تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : بعثة التجديد المقبلة في ظل الاجتياح العولمي ( موضوع في غاية الأهمية )



عطية العمري
08-11-2006, 08:29 AM
بعثة التجديد المقبلة في ظل الاجتياح العولمي:
من الحركة الإسلامية إلى حركة الإسلام!
د. فريد الأنصاري(*)

( 1 )

هل بقي شك في أن (العولمة) ــ بوجهها الكالح ــ قد اكتسحت فعلاً؟ وهل بقي شك في أنه قد تم احتلال الإنسان قبل احتلال الأوطان؟ ثم من ذا يتردد بعدُ في ملاحظة التحولات العالمية؟ أليست الأرض تدور اليوم على غير طريقتها المعتادة؟ ألا تدخل الأمة الآن منعطفاً جديداً من تاريخ علاقاتها مع نفسها، ومع الآخر؟

ألم تكشف الصهيونية ــ بوجهها الأمريكي ــ القناع عن غطرستها؛ استخفافاً بالعرب والمسلمين؛ في أجرأ حركة من تاريخها تجاه الأمة الإسلامية؛ استعداداً لشيء ما؟



لقد تقارب الزمان اليوم لينكشف عن شيء، والعالم يتهيأ له بدول تتوحد وتتكتل، وأخرى تتمزق وتتفرق، وبرموز تقوم وأخرى تنهار! فانطلاقاً من سقوط الاتحاد السوفياتي، وسقوط سور برلين بدلالاته السيميائية العميقة، حتى أحداث 11/9/2001م بأمريكا؛ كانت موجة أخرى من تاريخ التدافع الحضاري تتجمع؛ لتنطلق بأول عملية احتلال عسكري في القرن الحادي والعشرين الميلادي، وتدخل أمريكا العالم الإسلامي غازية بلا قناع سياسي! تدخل بخلفيتها الشمولية المتطرفة، الجامعة بين المطامع الاقتصادية والأيديولوجيات العقدية من (المسيحية الصهيونية)؛ فتكون العراق أول قنطرة للعبور إلى غزو جديد للأمة الإسلامية، بتجليات متعددة، قد تختلف مظاهرها من قُطر إلى قُطر ولكن مآلها واحد: هو الهيمنة العولمية الحديدية على العالم الإسلامي، وها هنا: تعددت الأشكال والموت واحد!

إن الغزو الأمريكي للعالم الإسلامي في صورته الجديدة الحاصلة اليوم؛ لهو صفعة قوية في وجه الأمة! ليس - فقط - من حيث هي أنظمة خانعة، أو متخاذلة، أو متواطئة؛ ولكن أيضاً من حيث هي مشاريع نهضوية فكرية، وقومية، ووطنية، بل حتى إسلامية أيضاً! ولِمَ لا؟ وسترى ذلك بدليله بعدُ خلال هذه الورقات بحول الله.

لقد انتهى زمن وكالة الأنظمة العربية؛ فالآن أمريكا هي التي تَعتقِل، وهي التي تحاكِم، وهي التي تصادِر، وتلقي القبض على من تشاء كما تشاء! فأيما خطيب، أو مفكر، أو داعية ـ أو ربما حتى عابر ـ أزعجها بكلمة؛ أصدرت أمرها باعتقاله، ولم تعد تبالي ولا حتى بحرج النظام العربي الذي يعيش ذلك المطلوب في حوزته وتحت سلطانه! وتلقي القبض عليه هي بنفسها هنا أو هناك في أي مكان من خريطة العالم الإسلامي!

ثم بعد هذا وذاك: من الذي يستطيع نقض مقولة اليقين: إن المسلمين اليوم يعتصمون بآخر القلاع الحضارية لوجودهم؟

وينتصب السؤال المرير: أين الحركات الإسلامية في العالم العربي والإسلامي؟ أين أكثر من قرن من الزمان مضى في بناء التنظيمات والجماعات؟ أين الخطط والبرامج والاستعدادات؟

ألم يئن الأوان بعد للمراجعة والمساءلة لحركات الدعوة الإسلامية هنا وهناك؟

إلى متى ونحن متشبثون بخطط خرقها الغرب واخترقها أكثر من مرة؟ ثم أتت عولمة النظام العالمي الجديد على آخر ما بقي منها! فلم يعد لها غير عجيج المظاهرات، وصراخ المهاترات؟! إلى متى ونحن متشبثون بوهم (إننا قادمون!) والواقع يشهد أننا (متراجعون)؟ تماماً كما تشبث نظام العراق المخلوع بوهم (خططٍ للسحق والتقطيع)؛ لم تلبث أن دكتها الدبابة الأمريكية، ولَمَّا تنقطع أصداء كلماتها الرنانة في الفضائيات!

أين الحركات الإسلامية من الإسلام؟ وإلى أي حد هي فعلاً (تجتهد) ـ بالمعنى الحقيقي للكلمة ـ من داخل بنية النص الشرعي، ومنظومته الاستدلالية؛ للتمكين لهذا الدين؟ أين هي الاستراتيجيات الدعوية، والجهادية؟ وأين موازين نقدها وتمحيصها؟

أليس قد آن الأوان فعلاً؛ لتجديد النظر في الأساليب التربوية، والمنهجيات الدعوية في زمن لم تعد فيها ظلال الأنظمة كما كانت، ولا مظاهر العدوان كما كانت، وصار العدوُّ - عن كثب - يراقب برامج التعليم، وخطب المساجد، والعلاقات الأسرية، ويحصي دور القرآن، والمعاهد الدينية، ونسبة الولادات؟ أليس قد آن الأوان لبعثة جديدة تجدد أول ما تجدد هذه (الحركات الإسلامية) نفسها! والتي تقادم لديها مفهوم (التجديد) فلم تعد قادرة على إعطاء ما لا تملك؟ إلى متى ونحن صامتون ومترددون في وضع الإصبع على مواطن آلامنا وأدوائنا وقد امتدت يد الأمريكي إليها قبل يدنا؛ لتعالجها ـ ولكن مع الأسف ـ بدوائه لا بدوائنا، وبطريقته لا بطريقتنا؟!

من هنا إذن؛ كانت هذه الكلمات التي إن أوردتُ فيها شيئاً عن نقد (الحركة الإسلامية)؛ فإنما هو محاولة للفت النظر إلى أن الوقت الذي نعيشه اليوم قد تضايق وتقارب؛ حتى لم يبق منه - لفوات الواجب ـ إلا وقت الضرورة! فمن ذا يحاول منا أن ينتقل من الشكل إلى الجوهر في (بعثة التجديد المقبلة)؟ ومَنْ ذا يبادر لتسجيل خطوة الانتقال التاريخي الكبير مع منعطف العولمة المظلم؛ من (الحركة الإسلامية) إلى (حركة الإسلام)؟

تلك أسئلة نحاول مقاربتها في هذه الورقات؛ عسى أن يقيض الله لها من يُخرِج من تبنها حباً نافعاً! وإنما الموفق من وفقه الله.

يتبع

عطية العمري
08-11-2006, 08:31 AM
( 2 )

* في بعثة التجديد: دراسة في المفهوم:

يرد مفهوم (البعث) في القرآن والسنة بمعنيين اثنين:

الأول: هو بمعنى إحياء الموات، كما في قوله ـ عز وجل ـ: {فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} [البقرة: 259]، وقوله ـ سبحانه ـ: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [النحل: 38]، وقوله أيضاً: {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ} [الحج: 7] إلخ. فالبعث هنا فعلٌ قدريٌّ تكوينيٌّ يرجع إلى إرادة الله ـ جل وعلا ـ بإحياء الميت، وتجديد الحياة فيه؛ ليخرج من عالم الفناء إلى عالم البقاء، أو من دائرة العدم إلى دائرة الوجود.

ولا يكون البعث ـ بهذا المعنى ـ إلا بعد حياة سابقة يعقبها موت؛ لما لمعنى (البعث) من دلالة على إعادة الحياة إلى من فقدها، وليس بمعنى نفخ الحياة ابتداءً، فهذا إنما هو (خَلْق). وأما البعث فهو: (إعادة خَلْق)، كما هو مفهوم من النصوص السابقة، وفي قول الله أيضاً في حق عيسى ـ عليه السلام ـ: {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} [مريم: 15].

وأما المعنى الثاني لمفهوم (البعث):

فيرجع إلى معنى (الإرسال)، وهو: تكليف الرسل بوظيفة البلاغ، كما في قوله ـ تعالى ـ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَــثَ فِي أُمِّـــهَا رَسـُولاً يَتْلُو عَلَيْهِــــــمْ آيَــاتِنَا} [القصـص: 59]، وقــــــوله ـ سبحانه ـ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15]، وقوله ـ جل وعلا ـ: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِم مُّوسَى بِآيَاتِنَا إلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} [الأعراف: 103]. ونحو هذا وذاك في القرآن كثير.

فالبعث هنا يرجع إلى معنى تكليفي، وأمر تشريعي تعبدي، بينما هو في الأول راجع إلى أمر قَدَرِي تكويني. إلا أن هذا المعنى الثاني يستصحب المعنى الأول من الناحية السيميائية، فلا يمكن تجريد اللفظ من إيحاءاته ببعثة الرسل، فكأنما ورود المبعوث على الأمة الضالة نوع من الغيث يحيي منها الموات، ويبعث فيها الحياة! ومن هنا كان قــول النبي #: «إن الله ـ تعالى ـ يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة مَنْ يجدد لها دينها»(1)؛ تعبيراً جامعاً لكل تلك المعاني، فهو دالٌّ بالأصالة على تجديد البعثة بالمعنى الإرسالي ـ أعني إرسال العلماء لا الأنبياء ـ وليس هو ابتداء وحي، وإنما هو تعليم وحي إعادةً وتجديداً. وهو دالٌّ بالتبع على معنى الإحياء، فبعْثُ المجددين إنما هو إحياء للأمة، ونفخٌ لروح القرآن فيها من جديد، حتى تعود إليها الحياة، وتنخرط من جديد في صناعة التاريخ! ومن هنا كان «العلماء ورثة الأنبياء»(2) ـ كما صح في الحديث ـ. هذا المعنى العظيم تؤكده بصائر القرآن العظيم، وبشائر السنة النبوية.

ولا تكون البعثة ـ بناءً على ذلك ـ إلا عملية جذرية شاملة وعامة، سواء رجعت في البدء إلى شخص واحد، أو إلى عدة أشخاص، على الخلاف في تأويل معنى لفظ (مَن) الوارد في الحديث: «من يجدد لها دينها»؛ أهو دال على المفرد أم على الجمع؟ قلت: هو في جميع الأحوال آيل إلى الجمع، حتى لو حملناه على المفرد؛ أعني حتى لو كان المنطلق التجديدي فرداً. ألا ترى أن أصل البعثة النبوية في هذه الأمة إنما هو رسول الله # نبياً واحداً خاتماً، ولكن مظاهر بعثته # تجذرت في جيل كامل من الصحابة رضي الله عنهم؛ تلك هي الموجة الأولى من البعثة الأولى، حملت دفعة الوحي قوية تحيي الموات.

