مشاهدة النسخة كاملة : عن محمد حافظ رجب
د. حسين علي محمد
19-08-2006, 04:57 PM
عن محمد حافظ رجب و «جيل بلا أساتذة»
بقلم: أ.د. حسين علي محمد
------------------------
محمد حافظ رجب قامة سامقة في القصة القصيرة، وقد أخذ بأيدينا حينما أسس "الصحوة" عام 1968م، لكنه كان قد توقف عن الكتابة طوال السبعينيات، وجلس في بيته (20 ش غربال ـ الإسكندرية). وقد زرتُه في أواخر السبعينيات في بيته ـ وكان معي الدكتور ماهر علام (وهو ليس أديباً ولكنه متذوق) ـ وقد أخذت منه قصصه التي نشرها في "المجلة" و"القصة" في منتصف الستينيات، ونشرتها له في سلسلة "كتاب آتون" التي كنتُ أشرف عليها، وترك لي اختيار العنوان، فاخترت "مخلوقات براد الشاي المغلي"، وأجريت معه حواراً مطولاً نشرته يومها في "الوطن" العمانية. وحاول بعدها أن يصدر "الصحوة" مرة ثانية، ولكنه لم يتمكّن، ولديَّ في البيت بمصر كتاب بخط محمد حافظ رجب بعنوان "جيل بلا أساتذة"، جمع فيه كل المقالات التي كُتبت عنه حتى عام 1980م، وكنتُ أريد أن أصدره في سلسلة "كتاب آتون"، لكن السلسلة توقفت بعد تسعة أشهر ـ في مارس 1980، لأبدأ في الشهر التالي مباشرة في إصدار سلسلة "أصوات مُعاصرة"، التي أصدرت حتى الآن (184) كتابا.
محمد حافظ رجب لا يُمكن أن أشبه به واحداً من جيل الستينيات في القصة القصيرة.
إنه رائد ومجدد.
د. حسين علي محمد
19-08-2006, 04:59 PM
عن محمد حافظ رجب
بقلم: محمد جبريل
.....................
هل أخطأ محمد حافظ رجب حين ترك الإسكندرية..؟ وهل أخطأ حين عاد إلى الإسكندرية..؟ سؤال يناوشنى -أحياناً- فلا أعثر له على إجابة محددة.
محمد حافظ رجب -إن كنت لا تذكر، أو لا تعرف- هو صاحب مقولة: نحن جيل بلا أساتذة..
قصصه القصيرة موسومة بطابع فنى لم يقلد، وإن حاول البعض تقليده.. حتى نجيب محفوظ -هذا رأيى- لم يكتب ثرثرته النيلية إلا بعد أن قرأ حافظ رجب جيداً..!!
وصف فؤاد دوارة قصة حافظ "البطل" بأنها أعمق من قصة مشابهة لجوركى، وقال يحيى حقى إن أعماله سبقت زمانها بأعوام كثيرة، وذهب بعض النقاد إلى أن ما يكتبه حافظ رجب لا يعدو هلوسة كلامية..!
لكن حافظ رجب ظل هو الظاهرة الأشد تميزاً بين مبدعى جيله..
تعرف كبار الأدباء إلى حافظ رجب، وإلى إبداعاته، من قبل أن يجاوز مكانه فى محطة الرمل.. وتوالت النصائح بأن حياته الوظيفية فى القاهرة أفضل من السعى إلى رزق يوم بيوم فى مدينته الملحية..
ولأن الزن على الأذان أمر من السحر، فقد توكل حافظ على الله ذات صباح -وربما ذات مساء- وسافر إلى القاهرة.
مثَّل انتقال الشاب ذى الأعوام الخمسة والعشرين عاماً إلى العاصمة، انعطافة -حسب الكليشيه المتوارث!- فى مسار القصة القصيرة المصرية.. تباينت الآراء فى استقبال أعماله بين الحفاوة والرفض، وإن ظلت تلك الأعمال معلماً من المستحيل إغفاله.
إذا استعرت وصف نجيب محفوظ للمهمين من الأدباء، فإن حافظ رجب ينتمى إلى طبقة الفتوات الذين يحسنون توجيه ضرباتهم، بينما يتحدد دور المساعدين فى تلقى الضربات.. إنه فتوة فى جيله، مثلما كان إدريس بين مبدعى الفترة التى قدم فيها إبداعاته، ومن قبله محفوظ فى الرواية، الأمر نفسه بالنسبة لنعمان عاشور فى المسرحية، وعبد الصبور فى قصيدة الفصحى، وجاهين فى قصيدة العامية..
كنت أتردد على حافظ فى المجلس الأعلى للفنون والآداب، التقى به فى الغرفة الخشبية، فى الناحية المقابلة لمبنى المجلس، كان عباس محمد عباس هو أقرب أصدقاء حافظ إليه، فهما فى مكتبين متجاورين، وأحاديثهما لا تنتهى.. فى الغرفة نفسها تعرفت إلى عبد المعطى المسيرى وحامد الأطمس بعد أن هجر أولهما مقهاه فى دمنهور، بينما أغلق الثانى دكانه للنجارة فى المدينة نفسها..
ثم عاد حافظ رجب إلى الإسكندرية بعد أن هدته المتاعب!
بين أوراقى رسالة من محمد حافظ رجب -بخط يده- يعتب فيها على عبد الفتاح الجمل تغاضيه عما سماه وصاية من اثنين أو ثلاثة ينتسبون إلى جيل الستينيات، فهو -الجمل- ترك لهم أمر الموافقة أو الرفض فى الأعمال التى يتلقاها من الأدباء.. وحافظ واحد منهم!
أتردد فى نشر الرسالة التى تعرى بعض الأسماء التى مازالت تحاول فرض الوصاية على حياتنا الأدبية، مع أن المبدعين الذين أضيروا بوصايتهم، ووشاياتهم، ورفضهم غير الموضوعى لإبداعات الآخرين.. هؤلاء المبدعون يستطيعون المطالبة بترحيل السادة الأوصياء إلى محكمة العدل الدولية لمحاكمتهم بتهمة قتل مواهب كانت مبشرة وواعدة!
د. محمد حسن السمان
02-09-2006, 10:56 PM
سلام الـلـه عليكم
الاخ الفاضل الاديب الكبير اللاستاذ الدكتور حسين علي محمد
اعتبر نفسي من المحظوظين , الذين يتاح لهم الاطلاع , على دراساتك الراقية , وكم اشعر بالفخر , وانا اقرأ لك , وفي دراستك الادبية : "عن محمد حافظ رجب و «جيل بلا أساتذة» " , اضيف لنفسي وساما جديدا , بمتابعة هذه الدراسة , والتعرف على الاديب الكبير محمد حافظ رجب , ثم سعدت اكثر , وانا اقرأ بتكرم منك , ما قد كتبه الاديب محمد جبريل , في الاديب الكبير محمد حافظ رجب , لتكتمل عندي الصورة .
لقد اثريت معرفتي , باسلوب ادبي راق , فتقبل محبتي وتقديري واعجابي
اخوكم
السمان
حسام القاضي
03-09-2006, 12:40 AM
الأديب والناقد الكبير / أ.د. حسين علي محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أشكرك أستاذنا الكبير على هذا الموضوع ، ولعل الكثيرون لا يعلمون شيئا عن هذا الأديب المتفرد ، ولقد كنت محظوظاً ان قرات لهذا العملاق أكثر من عمل ، " مخلوقات براد الشاي المغلي " ،
" الكرة ورأس الرجل " ،وغيرها ، ولقد أسعدني الحظ بقراءة هذه الروائع في مجلات قديمة لا أذكر اسمها الآن ، ولكني احضرتها من سور الأزبكية ( وقت ان كان موجوداً ) وكانت استفادتي عظيمة من تلك القصص ؛ فما زالت تفاصيلها محفورة في ذاكرتي حتى الآن ، وكنا نقول عنه أنه أستاذ ما يعرف بـ ( تيار تشييء الإنسان ، وأنسنة الأشياء ) ربما تكون هذه التسمية غير دقيقة ولكنها كانت تعبر عن اميز ما قرات لهذا العملاق ، وبلا شك فقد استفدت من كتاباته ، واحياناً أجده داخل بعض اعمالي المتواضعة .
أشكرك جداً لالقائك الضوء على هذا الأديب المتفرد وروائعه العظيمة .
تقبل تقديري واحترامي .
د. حسين علي محمد
07-10-2006, 10:42 PM
سلام الـلـه عليكم
الاخ الفاضل الاديب الكبير اللاستاذ الدكتور حسين علي محمد
اعتبر نفسي من المحظوظين , الذين يتاح لهم الاطلاع , على دراساتك الراقية , وكم اشعر بالفخر , وانا اقرأ لك , وفي دراستك الادبية : "عن محمد حافظ رجب و «جيل بلا أساتذة» " , اضيف لنفسي وساما جديدا , بمتابعة هذه الدراسة , والتعرف على الاديب الكبير محمد حافظ رجب , ثم سعدت اكثر , وانا اقرأ بتكرم منك , ما قد كتبه الاديب محمد جبريل , في الاديب الكبير محمد حافظ رجب , لتكتمل عندي الصورة .
لقد اثريت معرفتي , باسلوب ادبي راق , فتقبل محبتي وتقديري واعجابي
اخوكم
السمان
شكراً للأديب الدكتور محمد حسن السمان على هذا التعليق الجميل، مع موداتي، ورمضان كريم، وكل عام وأنتم بخير.
د. حسين علي محمد
07-10-2006, 10:44 PM
الأديب والناقد الكبير / أ.د. حسين علي محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أشكرك أستاذنا الكبير على هذا الموضوع ، ولعل الكثيرون لا يعلمون شيئا عن هذا الأديب المتفرد ، ولقد كنت محظوظاً ان قرات لهذا العملاق أكثر من عمل ، " مخلوقات براد الشاي المغلي " ،
" الكرة ورأس الرجل " ،وغيرها ، ولقد أسعدني الحظ بقراءة هذه الروائع في مجلات قديمة لا أذكر اسمها الآن ، ولكني احضرتها من سور الأزبكية ( وقت ان كان موجوداً ) وكانت استفادتي عظيمة من تلك القصص ؛ فما زالت تفاصيلها محفورة في ذاكرتي حتى الآن ، وكنا نقول عنه أنه أستاذ ما يعرف بـ ( تيار تشييء الإنسان ، وأنسنة الأشياء ) ربما تكون هذه التسمية غير دقيقة ولكنها كانت تعبر عن اميز ما قرات لهذا العملاق ، وبلا شك فقد استفدت من كتاباته ، واحياناً أجده داخل بعض اعمالي المتواضعة .
أشكرك جداً لالقائك الضوء على هذا الأديب المتفرد وروائعه العظيمة .
تقبل تقديري واحترامي .
شكراً للأديب الأستاذ حسام القاضي على هذا التعليق الجميل، عن صديقي القديم القاص محمد حافظ رجب، الذي نشرت له في دار آتون "مخلوقات براد الشاي المغلي" مع مقدمة لي عام (1980م). مع موداتي، ورمضان كريم، وكل عام وأنتم بخير.
د. حسين علي محمد
07-10-2006, 11:23 PM
يوميات بائع الفستق
بقلم: محمد محمود عبد الرازق
...................................
تستطيع أن تٌلقي الموهبة وسط أي بيئة، وتحت أي ظرف، بالإرادة وحدها تعبر عن نفسها، قاهرة كل الصعاب، ولا شك أن والد محمد حافظ رجب كان عصاميا لا يرضى بالواقع، ربما ورث محمد الرضا بالواقع عن أبيه، وإن اختلفت بهما السبل، كان الأب يسعى إلى تحسين حالته المالية دائما، انتقل من بيع الجرائد إلى بيع المحمصات، ثم قاده طموحه إلى فتح مطعم للفول يؤمه الفعلة غالبا، أما الابن فكان يتطلع إلى شيء آخر، ونحن نميل إلى أن الأب وضع بذرة هذا الشيء الآخر فيه أيضا، فلكاتبنا ثلاثة أخوة غير أشقاء، أدركتهم حرفة الأدب: الكاتب المسرحي السيد حافظ، ورمضان الذي يكتب المقال أحياناً، وعادل المهتم بالدراسات التاريخية، لكنهما لم ينالا حظ السيد، الذي لم ينل شهرة محمد، ورغم فقر الوالد أصر على تعليم أبنائه جميعا، ولم يستطع محمد الحصول على غير الابتدائية لنزعة التمرد فيه، وربما كانت هذه النزعة وراء تفوقه على أخوته وكثير من كتاب القصة أقرانه، وأراد أباه أن يحصنه فزوجه صغيرا، ولم يكن يدري أن هذا الزواج سينقلب وبالا عليه، أما قسوة الأب فكانت هي أسلوب العصر عند كثير من الأسر خاصة غير المستنيرة، وإن زادت في بعضها عن حدها.
أنه تفهم الوضع بالنسبة لأبيه بعد أن صار جدا، وعرف طريق الزاهدين، ذكر لي أنه كان يحب أباه ويكرهه لأنه كان يضربه بقسوة .. الآن .. التمس له العذر .. كان عنده حق .. ابنه شاذ .. الشذوذ ـ عنده ـ ألا تهتم بعالمه، وعالمه هو العمل، غير مسموح لك أن تفكر في شيء غيره أو بعده، كان يريد أن يكون ذراعه اليمين، لكن محمد أصر على أن يبتر له ذراعه دون أن يشعر بذلك، وإذا كان تفهم الأمر بالنسبة لأبيه، فما زال يناصب السلطات الأبوية الأخرى العداء، موقفه من يوسف السباعي لم يتغير، وكان السباعي بندقية بروحين، فهو المسئول عنه وظيفيا، وهو أحد ممثلي السلطة الثقافية، ورغم أنه كان مسئولا وظيفيا عالي الهامة، لا يستطيع أن يصل إليه أحد بسهولة، فإنه يحمله وزر كل ما حدث له في الوظيفة، أما نحن فنشعر بعكس ذلك، وبأنه كان يقف إلى جانبه ضد تصورات رؤسائه الكبار، متفهما موهبته التي تميزه عنهم، وإن اصطبغ ذلك بصبغة تأنيبه، ثمة وقائع دالة وإن حكاها محمد لإثبات عكس ما تشير إليه، يقول حافظ إنه نشر قصة: "الفارس" بمجلة: "الإذاعة"، وكانت مجلة مقروءة، وعندما عاد يوسف السباعي من الأسر السوري بعد الانفصال، أوقفنا مدير عام المجلس طابور التحية، كان رجلا عسكريا كمعظم الموظفين الكبار، أشار إليّ وقال للسباعي إنني كتبت قصة ضده، سألني السباعي:
ـ ماذا تقصه ؟.
