إلى سابق عهدها، ويرى أن هذا لن يكون بغير التغيير والتجديد، معتمدا الرمزية في ذلك، فالبحر ومفرداته دلالات التجدد الدائم والحرية والحركة الدائبة:
افتحي بحرك
إن البحار تجدِّد أنفاسها
وتبدِّل أسماكها
وتغيِّر أطيارها
وتزيِّن أقمارها
ويأسى الشاعر، لقد تحول كل شيء في المدينة من البساطة والقناعة إلى التكلف والطمع والشره:
البنايات شاهقة
والعيون على حالها
هبط الليل فوق القلوب
فأصبحت عارا وعريا
الحدائق تخلع أعشابها
ونساؤك يخلعن عطف الأمومة
ينظرن صوب الجحيم
بناتك يخلعن أحلامهن
ويلبسن شوق البنايات للارتفاع
يودعن شط البساطة
ختم الليل على كل جميل في المدينة: حدائقها، نساؤها، بناتها. فجمال المدينة وازدهارها وأصالتها وعطاؤها وحنانها وخصبها وبساطتها وعذريتها، كل ذلك أضحى عارا وعريا، بعدما هبط الليل فوق القلوب، فما كنه هذا الليل الذي هبط فوق القلوب؟ وما يا ترى الأسباب التي أدت إلى هبوطه؟ أعتقد أن الإجابات قد تتعدد وتختلف، وإن كان مصدرها واحدا.
إن الليل لم يهبط على حاضر المدينة وحده، لكنه هبط كذلك على ماضيها، فحجبه عن حاضرها، ولم يعد يرى منه غير بقايا لرموز أمجاد ولت، ولم يعد يسمع منها سوى أصوات ذكريات:
هبط الليل فوق قلاعك
أصبحت ذكرى محارب
وحطام سفينة
وحذاء بداخل متحف
وسيوفا صديئة
غير أن شاعرنا مع كل هذا الظلام الجاثم فوق المدينة ما زال يأمل .. مازال يطالبها ألا تستسلم، وهو في ذلك يلح ويلح مكررا تركيب:
"افتحي بحرك"
افتحي بحرك الآن
افتحي بحرك يا وردة
افتحي البحر
وافتحي بحرك
ربما أستطيع إضاءة قلبك يا زهرة
ربما أستطيع المجيء إليك
فافتحي بحرك
وإن كانت المدينة تبدلت إلى هذا الحد، فإنه مع ذلك لا يملك إلا أن يحبها، وليس بيده إلا أن يتعلق قلبه بها حين يرحل إلى مدينة بعد مدينة غيرها. وقد شكلت الرحلة جانبا كبيرا من وجدان شاعرنا، فطبيعة عمله التي تدعوه إلى كثرة الأسفار فرضت عليه حملا ثقيلا، حيث يترك مدينته إلى مدائن أخرى، ويتجلى هذا المعنى في معظم قصائد الديوان، وبصورة خاصة وصريحة في قصيدة "الإسكندرية" التي هي قدره ومكتوبه، هي كونه وكيانه:
رسمتكِ بين خطوط يدي
فكنتِ غدي
وكنتِ نهارا لشمسي
وكنتِ صلاة لنفسي
وكنتِ ضمير البحار
ينظر الشاعر إلى مدينته نظرة تأملية يماثل فيها بين الموجودات ومظاهر الكون، وبين نفسه وروحه ويمزج بينها، فيتراءان وقد انعكس كل منهما على صفحة الآخر، فيبدوان وكأنهما شيئا واحدا متسقا كأنما اللحمة والسدى.
فهذا هو الكورنيش الذي عشقه أحمد فضل شبلول، وعشق كل ما يميزه حتى الباعة الجائلين عليه: بائع اللب، وبائع الذرة، وباعة الفل والياسمين، ومقاعد حب .. إنها مفردات تشكل كورنيش مدينته، فلا يكون ولا يحلو إلا بها. إن هؤلاء الباعة يشاركون المحبين، ويفهمون أحوالهم وأمزجتهم:
أحبك .. كورنيشنا ..
يسأل الآن عن حبنا
وبائع لب يجول على العاشقين
وحامل فل ينادي على الياسمين
لمن اقتني فرحة البحر والفل والياسمين؟
وشاوي الذرة ..