ثم كانت بعد ذلك موجات متفرعة عنها، هي منها وإليها، وهي بعثات التجديد التي حصلت في التاريخ؛ إذ شهد جيل التابعين، الكبار والصغار، ومن عاصرهم من أتباعهم أول عملية للتجديد في أواخر المائة الأولى وبداية الثانية، من أمثال: سعيد ابن جبير (ت: 59 هـ)، والحسن البصري (ت: 011 هـ)... إلخ. وغيرهما كثير ممن كانوا جيل التجديد الأول بعد جيل الصحابة، حيث نشروا العلم، وربوا الأمة، وبنوا أصول مدارس العلم واتجاهاتها، قبل تبلورها على أيدي جيل فقهاء الأمصار الكبار الذين مثلوا بعثة التجديد للمرحلة الثانية، ولدورة جديدة من دورات التاريخ؛ من أمثال أبي حنيفة النعمان (ت: 051 هـ)، وعبد الرحمن الأوزاعي (ت: 751 هـ)، والليث ابن ســعد (ت: 571 هـ)، ومالك بن أنــس (ت: 971 هـ)، وعبد الله بن المبارك (ت: 971 هـ)، ومحمد بن إدريس الشافعي (ت: 402 هـ)، وغيرهم.

وهكذا عرف جيل القرن، عند النصف الثاني من كل قرن حتى نهايته، أو عند النصف الأول من القرن حتى أواسطه؛ حركة تجديد البعثة أو بعثة التجديد من جوانب متعددة؛ منها ما يتعلق بالدين أصالة، ومنها ما يتعلق به تبعاً. فقد شهدت بداية القرن الثامن مثلاً بعثة شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية (ت: 827 هـ)، ومدرسته التجديدية من تلامذته المشهورين كابن القيم وغيره، كما شهدت نهاية القرن بعثة أبي إسحاق الشاطبي (097 هـ) بالأندلس من الغرب الإسلامي، ومعه جيل من المجددين المعاصرين له في ميادين شتى، كعبد الرحمن بن خلدون الإشبيلي (ت: 808 هـ) في تجديد علم التاريخ وفقه العمران البشري مثلاً... إلخ.

يتبع

عطية العمري
08-11-2006, 08:32 AM
( 3 )

إن القول بفردية المجدد، وحصر بعثة التجديد فيه؛ إنما هو نوع من التحكم، أو التعصب المذهبي ليس إلا! وكذلك التفسير الحرفي لـ (رأس المائة) من كل قرن بسنة محددة عيناً هو أيضاً سوء فهم؛ لأن حركة التاريخ لا تكون وليدة سنة أو سنتين، بل هي نتاج عمر كامل! وإنما قد تبرز ثمارها بشكل واضح مع مطلع هذه السنة بالتحديد، أو تلك. نعم قد يكون البدء فرداً ثم تنتشر الظاهرة وتمتد البعثة.

ثم إن فهم زمان البعثة المجددة على أنه رأس القرن بالمعنى الحرفي؛ مناقض لسنة الله في الكون والمجتمع، فإنما يكون نضج الإنسان ونشاطه التجديدي على امتداد جيل؛ أي على نحو ثلاثين أو أربعين سنة، وليس مختزلاً في سنة واحدة! وإنما يُفهم حديث رسول الله # علـى هــذا الوزان، فبعثــة التجـديد ـ من قوله # ـ «على رأس كل مائة سنة»؛ قد تنطلق قبل تمام القرن بسنة، أو سنتين، أو ثلاث، وقد تتأخر عن ذلك المقدار نفسه، مع مراعاة سائر الاحتمالات الممكنة في تحديد بداية العد؛ مما سنذكره بعد قليل، ما دام المقصود أن الجيل المجدد للقرن ـ الذي قد يولد في أواخر القرن الماضي أو نهايته، أو في بداية القرن الجديد ـ هو حامل رسالة التجديد، وهو موضوع البعثة الحامل لرسالتها.

ثم بعد هذا وذاك؛ كيف بدء العد لتمام المائة سنة عدداً؟ ما هو (رأس القرن) الذي عليه مدار ظهور حركة التجديد؟ هل هو بدء انطلاق حركة المجدد السابق؟ أو هو نهايته ووفاته؟ أو هو مضي مائة سنة على لحظة الانتكاس والانهيار الذي يتطلب التجديد؟ تلك أسئلة كلها واردة ومحتملة، وأغلب العلماء إنما عدُّوا قديماً (مائة التجديد) بالعد الهجري، وليس من تاريخ بدء البعثة النبوية؛ أي من يوم نزول {اقْرأْ} [العلق: 1]، وهو إمكان محتمل أيضاً، ولا من سنة وفاة النبي #، وهو أيضاً ممكن محتمل أيضاً، حيث يبدأ النسيج الاجتماعي الديني في البلى شيئاً فشيئاً، حتى يبعث جيل التجديد عند نهاية القرن من ذلك التاريخ. وإنما كان العد ـ كما ذكرت ـ من عام هجرة النبي # وهو راجح أيضاً؛ لأنه مثَّل صُلب عهد البعثة النبوية، ومنعطف التاريخ لبدء التمكين للدعوة الإسلامية الأولى؛ ديناً ودولة في الأرض!

وإذا نظرنا إلى بعثة التجديد في جيل القرن الماضي؛ أي القرن الرابع عشر الهجري فقد شهدت بدايته إلى أواسطه حركة شاملة، ونهضة عامة، مع ظهور جيل الأستاذ حسن البنا، حتى سيد قطب في مصر، والأستاذ أبي الأعلى المودودي في الباكستان، وبديع الزمان النورسي في تركيا... إلخ، مع تلامذتهم جميعاً، كلهم مثَّل بعثة التجديد لجيل كامل من العلماء المنتصبين للدعوة.

وبالعدِّ الميلادي كان ذلك هو أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وهي فترة شهدت أحداثاً مهمة جداً بالنسبة إلى العالم الإسلامي، فقد كانت عهد اكتساح (الاستعمار) الأوروبي، وإسقاط الخلافة الإسلامية العثمانية، وتوزيع تركة الرجل المريض، ثم إنشاء الكيان الصهيوني بفلسطين! كل ذلك كان مرحلة من سُنّة الله في التاريخ؛ لإنضاج حركة البعثة الجديدة التي قاومت ظلمات الاحتلال الأوروبي، ثم امتدت بعده لتصفية آثاره على المستويات الفكرية والعقدية والاقتصادية والسياسية... إلخ.

وأحسب أن الزمان في عصرنا قد دار دورة أخرى! وأن بعثة جيل (الاستعمار) الأول قد استنفدت أغراضها من حيث تأثيرها التجديدي، كما أن التحديات قد اختلفت وتغيرت وتعقدت، كما أن طبيعة المعركة صار لها أبعاد أخرى.

ويمكن أن نعتبر تاريخ سقوط الخلافة الإسلامية (1344هـ/1924م)، وانطلاق حركة الشيخ حسن البنا ـ رحمه الله ـ حوالي 1928م، وما صاحب ذلك من حركات، واجتهادات من السوابق واللواحق والقرائن، كل ذلك كان مؤشراً على أن البعثة التجديدية كانت في عهد موجتها القوية، فيمكن البناء عليه في عد المائة التجديدية لما نحن فيه اليوم.

ونحن الآن في السنة الرابعة والعشرين بعد الأربعمائة من الألف الثاني للهجرة؛ أي (1424هـ/ 2003م). وأقول لا عبرة بسنة أو سنتين أو ثلاث.. إلى عشر سنين في عد حركة التاريخ. وإنما العبرة برأس التحول الذي قد يبدأ بنهاية القرن أو ببدايته.

نحن اليوم إذن على أبواب تحولات جديدة، هي في تاريخ العالم قد بدأت بالفعل؛ إذ يمكن اعتبار سقوط الاتحاد السوفياتي، والهيمنة الأمريكية الصهيوينة على العالم أحد مؤشراتها، كما لا يمكن ـ في هذا الصدد ـ إغفال الاتجاه الوحدوي الأوروبي، والتقاربات الوثنية الصهيونية، وكذا الانهيار العربي الفظيع ومقولاته السياسية والقومية، والإبادات الجماعية لشعوب العالم الإسلامي في كل مكان! ثم عجز الحركات الإسلامية في العالم ـ غالباً ـ عن مواكبة التحولات العالمية الجديدة، وإصرارها على المنهج التقليدي في النقد والاحتجاج، هذا المنهج الذي ورثت أغلب تقنياته التنظيمية والحركية عن الأحزاب السياسية العلمانية البائدة التي نشأت في ظل (الاستعمار) وبُعيده، ولم يبق لها اليوم في واقع الناس إلا ظلال باهتة، هي أشبه ما تكون بأطلال الماضي! لم تستطع الحركات الإسلامية في الغالب أن تخرج من جبة الحزب السياسي، ونموذجه النضالي الدخيل! وإن ادعت أنها تفارقه وترفضه فإنما هي صورة تقليدية له؛ إما بصـورة اجتماعـية، أو ـ في بعض الأحيان ـ بصورة حرفية!

تعلقت الحركات الإسلامية بعقدة الأنظمة الحاكمة، ومشكلة الديمقراطية في العالم الإسلامي، وضخمتها إلى درجة التقديس العَقَدِي! كما تعلقت بقضية النُّظُم السياسية، والاقتصادية، والإعلامية... إلخ، ورفعت راية المقاومة المسلحة الداخلية والخارجية في بعض المواطن! وقد يكون هذا مناسباً في ظروف سابقة، أما الآن فأحسب أن التاريخ الجديد بمعطياته الحاضرة، وبملامحه المستقبلية؛ قد تجاوز هذه المشكلات جميعاً! فلم تعد الأنظمة الحاكمة تملك شيئاً على الحقيقة، وباشر الاستعمار العالمي اليوم، في الصورة الأمريكية الصهيونية، قمع الشعوب بنفسه، وبدون أي وكالة من هذا النظام أو ذاك!