ـ قصة ضد البيروقراطية.
ـ قال بدهشة.
ـ أيه ؟!!.
ـ البيروقراطية.
محمد حافظ ينطق الراء غينا، ويتحدث ببطء، أتخيل دهشة السباعي ومحمد ينطق الكلمة الأجنبية مرتين ببطئه المعهود:
ـ ألبي .. غُق .. غا .. طية ..
وأزعم أن السباعي اتخذ من هذه الطريقة مطية ليرضي الشاكي الذي لا يجرؤ على مناقشة قرار السباعي، ويهون من شأن الكاتب حتى لا يظهر بمظهر المحابي، وفي نفس الوقت لا يتهم بأنه منع كاتبا من التعبير عن رأيه، فأشار إلى محمد متصنعا الغضب والضيق قائلا:
ـ رح أكتب اللي أنت عايزه(1).
وأحسب أن محمد حافظ أطلق صيحة: "جيل بلا أساتذة" في وجه السلطتين الثقافية والسياسية، فبعد تأميم الصحافة وغيرها من دور النشر، تشبث المتعلقون بأهداب السلطة بمقاعدهم، واعتبروا أية محاولة للاقتراب منهم مزاحمة لهم، وكان لا يفصل محمد وأبناء جيله عنهم سوى بضع سنوات، ولنسمهم جيل الخمسينيات، ونضم إليهم جيل الأربعينيات وفلول من سبقوه، ولم يكن مصطلح الأجيال ظهر بعد، بكل ما اتسم به من حدة فاصلة باترة بين عقود الزمان، ارتمى اتباع النظام وخدامه على أعتاب السلطة القاهرة، ولم يعد يعنيهم إلا المحافظة على الكراسي، ودارت بينهم لعبة الكراسي بغير موسيقى، واتسمت بالشراسة والخداع، واشتهرت اللحظة بتآمر التلميذ على معلميه، وتضحية الولد بأبيه وأخيه، وما زلنا نذكر المؤامرة الكبرى الكريهة التي قضى فيها محمد حسنين هيكل على معلميه، وتربع على عرش الصحافة المصرية روحا طويلا من الزمن، ساحقا بأقدامه كل من تصادف مروره في طريقه، وما زالت آثار أقدامه باقية، وما زال معاونوه ينتشرون في كل مكان، ويقضون على أي موهبة، وإلى الآن لم تستطع الصحافة المؤممة التي يسمونها الصحافة القومية، أن تبرز عبقرية، أو تظهر نابغة، أو تتيح الفرصة لموهبة.
الجيل الذي أصبح يسمى جيل الستينيات كان ما زال يتلمس طريقه عند قيام الحركة المباركة التي كان معظمه ما زال في المدارس الثانوية، في حين كان الجيل الذي سبقه على أعتاب التخرج من الجامعة إن كانوا دخلوها، وكان جيل الستينيات يتوقع أن يقابل بالترحاب كما اعتاد أن يسمع ويقرأ عن الأجيال السابقة، فهو يعلم كيف استقبل الوزير علي مبارك التلميذ مصطفى كامل، ويحفظ أسماء من مهدوا الطريق لطه حسين وغيره، كانت الأشجار الباسقة تستقبل البراعم والزهور في حدائقها انتصارا للوطن، أو حتى تحقيقا للربح، كانوا رجالا يؤمنون برسالتهم، وظلت هذه الظاهرة حتى قيام الثورة البيضاء !..، إحسان عبد القدوس احتضن مجموعة كبيرة من أصحاب القلم والفرشاة، وتنكر له معظمهم بعد تكميم الأفواه، حفاظا على عروشهم في الدور المؤممة، بعيدا عن الصحافة كانت عمليات الاحتضان والتفريخ تتم ـ أيضا ـ عن طريق الأحزاب والهامات المؤمنة بالله والوطن، تغير الوضع منذ إلغاء الأحزاب واحتكار العسكر للوطنية والعمل السياسي، وحين صد الكبار المواهب الشابة عن سبيلهم، أصر الصغار على طرق أبوابهم حتى كلت أيديهم، وتنبهوا إلى الواقع الممرور فقرروا السير وحدهم.
ويعبر الدسوقي فهمي عن معاناتهم في المقدمة التي كتبها لأعماله بمجموعة: "عيش وملح" ووقعها باسم زميلهم محمد جاد فيقول: ".. وأفقنا على أكوام الورق وزجاجات الحبر، والدم الذي نزفناه، والليالي التي فاتت مثقلة بأعلامنا وبأمل من نعبر عنهم، وقيل لنا اطرقوا الأبواب وفعلنا، ولكن لم يسمعوا، لحظتها ظننا أنه ربما قد تكون قد أخذتهم تعسيلة، أو ربما كان "وابورهم" والعا: فقلنا نسترح ثم نعاود الطرق، ولكننا لم نسترح، وإنما وجدناها فرصة لمزيد من العمل، ففكرنا في أن نيأس، فلم نملك حتى ذلك أيضا، وعدنا ندق الأبواب بأيدينا وأرجلنا، وكانوا قد أعطوا وابورهم نفسا، ولم نحتمل وشَّه، فوضعنا الذوق جانبا، ودخلنا الجامع بالأحذية ودنسنا بلاط صاحبة الجلالة بأقدامنا الريفية، وابتسموا لنا في طيبة ورتبوا علينا، قلنا في أنفسنا هؤلاء هم الأساتذة حقا فلنتعلم، إلا أن واحدا منهم قال: اذكروا دائما أن من الناس من أفنى عمره يطلب ودي فما قبلت، وأرى أنكم تدخلون قلبي بسهولة، ولا أستبعد أن يصبحوا أصدقائي، وهي غاية في حد ذاتها، فلتكافحوا من أجلها، ودعوا القصص جانبا، فما أصبح الفن والأدب بما يلهو به العيال بعد.
وفي حوار أجراه علي عوض الله كرار لم ينشر بعد(2) يقول محمد حافظ رجب: نحن حين دهسنا بلاط صاحبة الجلالة، وقوبلنا بوجوه وملامح كرتونية، كدنا أن نستسلم لهم كالأطفال واقعين في غرامهم، جاعلين ـ عن طيب خاطر ـ منهم أساتذتنا، هذا ما حدثنا به أنفسنا، لكن النسخة الفيلمية الثرثارة التي شاء حظنا أن نستمع إلى نصائحها للنهاية، كرهتنا فيها وفيهم، شممنا رائحة غراء للكاتب في أفواههم. أحسسنا أنهم ضفة، ونحن ضفة أخرى. ضفتان لا يلتقيان، لكن قدرهما أنهما يصنعان المجرى والتيار والنسمة الطرية، بدونهم نتحول إلى مستنقع أو في أحسن الأحوال بحيرة جميلة، وكذا نعلم ـ بالحس ـ أنهم بدوننا أيضا يتلاشون، بتلاشينا يتلاشى النهر فيتلاشون هم تبعا لذلك، نحن قدر السلطة وهم قدرنا، مياههم تطردها حرارة أجسامنا إلى حرارة شمس السماء لتسقطها نهرا أو بحرا أو بحيرة، نكتب على نسماتها الطرية قصصنا، لكن هذا لن يحدث إلا مع قدوم اليوتوبيا المستحيلة وزوال الأيام الكوبيا الثقيلة.
ويتسق ذلك مع تصريحه لعبد الله هاشم قبلا عندما سأله عن أسباب إطلاق صيحته: فقال إنها كانت احتجاجا على وجود الملايين في الصف، وهذا يعني تشابه كل الناس في لعبة الخضوع للحاكم الأوحد، وركبت الأجيال السابقة الموجة، ولم تتح لغيرها فرصة التواجد، "واكتفت بالابتسامة أمام الجدد، والتظاهر برعايتهم وكتابة بعض المقدمات لمجموعاتهم القصصية"(3) وأزعم أن الدكتور شكري عياد لم يكن محيطا بهذه الأبعاد عندما تحمس للرد عليه في جريدة "الجمهورية"، وما كان بمكنته أن يحيط بها، وما كان بمكنة محمد حافظ أن يصرح بأكثر مما صرح به وقتها، ومن ثم دخل محمد شكري عياد "المكلمة" الرسمية متسلحا بأسلحتها القديمة "البالية"(4).
وفي الأيام الأولى للانقلاب العسكري كان محمد حافظ رجب من أوائل الذين وقفوا في محطة الرمل لتحية قادته، يذكر أنه اشترى ورودا ونثرها عليهم أثناء مرورهم، وقبل أزمة مارس 1954م زار جمال عبد الناصر كلية الآداب جامعة الإسكندرية، كان وقتها وزيرا للداخلية، قاطع الشيوعيون والأخوان المسلمون خطابه بشعارات استفزازية ترفض "النقطة الرابعة"(5)، وتطالب بعودة الحريات، وكان متولي السلماوي الطالب بكلية الآداب ـ والأستاذ بذات الكلية الآن ـ يقود الشيوعيين، وأراد محمد حافظ أن يفعل شيئا وسط هذا الجو العدائي، فكان يمر على الجبهتين "صائحا: دول رجال ثورة حقيقية .. وعلينا أن نقف بجوارهم"، لكن خطابه لم يصل إلى آذانهم، وحين توجه عبد الناصر إلى سيارته لكزه محمد حافظ في كتفه طالبا مصافحته، وامتدت عشرات الأيدي بعده، ونشرت "آخر ساعة" لقطة لهذا المشهد، بعنوان: "الشباب يعاهدون ..".
يقول محمد حافظ للمترجم الأديب سمير أبو الفتوح "إنه تنبه للخدعة في القاهرة، وكان سعيدا، ولهزيمة المارد المسيطر علينا أمام العالم كله عام 1967"(6)، الشيخ محمد متولي الشعراوي صرح بتصريح مشابه، لكني لا أصدقهما، فالوطني الذي يفرح بهزيمة الحاكم المستبد، يشعر بالمرارة ـ في ذات اللحظة ـ لهزيمة الوطن، لكن اللغة لم تتهيأ بعد للتعبير عن العلميات النفسية المركبة .. عن الفرح والحزن المنصهرين معا. في أواخر عام 1967م تعرضت لهذا الحزن في قصة بعنوان: "ديدان الجرح الغائر"، وكان همي إيضاح أن المهزومين ليسوا أبناء الوطن المخلصين، أثناء الانسحاب، شاهد ثلاثة من المرهقين بينهم جريح، سيارة ودراجتين بخاريتين، اكتشفوا أنها عربة تموين. انطلق أحدهم بإحدى الدراجتين بعد أن حملها بما اتسعت له من العلب، وسار في غير طريق العودة، أراد موريس الجريح أن يقول إنه طريق العودة: "لم يكمل موريس عبارته .. ابتلع بقيتها كما يبتلع سجين أيدي رغبة تداعب أحلامه، استقرت جمرات القهر في جوفه وهو يتطلع إلى الأفق مقيما وراءه واقعا جديدا، بل إنه .. طريق العودة .. قلها يا موريس ولا تخجل .. لسنا نحن الذين هزمنا .. الخونة هم الذين هزموا .. الجهلاء هم الذين هزموا .. المخادعون هم الذين هزموا .. الكذابون هم الذين هزموا .. المغرورون هم الذين هزموا .. بكل ثقل الرحلة قلها ولا تخجل .."، وفي لقطة أخرى: "كان عظيما، لم تخرب الرحلة روحه، تذكرناهم ونحن نأكل .. أولئك الذين ما زالوا يقطعون جوعي صحراء بلا حدود، لكن علي حتما كان يتذكر ويفكر بطريقة غير طريقتنا .. لم تستطع الرحلة بكل جبروتها أن تغرس في لحمه شوكها الصحراوي النهم، عاد مرات .. يتزود بمؤونة جديدة وينطلق يوزع الرحمة على فلول جيش لم يتح له الخونة والجهلاء والمخادعون والكذابون والمغرورون أن يشترك في معركة.
قال موريس:
ـ كيف لم نفكر في هذا !!.
قلت كالتائه:
ـ جاءت الفكرة لمن نفذها(7).
^ ^ ^
محل الميلاد: الحقيقي محطة الرمل .. واقعة الميلاد: في "الباب الجديد"، كان يتبع وقتها حي كرموز، الآن يتبع محرم بك.
تاريخ الميلاد: السادس من الشعر السابع من العام الخامس والثلاثين من القرن الماضي.
ظلت الأسرة تداعب "غربال" بعدة نقلات في اتجاهه طيلة خمس سنوات إلى أن استقرت به، مكان غريب مثير للدهشة يسيطر عليه الغجر بقيادة زعيمهم سلامة، معظم بيوتهم من الصفيح، ودارت معظم روايات مصطفى نصر في هذه المنقطة، وتذهب رواية: "جبل ناعسة" إلى أن جامعي القمامة اتخذوا من غربال موطنا لهم ومستودعا لبضاعتهم، تحده ترعة المحمودية، ويفصله عن كرموز شارع راغب الذي يقيم جامعو القمامة خلفه، ولا يبعد "جبل ناعسة" كثيرا عن هذا الشارع، وهو منطقة مرتفعة قليلا، وذكر بالرواية أن المرأة التي يسمى الجبل باسمها ما زالت على قيد الحياة، وهي امرأة غجرية، تسكن كوخا من الخشب وتسرح ببعض الأغنام(.