يخبئ ما نضج الآن من أجلنا
ومقعد حب أقيم لنا
فما خطبنا
وأنت هناك وقلبي هنا ..؟
وتتوالى الأسئلة حيرى، وتنثال الاستفهامات التي لا جواب لها إلا من شغاف القلب:
أحبك
لا جواب يستطيع أن يقدمه إلا:
أحبك
برغم المسافات الممتدة الفارقة، برغم الحدود المتسعة المتباعدة:
أحبك
تذوب في القلب قبل أن تلفظها الشفاه، وتنساب من حنايا الأضلع حنينا وشوقا، لقد جعل من مدينته امرأة حبيبة، يتعشقها، فلا سبيل إلى مفارقتها:
أحبك .. كيف كفوف يدينا ..؟
وكيف السؤال على شفتينا ..؟
وكيف اشتياق الرمال إلى راحتينا ..؟
أحبك .. هل تسمعين النداء ..؟
أحبك .. لمَّا تزل بامتلاء الفضاء
أحبك .. تبحر من شطنا ..
وتبحث عن درَّة في مجاهل أمواجنا ..
فهل تسمعين النداء ..
وهل تعثرين على درتي ..؟
إلى أن يقول:
فكيف ..
فكيف سبيل لقانا ..
وأنت هناك
وقلبي هنا ..؟
* جواز مرور وعشق مقاهي الإسكندرية
إن أحمد فضل شبلول شاعر غارق في حب وطنه، وحب مدينته الإسكندرية، أحيائها الأصيلة، وكل ما يميزها. فهذه هي المقاهي تفتح طاولاتها لتتنسم يود البحار، وكثيرا ما عشق الشاعر مقاهي الإسكندرية، فهي تمثل ركنا ركيزا في شخصية الإسكندرية، فهي ليست مكانا لقضاء الأوقات فقط، بل إنها تقوم بدور أبعد من هذا في تلك المدينة، فقد تكون بورصة، أو غرفة تجارية، وقد تكون ملتقىً أدبيا، أو مقرا لحزب سياسي، إنها تقدم الكثير، ويجلس عليها الكثير من ذوي الاتجاهات والأغراض والأمزجة المتعددة، متفقة أحيانا، ومتباينة أحيانا أخرى.
إنه يذكرها في مواضع عدة من هذا الديوان، ففي قصيدة "جواز مرور" يقول:
أحب شوارعك المستقيمة عمرا
وأعشق فيها المقاهي
التي تفتح الطاولات ليود البحار
وفي قصيدة "صوفية الإسكندرية" لا يعشق المقاهي وحدها، فترام الإسكندرية ذي الطابقين بلونه الأزرق يحظى هو الآخر بهذا الاهتمام، وصوت الشيخ محمد رفعت، ينادي للفجر، فيرقص على إيقاع عجلاتها خط الرمل، ويعلو صوت النداء أمام المقهى النائم في حضن الشاطئ، فيصله فيصلي، ويفطر ويشاركه إفطاره شعاع الشمس وأخشاب سفن غرقى، إنه منتمٍ لهذا الوطن:
هذا فجرك يوقظني قبل صياح الديكة
تتوالد حركة ..
في جنباتك يعزف "خط الرمل" ..
وتبدأ في الرقص المركبة الزرقاء
ويُدار المذياع أمام المقهى النائم في أحضان الشاطئ
يأتيني صوت الشيخ "محمد رفعت"
فأصلي ..
ماء البحر طعامي وشرابي
في هذا الصبح المتجلي
فليفطر معي شعاع الشمس
وعدة أخشاب من سفن غرقى
إن المقاهي تتناثر على الشواطئ، مثلما تتناثر داخل الأحياء ..إنها تشكل ميراثا أصيلا، وحين يختار الشاعر صوت الشيخ محمد رفعت معليا آذان الفجر، فهو يؤكد على التمسك بالرموز وبالأصالة وبالجمال، وهو أيضا بذلك يأمل في فجر، وفي يوم، وفي مستقبل يحمل هذه الملامح.
* الطائر والشباك المفتوح
وعن الوطنية الموروثة التي حملتها إليه جينات أبيه، فإنها تظهر في أروع صورها في قصيدة "الطائر والشباك المفتوح". وفيها تتضح صورة الأب المصري بملامحه المعروفة المتشبعة الناضحة عطفا وصدقا ورجولة وعنادا وصبرا.