ثم امتدت الآلة الإعلامية والثقافية والاقتصادية؛ لتستعمر الإنسان المسلم في أخص خصائصه الوجدانية والعقدية والاستهلاكية؛ ليعيش على النمط الأمريكي، أو يسعى إلى ذلك. هذا هو اليوم ـ مع الأسف ـ شأن كثير من البلاد الإسلامية! والكتلة (الأمريكية ـ الصهيونية) منهمكة في حرب شاملة؛ لتذويب الباقي والشارد من الشعوب الإسلامية؛ في هالوك العولمة، أو (حركة تهويد العالم)! هذه أشياء نشاهدها اليوم على مرأى ومسمع من العالم، وذلك ما حذَّرنا منه قبل أزيد من سنتين في كُتيبنا (الفجور السياسي)؛ فرد علينا بعضهم بنوع من السخرية، ورد آخرون بتقليل أهمية الخَطر، وقلة من الدعاة هم الذين رأوا ما رأينا.

لقد تمكن الاستعمار القديم من الأوطان، فقامت عليه بعثة تجديد مجاهدة، مناسبة لفجوره وبجوره! فحاربت وجوده العسكري والأيديولوجي بعد ذلك بشتى الوسائل؛ بيد أن الاستعمار الجديد تمكن من الإنسان قبل أن يتمكن من الأوطان! فاقتحم جسور البلاد بالشهوات قبل أن يقتحمها بالمدرعات والدبابات! ففقدت الشعوب الإسلامية قوتها على الصمود أمام الإغراء العولمي، وفقدت نمط عيشها وطرائق استهلاكها، واحتوتها الفلسفة الأمريكية الشيطانية احتواء كلياً إلا قليلاً!

نعم إنهم معارضون لأمريكا، لكن بمعنى أنهم يكرهون ظلمها فقط، لا بمعنى الكفر بوثنيتها وتألهها (الديمقراطي)، ورفض منهج حياتها، وطبيعة عيشها. ومن هنا يكاد يكون كان نقدهم لها عمليةً تقويمية جزئية من داخل بنيتها، ومن خلال نمطها، لا من خلال منظومة القرآن العظيم، ولا من خلال مقومات الشخصية الإسلامية المستقلة الأصيلة!

يتبع

عطية العمري
08-11-2006, 08:33 AM
( 4 )

ومن هنا؛ فإن بعثة التجديد المقبلة مدعوة إلى تحرير الإنسان قبل تحرير السلطان! وإلى تحرير الوجدان قبل تحرير الأوطان! ولقد رأينا كيف أن أحزاب المقاومة غير الإسلامية للاستعمار القديم في كثير من البلاد العربية والإسلامية؛ لما تخلصت من هيمنته العسكرية والإدارية المباشرة؛ خلفته في شعوبها بكل ألوان الكفر والفسوق والعصيان، وإعلان التمرد على شريعة الرحمن! وليس معنى هذا أنه يجب علينا أن نهادن الاستعمار الجديد، كلا! بل يجب إعلان الجهاد الشامل ضده! ولكن على أن يؤسس ذلك كله على البناء العقدي والجهاد التربوي. إننا في حاجة إلى تنزيل معاني القرآن من جديد، ليس وحياً من السماء؛ فمحمد بن عبد الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ قد ختم بعثة الرسل. وإنما المقصود: هو قدحٌ لحركة التداول الاجتماعي للقرآن! وذلك بأن يتحرك أهل البعثة الجديدة بآياته وحقائقه في المجتمع؛ تبصراً وتبصيراً، وتدبراً وتدبيراً.

لقد كان الرسول الخاتم # في اللحظات الأولى من نزول القرآن عليه؛ في حاجة إلى الثقة بنفسه أولاً، وهذه قضية مهمة سنحتاج إليها قريباً، ألم تر أنه خوطب ـ كما في الحديث المتفق عليه ـ بقوله ـ تعالى ـ: {اقْرأْ} [العلق: 1]! فكان جوابه مكرراً بتكرار الأمر: «ما أنا بقارئ»، حتى قال ـ في سياق قصة هذا الحديث نفسـه ـ لزوجـه أم المؤمنين خديجة ـ رضـي الله عنها ـ: «أي خديجة! ما لي؟ لقد خشيت على نفسي!»، فجعلت تواسيه وتطمئنه حتى ذهب عنه الروع، ثم ذهبت به إلى ورقة بن نوفل، وكان عليماً بالإنجيل، يستفسرانه عن حاله وطبيعة ما يراه عليه الصلاة والسلام؟(1) وقد ورد في الصحيحين أيضاً أنه # قال: «بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتاً من السماء، فرفعت بصري، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرعبت منه، [وفي رواية أخرى للشيخين أيضاً: فجُئثْتُ منه حتى هويت إلى الأرض!]، فرجعت فقلت: زَمِّلوني زمِّلوني، فأنزل الله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الْـمُدَّثِّرُ #(ه1ه# قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر: 1 - 2] إلى قوله: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 5] فحمي الوحي وتتابع»(2).

وشيئاً فشيئاً بدأ الإيمان يترسخ في قلب رسول الله #، الإيمان بنفسه نبياً ورسولاً من رب العالمين، حتى استيقن أنه أحد المرسلين، بل هو خاتم المرسلين والنبيئين.

ومن هنا كان # هو أول مؤمن في الإسلام، قال الله ـ عز وجل ـ في محكم القرآن: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْـمُؤْمِنُونَ} [البقرة: 285]، فهو أول مؤمن به قبل أن يدعو إليه أحداً من العالمين؛ حتى أقرب الناس إليه. آمن هو أولاً! وهذا أمر بديهي، لكنه قضية منهجية تحتل أهمية كبرى في فقه الدعوة الإسلامية.

فهل آمنت الحركات الإسلامية برسالتها ووثقت بنفسها؟ أو أنها على شك من أمرها مريب؟ إلى أي حد هي واعية؛ بل مؤمنة بوظيفتها الربانية؟ أو أنها تشتغل بمجرد (وعي المشاركة) في تطوير بنية مجتمع حديث؟ مجتمع هيكله الاستعمار الجديد وفق نظام حياة دخيل، ونمط عيش مستورد، فكان بذلك يخضع في خصائصه التنظيمية لنمط غير إسلامي! وما المجتمع إن لم يكن نسيجاً من العلاقات، ونسقاً من المؤسسات؟ ماذا يمكن أن تعطي قراءة للحداثة من خلال بنيتها غير الحداثة نفسها؟

فإذن؛ البعثة بمعناها التجديدي إنما هي (حركة الإسلام) أكثر مما هي (حركة إسلامية)، إنها ليست حركة ترهن نفسها بمشروع (أسلمة) لواقع هجين، مشروع لا يعدو أن يكون مجرد (مباركة) لمجموع مفهوماته؛ بشواهد قرآنية ونصوص حديثية مبتورة من سياقها، مجردة عن مقاصدها الشرعية، مفرغة من آثارها التربوية في النفس وفي المجتمع! إن (بعثة التجديد) هي حركة كلية تعيد إنتاج التنزيل القرآني بمنهجيته التربوية الربانية الشاملة؛ بوعي علمي راشد قوامه (الفقه في الدين) بمعناه الكلي، يؤمه جيل من العلماء الحكماء، ينطلقون مرة أخرى بالمعلوم من الدين بالضرورة، فيجددون الأصول العقدية والعملية؛ بمعنى تجديد الغرس والتربية والتكوين.

إنها إذن؛ تجديد (المشاهدة) للحقائق الإيمانية، وتجديد التَّمْسِيك الاجتماعي بالكتاب وإقام الصلاة، قال ـ تعالى ـ: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْـمُصْلِحِينَ} [الأعراف: 170].

الحاجة إذن تدعو - كما ذكرنا - إلى بعثة (حركة الإسلام)؛ بدل (الحركات الإسلامية)! لكن لا بد من بيان حقيقة: وهي أن (حركة الإسلام) لا تلغي (الحركة الإسلامية) ولا تنقضها، بل إنها تمثل عمقها الاستراتيجي، ومددها الحضاري! ولذلك فهي مصدر (بعثة التجديد)؛ بما تحدثنا عنه من اصطلاح، وهي المتحكمة أساساً في حركة تحول المجتمع، وتوجيه التيار، وبناء النسيج الديني. وليس (للحركة الإسلامية) من ذلك غير استثمار نتائج (حركة الإسلام)؛ لتوظيفها فيما هي فيه من معركة (الشأن السياسي اليومي) ثم الرجوع بذلك على (حركة الإسلام) بالدعم العام.

أول سؤال نضعه في هذا السياق إذن هو: هل استنفدت الحركات الإسلامية أغراضها؟

قبل الجواب عن هذا السؤال لا بد من بيان: ما الحركة الإسلامية؟

مصطلح (الحركة): هو مفهوم حديث؛ إنه مفهوم سياسي اجتماعي، ينتمي معرفياً إلى علم الاجتماع السياسي، حيث تتبلور الأفكار في ذهن مفكر أو مجموعة من المفكرين، فينخرطون في تأطير الناس على تلك الأفكار، بصورة منظمة، أو شبه منظمة، ويناضلون من أجل تحقيقها في الواقع؛ وتكون (الحركة)!

فالحركة إذن: تيار منظم فكرياً وبشرياً، وفق نسق معين من الوحدة الفكرية، يمارس نوعاً من التدافع في المجتمع، مع غيره من التيارات المنظمة، وغير المنظمة؛ من أجل الغلبة والسيطرة، أو من أجل البقاء فقط، أو من أجلهما معاً.

ولذلك نقول: (الحركة الماركسية)، و (الحركة الديمقراطية)، و (الحركة الليبرالية)، و (الحركة القومية)... إلخ. ومن هنا أخذ مصطلح (الحركة الإسلامية).

فـ (الحركة الإسلامية) إذن: هي تيار منظم فكرياً وبشرياً، يدافع من أجل إقامة الدين في المجتمع. إنها تعبير عن الرغبة الدينية لدى عدد من الأشخاص؛ في (أسلمة) المؤسسات الاجتماعية. ولذلك قلنا قبل: إنها (بيان دعوي)(3). لكن هذا إنما هو من حيث الطبيعة العامة المتصفة بها، والرغبة الوجدانية الكامنة فيها، والمسببة لنشأتها. وأما من حيث الصيغة المنهجية فهي مظهر (حزبي) بالمعنى الغربي الحديث للمصطلح، يمكن أن يتجلى في عدة صور لكنه يرجع في النهاية إلى جوهر واحد؛ هو مفهوم (الحزب)(4).

ومن هنا يمكن أن نميز في الحركة الإسلامية بين شيئين: القصد، والمنهج.

فالقصد: إسلامي دعوي تعبدي. هذا على الإجمال، وقد فصَّلناه بأدلته في كتابنا (البيان الدعوي).