ويذكر عبد العليم القباني أن أباه نزح من "مطوبس" إلى كرموز، وافتتح دكانا لتفصيل الملابس البلدية في منتصف شارع "باب سدرة"، ويعتبر أهم شارع بالمنطقة، ويقوم بنيانه الاجتماعي على دعامتين من حيث السكان، الدعامة الأولى: طائفة أبناء البلد وبجانبهم بعض الوافدين من أبناء الوجه البحري ويقومون بأعمال صناعية وتجارية شتى، وتقوم الدعامة الثانية: على الوافدين من أبناء الصعيد الذين يتكتلون في مجموعات كل منها ينتسب إلى بلدة بالصعيد، وقد كانوا هنا ينتسبون إلى أسيوط وإلى مركز منفلوط في الأغلب ويعملون أو يعمل أكثرهم في الصناعات اللازمة لتصدير القطن من حلج وكبس وفرفرة وغيرها، والانسجام بين هذين الطرفين لم يكن تاما، ولهذا ظهرت التكتلات القبلية عند أبناء الصعيد إزاء بعض النثيرات الصغيرة من الطرف الآخر، وضخمها الإحساس بالذات عند بعض الفريقين، ويذكر من تكتلات أبناء الصعيد ـ على سبيل المثال ـ أبناء ريفا وموشل بكرموز، وبني كلب (الكلابوة) والشوكة بباب سدرة، وابنوب بالفراهدة، ـ وهؤلاء من مديرية أسيوط ـ والصوامعة بالسنوسي واللبان، والعرابة بالعطارين وجهينة بالقباري وهؤلاء من مديرية سوهاج، وشندويل والمراغة والجعافرة بالملاحة، وقامت هذه التكتلات في البداية لرد الأذى وصون الكرامة، وظل الأمر كذلك حتى خفت حدة تكتلات أولاد البلد والبحاروة، وارتفعت كفة تكتلات الصعايدة، وما لبثت النار أن اشتعلت بين التكتلات الصعيدية نفسها، وكان أن اهتدى البكباشي السيد عبد الرحمن ـ وهو صعيدي من برديس ـ إلى فكرة إنشاء "نادي الصيد العام"، وفي مقدمة أهدافه حل المشاكل بالتعاون بين الشرطة ورؤساء الصعايدة الذين اختارهم الناس تحت إشراف المحافظة، ومنح رئيس كل طائفة لقب عمدة، وكان لهذا اللقب سحره، فشعر المعلمون بالمسئولية أمام كبار رجال الدولة، وهدأت العاصفة واستمر النادي يؤدي رسالته سنوات وسنوات إلى أن هدأت النفوس وازداد الوعي فتحول بناء النادي إلى مستشفى(9).
من غربال تسرب الخيط الدرامي الدامي، وفي محطة الرمل تفتح البرعم، شاهد محمد حافظ رجب أفلام سينما ستراند(10) كلها، وكذلك سينما الهمبرا(11). توما خريستو وشركاه صاحب مصانع شيكولاتة "كورونا" كان يمتلك العديد من دور السينما، من بينها ستراند ورويال(12)، ومحمد علي(13)، كما كان يمتلك محلات "على كيفك" التي كانت تبيع السندوتشات والمشروبات وخاصة الحكولية، أسرت محدثي الرسوم المحركة. رأى في "توم آند جيري" ما لم يره من قبل، القط الأليف أصبح مخلوقا شريرا، والفأر الجبان القذر بحيله للخلاص أحببناه، عندما كبرت رأيت فيه الدول الصغيرة التي تعاني من بطش المستعمر، كان لهذه الأفلام "حدوتة" مكررة، جعلتها الإثارة الأمريكية زادا لا غنى عنه، وكانت تتنوع كتنوع الفول والطعمية والبصارة والأصل واحد.
كذلك كنت أستعير الصحف والمجلات والكتب من باعة الجرائد، أقرأها واقفا وأنا أبيع المحمصات، أحيانا أحمل كتابا معي وأعيده في الصباح، الناس هم منهلي العذب الرئيسي .. مدرستي الحقيقية، الناس العابرون، والناس المزروعون في المحطة: باعة الصحف ماسحو الأحذية، الجرسونات، أصحاب المحلات، الواد يورو الذي يعمل في محل "على كيفك" كان بيديلي الجيلاتي، كان بالمحل أيضا عمال شيوعيون، ومن العابرين ما زالت أذكر رجلا مصريا كان شكله آسيويا، وكان يأتي إلى المحطة ويضع سيجارته في مبسم طويل ويقرأ الجرائد الإنجليزية، سافر إلى أمريكا واستغل سحنته الآسيوية في الضحك على الأمريكان، كان يلبس ملابس الهنود الحمر ويبيع "إكسير الحياة" .. شوية ميه ملونة.
كنت أنتعش عندما تقوم المظاهرات، أشعر أن الدنيا حلوة، كل محال الخواجات كانت تداري أسماءها الإفرنجية.
يقف محمد حافظ رجب ببنيكته أمام سينما ستراند، أعتقد أن "البنيكة" تصغير "بنك" بالمصرية، قبل إنشاء البنوك أو المصارف كانت لفظة "بنك" تطلق ـ في العالم الغربي ـ على الحاجز الذي يتصدر واجهة المحل التجاري ويفصل بين صاحبه وعملائه، كان الزبون يضع النقود على البنك الخشبي أو المغطى بالزنك أو الرخام، وكان صاحب الدكان يعد له الباقي على ذات البنك، من أجل هذا سميت المصارف بنوكا، واستمر استمرار المعنيين معا، وربما يكونا انتقلا إلينا معا، والبنيكة هي الصندوق ذو الجدران الزجاجية الذي توضع فيه المحمصات، ويسرح به الباعة الجائلون أو يضعونه على حامل خفيف الوزن ليسهل حمله والانتقال به من مكان لآخر، ويحدثني محمد حافظ عن أبيه فيقول: إنه كان يبيع الجرائد في محطة الرمل، ثم تحول إلى بيع المحمصات بجوار سينما ستراند، وأنه أول من أدخل بيعها في المحطة كلها، ويسميها الناس "تسالي" بحكم طبيعة العلاقة بينها وبين البضاعة، هكذا يقول محدثي الذي لا يترك شيئا في حاله، أو في حالة سكونه، كان الناس يقضون لياليهم في المسامرة، وكان يلزم المسامرة زاد خفيف، وربما كان يلزم الفم إيقاع أيضا، فكان اللب وطرقعاته التي تتناغم مع الضحكات، وانضم إليه ـ حسب المقدرة ـ السوداني والفستق واللوز والبندق.
أنجب أبوه عشرة أبناء ماتوا جميعا ما عداه ـ كان ترتيبه الثالث رزق الأب بأبناء آخرين من سيدة أخرى ـ مكث محمد في مدرسة أحمد طلعت الأولية عاما، وفي مدرسة الكمال الأولية عاما، وحصل على الشهادة الابتدائية من مدرسة صلاح الدين بصعوبة، كان تلميذا خائبا في جميع المواد ما عدا الإنشاء.
في محطة الرمل كانت لي شعبية كبيرة ـ كما يقول ـ بين الغاديات الرائحات، كن يتجمعن إلى جواره، وكانت باكينام بنت فرغلي باشا تنزل من العربة الرولزرويس التي ظل أبوها يحتفظ بها طيلة حياته، فأنظر إليها وهي تدخل السينما، ويأتي أبوها بنفسه ليشتري لها اللوز والفستق، زيزي بنت نيازي باشا كانت في مدرسة داخلية، عرفت اسمها من مجلة "روز اليوسف" التي نشرت صورتها.
ـ أهلا زيزي هانم.
ابتسمت ..
ـ كيف عرفت اسمي ؟
ـ من روز اليوسف
ما زلت أذكر أظافرها الطويلة، ذات الطلاء الأحمر بلون شفتيها، وهي تلتقط من "بكها" الصغير نصف فرنك وتضعه في رائحة يدي. كان الملك فاروق تضوي صورته فوق العملة الفضية التي كانت تعمل غدوة معتبرة وقتها:
ـ خد
ـ ياخد عدونيك
تضحك
ـ بعدين يسمعوك
كان عندي قوة خارقة تجذب النساء، لكني لم أكن أعرف أن أتكلم، أعتقد أنها قوة شيطانية، استعيذ بالله منها الآن، كانت النسوان تسحب أزواجها للشراء مني .. وبنات شوارع أيضا، كنت أسبسب شعري، ضاق بي أبي فزوجني وعمري سبعة عشر عاما، لم تكن لي تجارب، كنت أهوى الجمال فقط، أتفرج طول اليوم على كعوب الغزلان، ثاني يوم أردت أن أطلقها، لا أعرف ماذا أعمل بها ؟، أفهمني أبي ماذا أفعل، كانت غلطة عمري التي ما زلت أندم عليها.
وإذا كان محمد حافظ يرى أنها قوة شيطانية، فإننا نرى أنها خيال شاعر، وعلى أية حال لا يوجد فرق بين عرائس الأولمب وشياطين وادي عبقر.
وكان ضابط المحطة أيضا من معارفه، وإذا كان أحد الضباط اقتلعه منها، فإن ضابطا آخر أنقذه من تهمة سياسية، وثالث عينه في مصنع "نادلر" للحلويات الذي كان يمتلكه والد زوجة الدكتور بطرس غالي، وكان من الوجوه المصرية اليهودية الشهيرة. كان الملك محمد الخامس أسيرا لدى فرنسا، وكانت الصحف المصرية تتحدث عما يلاقيه من إهانات، كتب محمد حافظ عام 1949م وعمره 14 عاما خطابا إلى مجلة "أمريكا"، كان يشعر أن فرنسا تسير في ركابها، ضمن خطابه ذلك، وأنهاه بقوله: "وداعا يا أمريكا، أيتها الحمقاء المطاعة"، بعدها بأيام طلب منه عسكري أن يتوجه معه إلى نقطة شريف بجوار كلوب محمد علي (قصر ثقافة الحرية الآن)، أراد أن يضع البنكية في أحد المحلات، طلب منه العسكري أن يحملها معه، أخذ ينقلها من يد إلى الأخرى حتى كلت يداه ووصل منهكا إلى النقطة، دخل على ضابط القلم السياسي، يبدو أنه تعاطف معه فلم يشأ أن يعطي القضية صبغة سياسية، نبه عليه أن يبحث له عن مكان آخر لأن محطة الرمل لا تصلح للسياسة، واصطحبه إلى ضابط المباحث الجنائية الذي ما زال يذكر اسمه، قابلة بأبشع السباب، واتهمه بأنه نشال يتخفى وراء البنكية، قلت لمحمد حافظ أن هذا الضابط أحيل إلى التقاعد برتبة لواء بعد أن شيد عدة عمارات فخمة بالإسكندرية، وتوفي في الثمانينات إثر سقوط مصعد إحدى عماراته به في بئره، يدهش محمد، ثم تهدأ تعبيرات الدهشة، وتتداخل مع تعبيرات السكينة حتى تمحها.
انتشله الضابط الذي اصطحبه من بين أنياب الضابط الآخر، قائلا:
ـ يا ابني دي مصر لازم تفخر بيك
وكأنه يوجه كلامه للآخر.
ـ تفخر إن فيها بياع بيكتب بالشكل ده.
يشك محمد حافظ في أنه صادق النية، صدقته وقتها، لكن مرور الأيام علمني الكثير، يبدو أنهم يجيدون عملية البسترة، الغلي لأعلى درجة، ثم التبريد لأدني درجة للتخلص من البكتريا، والسياسة عندهم هي البكتريا الضارة.
عام 1954م بقرت بطن محطة الرمل لتشييد الأنفاق التي تجري من تحتها، ازدحمت الأرصفة وتعثرت حركة المرور، حدث أن ضابطا كان يشتري منه وهو يخاطب ضابطا آخر، لاحظ أن الناس يصطدمون به:
ـ أنت مش شايف أنك مزاحم الطريق ؟.
ـ أنت اللي زاحمه بوقفتك.
بهدوء تركه وبهدوء ـ لابد ـ توجه إلى النقطة، وأرسل إليه قوة اقتلعته من المحطة.
الضابط الذي ألحقه بشركة "نادلر" كان من ضباط بوليس الأجانب، كان الجميع يقولون له: يا بيه، وكنت أقول له: يا عزيزي، وأتباهى بذلك أمام الباعة الذين نقلوا كلامي إليه فعاتبني .. قلت:
ـ يا بيه دي .. نزلت في آية ؟
الرجل أجنبي.
في المصنع اشتغلت في جر العربات التي تحمل صناديق السكر وغيرها، وكان معظم الرؤساء من اليهود، وكانوا يكرهون بعضهم البعض، وكان المصريون يقلبون القباقيب حتى تستمر مشاداتهم، أحسست بالإرهاق فرحت لطبيب المصنع:
ـ عندك أيه ؟
ـ تعبان
ـ أنت بتدلع
ـ اكتب لي دوا
بعد انتهاء المناوشات، كتب لي يوما أجازة، ففصلوني.
^ ^ ^
أنشأنا رابطة "أدباء القطر المصري" ونحن مازلنا صبية، لا أذكر التاريخ، كان رئيس الرابطة صبي مصوراتي اسمه زكريا محمد عيسى، أصبح ـ فيما بعد ـ أمين الاتحاد الاشتراكي في محطة الرمل، ثم أمينا للحزب الوطني بنفس المنطقة، وكنت سكرتير الرابطة، من أعضائها الذين مازلت أذكرهم: أمين الصندوق صبحي محمد إبراهيم وكان صبيا في دكان الحلبي بياع الهريسة بجوار سينما ستراند، وإبراهيم العدوي بائع عصير في محل "على كيفك"، ورضوان محمد رضوان خادم في فندق، وجابر المراغي عامل نظافة بشوارع المحطة، وكتب عدة أغنيات أذاعتها له إذاعة الإسكندرية، وحين جُند زكريا سلمني الختم وتوليت قيادة الرابطة، راسلنا الصحف فاعتقدت أننا رابطة بصحيح واستجابت لنا، كنت وقتها أكتب قصصا عن الزنوج، التعبير عن مجتمع غير مجتمعك يشير إلى الانفصام عن الواقع، لا أميل إلى رأي محدثي، فالتعبير عن المضطهدين في أي مكان يشير إلى إرادة التغيير الكامنة داخل المبدع، كما يشير إلى احتضانه العالم كله لتوحد قضية الإنسان.