لا أدري من أين أبدأ مع هذه القصيدة الرائعة بحق، إنها تحتاج إلى دراسة منفردة، ولكني سأحاول أن اقتطف منها اقتطافا.
نحن الآن نرسم صورة الأب فضل شبلول، لنصل بعدها إلى كم الحزن ومدى الشعور بالفقد، فيكون بذلك ناتجا مقنعا مقبولا، وأول هذه الملامح:
ألست العارف عن عمري
أكثر مني ..؟
أكثر من حبات الرمل على الشطآن ..؟
إنه الأب المتابع لمراحل حياة ابنه بكل دقة واهتمام، يعرف كل ما تتطلبه وتعيه كل مرحلة، فيعمل من أجلها، فيكون بذلك أبا موجودا بشكل مستمر في حياة ابنه، وهذا في أغلب الأحيان الآن غائب عن آباء هذا الزمان:
أتذكر لحظة أن كنا
نخرج للبحر وللأعياد
إنه يخرج به إلى البحر، وما يمكن أن يتلقاه من البحر في طفولته ويؤثر عليه. إن ذلك يعني الخروج للحياة ذاتها، انطلاقة وتجدد وشجاعة وعطاء. سيدخل ويتشبع من كل معنى تأتي به موجة جديدة، والخروج للبحر عند أطفال الإسكندرية وقت الأعياد، هو الأعياد نفسها. إن أهل الإسكندرية يعرفون ذلك جيدا. إنه لا يتركه بل يأخذه، إنه موجود معه، يعلمه، ويجعله يعيش اللحظة بجواره، فيحسها:
ونسير ..
أتأبط بسمةَ عينيك
نحاذي الأنجم والأمواج
تحدثني عن حلم البشرية
في القرن المقبل
وتوجهني ناحية أبي العباس المرسي
نسير ..
وندخل في الأمطار،
وفي العاصفة،
وفي البرق،
وندخل في الرعد،
وفي السحب،
ونصل إلى المريخ
تتبعنا الأقمار
فنصبح شمسين
نحدق في دوران الكون
وفي ملكوت الله
ونجلس فوق شعاع الإيمان
إنها ملامح الأب المصري الحنون الذي يدفع بابنه إلى حيث يجب أن يكون عليه الإنسان عزًّا وعلوًّا ومضاءً وتوثبًا وثورة على الواقع، وحيث يجب أن يكون له دوره الفاعل الذي يأخذ فيه بأسبابه من تحدٍّ وعمل متواصل، حتى يبلغ موقع الريادة، وهو في كل ذلك متوجه إلى منابع الإيمان والحب والصفاء والنور.
وأثناء ما هو يعلم ابنه كل هذه المعاني، فإنه يعلمه بهدوء وحب وابتسامة، وتلك الصورة استلهمها الشاعر من روح أبيه:
أتأبط بسمة عينيك
لنرى من خلالها أبا معلما. إنه يقدم له نموذجا رائعا للأب المعلم، فيا ليت يرى الآباء، ويسمع المعلمون،التعليم بالحب والابتسام، التعليم بمخاطبة العقل والوجدان.
إنها قصيدة نستطيع أن نحصل منها على الكثير، ثم إنه أب يبذل كل طاقاته ليجعل من اسم ابنه اسما له مكانته الرائدة. إنه لا يتركه ليبتلعه البحر ويغرق كما تغرق الكثير من الأسماء. إنه يجاهد ويتعب حتى يصل إلى هذا:
في البحر تغوص الأعلام
تضيع الأسماء
فتنقذها ..
وتجففها ..
وتقبلها
إنها غاية العناية والرعاية واللطف:
وتحمِّلني ما في وسع الطاقة
تدعو لي
تتقدمني
تعلن أني ربَّان الفلك
وربَّان الأيام
وتستمر صورة الأب المصري، الأب الوطن:
وكنتَ الداخل بالفاكهة
وبالتعب اليومي
بالبسمة داخل أطباق الفول
وبالضحكة فوق الشفتين الصادقتين
وبالهمسةِ عند هبوط الليل
وبالبركة
لهذا كله، ولملامح أخرى عديدة، كان إحساس الشاعر بالفقد موجعا، وكان اليتم مفجعا:
في الأفق يرفرف طائر
يتهاوى بين الجرح
وبين دمائي
بين اليتم
وبين سمائي
ومع هذا الحزن يظل التمسك بميراث القدرات :
ـ ليس سواد الوجه يعكِّر ماء الأحلام
ـ في راحتك اليسرى
تتسابق أمواج الموت
وتنطفئ شموع القلب
لكنك ..