وأما المنهـج: فمن الصعـوبة أن ننفي عنه التأثـر بالأطـروحة السياسية بمعناها (العلماني) الحديث، وبردود الأفعال المنهجية في مواجهة الأحزاب السياسية المعاصرة! هذا على الإجمال أيضاً، مع عدم نفي الخصوص الديني للحركة الإسلامية، فالتأثر العلماني راجع في جوهره إلى تبنِّي النموذج الغربي في التغيير، وصيغة الأطروحة التاريخية الأوروبية للثورات الدموية، أو للتحولات الديمقراطية، وفي كلا الصورتين تَبَنٍّ واع، أو غير واع لمنهج التغيير العلماني. وهو في نهاية المطاف لا يعطي مجتمعاً جديداً بقدر ما يعطي صورة أخرى له هو نفسه، لكن في وضع جديد من حيث الشكل ليس إلا، ولا تحول في الجوهر.

وبهذا تكون (الحركة الإسلامية) عملاً محدوداً بحدود اجتهادية، وتنظيمية، وبشرية. إنها تصور بشري وضعي، لمنهج العمل في ترجمة قيم الدين ومقاصده! وهي كسب في الممارسة الدينية في المجتمع؛ ومن هنا لابست الإسلام وفارقته في آن واحد! فقد لابسته في (الانتساب) على مستوى النية وتجلياتها، وفارقته في (النسبية) على مستوى منهج العمل!

يتبع

عطية العمري
08-11-2006, 08:37 AM
( 5 )

وإذا كان ذلك كذلك؛ فإن الحركة الإسلامية محكومة بسنن الاجتماع البشري تماماً كالحضارات والدول بالمعنى الخلدوني؛ أي أن لها:

- مرحلة نشأة.

- ومرحلة نضج واكتمال.

- ثم مرحلة هرم وانهيار.

ولا يعني ذلك طبعاً أن (الإسلام) يتأثر ضرورة بما يصيبها، فقد ينشئ الله ـ جل جلاله ـ لدينه موجة تاريخية أخرى تحمله وتؤصل دعوته. قال ـ جل وعلا ـ: {وَإن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38]، وقال ـ سبحانه ـ: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْـحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام: 89].

وإنما حديثنا عن الحركة الإسلامية هنا هو باعتبارها تجربة بشرية، محكومة بالسنن الربانية التي تحكم سائر التجارب والمكاسب البشرية في المجتمع، فهي سنن ثابتة لا تحابي أحداً، ولا تتحامل على أحد. قال ـ تعالى ـ: {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 62]، وعليه فإننا نحسب أن الحركة الإسلامية في صيغتها التقليدية قد استنفدت بعض أغراضها، أو ـ بالتعبير الأدق ـ هي على وشك ذلك، ونقصد بالصيغة التقليدية: الصورة الحزبية التي اكتسبتها الحركة الإسلامية الحديثة في نشأتها؛ تأثراً بالنظام الحزبي الغربي، وقد بينا أن معظم الحركات الإسلامية اليوم في العالم الإسلامي هي على تلك الشاكلة؛ سواء منها التي تسمَّت باسم (الحزب)، أو التي تسمَّت باسم (الجماعة)، أو (الحركة)، فجوهرها جميعاً واحد.

إن التحولات العالمية الحديثة في صورتها (العولمية) التهويدية؛ سائرة في اتجاه تغيير بنية المجتمعات الإسلامية؛ وذلك بمخاطبة إرادة الشعوب مباشرة، وتجاوز الوسيط السلطاني الذي لم تعد لديه أي مقومات لإقناع الشعوب، وخاصة أن القـوى العالميـة الاســتعمارية تدرك جيـداً أنـه اليوم ـ أكثر من أي وقت مضى ـ لا يملك إرادة الشعوب، وإن كان يملك السلطان السياسي بصورة نسبية، لما لحظِّ الوكالة والعمالة للاستخبارات الغربية الاستعمارية من نصيب كبير فيه.

إن (العولمة) الجديدة أو (حركة تهويد العالم) ـ في صيغتها الأمريكية الاستهلاكية ـ لا تسعى إلى إخضاع العالم الإسلامي عسكرياً واقتصادياً فحسب؛ على طريقة استعمار القرن التاسع عشر والعشرين، ولكنها تسعى إلى إخضاع الإرادات، أو بعبارة أدق: احتلال (الإنسان) من حيث هو انتماء وولاء ووجدان! تماماً كما وقع للشعوب الأمريكية الأصلية، أو ما بقي منها، وما يقع للشعوب الآسيوية القصوى، مثل اليابان خاصة.. هذا البلد الذي كان مضرب مثل لكثير من الدارسين العرب ـ حتى بعض الإسلاميين منهم! ـ الذين ينظرون إلى سير الحضارة وإلى حركة التاريخ بعين واحدة فقط! فرأوا في التجربة اليابانية نموذجاً للنهوض! لكنهم نسوا حقيقة أخرى خطيرة، وهي أن نهوض الشعب الياباني مادياً كان على حساب فقدان الإنسان الياباني! لقد حل الوجدان الأمريكي في إرادة المجتمع الياباني، ولم يبق له من خصوصيته الثقافية والأنتروبولوجية غير مظاهر محدودة من الفلوكلور السياحي ليس إلا! ولا يغرنك منهم هذا الاحتجاج، أو تلك المظاهرة ضد السياسة الأمريكية في العالم، فقد انخرط ذلك كله في نقد أمريكا بوجدان أمريكا! وانتهى وجود اليابان الإنسان!

نعم لقد استعصى العالم الإسلامي وحده حقاً على الابتلاع، وأبى أن يدور في آلة التغريب رغم كل ما حدث! رغم ما تعرض له من تشوهات في طبقته (المثقفة) والأرستقراطية، وسائر شرائحه الاجتماعية، بقدر من التفاوت في التأثر والتشوه بين هذه الشريحة أو تلك، حسب ما تعرض له من مناهج تعليمية وإعلامية، لكن جوهر (الإنسان) فيه بقي محافظاً على فطرته على الإجمال، مصراً على تجديد ذاكرته، ولم يفقد الرغبة والأمل قط في توظيفها من حين لآخر، وما وجود الحركات الإسلامية نفسها ـ رغم نقدنا لها ـ إلا نوعاً من التعبير عن هذه الرغبة، ومقدمة من مقدمات توظيف تلك الإرادة.

إن الاستعمار قد أدرك ذلك جيداً؛ ولذلك فقد أنتج (العولمة) باعتبارها أحدث خطة لاحتواء الوجود الإسلامي الراسخ في وجدان الأمة! فإلى أي حد تستطيع (الحركات الإسلامية) في صيغتها الحزبية التقليدية ـ وهي التي نشأت في ظل رد الفعل الاستعماري القديم ـ أن تستجيب لتحديات (العولمة) في صورتها الجديدة التي تحمل مشروع تهويد العالم؛ لتحقيق ما يسمى في المنظومة الصهيونية بـ (إسرائيل الكبرى)؟ وواضح جداً أن دون ذلك قتل الوجدان الإسلامي في الأمة بشتى ألوان المسخ والتشويه!

العولمة إذن؛ ما تزال في طور نشأتها، بل لم يكتمل تشكُّلها بعد، ولم تلتئم صورتها الكلية على تمامها، ولم يزل لها في المستقبل القريب نتاج جديد قصد تكميل الصورة!

أين الحركة الإسلامية إذن ـ بصورتها الموصوفة ـ من هذا كله: وعياً وإرادةً، ومنهجَ عملٍ وجهاد؟ هذا هو السؤال الجوهري الذي يمثل صُلب هذا البحث وجدواه!

إننا نعتقد أن الحركات الإسلامية ستتطور إلى مآلات؛ هي نتيجة للمقدمات التي انطلقت منها ابتداءً، وهي (الحزبية التقليدية) نفسها. أو بعبارة أخرى (حركات) الماضي والحاضر هي (أحزاب) المستقبل.

فالقوى الاستعمارية الحديثة تسعى - عن طريق نظمها الديمقراطية، واكتساحها العولمي ـ إلى إخضاع الحركات الإسلامية للعبة، وإدراجها ضمن مقولة (النظام العالمي الجديد). إن لغة التهديد والتجويع والحصار، واللائحة السوداء للأنظمة، وللمنظمات والأشخاص، وما اكتنف ذلك كله من لغة إعلامية مدمرة، على المستوى النفسي والاجتماعي والسياسي ـ كمصطلح الإرهاب مثلاً، ومصطلح التطرف، وما شابههما من خدع لغوية ـ تستصنع في المعامل الصهيونية (للسانيات الحديثة)، هذه المعامل المخبرية، الخبيرة في تحريف الكَلِمِ القرآني عن مواضعه! قال ـ تعالى ـ: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ} [النساء: 46]، وتـدبـر بعـد ذلك ـ في ضوء زماننا هذا - قوله ـ تعالى ـ: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 41]، اقرأ وتدبر ثم أبصر: {يَقُولُونَ إنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} [المائدة: 41]! أليس كذلك؟ بلى والله! إنه اليوم أظهر مما كان من قبل! كل ذلك إنما هو صور من (طُعْم) للصيد؛ من أجل الدخول في قفص (العولمة) أو (الديمقراطية الأمريكية)، فبالنسبة إليّ لا فرق بين هذه وتلك في نهاية المطاف، إنها في الجوهر فلسفة واحدة.

واستجابت فعلاً بعض (الحركات الإسلامية) لذلك! فهي الآن تتخلى عن كثير من منطلقاتها ومصطلحاتها، وتنتج (فقهاً) جديداً يناسب حداثة العولمة، ويدور في آلتها شيئاً فشيئاً! إنها صارت تنتج جزءاً من خطاب ما يسمى بـ (المجتمع المدني)، هذه المقولة العولمية الجديدة التي تشكل نوعاً من (الترويض) أو (التدجين) للإسلاميين، إنها تصنع نوعاً من التقابل والتنافر مع مفهوم (المجتمع الديني)! حيث تقابل المصطلحات الشرعية بمصطلحات علمانية لها دلالة رافضة للمحتوى الديني الإسلامي، فمثل ذلك تماماً ما يصنعونه في مشروع تغيير مدونة (الأحوال الشخصية)؛ من تغيير مصطلح (العقد الشرعي) ـ أو مزاحمته على الأقل ـ بمصطلح (العقد المدني) الذي لا يفيد شيئاً في النظر الشرعي غير معنى الزنا لكن بصورة (مقننة)! إنها حركة تحريف يهودي شامل! إنها ـ بلغة (الآخر) ـ عملية (أنسنة) الإسلام؛ أي إفراغه من مضمونه الرباني التعبدي؛ حيث يحل الإنسان ـ عندهم ـ محل الرب، في مركزية التفسير الوجودي والتشريع الاجتماعي!

يتبع

عطية العمري
08-11-2006, 08:38 AM
( 6 )

إن استجابة الحركة الإسلامية اليوم هي نوع من الاعتذار اللاشعوري للغرب، ونوع من البرهنة على صلاحيتها للدخول في النظام العولمي، والتحدي الديمقراطي، وإظهار لنوع من (حسن السيرة)، و (صلاح المواطنة) على موازين الشيطان الأمريكي الصهيوني!