اتصلت بلطفي الخولي الذي كان يحرر باب "الطبقة العاملة" بجريدة "المساء" أرسلت له قصصا قصيرة جدا لا يتجاوز حجمها صفحة فلوسكاب، كما كنت أكتب في مجلة: "الفن" لعبد الشافي القشاش كل أسبوع تحت عنوان: "كتاب وثوار"، وراسلت مجلة: "القصة" التي كان يصدرها يس سراج الدين، ونشرت فيها حوالي ست أو سبع قصص، كانت أولاها بعنوان: "الجلباب"، وكان حكاها لي خال أخوتي عن عامل في مصنع تمزق جلبابه الذي لا يملك غيره، وكنت أرسل قصصي لإذاعة الإسكندرية، ومحطة الشرق الأدنى للإذاعة البريطانية، أول قصة أذاعتها إسكندرية كانت بعنوان: "رسالة إلى الله"، أحدثت هذه القصة مشكلة مع يوسف عز الدين عيسى، قصة طفلة فقيرة، والدها على سرير المرض، أرسلت خطابا إلى الله: عشان خاطري تبعت لنا الدوا، وكيل البوستة فتح الجواب، اقترح عليه طبيب صحة البلدة أن يقوموا بتلبية النداء، عند خروجهم من منزل الأسرة قالت الطفلة: من فضلكم ما تنسوش تسلموا على ربّنا، وتقولوا له أنا متشكرة قوي على اهتمامه بالجواب بتاعي، يوسف عز الدين عيسى أدعى أني سرقتها منه، هددني بإبلاغ النيابة قدام علي نور الذي كان يعمل بالإذاعة، ونشرت جريدة "القاهرة" التي كان يرأس تحريرها حافظ محمود الاتهام تحت عناوين مثيرة لكاتبة اسمها مريم خالد: بائع بمحطة الرمل لديه نزعة أدبية يسرق قصة يوسف عز الدين عيسى.
من كثرة القراءة تراءى لي أن الله ليس حقا !! .. يقهقه: أصبحت ملحدا .. أصل القراءة بتبوظ المخ، اعتنقت الشيوعية عن طريق الذين يهاجمونها، كانوا يذكرون مبادئها للهجوم عليها فتعلقت بها، قرأت كثيرا من الكتب التي يتداولها الشيوعيون، وضعت بعضها في الفاترينة، لا للبيع وإنما لملء الفراغ، كنت استأجرت فاترينة سجاير في قهوة فانجيلي بشارع صفية زغلول في وش سوق المسلة، كان صاحب الفاترينة يوناني لديه محل لبيع السجاير، كنت أدفع لصاحب الفاترينة وصاحب القهوة حتى ضاقت بي السبل، في القهوة كونت رابطة "كتاب الطليعة" عام 1956م، كان من بين أعضائها علي شلش، وعباس محمد عباس، ومحسن الخياط، ورجب البنا، ومحمد خاطر السيد ـ في السويد الآن ـ بياع متجول كان يمر على المصالح الحكومية لبيع الجوارب والمناديل، وأحمد حسين عطا الله شاعر وطالب بالمعهد الديني، وفي مرة جاءني صبي القهوة وقال لي:
__ إيه الحكاية .. القهوة مرشقة مخبرين !!
كان التحاق بالمخابرات أثناء تأديته الخدمة العسكرية، فكانت حاسته أكثر استجابة منا بطبيعة الحال. لم يمض وقت طويل وطلبني ممدوح سالم، كان يعمل في قسم مكافحة الشيوعية بالإسكندرية. أوقفوني في الخارج لفترة طويلة. عملية الإذلال التي تعرفها. أدخلوني على بعض الضباط. قال ممدوح سالم:
ـ بتحب مين من الكتاب؟
ـ مكسيم جوركي
ـ من المصريين ؟
ـ الخميسي ويوسف إدريس
ـ ليه ..؟
ـ بيكتبوا عن الفقراء ..
ـ مفيش حد بيحرجم عليك من الشيوعيين ؟
ـ مفيش حد يقدر يلفني .. وأصدقائي لازم تعتزوا بيهم.
ـ زي مين ..؟
ذكرت لهم اسم بائع المناديل والشربات واسم طالب المعهد الديني .. انفجروا ضاحكين.
المهم فرشت لهم أوراقي كلها، فعزم علي ممدوح سالم بسيجارة، قلت له إني لا أدخن هذه الأنواع، أنا بدخن م التانية، فهم أني أعني الأنواع الرديئة فابتسم وأشعل لي السيجارة وهو يقول:
ـ إذا حد حاول يتصل بك بلغني ..
واتصلت وصديقي عباس محمد عباس بعادل حسونة ابن الدكتور حسونة حسين، ويذكر علي عوض الله كرار أنه طبيب أسنان من مؤسسي الحزب الشيوعي المصري عام 1924م، وأنه انضم إلى منظمة العصبة الماركسية في الأربعينيات، وفي عام 1956م كوّن مع فوزي جرجس حزب "طليعة الشعب الديمقراطية"(14) التي انضم إليها محمد حافظ وصحبه، وعرفاهما على المسئول باسمه الحركي، يقول محمد حافظ إنه كان موظفا بالمحافظة قصير القامة أسمر اللون، ويذهب علي عوض الله كرار إلى أن هذه الصفات تنطبق على سيد حسن عضو حزب التجمع الذي يكتب أحيانا بجريدة "الأهالي"، وكان أول اجتماع لهم بحدائق النزهة، وهي حدائق رحبة آمنة تضم حديقة "أنطونيادس" و"حديقة الحيوان" ومروج خضراء واسعة أخرى، ورغم هذه الاحتياطات الأمنية، جاء علي شلش إلى المقهى بعد ما يقرب من أسبوع، وقال لي: أنت أصبحت عضوا في تنظيم ماركس، فكفرت بالتنظيمات المحترقة، ولم أكمل المسيرة، وإن ظللت مناصر للشيوعية.
وصل محمود أمين العالم لإلقاء محاضرة بكلية الطب، اصطحبوه إلى القهوة لمواصلة الحديث، كان من بين الملتفين حوله محسن الخياط، وأحمد البكار، وينقل علي عوض الله كرار فقار من شهادتي رمسيس لبيب ومحمد علي فخري نقلا عن كتاب: "الحركة الشيوعية في مصر"(15) جاء بها أن أحمد حسين البكار كان طالبا بكلية الحقوق جامعة الإسكندرية وعضوا قياديا في منظمة "طليعة الشعب الديمقراطية" ثم "الطليعة الشيوعية" وكان قبل ذلك عضوا في "نحو حزب شيوعي مصري"، وهو من مواليد كوم الدكة، وكان والده يمتلك محلا لبيع الثلج في ذات الحي، وساهم أحمد في الحركة الفدائية بالقنال، وكوّن بحي كوم الدكة لجنة للمقاومة الشعبية، ويقول محمد حافظ أنهم تناولوا أدق أسرار الحركة الشيوعية، وكادت دماغي تطق وهم يتناقشون كل ما هو سري وخاص في مقهى عام، كنت أفهم كل ما يقولون، لكني لا أعرف كيف أعيده .. عبارات ضخمة فخمة مثل عبارات الاتحاد الاشتراكي فيما بعد.
لكن أمين ريان له رأي آخر، تعرف عليه عن طريق المجلس الأعلى للفنون والآداب، كانوا مجموعة من الشباب الضائع الذي يبحث عن خرم إبرة، هكذا يقول أمين ريان، كنا نتردد على دور الصحف والمجلات والمجلس الأعلى، كانوا يعرفونني في "روز اليوسف" لأني كنت نشرت "حافة الليل" و"المعركة"، لكنهم لم ينشروا لي شيئا، المصيبة أن السباعي جاء به إلى القاهرة، خلع الكاتب العبقري من جذوره ليقضي عليه في القاهرة، لم يستطع أن ينشر ما يريد، كان يطبع بضع نسخ على البالوظة ويوزعها على الكتاب، يضع الصبح الدوسيهات على المكاتب، وفي نهاية اليوم يلمها ويسلمها للأرشيف، كان يقول لي:
ـ شف أنا انتهيت إلى أيه ؟
قاسى كثيرا .. الوحيد الذي حصل على شهادة في عائلته .. والفقير إلى أدنى موهبة، كان ينظر إليه شزرا، ربما خرجت صيحة: "جيل بلا أساتذة" من داخل هذا الحصار، كان ثمة أساتذة للجيل السابق: أمين الخولي ومندور .. ومصطفى عبد اللطيف السحرتي طبع ديوان كامل أمين على نفقته، كان لمحمد حافظ رجب نظارة سوداء باغة على ما أعتقد تلعب عيناه من ورائها، وأسنان متفرقة الموجود منها كعدمه، يحرك إصبعه عند الحديث بإشارات هي عبارات غير منطوقة، ولم يكن ذهنه يتسع للأيديولجي، تصور واحد داخل يعمل عملية خطيرة وتكلمه عن فن تربية العصافير !! .. الأيديولجيات ترف بالنسبة إليه(16).
^ ^ ^
(يتبع)
د. حسين علي محمد
08-10-2006, 02:02 AM
أرسلت نداءً إلى لطفي الخولي للعمل، فنشره، كان النداء موجها إلى الاتحاد العام للعمال، وعدة وزارات من بينها وزارة التربية والتعليم، كان المجلس الأعلى للفنون والآداب يخضع لمملكة كمال الدين حسين، فأحال النداء إلى يوسف السباعي، الذي أرسل لي مدير مكتبه صلاح عبد المتجلي إلى باب بيتي بغربال، قابلني السباعي في فندق سان استيفانو عام 1957م، ناقشني في صعوبة إيجاد عمل، ثم سألني عن الأجر الذي أريده، كنت أكسب ثلاثين قرشا، قلت: ثلاثين، طلب مني الحضور في شهر أكتوبر، وشغلني بعشرة جنيهات، يا ليتني قلت له: خمسين. كان أبي افتتح ـ مع آخر ـ محلا للفول والفلافل بشارع شكور في ظهر محطة الرمل .. شارع جانبي ضيق، انتزعت من وسط الجمال والعطر والأضواء إلى تحرش الجدران ومزاحمة الفعلة ورائحة الثوم والبصل ودق عجينة الفلافل، أخبرت أبي أني سأعمل موظفا، لمّ على المعلمين، وقال لهم: أنا هنغنغه، لم يستطيعوا إثنائي، في القاهرة عرفني الشيوعيون بعامل اسمه نجاتي لأبيت عنده في باب الفتوح، سمعت أمه تقول له:
ـ يمكن يكون حرامي !.
قدمت استقالتي في ثالث يوم، عدت لأبي فطردني، قلت له إنني تركت مكتبا عليه تليفون، توسط أهل الخير قبل أن أدق الفلافل في الجرن، ومنعني من الأكل بدون فلوس، بعد فترة .. رحمني من الجرن. واشتغلت جرسونا، كان قويا، حين كتفني وضربني علقة سيحت دمي، قلت في عقلي: السباعي أرحم، عند موت أبي قدمت استقالتي وعدت أعمل في الدكان.
كنت معينا بالمجلس الأعلى بقرار من مجلس الوزراء، عندما تلكأ يوسف السباعي في إعادتي أرسلت عدة خطابات للصحف فلم تأت بنتيجة، أضربت عن الطعام في منزلي، لم يتصل بي غير عبد المنعم السويفي مدير مكتب جريدة "الجمهورية" بالإسكندرية وقتها، شربني زجاجة كازوزة لإنهاء الإضراب، أمي كانت منفصلة عن أبي، جابت لي بطاطا من محطة مصر بالإسكندرية، قابلت نجيب محفوظ وباكثير وكامل الشناوي ولا فائدة، رحت المجلس فقال لي سكرتير السباعي:
ـ مبروك.
كان السباعي أصدر قرار بعودتي إلى عملي ..
وبدأت مرحلة القاهرة، عينت سكرتيرا للجنة النشر، كان مقرر اللجنة مهدي علام، ومن بين أعضائها: نجيب محفوظ وعبد القادر القط وعبد الحليم عبد الله، وكان على اتصال بهم لأخبارهم بمواعيد الاجتماعات .. كنت أقول للدكتور مهدي علام:
ـ والنبي ما تنساش تبقى تيجي.
وتلك عبارة يستعملها محمد حافظ عندما يريد أن يكون في منتهى الرقة مع محدثيه، في قصة "رسالة إلى الله" قالت الطفلة: "من فضلكم ما تنسوش تسلموا لي على ربنا"، لكن مهدي علام اعتبر ذلك انحرافا عن القواعد، وأبلغ السباعي الذي أمر بنقله إلى الأرشيف، كنت أُعد البوستة وأقيدها وأعرضها على صلاح عبد المتجلي الذي كان يرهقني في العمل.
لما رجعت سكنت في إمبابة في بيت أم حميدة، كان لها بنتان، في المرة الأخيرة قعدت عند صبحي الشاروني في الجيزة، في هذه الفترة بدأ التحول الخطير في حياتي، في الليل يأتي من يكلمني، عملت ذنب كبير .. إثم عظيم .. كان يقول إن الناس اللي عاملتهم معاملة وحشة سيعاقبون .. لا .. لا .. ليس أي حد .. أنا لا يكلمني إلا الله، قعدت على رصيف جامع بميدان الجيزة .. جامع السنية، جاء من يقول لي:
ـ خش .. قم خش
لما دخلت .. وجدت تفاحا وبلحا وفواكه أخرى، أكلت .. رحت السيدة زينب .. زحفت على بطني .. سمعت جوه الجامع من يقول لي:
ـ هعجبك .. هعجبك .. خش ..
لا يمكن يكون جِن ..
ما يقدرش ..
أنا أجننه ..