تزرع في الغرف الباردة
شموسا
وقناديل
إن الموت لا يعني انتهاء الحياة، وانتهاء الشاعر، إن أباه معه في كل حين:
كيف أقول وأكتبها
"كنتَ"
فأنت معي مازلت
نناقش أسعار الخبز معا
نسمع نشرة أخبار الثامنة ونصف
معا
وأعد الشاي
أقلبه بدعائي لك
بقصيدة شعر
تترنم بخصالك
أنت معي مازلت
إن وطنية الأب لم تنته بعد رحيله، فقد ورَّثها لابنه:
أنتَ معي ما زلت
تحاول تخفيض الأسعار
وإيقاف نزيف الدم
مازلتَ تحاول
تحرير النفس من النفس
وتقويض الظلم
أنتَ معي مازلت تحاول
رفع الأنقاض
عن الوجه البشري
ولا يغيب عنا دور بنية "معي"، فهذه المعية الدائمة، ودلالات المصاحبة والتواجد والحرص، تؤكد معنى الأبوة والوطنية.
ولهذا كله فإن شاعرنا يمتلك القدرة على التغيير، ويستطيع المواجهة، ولكن بأسلوب وطني رومانسي، رومانسية الواقع لا الخيال:
كنت أغير وجه العالم
أحكمه بقصيدة شعر
ورغيف حنان
إن وسائله للإصلاح والتغيير: الشعر والحنان، إنهما المعلم والمؤثر.
ولأجل كل ما حملته القصيدة من ملامح، فإن شاعرنا مازال ينتظر الطائر يدخل من الشباك، يعود الأب، ولذلك فهو دائم السؤال:
من أي مكان ستطلُّ علي الآن ..؟
من أي الأركان إذن ستجيء ..؟
تتكرر على طول القصيدة، وقبلها وبعدها. يستدعي الشاعر ذكريات محملة بمشاعر ما بين قسوة الفقد، وأمل العودة. سيظل الشاعر فاتحًا شباكه علَّ أباه يعود، فمكانه مازال لا يشغله سواه:
هذا الكرسيُّ المنكفئ على وجه الدنيا
لن تصل إليه الأبدان
إن هذه القصيدة تؤكد في مجملها وطنية الشاعر، وحبه، وانتماءه:
ـ حبات الرمل على الشطآن.
ـ نخرج للبحر وللأعياد.
ـ كان رصيف البحر
وكان الفل لنا
ـ ندخل بيت عروس البحر
ـ توجهني ناحية أبي العباس المرسي
ـ أول أسمائي أنت
ـ بالبسمة داخل أطباق الفول
ـ نناقش أسعار الخبز معا
نسمع نشرة أخبار الثامنة ونصف معا
إنها تجمع مظاهر خاصة بالمدينة / الوطن: الكورنيش، الأعياد، الحكايات الشعبية الخاصة، أشهر المساجد مكانة في القلوب، الأطباق الشهيرة، الهموم والمعاناة.
وهذه المفردات الخاصة بالمدينة تحتل موروثات شعبية، مثل شخصية عروس البحر، وما تطلقه للخيال من تصورات الجمال والمفاجأة والمكافأة والمحال، ومثل مسجد أبي العباس المرسي الذي يمثل الكثير لأهل الإسكندرية، ومن يؤمونها، وصاحبه رمز لثقافة المدينة المنفتحة على العالم المستقبلة للعلم والعلماء.
والمسجد كبناء هو من أشهر أبنية الإسكندرية ومزاراتها، لا من حيث موقعه وحجمه فحسب، إنما كذلك من حيث رقوشه وفنون الزجاج، وغير ذلك. إنه يشير في الوقت نفسه إلى موقع المدينة من التاريخ ودورها الحضاري الذي اضطلعت به.
يتبع ـ دإيمان الجمل