المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تحت رحمة الطيار



سعيد أبو نعسة
30-09-2006, 11:50 AM
تحت رحمة الطيار
أطبق الليل بستائره الدكناء على بعلبك متواطئا مع الوحدة التي خلّفتني بين أركان بيت أعلن أنه الشاهد الوحيدعلى حياة حيّـنا الذي كان قبيل انهمار الصواريخ اليهودية المدمرة خلية نحل تعمل لدنياها كأنها تموت غدا .
قناديل السماء أبت إلا تطويق الجبال التي تحتضن المدينة مشكّـلة مع الطائرات العدوّة حزاما ضوئيا ذا صوت رعيب ؛ يراك و لا تراه؛ يرصد حركات البشر و الحجر و لا من يرصده أو يهشّ عليه بطلقة .
نجوم سداسية شريرة تتسكع بين الكواكب في كرّ متواصل يرعد و لا يُزبد ؛ يمطر قذائف عنقودية و أخرى فوسفورية يصيب بها من يشاء من أهداف ثابتة ومتحركة فلا تسمع من الناس همسا و لا تلحظ لهم حسا ؛ كأنهم في الأقبية عظام نخرة يحركها وقع القصف و يعيدها انتهاؤه إلى أمكنتها خشبا مسنّدة ترتعش و بالكاد تفتح فما يدعو الله أو تغلقه إلى الأبد .
و أنا أدور بين الغرف كأسد سجين أروح و أجيء دونما رغبة في الحركة مفضلا إياها على ثبات يوحّدني بسكون المدينة القاتل .
أرهف السمع فيأتيني صوت الطائرات الاستطلاعية فأوقن أن الطيران الحربي على وشك الإغارة .
ألملم ذاتي و أقرأ ما علق بذاكرتي من آيات قرآنية و أدعية مأثورة علها تلهمني الصبر و السلوى ؛ و أتأبط حقيبة يد صغيرة ضمت جوازات سفر عيالي و كل ما ادّخرته من مال أبيض ليوم كهذا الأسود . و أندفع في العتمة على غير هدى نحو الباب الخارجي و هدير الطائرات الحربية يسابق أنفاسي اللاهثة ؛ و الأفكار تتجاذبني :
ترى ما هو الهدف التالي ؟
لقد أتى القصف على كل ما يمت إلى حزب الله بصلة . لم يوفر حتى مخازن الدواء ودور الاستشفاء و حتى مساكن مناصريه .
هل أعتبر مناصرا للحزب و قد دافعت عنه في مقالة ؟
بيتي إذا هو الهدف ؟ يا إلهي !!!
أين صار الباب ؟ أغيثيني يا قطع الأثاث التي تعثر خطوي .
حتى اللحظة أراهم يحددون أهدافهم بدقة ؛ فماذا لو كان الطيار بشرا ؟ و البشر يخطئون . لو حدث هذا لأصبحت بيوت بعلبك كلها متساوية في احتمال التدمير .
ماذا لو أخطأ الهدف ؟؟
بل ماذا لو أرشده العملاء المزروعون في المنطقة إلى داري .
لنفرض أنه أضاع الهدف فهل سيكون رحيما و يعود إلى قواعده مثقلا بالصواريخ ؟
و هل سيحتمل إهانات قادته و عقوباتهم ؟
تاريخهم يثبت أن الطيار سيلقي بالصواريخ كيفما اتفق ؛ و سيكون بيتي مشمولا بما تخفيه هذه ال كيفما العشوائية اللعينة .
الطائرات تقترب و مدخل شقتي يبتعد ؛ و الظلام يفصل بيني و بين حتف مفترض .
أسمع أزيز صاروخ ينطلق ؛ فأرتمي على الباب طلبا للخروج ، فأرتجّ و الباب معا و أشعر بالحيطان تتراقص حولي جالبة مع دوي الانفجار الهائل رعبا على رعب .
رحم الله من أخبرني ذات يوم : إذا سمعت صوت الانفجار فاحمد الله أنه ليس عندك .
قريب هذه المرة كان الهدف ؛ أكد لي ذلك الهواء المضغوط الذي دفعني إلى الخلف و أنا أفتح الباب و شدة الارتجاج الذي ضرب منزلي ؛ و التفاف ساقيّ و أنا أحاول اختصار درجات سلم البناية طلبا للنجاة في الدور الأول .
خرجت من المبنى و صعقت للنيران التي راحت تلتهم مزرعة فواكه قريبة من داري و كنت أظنها مسالمة مدنية مثلي و لم أكن أعلم بأن اخضرارها يخفي تحته مستودع أغذية .
حمدت الله أنني ما زلت أحس بما حولي وأن أحدا لم يلحظ ما اعتراني من خوف و رهبة ؛ و عدت بعد أن عاد الدم يسري في عروقي و سمعت خطاب عقلي :
يا فهيم ؛ صاروخهم يجتث عشرين طابقا من جذورها و أنت تحتمي بالقاع ؟
قد يكون السطح أسلم !!
و رحت أرتقي درجات السلم نحو غرفتي مستسلما للقضاء و القدر ؛ داعيا الله أن يسدد رمي الطيار و ألا أكون الهدف القادم ؛ ثم عاد إليّ رشدي فصححت الدعاء :
اللهم لا تسدد رمي الطيار و ألق بصواريخه فوق التلال الجرداء !!
و لكن الله لم يستجب لدعائي .