لا أعرف إن كان زحفي حقيقة أم خيالا .. لابد أنه كان حقيقة، بالإثم العظيم ما زلت أدمر حياة آخرين .. لم أكف عن التحدي .. كنت أدور في شوارع القاهرة حتى الثالثة صباحا، أنا وكمبارس كان يعمل معي في المجلس الأعلى .. موظف لكنه كان يقوم ببعض أدوار الكومبارس في التلفزيون، كنت مطاردا مطاردة أبدية من الإثم العظيم، سكنت فوق سطح في العجوزة، ابتديت أعرف الكتابة الجديدة، بقيت أشوف صور وعملوا لي عملية فتح بطن .. ولقيت دم.
عرضت الكتابة الجديدة على طه المتبولي زميلي في المجلس كان يعمل سكرتيرا للجنة الشعر، وكان مثقفا حقيقيا، كنت أكتب القصة في ليلة، وأعرضها عليه فيعجب بها، وربما اقترح حذف بعض الفقار أو الجمل، كانت ثقافته فرنسية، وأطلع على أحدث التيارات في فرنسا، شعرت أني أقوم بعملية تطهير، أرسلت النتاج الجديد لجميع كتاب مصر على البالوظة، لم يلتفت إليه أحد، قلت لفتحي غانم: أنت عايش في الظل وأنا في الهجير، وقلت ليوسف إدريس: أنا أحسن كاتب في مصر، قال لي: أنت مجنون.
المخرج كمال حسين كان لسه جاي من أمريكا، وكان يخرج برنامجا ثقافيا، استضافني ورشدي صالح لمناقشة قصة "الجنية" من مجموعة "عيش وملح"، قبل التسجيل كان أحمد رشدي صالح رقيقا طيبا أثنى علي وأشار إلى اجتهاداتي بدرجة أخجلتني، أثناء التصوير أنقلب شخصا آخر، فحمل علي حملة غريبة، فانقلبت عليه أنا أيضا، كان يحيى حقي كتب مقدمة: "عيش وملح" فأكد رشدي صالح على هذه النقطة وكأنه يمن علينا لندور في فلك الكبار، قلت له إن الفضل متبادل، فنحن نكتب وأنتم تكتبون، ونحن نقرأ وأنتم تقرأون، وفي وجه التعالي أطلقت عبارة "نحن جيل بلا أساتذة" التي التقطها فؤاد دوارة، وجعلها عنوان مقالة له: "هل هم جيل بلا أساتذة حقا ؟"، وكان رشدي صالح يحرر الصفحة الأدبية بجريدة "الجمهورية" فكتب يقول: محمد حافظ خطاب ـ وليس رجب ـ يقول: نحن جيل بلا أساتذة، رديت عليه بعدة صور قلمية، كان يرد ثم كتب أنه لا يستطيع مناقشتي لأني عنيد، واشترك كثير من الكتاب في النقاش.
يوسف الشاروني من الشخصيات التي تعرفت عليها عن طريق المجلس، كنت أقول له كل أسراري، صبحي كان يسجن كثيرا، عن طريق صبحي الشاروني عرفت فوزي جرجس، كنت أزوره في بيته، أحب الشيوعيين جدا، بعد تضييق الحصار عليهم أراد فوزي أن يكتب قصصا، أطلعني عليها فدهشت لأن زعيم وسكرتير حزب شيوعي لا يعرف في الفن، كان يريد تعويضا، قلت له: وحشة، عبد الفتاح الجمل أتجنن عليه مرة وشتمني، كان يعامل الجميع بهذه الطريقة، وكان الذي يخضع لقوانينه ويستحمله ينشر له، قلت ربنا موجود في إسكندرية وموجود في مصر، أحسن من البهدلة رح لأهلك، انقطعت عن الكتابة منذ عام 1965م، ثم حررت صفحة "الصحوة" عام 1968م، لكني لم أكتب قصصا، دخلت المستشفى في فترات متعددة، ولمدد متفرقة، تحدثت الصحف في القاهرة عن رغبتي في العودة إلى الإسكندرية، كنت هضيع خالص، حمدي عاشور نقلني من أرشيف المحافظة إلى أرشيف المتحف الروماني، كتاب إسكندرية رأوني أجتر أحزاني فطالبوا المسئولين بإعادتي إلى القاهرة، عدت عام 1972م، لكني لم أمكث طويلا، عام 1986م ـ على ما أذكر ـ تساءلت "المساء": أين محمد حافظ رجب ؟، في نفس العام زراني الناقد السينمائي علي عوض الله كرار في المتحف الروماني، كان يكفيني أن أجد أحدا يتعاطف معي، عدت إلى الكتابة، حمل بعض القصص إلى جماعة "الأربعائيون" والبعض الآخر إلى بعض المجلات بالقاهرة، ومجلة "نادي القصة" بالإسكندرية.
***
بين ثنايا مقال لنا بعنوان: "باقة ورد من الثغر الباسم" ذكرت أن محمد حافظ رجب أصدر ثلاث مجموعات من القصص ثم توقف عن الكتابة "إلى أن أخرجه بعض أصدقائه من عزلته، وهم الأصدقاء الذين أهداهم مجموعته الرابعة: "حماصة وقهقهات الحمير الذكية"، ونحن نثبت الإهداء هنا اعترافا بفضلهم: "إلى النبلاء الذين نفخوا الروح في أشلائي المتناثرة فولدت من جديد: سليمان فياض، عبد العظيم ناجي، يوسف القعيد"(17)، ثم ذكر لي محمد حافظ رجب أنه لم يعتد إهداء كتبه لأحد، وأن الذي فعلها هو علي عوض الله كرار ظنا منه أنهم ربما نفعوني.
أيام النكسة قلت: أحسن، كنت أود أن ينتهوا ويخلصونا، لكنهم تآمروا كعادتهم .. واستمروا يحكمون، رحت محطة مصر (بالإسكندرية) وسمعت قرار التنحي من الراديو، قلت: الحمد لله، لكنهم كانوا عاملين حسابهم .. استغلوا حيرة الشعب، وإيهامهم بالفراغ، خرجت الجماهير المنظمة تطالب بعدم التنحي، الشعب كان يعي كل شيء، أنت عارف النكت التي قيلت ـ في ذات اللحظة ـ عن التنحي، ومنها النكت التي قيلت عن مظاهرات الداعرات، عند وفاته خرجت الجماهير تبكي، صحت في وسط الزحمة: في داهية .. في داهية يا ولاد .. لكن أحدا لم يسمعني.
وحين حرر محمد حافظ رجب صفحة: "الصحوة" بجريدة "السفير" كان من بين همومه الرئيسية كشف فضائح الدكتاتورية، فحين يحدثنا عن "نوفونتي" دكتاتور تشيكوسلوفاكيا الأسبق نشعر أنه يحدثنا عن مصر، يأتي حديثه تحت عنوان: "رسالة عيد الميلاد الحزين"، وهي الرسالة التي وجهها رئيس تشيكوسلوفاكيا الجديد "لودفيك سفو بوذا" إلى شعبه: "لقد رأينا كيف ذهبت ثمار عمل شعبنا هباء، ورأينا والألم يعصر قلوبنا كيف فقد الشعب حماسه ونشاطه .. وثقته بنفسه"، ويعقب محمد حافظ على ذلك بقوله: "الأصل في الاشتراكية أنها تمنح الشعب ثمار عمله، وتدفعه إلى بحر الحماس ليسبح فوق قارب النشاط مالكا لنفسه وثقته بنفسه، لكن القياصرة في بعض الظروف يشوهون اشتراكية الإنسان كما فعل القيصر نوفونتي الكريه في تشيكوسلوفاكيا الصديقة"، ويبدأ حديثه بقوله: "أحسست بمرارة الحزن في فمي وأنا أتابع كلماته .. أجهش قلبي بالبكاء المكتوم .. أدركت من كلماته كم هو حزين .. كم هو مشفق على أهله، وأدركت من ظلال الكلمات، كم هو بشع ومهين ومقيت من يستند على عرش الاستبداد ليهين الإنسان .. كم هو كريه وغض هذا الذي كان على عرش تشيكوسلوفاكيا يركب فوق أعناق الناس هو من يؤمنون بركوب الإنسان .. أدركت كم هو عفن نظام الاستبداد القديم الذي كان يحكم تشيكوسلوفاكيا برئاسة نوفونتي الكريه"(1، ويتابع الحديث عن أحداث تشيكوسلوفاكيا في العددين الصادرين في 29 أبريل، 5 مايو 1969، نقلا عن كتيب أصدرته وكالة"نوفوستي" وتتضمن بعض آراء كتاب تشيكوسلوفاكيا.
وتنشر مجلة: "الهلال"(19) قصيدة "الرعب" ليوفتشنكو فينقلها إلى صحوته(20)، ويقدمها بكلمة نشر معها أنها تعبر عن أحاسسيه، وإذا كان يوفتشنكو يذكر أن "الرعب" أصبح مجرد ذكريات، فإن محمد حافظ ما زال يعيشه:
مظاهر الرعب في روسيا تتلاشى
كأنها أشباح الماضي الغابر
فما بقى منها يشبه العجائز المتسكعات
يتسولن لقمة العيش في فناء كنيسة
^ ^ ^
إني أذكر الرعب في كامل قوته وسطوته
كان يتخايل حول قصر الزيف
كان كالظل ينتشر في كل مكان
يتسلق .. ينفذ من الجدران
^ ^ ^
كانت بصمات الرعب تدفع كل الأشياء
تعلم الناس بالتدريج
كيف يصيحون في موضع الصمت
ويصمتون في موضع الصياح
^ ^ ^
ذاك الزمان ولى
وقد يكون غريبا الآن أن نذكر
الرعب الدفين من وشاية
الرعب الدفين من طرق الباب
^ ^ ^
أما الرعب من التحدث مع أجنبي
فما أهونه إذا كان الرعب ليسود الحديث مع الزوجة
بل قمة الرعب كانت
أن يضبط الإنسان متلبسا بصحبة الصمت
^ ^ ^
أبدا ما خفنا العمل في عنفوان العواصف الثلجية
أبدا ما خفنا الاندفاع إلى المعارك تحت قصف المدافع
ولكن الرعب القاتل كثيرا ما أخافنا
حين كنا نتحادث إلى أنفسنا
^ ^ ^
أبدا ما هزمنا ولا غوانا أحد
وليس صدفة أن روسيا
حين قهرت الرعب فيها
ثبت مزيدا من الرعب في أعاديها
^ ^ ^
إني أريد أن يستبد بالناس
الرعب من إدانة شخص بغير محاكمة
الرعب من إهدار الفكر بالتزييف
الرعب من تمجيد الذات بالكذب
^ ^ ^
الرعب من اللامبالاة بالغير
حين تنتابه محنة أو كارثة
الرعب الطاحن من الجبن
في ساحات العلم أو الفن
^ ^ ^
إنني أكتب هذه الأبيات
متسرعا أحيانا بغير قصد
أكتبها في ظل رعب واحد:
ألا تكون كلماتي في كامل قوتها
--------------------------------
الهوامش
(1) ـ اعتمدت في كتابة هذا الفصل ـ في المقام الأول ـ على حديث سجلته للكاتب أثناء انعقاد مؤتمر القصة القصيرة ببني سويف عام 1998م.
(2) ـ حصلت من علي عوض الله كرار على نسخة خطية من الحوار.
(3) ـ نادي القصة، العدد 36 لسنة 1990م.
(4) ـ راجع كتابنا: باقة من الثغر الباسم، إقليم غرب ووسط الدلتا الثقافي، أبريل 1999م، ص49.
(5) ـ مشروع أمريكي لاحتواء المنطقة بعد فشل حلف بغداد.
(6) ـ حوار مسجل أهداني عبد الله هاشم نسخة منه.
(7) ـ الجرح الغائر، المركز القومي للفنون والآداب، 1987م.
(8) ـ راجع مقالنا: المناطق العشوائية في الرواية السكندرية، مؤتمر واقع الشعر والرواية بإقليم غرب ووسط الدلتا، مايو 1999م، ص74.
(9) ـ أخبار الأدب، من القرية إلى المدينة، الحلقة الثالثة، العدد الثالث، أول أغسطس 1997م.
(10) ـ كان اسمها "سينما فون عزيز ودرويش" عندما افتتحت في التاسع والعشرين من نوفمبر 1906م، بعرض سينمائي ناطق بواسطة أسطوانات مسجل عليها الصوت وتدار مع شريط الفيلم.
(11) ـ مساء الخميس الخامس من نوفمبر 1896م، شهدت الإسكندرية أول عرض سينمائي في مصر بإحدى صالات بورصة طوسون باشا، حيث عرضت أفلام لوميير الأولى، أما البداية في دور العرض السينمائي فكانت في يناير 1897م بسينما توجراف لوميير بشارع محطة مصر بين بورصة طوسون باشا وتياترو الهمبرا، وأول عروض تكميلية تمت بمسرح الهمبرا في يناير 1900م، وتحول المسرح إلى دار عرض سينمائي في 22 يوليو 1911م، وشهدت الإسكندرية في هذه الدار أول عرض سينمائي ناطق في 14 مارس 1928م، وثاني عرض في 17 مارس من نفس العام، وكان الفيلمان أمريكيين، الأول: "ابنه بتيكوكولي" لتشاركز كايزر، والثاني: "مس فينوس"، وتنعي الآن "الهمبرا" من بناها بعد أن تهدمت عن آخرها.
(12) ـ في أول سبتمبر 1921م افتتحت سينما "ماتوسيان" وفي عام 1922م سميت "ماجستيك"، وافتتح في نفس العام: "لمباسادر" و "رويال"، وفي 26 نوفمبر 1929م تم عرض أول جريدة ناطقة "فوكس نيوز" بسينما رويال.
(13) ـ في عام 1925م افتتحت دور عرض: "ليون" .. "أورنيكال الشرق" .. "الحرية" .. "محمد علي"، ثم أعيد افتتاح الأخيرة بعد تجهيزها بالآلات عرض ناطقة في 11 نوفمبر 1929م، وهي الآن مسرح سيد درويش.
(14) ـ الحوار المشار إليه.
(15) ـ الجزءان 2،3 ـ مركز البحوث العربية، ص158 من الجزء الثاني، ص120 من الجزء الثالث.