من يجرؤ اليوم على اتهام الديمقراطية هذا الصنم العولمي الجديد؟ بالأمس كانت الأصنام الشيوعية تمارس نوعاً من (ديكتاتورية البروليتاريا) على المستوى الثقافي والسياسي؛ فلا تسمح لأحد بانتقاد الصنم الماركسي أو اللينيني! واليوم أصبح تمثال الحرية في أمريكا ـ الذي ليس له من مدلول الحرية غير التمرد على حقوق الخالقية ـ صنماً يعبد من دون الله الواحد القهار! صنماً منتصباً لحماية مفهومات الليبرالية والديمقراطية، وفرضها على العالم الإسلامي، ليس بما يضمن حقوقه السياسية، كلا! فمن يصدق هذه الأكذوبة إلا ساذج أو بليد! ولكن بما يذيب مفهوم (الإنسان) فيه، ويصهره في آلة الاستهلاك المدمرة! حتى يكون عبداً خسيساً للوحشية الجديدة!

إن الحركة الإسلامية باستجابتها لشيء من ذلك؛ يعني أنها قد أخذت بـ (مقدمة أولى) ـ بالمعنى المنطقي للكلمة ـ من شأنها أن تنتج على سبيل اللزوم (نتيجة) حتمية: هي الدوران في فلك العولمة. نعم ربما دارت فيه على سبيل النقد والمعارضة، ولكن تماماً كما هي أحزاب أوروبا المعارضة للعولمة، والتلوث البيئي، وحماية الحيوان البري! بمعنى أن ذلك لا يخرج من دائرة (الأنا) العولمية نفسها، ومركزية الإنسان الغربي، وما عسانا أن نكون في هذا الاتجاه إلا تَبَعاً!

إن الصيغة التنظيمية للحركات الإسلامية، وآليات اشتغالها اليوم، وكذا جوهر خطابها الحركي مما تنتجه في (أدبياتها) وتجمعاتها وخصوص خلاياها؛ كل ذلك كفيل بإدخالها نادي (النظام العالمي الجديد) على حد تعبير الأمريكان!

إن دخولها (النظام العالمي) ليس يعني أنها تصير له (بوقاً) بالمعنى التقليدي للكلمة، كلا! فليس هذا مقصودنا، وهو تصور تبسيطي لطبيعة (العولمة)! وإنما المقصود بدخولها هو الخروج من عالم (اللامفهوم) أو (اللامدرَك) ـ بالنسبة للحسابات الأمريكية ودراساتها الاستراتيجية ـ إلى عالم (المفهوم) أو (المدرَك)! وانتقالها من عالم (الخوارق والمفاجآت) إلى عالم (العوائد والطبيعيات) القابلة للحسابات! وذلك هو عين المقصود، حيث تصبح الحركة الإسلامية بالنسبة إلى الاستراتيجية الأمريكية رقماً قابلاً للإدراك، وعدداً قابلاً للحساب! وإذن توضع في موضعها من خريطة التخطيط الأمريكي الصهيوني بسهولة، وتصبح في سياق معارضتها ونقدها قابلة للإعمال والاستعمال، وللتحييد والإهمال! أو على الأقل قابلة للمعَالجة الميكانيكية! ونتائجها قابلة للتوقع وللإدراج في معادلة الإمكانات والاحتمالات الرياضية المدروسة بعناية.

أما أحزاب الماضي الرسمية، القومية منها والوطنية، والماركسية، والعلمانية، والعنصرية، وكـذا الكـرتونيـة؛ فمآلها ـ بناءً على تحولات الحاضر الجارية ـ إلى التحول أيضاً أو إلى الانقراض! فتلك أحزاب ما بقي من حقيقتها اليوم غير أشكال باهتة، سواء في ذلك ما تجلى في قيادتها الشائخة الهرمة، ليس من حيث هي أجساد بشرية، ولكن من حيث هي أجساد تنظيمية وأيديولوجية، وما تعلق منها بأسباب السلطان، أو الموالاة المفضوحة للغرب، ولأكذوبة (السلام)! أما رصيدها على المستوى الوجداني الشعبي فعلى دركات تحت الصفر! ولذلك فإما أن تتحول إلى (الإسلامية)، ولو بصورة انتهازية، وإما أن تنقرض إلى الأبد وتصبح جزءاً من التاريخ الذي كان!

ولِمَ (الإسلامية)؟ بدون عناء؛ لأنها المرجعية المستقبلية لأحزاب العصر العولمي الجديد، حيث بدأ الإسلام يُصنف عالمياً ـ عند العدو والصديق ـ بأنه هو المحرك الأساس للشعوب في العالم الإسلامي! وهو المرشح في الإدارة الأمريكية الصهيونية للمخاصمة الجديدة، ولتسويغ التسلح العالمي المجنون في حرب باردة أو حارة! وقد بدأ ذلك يتضح وتتجلى ملامحه منذ انهيار المنظومة الماركسية؛ بسقوط صرح الاتحاد السوفياتي البائد.

الدور الحزبي المقبل إذن؛ هو دور (الحركات الإسلامية)، فهي المؤهلة لذلك، وهي المقصودة للقيام بهذا الدور، وقد بدأت بالفعل في ممارسته بإعلان رسمي أو بغير إعلان، فالهيئات التنظيمية الإسلامية المشاركة صراحة في اللعبة السياسية قد دشنت هذا الاتجاه بإرادتها، وأما الهيئات التنظيمية الإسلامية الرافضة أو المعارضة فقد دشنته أيضاً بمعارضتها، إنها حركات سياسية ذات خطاب إسلامي، أو هي حركات إسلامية في قالب سياسي. وبهذا فهي تمارس نوعاً آخر من (المشاركة) السياسية بطريقة أخرى. وإن أعلنت في خطابها (رفضها) لكل أشكال المشاركة، ولكن رفضها يصدر بالمنهج نفسه الذي تعتمده حركات المشاركة؛ أي منطق الحزبية التقليدية. إنه رفض (موقفي) وليس رفضاً مبدئياً، إنه محكوم بالموقف من (عقلية) الحاكم، أو من طريقة تنصيبه، لا من مفهوم (المجتمع الإسلامي) وطبيعته، ولا من مفهوم الدين وشموليته، فهي إذن تتكلم من داخل الجبة العلمانية من حيث لا تدري، وذلك أشبه ما يكون بمن يرفض الحيلة بحيلة، ولذلك فهي أقرب إلى التحول الكامل إلى الصورة الحزبية العتيقة في صورة إسلامية.

ومن هنا كان نظرنا أن الاتجاهين معاً أنهما وجهان لعملة واحدة! وإن بدا بينهما ما بدا من الخصام الذي لا يعدو أن يكون خصام منافسة؛ أكثر مما هو خصام مناقضة وتنافٍ. كلاهما إذن مهيأ لدور أحزاب المستقبل، ولا سيما أنهما يمتلكان كل مقومات الحزبية: التنظيم والتعبئة الاستعراضية، والخطاب السياسي (المُنَمَّط). ووصفنا خطاب الحركات الإسلامية بأنه (مُنَمَّط) مقابل لما هو موجود عند الأحزاب (الوطنية) العتيقة من خطاب سياسي (مُؤَدْلَج)، حيث تتخذ تلك الحركات (رؤية) معينة للعمل السياسي، ترجع إليها تفكيراً وتأطيراً، فلا تكاد تجد من بين أفرادها من يفكر خارج تلك الدائرة، ولو بشيء يسير من الاختلاف، مع أن المجال اجتهادي صرف! ومع أن رؤيتها المرجعية تلك ليست هي (الإسلام) كما تدعي بعض فصائلها، وإنما هي (فهم معين) للسياسة في الإسلام، إنها (اجتهاد) قابل للخطأ كما هو قابل للصواب. لكن أخطر مشكلة تعاني منها في هذا الصدد هي أنها تقوم بنوع من (الاستصلاح) للفكر السياسي الغربي، فلا تنجو - لذلك - كثير من مقولاتها السياسية من التلوث بأصولها العلمانية! نعم لا نشك أدنى شك في أن هدفها الكلي، ومقصدها الغائي فعلاً هو الإسلام. ولكن هناك فرق بين (القصد) أو (الهدف) وبين (خطاب القصد) أو (خطاب الهدف)؛ إذ ليس بالضرورة كل خطاب مؤد إلى قصده لزوماً، فربما زاغ عن هدفه لعلة في منهج الخطاب! وهذا فرق ما بين نقدنا ونقد (الآخر) الذي تمارسه الاتجاهات العلمانية للحركات الإسلامية. إننا لا نقول بأنها (تستغل) الدين بالمعنى (البراجماتي)؛ لتمرير خطابها السياسي كما يقول سفهاء العلمانيين كلا! فهذا مجرد نقد (أيديولوجي) ليس إلا! إننا على يقين بأن الحركات الإسلامية إنما تتعبد - على الإجمال - بفعلها الحركي السياسي، سواء أصابت في ذلك أم أخطأت. لكننا على يقين أيضاً في أنها تتعبد من خلال فهمها الخاص للدين، ولا يمكنها إلا أن تكون كذلك؛ إذ المجال السياسي تفوق نسبة الرأي والاجتهاد فيه من مجمل التشريع الإسلامي درجة التسعين بالمائة! كما فصَّلناه بأدلته في كتاب (البيان الدعوي). وهذا معنى قولنا: إنها تملك الخطاب السياسي المُنَمَّط، بما هو عنصر أساس من مكونات الحزبية.

وبتوفر العناصر الثلاثة المذكورة تكون الحركة الإسلامية مؤهلة فعلاً ـ كما ذكرنا ـ لمآلها التاريخي: التحول والاندماج الحزبي الهيكلي، ذلك أن ما وصفنا من طبيعتها مؤشر قوي (لقابليتها) لذلك، على حد تعبير مالك بن نبي ـ رحمه الله ـ في نظرية (القابلية للاستعمار). وجزء مهم من هذا المتوقع غداً هو ـ على كل حال ـ واقع اليوم! فما بقي من الصورة في الحقيقة إلا التكميل والتتميم؛ إذ لا يكاد يخلو قطر من أقطار العالم الإسلامي اليوم من شيء من ذلك صراحة أو ضمناً.