وفاء شوكت خضر
30-09-2006, 12:28 PM
الأديب القاص الناقد / سعيد أبو نعسة ...
اسلام عليك ورحمة الله

شكرا لك لقد كدت أصاب بأزمة قلبية بعد الأزمة النفسية طبعا التي حركت كل مسبباتها قصتك هذه .
لست ناقدة ولا أتقن فن الردود حين يأخذني النص إلى عمقه ولكن غالبا ما أترك كلمات تشير لمروري .
مثلي أيها الفاضل تلميذة على سطورك تحضر فصل الحرف ، فاعذر تطفلي على صفحاتك .
لقد عشت الحدث بحذافيره بين كل فاصلة ونقطة .
حمدا لله أنك بخير وأنك لا زلت تثرينا بقصص فيها من الحكمة والفائدة ما يكون معينا لا ينبض على سلم الحياة المهتز .

دمت برعاية الله وحفظه .
كل عام وأنت بخير .

حسام القاضي
30-09-2006, 01:00 PM
أخي العزيز / سعيد أبو نعسة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

انتظرتها طويلاً ، وكنت واثقاً من مجيئها..

وها هي قد أتت

نبضات أديب في خضم هذا الحدث الجلل ، عايشت لحظاتك لحظة بلحظة

مبهور الأنفاس حتى النهاية القوية الساخرة ، تلك السخرية المريرة التي

تأبى مفارقتك أو مفارقة اعمالك .

نص صادق للغاية .

تقبل تقديري واحترامي .

سعيد أبو نعسة
01-10-2006, 02:39 PM
أختي الكريمة دخون
كل رمضان و أنت بخير
أسعدني تعليقك الوافي الذي ينم عن ثقافة ثرة و تمكّن من اللغة و أدواتها .
لا أراك الله مكروها .
دمت مبدعة

سعيد أبو نعسة
01-10-2006, 02:45 PM
أخي الحبيب حسام القاضي
انتظار الموت أصعب من الموت و انتظار الصاروخ أكثر رعبا من استقباله
لا أعاد الله تلك الحرب غير المتكافئة حين الأجواء تكون ملكا لطرف واحد يعربد في السماء على هواه و يتفكّه في اختيار الأهداف .
دام قلمك الناقد بعين البصر و البصيرة .

دلال كامل
07-10-2006, 11:38 AM
وصف دقيق لأحداث رهيبة ..لأوقات عصيبة كان الخوف فيها سيد الموقف .. كنا تحت رحمة من لا يعرف الرحمة .
مؤلم حد الموت هو الخوف الذي يجعل قدميك أشبه بعجينة رخوة ..أن تشعر بقلبك أغلق كل منافذه وقبع في زاوية ..ينبض بصمت حاله كحال كل القلوب ..أن ترى نفسك في الهواء ولا شيء يحجب الإعصار الدموي عنك

أبدعت في إيصال ما مررت به بتفاصيله إلى مخيلة القارئ

دمت مبدعا

سعيد أبو نعسة
07-10-2006, 10:51 PM
أختي الكريمة دلال كامل
تنذكر و ما تنعاد.
كانت حربا غير متكافئة و من رحمة الله أن جعل النصر للفئة القليلة الضعيفة ... لمن ينصره
ألا إن حزب الله هم الغالبون .
دمت في خير و عطاء

محمد إبراهيم الحريري
09-10-2006, 09:46 PM
الأخ الكريم الأستاذ سعيد ـ تحية
هي الحقيقة تتكلم اليوم بصوت العقل بعيدة عن رداء العاطفة، تسح بسريرة نقية أدبا يلامس الوجدان بريشة الواقع، ليسمو به واقعا إلى سدة العشق للحروف الصادقة ، تنبش الماضي لتزرع في ثراه مضغة الحق ، ينبت أغصان الصمود أبراجا تتعالى بين أفق وأفلاك رؤى .
الحقد لا يغرف من نهر أجدب ولا يضخ مياه العذوبة في أفواه المساكين بلسم حياة ولا إكسير أمنيات ، والصامدون يتربعون على قرار الخلود بركب المصيبة فلا يجدون مفرا إلا إلى مواجهتها بقلوب قدت من يقين الإيمان بتلبية دعاااااااااااااء الله ناصر جنده
تحياتي
أخش أن يدمر قلمي
فأنا مناصر لك
تحيااااااااااااااااااتي

سعيد أبو نعسة
10-10-2006, 09:14 PM
تتحفنا دائما بردودك الشاعرية التي تشكل بالفعل نصا على النص يفوقه ألقا و إبداعا
دمت نصيرا للحق الذي هو أحق أن يتّبع