(16) ـ حديث تليفوني مع أمين ريان.
(17) ـ باقة من الثغر الباسم، مرجع سابق.
(18) ـ الصحوة، 6 يناير 1969م.
(19) ـ الهلال، فبراير 1969م.
(20) ـ الصحوة، 7 أبريل 1969م.
د. حسين علي محمد
08-10-2006, 02:06 AM
الذى تجشأ قشا..
قصة قصيرة، بقلم: محمد حافظ رجب
...........................................
أرسلت (المرأة) تستدعيه... طاعة الجبناء طاعته... نادت بنت شقيقها على (سلوى)...
قال لها: «أغلقى النافذة ـ ذات الكوات الكئيبة ـ وحضرى القفل..»
التفت إلى مخلوقات الحجرة النائية: «صباح الخير أيتها المرأة التى تثيرنى» .. الحلوف الصغير داخل دورة المياه يزوم،... يبتلع ملء وزنه ليرش أرض الله المحترقة تحتهم... يعرقل اطمئنانه فى كل اللحظات...
ـ «راهبة بوذية تحرق نفسها إحتجاجا على تزوير الانتخابات فى فيتنام الجنوبية».
خرج مثقل الخطى : الأغلال فى العنق والقدمين.. تسحب جثته طفلة ضريرة تسوقه إلى حيث الانتهاء...
.. قال للرجل المشارك له فى حوض المغسل والمشرب: «الصباح مبارك عليك يارب الأشقياء»
.. قالت زوجته: «مش تجيب الوليه»
فرت منه: من عالم الأسرار الرهيب... مقطوعة صلته بالسماء .. بلا رب يعيش .. يأكل لحمها فى الصباح والمساء... بلا موقد يطهيها : فرت بما بقى من لحم الجسد والروح...
.. قال لها: «يا ابنة سمنود... لن تعود .. دى فى أجازة خليها فى أجازتها أحسن»
.. تسربت من ثقب الباب.. إلى ابن خالتها مسعود .. تائه فى عالم حائر... يبحث هو و(سلوى) عن القفل.. لم يجده.. يبحثان وسط الزحام... فى كل الطرق والميادين .. حيث تنكسر علامات المرور... يخترقها كل صبى أرعن يملك عربة بها أبواب ونوافذ من سيراميك .. ياعين البشر هل شاهدتم قفل بابنا.. تائه عن عين البشر هو الآخر...
.. قال (لسلوى) : «روحى لها .. اسأليها عن قفل لم يأكله الصدأ.. بريقه يخطف عين القمر... اسأليها عنه فقد يكون فى يد فريق كرة القدم المنتصر»
عادت: «ملقتش»..قال لها: «اطلعى لسمية»
.. صعدت إلى السحاب المثقل بالهم... عادت: «قالت معنديش»
مد يده الملتاثة العقل.... دمر بنيانها .. جاس خلال لحمها وعظامها .. هكذا هو غول كل لحظاتهم...
.. قال لها: «خليكى هنا... ومترحيش المدرسة النهارده».. لا تملك سوى ماء العيون تذرفه آبارا وترعا وأنهارا أو بحارا .. وذهب إليها وجدها تمسح البلاط بالخيشة... قال باصقا لعنته على الفارة من عشهم القاتم : «بنت الإيه ضيعت القفل»
قالت: «لازم (سميرة) شايلاه... إنت لازم تاخد أجازة علشان تقعد فى البيت... وكمان أنت عيان» تصير أنت أم الدار.. بدلا من دخولك حوض النار»
.. غادر البيت رمادا.. مشى فوق جثمانه أهل (غربال) شيعوه فى جنازة منتفضة.. كل مشيعيه من العمى ومقطوعى السيقان والأذرع وأجساد بلا رءوس.
إشترى الأهرام... دخل يوقع فى الساعة الميقاتية بالديوان .. وجد (بهجت) مع (أحمد صالح): الرجل ونصفه... صافح الرجلين...
ـ ليه أجازة والا لأ... أنا عيان وأمى مش فى البيت .. قال (النصف رجل) : «أنا قلت كده برضه.. وأنت لك أجازة».. دخل عليهم السكرتارية وهو ساقط من أعلى السور داخل أعماقه المنهارة فى ساحة (مقابر المنارة)... هل سيغيرون معاملتهم له بعد زيارة الساعى (صلاح) والموظف (بسيونى طلبه).. وشاهدا عن قرب جثمانه المعلق فى السقف الخشبى المثقوب... قال يواجههم برعبه من ظهور احتقارهم له: « صبحين ياحلوة» وصافح الساعى (حسن) وعم (مصطفى) العجوز المرح... و(فخرى) القبطى... وجاء (صلاح) الساعى... فأخرج سيجارة وأعطاها له... يغريه على شاهده: سقف بيته المغروس بحبات البق والحشرات: سيجارة شعيراتها ملتفة حول عنقه يحس بالعار: سقف بيته يأوى المردة من حبات البق... يشعر بالعار أنه من أهل (غربال) .. قال (فخرى) القبطى راكبا عربة الموتى يشدها عدد من الخيل: أنا من (غربال) وحضر (بسيونى طلبه) بقميص جديد غالى الثمن... أول ما رآه أخرج له لسانه: أنا سيدك ياابن (غربال) أرتدى غالى الثمن وأعيش فى عمارة متخمة بالوجاهة والفرنجة كانت لمهاجرين من الأجانب.. زرتك أمس فى إصطبلك رأيت مأساتك الفتاكة مع الحمير... ترعى جرذانك.. حيطانك وسقف بيتك معششا بالبوم والحدآت ... أصبحت منذ الآن عبدا لى.. صرخ (الشحات) فى وجهه: «صبحين ياحلوة» .. بعيد هو عن مدد السماء..
..حضر (حمدى) ـ الملتصق به دائما ... كما البق ملتصق به ـ جلسا يثرثران: «اذهب .. قل لكبيرهم أن يتدخل .. فنحن بين فكى النجوم الصغيرة يمضغوننا متى أرادوا ويبصقوننا فوق أسفلت الطريق..» قال (حمدى) .. شاب كلية التجارة: «أود أنا وأنت أن ندرس الفرنسية معا... ربما تفيدنا فى الهجرة إلى الخارج».. بالأمس .. ظل سجينا فى سجن (الحضرة).. تناول حبتين نوفالچين... فاستولى عليه السلطان ... ولم ير نور الحياة إلا بعد أن جاء الصغير وسأل عنه... بعدها جاءت قريبته ونزلت... ونزلت (سمية) من الطابق الأعلى: «قابلت (عزيزة) و(سادات) ابنى سمع (فوزية) تقول: أنا ح أجره زى الخروف جوه» شخرت لهم. وقلت: «أنا ح أطلع دينكم» و(على السنطاوى يتظاهر بالنوم».. قالت قريبتهم: « البنت الدكتورة ـ ممرضة ـ راحت عند (إبراهيم فهمى) ابن خالتك وقالت لهم: أيوه إحنا حرقنا الجلابية وأنا سبق وضربت (أم الشحات) وجرجرتها على السلم.. إشمعنى المرة دى يعمل كده... أنا ماما برضه تركب عربة السجن... الحق عليها هى اللى سمعت كلام العسكرى لو كنت أنا موجودة كنت رحت مع العسكرى النقطة وشربت معاه جوزة .. أنا المرة دى اللى ح أقف له بمطوة وأضربه بيها» .. قالت (سمية) .. ساكنة الطابق الأعلى ..إنت لازم تعمل احتياطك.. آدينا اتفقنا معاه... يجيب السمتو وإن مجبش دول... لازم يبقى مخبيين حاجة»
..قالت قريبتهم: « ياللا قوم وانزل معايا»
... فى (المبالة) المواجهة لسينما (ستار) دخلت (فهيمة) (القريبة) لتتبول ... وتقدم هو من عسكرى المرور: «دخلت تتبول وأنا أدور باحثا عن القفل...لا أراه ولا يرانى... هل من العسير العثور عليه فى هذا العالم المحتشد بالأقفال».. فى الطريق قال لها: «تيجى نروحو للضابط اللى فى مديرية الأمن» .. واكتشفت فجأة أنه نسى اسمه: غاب فى الكهف والديناصور حارس الكهف يزأر... يقف أمامه بالمرصاد..آه لو اصطدته فى متاهات... متاهاته... ما كان يعيقنى أى شىء عن ملاقات الكبير لأشكو له ضراوة الصراع مع سكان الطابق الأرضى وأقاربهم المختفين فى فاه (شارع أخوان الصفا) ... وتذكره .. عندما غاب الوحش عن كهفه ليشرب كوب شاى وسيجارة.. قال لها: عارف من اسمه (رحمى) .. قالت زى بعضه .. نسألو عنه».
.. انتهى التحقيق مع (صلاح نصر) فى حادث انتحار (المشير عبد الحكيم عامر) .. أعلن اليوم الجنرال (إسحاق رابين) أن القوات المسلحة المصرية قد عوضت أسلحتها».
يعيشون هذه الأيام على علب اللحم المحفوظ القادم من الاتحاد السوفيتى كمعونة.. بالأمس تناولوا فى الغداء لحما دسما بــ 9 قروش أدخلوا ألسنتهم داخل العلبة بعد ما أكلوا ما فيها... لعقوها وجدوا فيها رجلا سوفيتيا يئن... أداروا ظهورهم إليه... «إحنا ناقصين نواح»... وضعوا على اللحم بقرش فول مدمس... عزق أرضه فلاح مصرى.. مزجوا الفول المصرى باللحم الروسى وصرخات الهلع تندفع من داخل العلبة والطبق... وقف (الشحات) وعائلته ينشدون : نحن الشعب المصرى.. طعامنا الآن اللحم المستورد من الإتحاد السوفيتى وعجوة العراق... رخيصة الثمن... الكيلو بأربعة قروش: «أبانا الذى فى السموات : الاتحاد السوفيتى: العطاء والمنح والجود والكرم والشبع... شبع البطون الجائعة... فليتقدس اسمك... آمين».
.. بالأمس ذهب الفأر الرابض فى جيب (الشحات) : (حنفى محمود) الطالب بكلية التجارة وآخر بكلية الفنون الجميلة إلى شركة بيع المصنوعات واشترى (الشحات) زوجين من الأحذية بــ 259 قرشا .. ومشوا فى الشوارع يقهقهون: اضحكوا يا أولاد من هذه الأيام الحافلة ـ قهقهوا... أمامكم طريق السد أغلقوه أمامكم.. سترون الدهشة والعجب فى باقى أيامكم القادمة... فى السكرتارية... قال (حنفى محمود) للشحات: فيه جوارب روسى فى (عمر افندى) الجورب بثمانية قروش ... وخرج (الشحات) مع (حنفى محمود) (والهبيان) ليشتروا الجوارب... قال النصف رجل (بهجت) شوف لى الثمن كام.... وأراد (أحمد حامد) أن يرقص فوق المتوازنين قال:
ـ هات لى جوز معاك نمرة 42 ووضع يده فى جيبه يتظاهر بإخراج النقود .. لكنهم انصرفوا وتركوه...
... فى (ميدان التحرير) عثروا على الترام الجديد.. الذاهب إلى القبارى يسير مزدهيا بفروته اللامعة: غير ملامح الميدان وشكله... ووجدوا (شركة بيع المصنوعات) مغلقة.. قال (حنفى محمود) : «تريدون سلخ فروة الترام... سأسلخها .. لكم .. المهم أتغدى عند واحد منكم» يعنى تناول الغداء عند (الشحات) .. قال (الشحات) فى نفسه: «يشاركنا فى تناول لقيمات عزيزة المنال.. لكن المكان يتسع له دائما».
.. وطوال الطريق راح (الشحات) يسأل (الهبيان) «هل تعرف كيف يخترق الرجل المرأة...» فكان «الهبيان» يتعلق بذراعه فى نشوة وجوع: «دى متين فولت .. دى تلتميه.. دى ربعميه وخمسين فولت»
ـ لو كان (للشحات) ذرة من إيمان بالسماء .. لتغير الحال غير الحال ـ (والهبيان) يغرق فى حمام بخار ساخن ويتشبث بيد (الشحات) ليحميه من سخرية (حنفى محمود).. لحق بهم (حسين جمعه) عند السنترال ... تعلق بالصارى الهائل .. قال (للشحات) : «أنا وأحمد قعدنا ننتظر (جودو) فى النادى ساعتين.. مشينا واحنا بنقول ملعون أبو جودو: وقح كعادته يدخل فى الواحد شمال.. لكن الشحات عامله بهدوء صادر من كثافة تجمع الإعياء فى بنيانه فى الطول والعرض... عند (محطة مصر) اعتذر (حنفى محمود) عن المشى معهم وتركهم يبحث عن وجبة غداء عند أحد من الآخرين... وسار (الشحات) و(حسين جمعه) و(الهبيان)... عند مدرسة (النهضة) النوبية تركهم (حسين جمعه)... فى سراديب الليل تناولوا عشاءهم بقايا اللحم الروسى الدسم والفول المدمس أبو منديل محلاوى... (سميحة) نامت بلا عشاء.. أصابتها لعنة الزكام وجز الصداع دائرة رأسها ومن أنفها يتعالى الشخير...
ـ قومى يابنتى ناكل اللحم الروسى المصنوع من لحم الناس السوفييت
ـ رفضت : «أنا شبعانة» أعطاها حبة نوفالچين ونامت ..وشعر بحاجته إلى النوم .. والتعب يسرى فى طول وعرض جسده.. قال: «لا مؤاخذة ياابنتى.. أنا ح أسيبك دلوقت» وسرت فى الليل أصوات قادمة من مهجر عائلة (ريحان) ورأى (الشحات) الضفادع النائمة على ضفتى (المحمودية) تنقنق .. قال: «بلاشك .. هى تشعر بالتألق والمحاورة رغم أنها نائمة فى أمان الله... لو كان ضفدعة.. وله صلة أو شعاع من السماء لكان الحال غير الحال.. لكنه وعائلته الصغيرة معرضون للفتك واللعنة بلا حارس يحرسهم وبلا قفل على الباب يطرد الطارقين..