وقد يقول قائل: إن الحركات الإسلامية هي غير الأحزاب التقليدية، من حيث القدرة على احتوائها وتوجيهها من لدن الأمريكان، وغيرهم من دول الغرب ومؤسساته العالمية كصندوق النقد والأمم المتحدة؛ فنقول: نعم! هي غير ذلك من وجه، وإن كان لها نوع من القابلية لذلك من وجه آخر وهو الاستجابة لمقولات الخصم الحضاري الثقافية والسياسية والاقتصادية، كما أشرنا إليه من قبل؛ ولذلك وجدت (العولمة) و (النظام العالمي الجديد). ومن هنا كان التوجه الاستعماري الجديد ليس إلى محاصرة الحركات الإسلامية فحسب؛ ولكن أيضاً إلى (منافستها)! وهذا ما لم تنتبه إليه بعض الحركات الإسلامية بصورة جيدة لحد الآن! وهذا هو الاتجاه الراجح الآن في الصراع الحضاري العالمي: المنافسة على (الإنسان) في العالم الإسلامي. إن العولمة عملت جهدها على فتح الحدود الاقتصادية والثقافية والإعلامية؛ من أجل التمكن من الاشتغال المباشر لاحتلال الشعور الفردي ثم الاجتماعي.

العولمة إذن تقوم بوظيفتين:

الأولى: فتح الحدود الأنتروبولوجية.

والثانية: المنافسة على الإنسان في العالم. أو بعبارة أخرى احتلال الإنسان المسلم!

ومـن هنا؛ فإن الحـركة الإســلاميــة لن تواجــه أمــريكا، أو الصهيونية، أو الغرب فقط؛ بل ستواجه (الصوت الآخر) في مجتمعها أيضاً! بل ربما في صفوفها وفصائلها أيضاً! وهذا أسوأ ما يتوقع من هزيمتها! وقد شاهدنا بعض تجلياته ـ مع الأسف ـ على مستوى الفكر وعلى مستوى الممارسة. حتى لكأنك أمام (علمانية إسلامية!) لكن ليس بالمعنى التقليدي.

إن المواجهة لن تكون كما كانت من قبل ضد طابور العملاء السياسيين، أو الموالين ثقافياً للغرب، من اللائكيين واليساريين، كلا! فتلك حرب ـ في منطق الرؤية المستقبلية ـ انتهت ووضعت أوزارها! إن المواجهة الجديدة ستكون ضد (نمط الحياة) الأمريكية الذي لن يقصر على النخبة المغتربة فكرياً، أو على الطبقة الأرستقراطية، بل هو يصبح الآن بالتدريج نمط الشعوب الإسلامية! بمن في ذلك الإسلاميون أنفسهم، من باب مقولات (الأسلمة)، و (التثاقف)، والانفتاح على (المجتمع المدني). إن معنى ذلك أن الحركة الإسلامية ستواجه خصمها في ذاتها! ومعنى ذلك أيضاً خسران المعركة حضارياً؛ لأن الجسم لم يخلق ليحارب نفسه بل ليحميه. ومن هنا ستحتاج الأمة إلى (مضادات حيوية) جديدة، وإلى (بعثة) أخرى! كما سيأتي بيانه بحول الله.

إن قدرات الحركات الإسلامية ذات الطبيعة الحزبية لن تعدو حدود مقاومة الظلم السياسي، والاختلال الاجتماعي، والإسهام إلى حد ما في التوجيه الاقتصادي والإعلامي... إلخ، وكل ذلك شيء مهم جداً، ولكن الأهم منه هو العمل الاستراتيجي المتعلق ببناء الرصيد الروحي المنتج للأجيال، وتوسعة (الاحتياطي) في مجال بناء الإنسان القرآني! وتأثيرها في هذا الآن محدود جداً ضمن دوائر ضيقة، ولن تزداد ـ مع تبلورها الحزبي ـ إلا ضيقاً! لما للمنهجية الحزبية من ارتباطات ميكانيكية تغرقها في الجزئي و (اليومي).

وقدرة الحركة الإسلامية وإمكاناتها ـ بما وصفنا ـ هو عينه دور الأحزاب التقليدية في الماضي، وهو ما سيناط، بل قد أنيط فعلاً ببعض الحركات الإسلامية التي هي في طور التهيؤ للقيام بذلك. وهو بالنسبة إلى التحديات الشمولية للعولمة عمل محدود جداً؛ لن يبلغ حد التغيير الكلي للإنسان ما دامت آلة الاشتغال الحزبي هي الوسيلة الوحيدة المتوفرة لديها للعمل. وهذه الوسيلة هي نتاج أوروبي ومنهج غربي، لا يعدو في طبيعة تأطيره مجرد صناعة (الرأي العام) المؤقت والمتقلب. والديمقراطية التي هي فضاء وجود الحزبية لن تؤدي أبداً إلى نقض أصولها ما دامت فلسفتها قائمة في منهجها، ولا يمكن للمنهج أن ينقض مذهبيته، أو ينقلب على فلسفته، وما وجوده إلا بها. وقد قرروا في غير هذا المكان أن المناهج وفية لمذاهبها، ومن ظن إمكان تجريد المنهج عن مذهبيته فهو واهم!(1) نعم سيؤدي نضالياً إلى توجيهها من الداخل؛ بمعنى أن الحزبية الإسلامية ستعطي للديمقراطية مسحة إسلامية؛ لكن دائماً في حدود الإمكانات المحسوبة، والقابلة للنقض في كل وقت وحين؛ إذ (الرأي العام) الذي يحسمه (العوام) هو الممثل الشرعي والوحيد لمصداقية اللعبة، وما الرأي العام في نهاية المطاف إلا ريح الأهواء، وأصوات الغوغاء!

يتبع

عطية العمري
08-11-2006, 08:40 AM
( 7 )

قد يقول قائل: إذن إذا وعت الحركة الإسلامية ذلك؛ فإنها تحسب كل تلك الإمكانات فتخرج عن حد أهداف العولمة. فنقول: لا يمكنها ذلك إلا إذا خرجت عن طبيعتها (الحزبية) التي نشأت عليها ـ بما وصفنا ـ إلى شيء جديد، وهو ما ستلده الأيام بحول الله. أو تبقى على طبيعتها تلك فتكون إذن محكومة بإمكانات (اللعبة الحزبية). وهي جميعها آيلة بطبيعتها إلى محيط العولمة، ولا منزلة بين المنزلتين! فتوجه العولمة يشتغل الآن وليس غداً! وتوقع نتائجها مبني على مشاهدة مقدماتها، فإنما ننطلق إلى المجهول من المعلوم، وذلك هو منطق الرياضيات!

أليس معظم الحركات الإسلامية حزبي التنظيم؟ أليست ترجع في بنائها التسلسلي إلى نموذج الحزب السياسي؟ ثم أليست ذات أطروحات مختلفة، واجتهادات متباينة؟ ثم أليست تتفرق بشكل تناسلي إلى جماعات وجمعيات، كما تتناسل الأحزاب القومية والعلمانية، ويَنْشَقُّ بعضها عن بعض لأسباب سياسية وشخصانية؟ فإنها بهذا وبما ذكر قبله تنساق تحت تأثير نَجْشِ الصياد الأمريكي شيئاً فشيئاً إلى قفص (اللعبة الديمقراطية)؛ لتمثل أمام المشاهد الغربي، كما تمثل الحيوانات الآبدة في أقفاص حديقة الحيوان!

إن الابتلاء العولمي المشتغل الآن هو أعظم وأشمل من أن تواجهه حركات إسلامية محدودة الغايات والوسائل، حركات بقيت حبيسة آليات تنظيمية، ووسائل تنفيذية، هي من تراث مرحلة الاستعمار القديم، وظروف سقوط الخلافة الإسلامية العثمانية، ونتاج ردود فعل لصيحات الماركسية والقومية، والتي تلاشى صداها في التاريخ الماضي!

إن بصائر القرآن، وسنن التاريخ، وطبيعة التحولات الكبرى في العالم الإسلامي، وخروج الدجال الأمريكي؛ كل ذلك يحدثنا عن ميلاد شيء جديد في أفق العمل الإسلامي!

* معالم البعثة الجديدة:

هدف المعركة الجديدة إذن؛ هي الوجود الديني للمجتمع الإسلامي ذاته! وساحتها هي الإنسان المسلم نفسه! ليس بما كان مقصوداً في الاستعمار القديم، ولا بما كان مقصوداً بالظلم السياسي الحديث الذي مارسته الأنظمة السياسية العربية تحت غطاء الحماية الأمريكية. ولكن المسلم مقصود اليوم بالتدمير؛ بما هو حائل طبيعي متين دون الأمن الصهيوني، وحلم (إسرائيل الكبرى)، ودون التمكن الأمريكي من النفط العربي! ولذلك فهو مستهدف في عقيدته، ونظام تربيته وتعليمه، ونمط حياته! مستهدف ببرامج تعليمية وإعلامية أخرى، وبنظم اجتماعية جديدة، وبتدمير كلي لمفهوم الأسرة، وبناء تركيبة اجتماعية أخرى، لا يبقى من إسلامها إلا أسماؤها! تماماً على نحو ما يصنعون لما يسمى بـ (الجيل الثالث) من أبناء المهاجرين في الغرب، حيث ذوبت النظم الغربية شخصيتهم الإسلامية، فضاعوا كما ضاعت بقايا الموريسكيين من أهل الأندلس في المجتمع الإسباني النصراني!

لقد جيشت أمريكا لذلك جيوش عولمتها، المحمولة على دبابات (المارينز)، والمحمية ليس بأسلحة التدمير الشامل فقط؛ ولكن أيضاً بأسلحة الإعلام والاقتصاد والثقافة والتعليم والتقنين الاجتماعي... إلى آخر ما يمثل فضاء الديمقراطية في مفهومها الغربي!

إن قضية (المورسكيين) تنتصب اليوم في كل مكان، فكأن العالم الإسلامي اليوم (أندلس) كبيرة! إن هذه بصيرة، ولكن {لِـمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37]! تلك هي طبيعة المعركة الجديــدة؛ فإمـا بعثــة جـديدة، وإما الانقــراض لا سمح الله! ولكن يأبى الله ـ عز وجل ـ إلا أن يحفظ كتابه إلى يوم القيامة؛ تلك عقيدتنا، وقد تواتر ذلك من كتاب الله وسنة رسول الله #، قال ـ تعالى ـ: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْـحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْـمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33]، وقال #: «ولا تزال طائفة من أمتي منصورين، لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة!»(1) وقال أيضاً: «لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم؛ حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس!»(2).

لكن القضية هي مسؤولية الإنسان المسلم الذي تعلق هذا الدين برقبته عقيدة، وشريعة، ومصيراً في الدنيا وفي الآخرة! إنها مسؤولية الفرد، ومسؤولية الجيل! إنها مسؤولية (حفظ الدين) التي أناطها الله ـ جل وعلا ـ بالتكليف التعبدي الإنساني، وما حفظه - كما تبين من قبل - إلا (ببعثة للتجديد)، تنطلق كلما أحدق الخطر ببيضة الإسلام.