.. وسمع (رئيسه) زوجة (حسب الله) «تقول ده بيرمى علينا قزايز ميه..» يتآمرون فى الظلمات .. لم يكفهم ذبح الجلباب وحرقه والجيات أكتر من الريحات (وغربال) يشهد مصرع بنيه...تموت الكلمات قبل أن تولد .. ماذا يقول والحريق التهم جلبابك ياصغيرتى بعد أن انتزعوه من فوق جسدك ودخانه يتسرب حاملا جرابه من تحت عقب الباب..»
.. لم ينم إلا بعد أن ابتلع حبة نوفالچين أخرى: « أيام المهدئات أيامنا..،. تحت طاسة الخضة تموت العوالم... وضى الشمس يلتهم كل المرئيات..»
..ونهض فى عمق سواد الليل... (وزينب عبد المقصود) شريكتهم فى الشقة تستحم : سرقت لحظة لذة من زوجها الإسكافى (محمد على عيسى) بعد أن نامت البنات ونام الصبيان.. مرصوصين رصا فى القبو المظلم .. يريد أن يستحم هو الآخر.. رأى نفسه يمارس عملية جنسية غريبة فى كوخ مثل صناديق سطح المهندس فى (العجوزة) والطرف الآخر فى العملية (إسماعيل العشماوى) ساعى المكتب .. وبحث عن القصرية ليتبول... لم يجدها،، تبول فى طبق فارغ وعاد إلى سريره....
(بسيونى طلبه) ساكن شقة الخواجات (بالأزاريطة) سلوكه تغير مع (الشحات ) بعد أن رأى جحافل البق تمرق من بين ضلفتيه وهى تترنح من حمل آلاف القناطير من الدماء..
قال (بسيونى طلبه) : « أنت بقة كما باقى البق المنهمر من دلايات السقف.. اسمح لى .. أن أعاملك بتحفظ فأنت سليل غجر (غربال)..»
حاول (الشحات) فتح سلة الدردشة معه... «السلال رفض مقابلة اللجنة الثلاثية»
استمع إلى كلامه ببرود قطعة ثلج تتصاعد منها الأبخرة الحادة... وجلس (بسيونى) على مكتبه بلا إقبال عليه... أما عدوه الملقاط (أحمد حامد) فإنه أدخل إبرة ماكينة الخياطة فى عضله : «سمعت إنك اشتريت إمبارح جزم» قال (الشحات) : «اشتريت جوزين بمتين وستين قرشا» قال (أحمد حامد) : « لابس جزمة منهم» قال : (الشحات) : لأ...
ـ أمال لابس إيه
ورأى الحذاء البلاستيك الأصغر فى قدميه..
.. استدار (الشحات) دخل حذاءه... إختبأ فيه صار جلده بلاستيك أصفر بعد دقيقتين..
.. عمال النظافة يحتشدون حول مبنى السكرتارية وسور ديوان المحافظة يطالبون بصرف أيام الجمع....
..الآن يعرون جثته الملقاة فى حذائه ... رخيص الثمن صار... لم يعودوا ينخدعون بشقشقة أحاديثه فى السياسةوحكام اليمن الجدد وانتحار المشير عبد الحكيم عامر والأحاديث اللامعة... قال (أحمد حامد) وهو يشده من تحت غطاء الحذاء: « مش عيب تلبس جزمة صفرا.. أنت حقك تلبس جزمة حريمى.. و،إلا تلبس فرده حريمى وفردة رجالى..»
وقهقه الجميع وهم سكارى من الانبساط والفرفشة... «الآن يشرب الوغد من دمه العكر.. من ماء حياته الموجعة الغضب فى داخله يقرضه كلب أجرب.. لم يجد ما يقوله سوى: «إنت ح تسكت وإلا أصبحك.. إنت بتحسب دمك خفيف... إنت دمك تقيل قوى كما البقة فى سقف بيتنا..
قال (أحمد حامد) : « أنا دمى تقيل وزى البق علشان اللى باكلمه دمه أتقل تلاتين مرة»
.. واستدار (الشحات) ـ وهوعار تماما ـ يطلب العون من النصف رجل رئيس المكتب (بهجت) : «والنبى خليه يبطل لأحسن هو فاكر إنه ظريف»
..قال (عم مصطفى) كبير السن المرح: «والنبى ده بيحبك» .. واقترب (أحمد حامد) من (الشحات) وقبل رأسه قال: «حقك على وأنا مش ح أتكلم معاك تانى» وأخرج العامل (صلاح) سجائره وأعطى (الشحات)سيجارة: «يمتطيه بطول جسده وعنقه... يمنحه العطف الذى به يزدريه»
«صرف السلف لتجار السويس فورا وتعويض المبانى التى أضرت بالعدوان»
«(على صبرى) يبحث مع وزيرى الصحة والخزانة إجراءات عاجلة لحل مشاكل العاملين فى السويس»
«(أم كلثوم) تفتح ثدييها لأخبار اليوم: ماهى أكبر خطيئة
ـ أن ترى الخطأ ولا تنبه إليه
..أحسن صديق
ـ شخص يشاركك فى ألمك
.. أحسن مكان
ـ حيث تنجح..
.. أقصر طريق للنجاح
ـ العمل..
.. أحسن عمل..
ـ الذى تحبه..
.. أكبر راحة...
ـ أن تؤدى عملك جيدا..
.. أكبر خطأ..
ـ اليأس
..أحقر شعور
ـ الحسد
.. أكبر لغز
ـ الحياة..
..أكبر أمل
ـ أن تعود فلسطين
.. أسمى فكرة
ـ الله..
.. أكبر عدو
ـ إسرائيل..
.. أول أمس .. هل يتذكره.. آه... جاء ابن قريبتهم فى الرابعة والنصف .. أيقظه وباقى مخلوقاته يغصن فى النوم... قال الصغير: «أمى وخالى حسين والعسكرى جارهم جيين ومعهم الأسمنت ليرشوا البلاط كى لا يخر الماء على عائلة (محمد ريحان) .. نهض .. واشترى له الصغير موسا ليحلق دقنه... حضرت قريبتهم وابنها والعسكرى..
.. عسكرى مارد يرتدى جلبابا اشتراه من جوار طنطا.. استعان به (محمد ريحان) لإجراء مفاوضات معه... جاءت به قريبتهم وهى حافلة بالرضاء عن نفسها... على وشك أن تضع مولودها .. أزال الشحات شعر ذقنه والعسكرى يربض فوق ظهر الكنبه والحمار ينهق من تحت ساقيه وعيناه لا ترى مخابئ البق
ـ لم يكن (الشحات) راغبا فى الحديث معه... ودخل دورة المياه المشتركة..وأزال رائحة الهم من داخل منحاريه وارتدى ملابسه يغطى نفسه الأمارة بالسوء... وتبادل مع العسكرى بضع كلمات: «فيه ناس بتحرق الهدوم» قال العسكرى: « وبيحرقوا اللى جوه الهدوم» وضحك وضحكت القريبة وابنها... لو التفت برهة من الزمن إلى السماء فوقه لرآه وعرفه ولم يكن وقتها قد حدث له كل ما حدث: السير فوق أبراج النار إلى الأبد...
د. حسين علي محمد
08-10-2006, 08:14 AM
أصابع شَعْرِكَ للموت
شعر: حسين علي محمد
..............................
(إلى الصديق القاص المُبدع محمد حافظ رجب
صاحب قصة «أصابع الشعر»)
أعطيتَ لهذي المهرةِ
أُفْقَ صباكَ الغامرِ في الفجرِ
وحكمةَ أسلافِكَ
فجرَهمُ الكاذبْ
أعطيْتَ
أصابعَ شَعْرِكَ للموْتِ
وللأمواجِ القاربَ
كيْ تهبَ لجسدِكَ شهوةَ فعْلٍ
يتجذَّرُ فيهِ الموْتُ
وألفُ صنوْبرَةٍ تتآمرُ
كيْ تصنعَ نعْشاً
(أوْ إكليلا)
للجسدِ الخائرْ !
ديرب نجم 29/4/1990
د. حسين علي محمد
08-10-2006, 08:18 AM
نص وتعليق حــول " الرجل ورءوس الحمير الذكيّة " لـ د. حورية البدري
أ-النص:
تاريخ نشر النص في الموقع: الأحد 21 مارس 2004
محمد حافظ رجب 0 الرجل الأسطورة في مخيلتي دائماً 0 قصصه الذكية وصُحَبَة " برّاد الشاي " معه تجعل " للكرة ورأس الرجل " مذاقاً بطعم الأسن الراكد على حافة الكوب قبل أن نرتشف منه 0 وبعد أن ينسرق العمر بدون أن نشرب 00 دهاليز المتحف الروماني 0 زخم احتلال أصحاب هذه التماثيل والمومياوات لبلدتنا 00 خارج المتحف مملكة الحمير الغبية 0 و" حماصة " 0 وحصافة قصصه تأخذنا 00 مازلت الطفلة منذ وعيت الكلمات المسطورة في قصصه 0 وتشابك برّاد الشاي مع صُحْبَته 0 وعقلي الرافض أن تأخذه الكرة ليصبح شيئاً مطاطياً أجوف 0
في أيام النكسة قلت لقائد فرقة الحرس التي تسد كل الطرقات المؤدية لملعب الإستاد :
- اليوم آخر موعد لإعادة الكتب التي استعرتها من مكتبة البلدية 0
قال بصوت قاطع :
- ممنوع المرور 0
بكت السيدة المُسنة الواقفة بين جَمْع المُحْتَجَزين 0 فتحت له اللفافة التي تحملها ، وعرضت عليه عبوات الأدوية 00 أشاح بوجهه عنها 0 قالت بصوت متخاذل :
- يا ابني أنا لا أستطيع الوقوف أو الذهاب للبحث عن طريق آخر يوصلني لبيتي هذا 0
أشارت بيدها إلى منزل مقابل لنا 0 قالت له :
- هذا بيتي 0 أريد فقط أن أعبر الشارع لأصل إليه 0
نظر إلى الجنود الذين يسدون الشارع بخيولهم وقال لها :
- ممنوع 0
تركتهم واستطعت اختراق طريقاً آخر يؤدي إلى مكتبة البلدية 0 وهناك كتبت قصة عن السيدة المُسنة التي سقطت تحت سنابك خيل الجنود وحولها عبوات الأدوية التي فتحتها لتستدر عطف القائد كي يسمح لها بالمرور 00 حملها أحد عساكر المشاة ووضعها على جانب الطريق 0 أغمضت عينيها وارتفع هتاف المشجعين في ملعب الإستاد 0
منظر السيدة المسنة - بطلة قصتي - لم يفارقني 0 ولم يفارقني هذا الإحساس الساحق بالعجز 0 لم تفارقني مفردات قصته " الكرة ورأس الرجل " 0
عندما عُقد مؤتمر رجال الأعمال لتنمية الصادرات الإسرائيلية ؛ تذكرت السيدة وعبوات الأدوية حولها 00 قال أحد المصريين :
- أنتم تعلمون حساسية استقبال الشارع المصري لكلمة إسرائيل 0
قال الإسرائيلي :
- إن منتجاتنا تملأ أسواقكم بدون علامة إسرائيل 0 لكن السلع الخالية من العلامات الدالة على البلد المُصَدِّر تستثير الريبة في نفوس البعض 0 لذلك نريد أن نصَدِّر إليكم سلعاً تستكملون تصنيعها أو تشطيبها وتُطرح في أسواقكم تحت اسم " صُنع في مصر " 0
في نفسي ؛ بصقت في وجوههم 0 لم يشعروا بالمهانة 0 كانوا يبتسمون فتضايقت 0 تمنيت لو يخرجون من القاهرة 0 يعودون للأرض المحتلة التي جاءوا منها 0 لكن الكلمات الصفراء استمرت تنساب بين نخيل القاهرة 0
عندما سدّوا الطريق ؛ لم أستطع حضور ندوة مناقشة قصص الرجل الأسطورة 0 يلعنهم ألف مرّة " طارق ليل الظلمات " 0 خافوا أن ألعنهم فمنعوني من الذهاب 0 منعوا كلماتي من الانسياب بين طرقات البلدة 00 ورغم بُعْد إسكندرية عن القاهرة ؛ إلا أني أرفض تماماً كل الأشياء الصفراء التي تنساب من مؤتمراتهم في طرقات القاهرة المصرية 0 أرفض تماماً 0 ولا أستطيع إلا أن أرفض تماماً وأستاء وأغضب 0 وأمر في دهاليز المتحف الروماني أشم زخم الاحتلال القديم لمصر 0 وأبحث عن الرجل الأسطورة 0 الرأس الأسطورة والكلمات الأسطورة في ذاكرتي 0 الكرة ورأس الرجل ومحمد حافظ رجب الهارب - بين تماثيل ومومياوات قراصنة الرومان - من هذه الحمير المنتشرة خارج جدران المتحف الروماني 0
ـــــــ
التعليق: أ.د. حسين علي محمد
مصر تم التعليق في 21/03/2004م
------------------------
العزيزة الدكتورة حورية، قصة جميلة وتقنيتها الفنية عالية، إلا أن فيها مشكلة؛ فهي تستدعي الصديق الكبير محمد حافظ رجب ـ الذي كان يعمل في المتحف الروماني ـ وتُوظف مفردات عالمه، ومن ثم فإن الذي يتأثَّر بها كثيراً هو من يعرف محمد حافظ رجب وعالمه، أما الآخرون الذين يقرأونها قصةً عادية، فقد لا تروقهم، لأنهم لا يعرفون "الكرة ورأس الرجل"، و"مخلوقات براد الشاي المغلي" ... وغيرها من المفردات التي تعود إلى عالم صديقنا الكبير، وقد قلتُ منذ أسبوع تقريباً أنني لا أعدل به أحداً من جيل الستينيات في مصر في القصة القصيرة (كتبت ذلك في دفتر الزوار في هذا الموقع تعليقاً على دراسة ماتعة للأستاذ سمير الفيل)، مع دعواتي لك بدوام التألق والوهج الإبداعي.