وإن عِظَم الخطر اليوم، وشموليته، وعمقه، بما لم يسبق له مثيل في منهجية التدمير الوجداني؛ لجدير بأن يكون وحده مؤشراً قوياً على أن الزمان زمان بعثة جديدة! ولمن كان يبصر فتلك بشائرها تلوح أنواراً في الأفق. وما جاء الفرَج قط إلا بعد (حتى) الدالة على أقصى غايات الضيق، والنهاية في مسالك الحرج، قال ـ عز وجل ـ: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْـجَنَّةَ وَلَـمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]، وقال ـ سبحانه ـ: {حَتَّى إذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْـمُجْرِمِينَ} [يوسف: 110].

يستعمل مصطلح (البعثة) في عملية التجديد الشمولية للدين؛ أخذاً من كتاب الله وسنة رسوله # كما فصلناه من قبل؛ لأن هذا المصطلح هو المفتاح الحقيقي لما نريده من مفهوم للتجديد الذي يبدد عن العالم الإسلامي ـ بحول الله ـ ظلمات الجاهلية الجديدة، في صورتها (العولمية) الأخيرة.

وإذا كان لنا من كلام عن (بعثة التجديد) فهو عن بعض معالمها الكبرى، وهو كلام مبني بالدرجة الأولى على استقراء النصوص القرآنية والحديثية، ثم بدرجة ثانية على قراءة ضرورات المعركة الجديدة وطبيعتها، بما أشرنا إليه قبل.

---------------

(*) مراسل مجلة البيان، رئيس قسم الدراسات الإسلامية، جامعة المولى إسماعيل، مكناس، المغرب.

(1) رواه أبو داود والحاكم والبيهقي في المعرفة، عن أبي هريرة مرفوعاً. وصححه الألباني، رقم: 4781 في صحيح الجامع.

(2) جزء من حديث أخرجه أحمد والأربعة وابن حبان، وصححه الألباني في صحيح الجامع: 7926.

(1، 2) متفق عليه.

(3) انظر: كتابنا البيان الدعوي.

(4) لا ينطبق ذلك بالضرورة على كل مظاهر العمل الدعوي والجهادي في العالم الإسلامي، ولكنه ينطبق على ما اصطلح عليه اليوم بمصطلح (الحركة الحزبية الإسلامية)؛ مما انخرط في اللعبة السياسية، بالمنهج التدافعي السياسي الدخيل. سواء في ذلك (المشارك) في التجربة الديمقراطية، أو (المعارض). وإنما مفهوم (المعارضة) يؤول في المنطق السياسي الحديث إلى مفهوم (المشاركة). وبعض سذج (الإسلاميين) يظنون بأن مجرد الانخراط في صف (المعارضة) يخرجهم من ورطة (المشاركة)، وإنما هم بذلك يكملون صورة النظام العلماني على مقاس الفكر السياسي الغربي!

(1) أبجديات البحث في العلوم الشرعية للمؤلف: 9. منشورات الفرقان الدار البيضاء.

(1) رواه أحمد، والترمذي، وابن حبان، وصححه الألباني: حديث رقم: 702 في صحيح الجامع. (2) متفق عليه.


يتبع

عطية العمري
08-11-2006, 08:44 AM
( 8 )

في معالم بعثة التجديد:

الوجود الديني للمجتمع الإسلامي ذاته هو هدف المعركة الجديدة، وساحتها هي الإنسان المسلم نفسه؛ ليس بما كان مقصوداً في الاستعمار القديم، ولا بما كان مقصوداً بالظلم السياسي الحديث الذي مارسته الأنظمة السياسية في العالم الإسلامي تحت غطاء الحماية الغربية، ولكن المسلم مقصود اليوم بالتدمير؛ باعتباره حائلاً طبيعياً متيناً دون الأمن الصهيوني، وحلم (إسرائيل الكبرى)، ودون التمكن الأمريكي من النفط العربي، ولذلك فهو مستهدف في عقيدته، ونظام تربيته وتعليمه، ونمط حياته، مستهدف ببرامج تعليمية وإعلامية أخرى، وبنظم اجتماعية جديدة، وبتدمير كلي لمفهوم الأسرة، وبناء تركيبة اجتماعية أخرى، لا يبقى من إسلامها إلا أسماؤها! تماماً على نحو ما يصنعون لما يسمى بـ (الجيل الثالث) من أبناء المهاجرين في الغرب، حيث ذوبت النظم الغربية شخصيتهم الإسلامية، فضاعوا كما ضاعت بقايا (الموريسكيين) من أهل الأندلس، في المجتمع الإسباني النصراني!

لقد جيشت أمريكا لذلك جيوش عولمتها المحمولة على دبابات (المارينز)، والمحمية ليس بأسلحة التدمير الشامل فقط؛ ولكن أيضاً بأسلحة الإعلام والاقتصاد والثقافة والتعليم والتقنين الاجتماعي... إلى آخر ما يمثل فضاء الديمقراطية في مفهومها الغربي!

إن قضية (المورسكيين) اليوم في كل مكان، حتى كأن العالم الإسلامي في عصرنا هذا (أندلس) كبيرة! ألا إن هذه بصيرة، ولكن {إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِـمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37]!

تلك هي طبيعة المعركة الجديدة؛ فإما بعثة جديدة، وإما الانقراض لا سمح الله! ولكن يأبى الله ـ عز وجل ـ إلا أن يحفظ كتابه إلى يوم القيامة؛ تلك عقيدتنا، وقد تواتر ذلك من كتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال ـ تعالى ـ: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْـحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْـمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «ولا تزال طائفة من أمتي منصورين، لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة!»(1)، وقال أيضاً: «لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم؛ حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس!»(2).

لكن القضية هي مسؤولية الإنسان المسلم الذي تعلق هذا الدين بربقته، عقيدة وشريعة ومصيراً، في الدنيا وفي الآخرة. إنها مسؤولية الفرد، ومسؤولية الجيل، إنها مسؤولية (حفظ الدين) التي أناطها الله ـ جل وعلا ـ بالتكليف التعبدي الإنساني، وما حفظه ـ كما تبين من قبل ـ إلا (ببعثة للتجديد)، تنطلق كلما أحدق الخطر ببيضة الإسلام.

وإن عِظَم الخطر اليوم، وشموليته، وعمقه، بما لم يسبق له مثيل في منهجية التدمير الوجداني؛ لجدير بأن يكون وحده مؤشراً قوياً على أن الزمان زمان بعثة جديدة! ولمن كان يبصر فتلك بشائرها تلوح أنواراً في الأفق، وما جاء الفرَج قط إلا بعد (حتى) الدالة على أقصى غايات الضيق، والنهاية في مسالك الحرج، قال ـ عز وجل ـ: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْـجَنَّةَ وَلَـمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]، وقال ـ سبحانه ـ: {حَتَّى إذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْـمُجْرِمِينَ} [يوسف: 110] .

يستعمل مصطلح (البعثة) في عملية التجديد الشمولية للدين؛ أخذاً من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- كما فصلناه من قبل؛ لأن هذا المصطلح هو المفتاح الحقيقي لما نريده من مفهوم للتجديد الذي يبدد عن العالم الإسلامي ـ بحول الله ـ ظلمات الجاهلية الجديدة، في صورتها (العولمية) الأخيرة.

وإذا كان لنا من كلام عن (بعثة التجديد) فهو عن بعض معالمها الكبرى، وهو كلام مبني بالدرجة الأولى على استقراء النصوص القرآنية والحديثية، ثم بدرجة ثانية على قراءة ضرورات المعركة الجديدة وطبيعتها، بما أشرنا إليه قبل.

أول ما ابتُدئت به بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- هو نزول آيات من القرآن، وكان ذلك حدثاً عظيماً لم يحصل بعده في سيرته -صلى الله عليه وسلم- ما هو أعظم منه وأعجب! وقد بقي القرآن أداته -صلى الله عليه وسلم- الأساس للدعوة إلى الله وتوحيده تعالى، مع ما ألهمه ـ تعالى ـ وأوحى إليه من الحكمة؛ مما نطق به في حديثه -صلى الله عليه وسلم-، وسار به في سيرته؛ إلا أن القرآن كان منبع الأنوار كلها.

وتدفق الإسلام على الناس وفشا بينهم بتدفق آي القرآن وسوره عليه -صلى الله عليه وسلم-، فكان المادة الأساس في تربية الجيل؛ انطلاقاً من دار الأرقم، وشعاب مكة، إلى الهجرة نحو المدينة، إلى فتح مكة ودخول الناس في دين الله أفواجاً؛ في ظرف زمني لا يتعدى بضعاً وعشرين سنة! ومن هنالك انطلق إلى العالم في ظرف يقارب الأول، مع الخلفاء الراشدين وآخرين من بعدهم. إن هذه ملحوظة أساسية؛ أعني: التدفق الدعوي في ظرف زماني قصير! بل قياسي بالنسبة لقانون الاجتماع البشري، في انتشار الأفكار والعقائد والمذهبيات، ففي نحو بضع وعشرين سنة من التداول الاجتماعي للقرآن تربيةً وجهاداً؛ يكون الإسلام دين الله المكين في الأرض! ثم الدين الظاهر على كل الأديان والملل والنِّحَل، يخضع له الملوك والجبابرة في كل مكان؛ إسلاماً أو جزيةً! إنها بعثة إذن!

وبتأمل السيرة النبوية واستقراء مراحلها، ونصوص الكتاب والسنة المتعلقة بها، وبمفهوم البعثة، وبالنظر إلى حجم الفساد والانحراف الذي ضرب العالم اليوم؛ يمكن استخلاص معالِمَ لِبعْثَةِ التَّجديد فيما يلي:

يتبع

عطية العمري
08-11-2006, 08:46 AM
( 9 )

المَعْلَمُ الأول: التداول القرآني:

إن أهم معلم وأوضح خاصية يمكن ملاحظتها في البعثة النبوية ابتداءً؛ هي ظاهرة التداول القرآني، ومعنى ذلك أن الاشتغال النبوي إنما كان بالقرآن أساساً، فقد منع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الناس في بداية الأمر من كتابة شيء غير القرآن! وذلك كما في حديثه المشهور؛ إذ قال -صلى الله عليه وسلم-: «لا تكتبوا عني شيئاً إلا القرآن، فمن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار!»(3)، وقد تواترت أخبار الحركة القرآنية التي طبعت جيل الصحابة؛ اهتماماً، وقراءة، ومدارسةً. وإنما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يشتغل به داعياً إلى الله ومربياً، وإنما أسلم معظم من أسلم من الصحابة تأثراً بسماع شيء من القرآن. لقد كان للقرآن في جيلهم خبرٌ مَهيب، ونبأ عظيم، يتلقونه ويبثونه؛ حتى صار القرآن هو الحديث الأبرز في تلك المرحلة، تَنَزُّلاً وتداولاً.