د. حسين علي محمد
08-10-2006, 08:26 AM
جولة الدرويش فى حوش الملح
قصة قصيرة، بقلم: محمد حافظ رجب
...........................................
هدير الشيخ الضرير يدوى فى أنحاء العالم.«لكن عذاب الله شديد» ومضى يتحسس بعصاه معالم الطريق المندثرة أنواره»
وميض خاطر مضىء انجفر داخل (الدرويش) : غضب الله سبحانه وتعالى لما حدث له فى نقطة بوليس (المفروزة) أهدروا هناك آدميته..
..... ........... .
ذهب (الدرويش) إلى شغله كالعادة : الأفواه المذعورة تخرج بخارها ثرثرة عن (الزلزال)..
.. قالت (الثرثارة) و(ابتسام) : «أنت اللى عملت الزلزال ده» وحاولت «نرجس» الثرثرة معه عن الحدث العظيم.. لم تطاوعه نفسه على الاشتراك فى وليمة الثرثرة المباحة للجياع أجمعين... شعر بالغثيان يعود إليه من جديد.
(إيمان) المرعوشة مع ابنها المعجون بمية العفاريت يتدحرجان من المرجيحة .. الرجل (صغير الحجم) يداعب ابنها بغزارة ليكتسب خطوة جديدة عند نساء الكهفين.
نرجس تحاول - من جديد - لضم إبرة الحديث مع الدرويش بلا جدوى .. الإبرة لا تخترق القماش العنيد.
المحققة غارقة فى صمت مأساتها.. بلا ذكر هى حتى هذه اللحظات : أين الذكور يا أولاد.. غارقون فى نهر الحرمان.
عاد الدرويش مقهورا إلى بيته.. تجرع الحزن الحزين آسفا من أين يأتى بمن يقتلع من عينيه ماء الحزن الأسيف هو لا يحتمل أى شىء.. اخترق باب عمر باشا : لا حرس ولا حراس من الإنكشارية الشداد اشترى صابون غسيل وصابون حمام وكيلو رنجة.. خدعه البائع.. لف السمك المدخن فى لفافتين سميكتين ليطب الميزان قبل أن يستريح فى سريره : الأوغاد يلعبون لعبة الموازين بلا براعة.
قال الدرويش لنفسه : لم يذكر أحد من الفاعل الحقيقى.. لم يقل أحد إنه الإنذار الإلهى
المحققة العانس مهزومة فى كل الحروب.. فى قدمها جروح وتقيحات تغطى مساحة خريطة العالم الفسيح - تقهقه الآن - قهقهاتها تهز الداخل لم يبق لها إلا القهقهات لإخراج دخان العربة التى لم تسترح بعد من مشوارها الطويل.
هدى المطلقة تحضر للحسابات تضرب التليفون.. تبتلع حبوب ضغط الدم تضحك أحيانا وتبكى فى أغلب الأحيان : مات الميت ولم يظهر له أهل ولا ولد يرثه.
إيمان وابنها يثيران ضجة تصرخ فيه ليكف وتتركه يفعل ما يشاء... يلتقط الطعام تدسه له فى فمه : الرجل (صغير الحجم) يداعب ابن ايمان يجلسه على ركبتيه يهز المرجيحة تحلق بها بعيدا بعيدا حتى سماوات الله السبع..
ليلى العاشقة المسكينة : امرأة حفظ الأمانات عاشقة ضواحى المخازن تحضر كالعادة.. تدردش مع المحققة : فتح شهية ثم تدخل قفص الشمبانزى الوسيم.
علم الدرويش آخر النهار أن مدير الإدارة المالية والإدارية فى مصلحة المظاليم قال لها : ما تطلعيش فوق وتقابلى الشمبانزي الوسيم .. لم تهتم به.
نرجس قالت للدرويش انت اتغير لون جلدك خالص صار أزرقا
قال الدرويش : هل تتبادل معى.. تعطينى لون جلدك أنا أعطيك جلدى وغاصا فى المهد إلى اللحد.
حديثها طويل التيلة وهو موجوع من الزلزال : رقصوا جميعا فى ربوعه .. قالت نرجس للدرويش كلهم مش عارفين احنا بنقول إيه.. أنا وانت بس اللى عارفين : لك الشوق والشوك ولهم الخذلان أجمعين.
...
اليوم ولد بداية غريبة للدرويش .. عند مغادرته لمأواه نزل خلفه النجار الشرس (مأواه هناك فى حديقة الحيوانات) ابن صاحب البيت وثالث ثلاثة أشقاء أشقياء.. حياة الشرس رد الدرويش التحية من مكان نزول الفضلات وانصرف كل منهما إلى حال سبيله
وصل الدرويش إلى الصينية وجدها عارية اللحم إلا من أكواب الشاى.. وجد عربة مشروع دخلها وجد أحد الركاب يهىئ له المقعد الخالى.. تفرس في الرجل وجده النجار الشرس سبقه إلى المحطة.. ركب المشروع.. أخرج الدرويش العملة ليدفع له وله لكن الشرس صمم على الدفع : «ابنى شاطر وأم ابنى طليقتى تحضر لرؤيته وهى زوجة رجل عجوز عنده أولاد كبار.. لكن تعرف أنا مش عارف إزاى تم الطلاق..
«قطع الله عنقك» قالها الدرويش فى نفسه
وسرح الدرويش فى ملكوت الله العريض : الشقى النجار يهدم عليه مظلته.. تأويه الليل والنهار.. سأل الدرويش سيده ومولاه : «انظر مولاى .. كيف يدمر الشقى هدوء مأواى.. خذ بثأرنا منه.. احرمه ربى من لذة امتطاء أنثاه..
قال الدرويش اوعى تهدم السقف فوقنا
لن يهدم السقف إلا بأمرى.
قال الشقى : جاركم عاوز يعمل تقاطع فى الشقة : يفصل بين النهرين.. قلنا له إوعى تقطع حاجة وإلا قطعنا رقبتك نلقيها تحت عجلات قطار مرسى مطروح.. مش كفايه إنه دخيل على الشقة.. إحنا فى شوق لنتذوق لحمه النى
سأله الدرويش : انت رايح فين
قال : أنا بتمشى شوية من جهة محطة مصر وراجع تانى
ليتنى أراك محمولا على الأكتاف تقتات من دمك أسراب الناموس الجائعة الهائمة فى نهار الليل وليل النهار القادمة من ترعة النوبارية الوغد راح والوغد جاء متى يحملونه الحمل الأخير
قال الدرويش تعال.. معايا ديوان المظاليم.. لنفسه : تدخله ولا ترجع منه على الإطلاق.
وضع ذراعه فى ذراعه.. لكنه فى داخل سوق القطارات والفحم المشتعل بالدموع الحارقة .. سار وحده إلى مصلحة المظاليم وجد سعيدة المطلقة الثانية تأكل أظفارها ولا تهضمها يبدو عليها الإرهاق الشديد.. تحتضن ابنتها (الأب موظف من امبابه أنجبها فى ساعة عسر عسير) فى حنان حزين لم تحضر العانس الجميلة إلى مصلحة المظاليم .. اليوم (إيمان) ابنها يتبرز عفاريتا وجنونا .. تصرخ فيه يعبث بأدوات المطبخ تقتلع شعر نعليه .. يزداد جنونا.. ويلوك شعره حتى التخمة الحائط يركز ذكورته على الكاهنة رئيسة الحسابات.. نرجس تحتضن كلمات الدرويش وصغير الحجم يتناول سندوتش الصباح رشوة كل صباح من أمانى المشتاقة إلى يوم العناق.
النساء فى الحجرين يشحن بوجوههن عن وجه الدرويش المتآكل من الحزن الحزين.. يبدو لهن عفريتا من الجن.. تحولن بأنظارهن إلى الرجل صغير الحجم قال الدرويش أظنه من عمل الشياطين يريدون محاصرتى لأكف عن متابعتهن. حمل الباب.. نفذ منه أوقف الناس عن السير حتى يعبر النفق .. أسأل الذين يسألون : يا ناس يا بشر : خيرات الله تغمرنا فى الطريق العام حيث يتبول الحمار والبغل والحصان .. فلم تدوس المعزة على عنق جرتها.
بطاطس اشتراها مذاق كل عصر.. حملها مع كيلو بامية.. اشتراها من عامل فلاح يعمل بمصلحة المظاليم.
تتابعت الكاميرات الحية والميكروفونات حول شاب أنقذوه من تحت أنقاض عمارة مصر الجديدة المنهارة بعد أن قرض فئران المذبح حديدها في يوم الزلزال العظيم قال مدير مستشفى هليوبوليس إن الشاب شرب من بوله حتى ارتوى من مائه الذى اقترضه من فئران المذبحة أسفل الصهاريج الصدئة ورفضت زوجته الأجنبية شرب بولها فماتت.
فتح صنابير النافورات المتدفق سيرها وأخمد حريق الجسد الفائر فى منتصف مياه ميدان التحرير.. صلى الشيخ صادق العدوى صلاة الغائب على أرواح ضحايا .. قال : «إن السوء انتشر
قال الدرويش لرجل يمر أمامه.. يتعب المرآة ويمر : الطحال يباع فوق عربات.. يجب أن يتطهر الناس بفرشة أسنان جيدة..
يحترق الدرويش حريقا حريقا يدمر بنيانه كلما فكر فى السبب فى الطول والعرض ويباع أنقاضه فى سوق الجملة بأرخص الأسعار كل ما يريده من الدنيا استخراج بطاقة شخصية ولا يعرف كيف يستخرجها من تحت الأنقاض..» ترك الأمر لله دليل الحيارى فى متاهات الأيام العجفاء.. قال: «مولاى لا يريد الآن - على الأقل - أن يدلنى على طريقة أحصل بها على البطاقة..
عطس عطسة حلوة.. فكت كربه الشديد.. شكر (الدرويش) ربه القدير عليها.
ليلى امرأة حفظ الأمانات حبيبة أمين المخزن وقرة عينه .. نقلتها هودج اللحم العظيم إلى فرع من فروع مصلحة المظاليم. من الأرض الحارة نقلتها تنبت شعيرا وحنطة إلى حمامات السباحة أيام المجد الرومانى التليد : لمحها موظف الأمن فى المصلحة وهى تسير مع حبيبها من فتوات محرم بك صار أمين المخزن العاشق وحيدا : كلبا أجرب ينبح وحده بلا إناث متيمة بحبه.. ماتت أم هودج اللحم العظيم مديرة مصلحة المظاليم وتوافد الرجال يبحثون عن مقر وضع جثة الأم الكبيرة فى مدافن المنارة.. فى عربة مصلحة. جلس رجل الإدارة المالية القبطى والمهندس القبطى بجوار السائق.. فتح السائق أبواب محطة القرآن الكريم وباقى العربة تحمل مظاهرة المعزين.. أما الإبراهيمية حيث إقامة هودج اللحم العظيم رفعت رايات الحزن العميق تحية لجثمان الأم وهى فى طريقها إلى نهاية النهايات.. وجلس بجانب الدرويش هانى شارب البايب الموظف القبطى الجديد.. ومدخنة البايب تنفث دخانا رماديا بنكهة لذيذة غطت الطرق والكبارى والترع والمصارف عند أول وآخر الطريق السريع.. عند السرادق وقف الشاب الطبيب الممتلئ لحما وعظاما ودما تمرح فيه سيارات الحزن الغامر على الجدة الحنون ووقف بجانبه ضابطان كبار من البحرية ومعهما عدد من الجنود ببنادقهم.. قال الدرويش لأحدهم : ما لزوم حملة البنادق وإطلاق النار فى الهواء.. وبث القلق فى نفوس الموتى الراقدين فى هدوء تحت عالم الأتربة قال : لزوم العز والأبهة والمجد المهيب .. وقف شعب المصلحة بجوار بعضهم يتهامسون ووقف الدرويش بجوار دهاء التصق دهاء بالدرويش قال الدرويش لنفسه لعل شجرة الجميز طرحت ثمارها فى داخله.. أما النصف بغلة فإنه لا يمسك نفسه بحبل غليظ.. تطل من شبابيك عينيه قهقهات ملتصقة بالغراء فى وجهه لا يقدر على نزعها إلا نجار عقير متمرس فى الداخل أشار دهاء للدرويش إلى حجرة تتصدر مدخل الباب : حمدى صالح الضابط السابق ورئيس الوزراء فى عهد سابق ينام فى قبره حزينا تذرف عينه دموع ساكنة صامتة أغمض العينين يزهد فى الدنيا بعدما رأى ما وراء الغمام حيث المسرات والأحزان ومجدى فواز أحد المحافظين السابقين لا حرس يحييهما ولا يتذكرهما أحد.. قال الدرويش : صمت أنتما صمت والعالم مشتعل الإوار قالا : عافنا الدنيا وان كان هناك حنين للعودة ولو كضابط صغار الرتبة .. قال قائل : تقبل العزاء فى الداخل يا سادة حيث يرتفع الموت فى الساحة الآهلة بالمنسيين.. رحلوا ثم يعودون فى يوم من الأيام.. سبقه دهاء وجد الدكتورة شقيقة هودج اللحم العظيم وأختها الغارقة فى بئر الدموع الممتلئ حتي الحافة.. ولمح الدرويش ابنة أخت هودج اللحم العظيم وأخريات يقرأن آيات من القرآن : الآن تتجلى الحقيقة رائعة.. ضوء عظيم يضىء لعدة ساعات ثم ينساه الناس : رحلة اللاعودة للدنيا إلى الأبد.. دنيا حافلة بالأحزان والمسرات واللامسرات..
صافح الدرويش الدكتورة وصافح أختها النائحة بشدة على الميتة حتى غرقت سفن أحواض المقابر..
وتوجه الدرويش إلى عرب المصلحة فى الطريق إلى المصلحة مكتظفة هى بالعائدين : عادوا من نزهة الحقيقة الصارمة لا حدود لها.. يغرق من يغرق ويسبح من يسبح حيث لا شاطئ إلا شاطئ لله
Powered by vBulletin® Version 4.2.5 Copyright © 2025 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved, TranZ by Almuhajir