إن المسلمين اليوم يقرؤون القرآن، نعم؛ ولكنهم لا يتداولونه، إننا نقصد بـ (التداول): الاشتغال الذي يعمر الحياة؛ حتى يطغى على كل شيء سواه؛ تلاوةً، وتعلماً، ومدارسةً، وتدبراً، وتبصراَ، وفُشُوّاً بين سائر فئات المجتمع وطبقاته.

هذا شيء ـ مع الأسف ـ مفقود اليوم، ولا يكون إلا (ببعثة جديدة) تجدد اشتغال الأمة بالقرآن.

وكان لجيل الصحابة في عهد النبوة وبعده مجالسُ قرآنية، ليست كأغلب مجالس السهرات القرآنية التي تُعقد اليوم للسماع والتغني، كلا! ولكنها كانت مجالس قرآنية متكاملة، تتضافر فيه التلاوة، والتعلم، والتزكية، على كمال ما تكون التربية النبوية لخير الأجيال(4)، وذلك بشهادة القرآن العظيم في مثل قوله ـ تعالى ـ: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْـمُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّـمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْـحِكْمَةَ وَإن كَانُـــــوا مِـــن قَبْلُ لَفِـــي ضَلالٍ مُّبِينٍ} [آل عمـــــــــــران: 164]، وقـــوله ـ سبحانه ـ: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّـمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْـحِكْمَةَ وَإن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} [الجمعة: 2].

وانطبعت تلك التربية في أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكانوا أهل قرآن؛ وسُموا لذلك بـ (القرّاء)، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ـ رضي الله عنه ـ قَالَ: جَاءَ نَاسٌ إلَى النّبِيّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالُوا أَنِ ابْعَثْ مَعَنَا رِجَالاً يُعَلّمُونَا الْقُرْآنَ وَالسّنّةَ. فَبَعَثَ إلَيْهِمْ سَبْعِينَ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُمُ الْقُرّاءُ، فِيهِمْ خَالِي حَرَامٌ. يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ، وَيَتَدَارَسُونَه بِاللّيْلِ، يَتَعَلّمُونَ»(5).

وكانت للقرآن أخبار يحرص المؤمنون على تتبعها وتناقلها؛ لأن القرآن أخلاق، ومنهج حياة، فكان حرصهم عليه حرصاً على بناء حياتهم، فعن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ في حديث طويل؛ أنهم كانوا يتحدثون أن غسان تُنَعِّلُ الخيلَ لغزو المدينة، فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- حراساً بعوالي المدينة؛ لمراقبة ذلك عن بعد. قال عمر ـ رضي الله عنه ـ: «وكان لي جار من الأنصار، فكنا نتناوب النزولَ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فينزل يوماً، وأنزل يوماً، فيأتيني بخبر الوحي وغيره، وآتيه بمثل ذلك»(6).

وبعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- امتدت تلك المجالس مع الفتوح إلى سائر الأمصار، يصف لنا التابعي الجليل أبو رجاء العطاردي طريقة ذلك، وكيفية تنظيم أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ للمجالس القرآنية بالعراق، قال: «كان أبو موسى الأشعري يطوف علينا في هذا المسجد، مسجد البصرة، يعقد حِلَقاً، فكأني أنظر إليه بين بردين أبيضين، يقرئني القرآن!»(7). وقد تخرّج من هذه الحِلَق الدراسية خَلْقٌ كثير من التابعين، فعن أبي كنانة أن أبا موسى الأشعري «جمع الذين قرؤوا القرآن، فإذا هم قريب من ثلاثمائة، فعَظَّمَ القرآنَ، وقال: «إن هذا القرآن كائن لكم أجراً، وكائن عليكم وزراً، فاتبعوا القرآنَ، ولا يتبعنكم القرآنُ؛ فإنه من اتبع القرآنَ هبط به على رياض الجنة! ومن تبعه القرآنُ زَخَّ في قفاه، فقذفه في النار!»(8).

ودأب الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ على هذا المنهج؛ حتى لكأن الأمة إنما قامت ـ حينما قامت ـ بالقرآن.. وكذلك كان.

فنخلص إذن إلى أن التداول القرآني كان له في البعثة الأولى وجهان:

الأول: تداول اجتماعي، وتم بمقتضاه بث الاشتغال بالقرآن في كل مرافق الحياة الاجتماعية، يُتَلَقى خبرُه، وتضبط عبارته، وتُحفظ تذكرته. ثم يُبَثُّ ذلك كله، ويذاع في الناس، لتسير الآيات في الآفاق، فيعمر القرآن الحياة الاجتماعية؛ ذكراً ومذاكرةً.

ولو يلحظ ذلك في العمل الدعوي التجديدي اليوم؛ إذن يتحول القرآن إلى خُلُق اجتماعي عام، وتتحول قضاياه، وقصصه، وعِبَرُه، وحِكَمُه، وأمثاله إلى (ثقافة شعبية) سارية. وذلك من شأنه أن يصنع نسيجاً اجتماعياً مسلماً، عميقاً ومتيناً، لا تخترقه عوادي العولمة الثقافية والإعلامية؛ مهما اشتدت ريحها.

والثاني: تداول تربوي، وهو الذي اختصت به (مجالس القرآن) التي كانت تعمر المساجد، والبيوت، والبساتين، والشعاب، والبطاح ـ سِرّاً في مراحل، وعلناً في مـراحـل أخـرى ـ مما كان قبل الهجرة ومما كان بعدها؛ تعلماً، وتزكيةً، ومدراسةً، وتدبراً، وتَبَصُّراً؛ لتخريج أهل القرآن الحكماء الربانيين الذين يربون الناس، والذين هم مادة الاستمرار الحضاري للأمة وعمودها الفقري، والذين ذكرهم الله ـ جل وعلا ـ في قوله: {وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّـمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79].

يتبع

عطية العمري
08-11-2006, 08:47 AM
( 10 )

المَعْلَمُ الثاني: الإمامة العلمية.

إن حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- يحدد (إمامة) بعثة التجديد، وينص عليها بصورة واضحة، لا غَبَش فيها ولا إبهام. وذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: «إِنّ العُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، وإنّ الأنبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَاراً وَلاَ دِرْهَماً، إِنّمَا وَرّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ بِهِ فَقَدْ أَخَذَ بِحَظٍ وَافِرٍ»(9). بيد أن (الوراثة) ها هنا تقتضي إرث العلم بكل وظائفه الدعوية والتربوية، لا مجرد العلم الخالي من كل عمل، ومن أي رسالة! فذلك علم مدَّعَى غير موروث. فالعلماء الورثة: هم أهل الرسالة، وحُمَّالُ البلاغ القرآني، ولقد أصَّل الشاطبي ـ رحمه الله ـ ذلك، وهو أحد أئمة التجديد في الأندلس، فوصف العالم المتصدر للتربية والتجديد؛ بـ (الوارث)، و (المُنْتَصِب)، كما وصفه بالرباني، والحكيم، والراسخ في العلم، والعالم، والفقيه، والعاقل، في نصوص جديرة بأن تشد إليها الرحال! وهي اصطلاحات كلها دالة عنده على (إرث) النبوة في منهج التربية والتعليم والتزكية للأمة. (فالانتصاب) إنما هو تجرد لمهمة البلاغ؛ تماماً كما تنتصب الجبال بين الصحارى والبطاح؛ أعلاماً للضالين عن الطريق، فيراها كل العابرين، وتكون بذلك مثارات اتباع واقتداء. قال ـ رحمه الله ـ: «إن المنتصب للناس في بيان الدين مُنْتَصِبٌ لهم بقوله وفعله، فإنه وارثُ النبي، والنبي كان مبيناً بقوله، وفعله. فكذلك الوارثُ لا بد أن يقوم مقام الموروث، وإلا لم يكن وارثاً على الحقيقة! ومعلوم أن الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ كانوا يتلقون الأحكام من أقواله، وأفعاله، وإقراراته، وسكوته، وجميع أحواله. فكذلك الوارث، فإن كان في التحفظ في الفعل؛ كما في التحفظ فى القول؛ فهو ذلك! وصار من اتبعه على هدى. وإن كان على خلاف ذلك صار من اتبعه على خلاف الهدى! لكن بسببه!»(10)، وقال في منهج اقتداء الصحابة برسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «وكانوا يبحثون عن أفعاله، كما يبحثون عن أقواله، وهذا من أشد المواضع على العالم المنتصب!»(11).

ذلك هو عالِم البعثة إذن؛ داعية رباني حكيم، مجدِّد ومجتهد، منتصب للناس بعلمه وورعه؛ مُعَلِّماً، وداعياً، وهادياً، ومربياً.

وملاحظة السيرة النبوية تفضي إلى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد كوَّن عدداً كبيراً من علماء الصحابة؛ كأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ومعاذ بن جبل، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت، وغيرهم كثير! جيل من العلماء الأئمة، كانوا فقهاء، وحكماء ربانيين، ولم يكونوا مجرد نقلة، بل أسهموا في بناء حضارة الأمة، ونهضتها الأولى.

وبعثة التجديد لن تكون إلا بمثلهم، منهجياً؛ أي بقيادة علمية متميزة كماً وكيفاً، فلا بد من عدد وفير من أهل العلم؛ من الذين يحملون الرسالة، ويشتغلون بالقرآن؛ تعليماً، وتزكيةً، وتفقيها في الدين. وإنما أولئك هم العلماء الربانيون ـ كما سبق قول أبي إسحاق الشاطبي ـ رحمه الله ـ: «الذين يربون الناس بصغار العلم قبل كباره»، كما جاء في بعض تراجم الإمام البخاري رحمه الله(12)، والذين لا تفتنهم آحاد الجزئيات عن ملاحظة الكليات، ويراعون المآلات قبل الجواب عن السؤالات، إنهم قوم يحملون أخلاق النبوة علما وحِلْماً.

ولقد ظن بعض أهل الخير من المشتغلين بالدعوة اليوم؛ أن الناس قد انصرفوا إلى طلب العلمي الشرعي بوفرة زائدة عن الحاجة! ولا يزالون ينصحون الشباب بالعدول عن ذلك؛ بدعوى أننا في حاجة إلى الطبيب المسلم، والمهندس المسلم، والفيزيائي المسلم. وأقول: نعم، نحن في حاجة إلى كل أولئك وأضرابهم، لكن حاجتنا إلى (علماء البعثة) آكد وأشد! ودعوى حصول الكفاية من العلماء باطلة! فأولاً ليس كل من انتسب إلى العلوم الشرعية هو من علماء بعثة التجديد، بما ذكرنا وما وصفنا من مفهوم (العالِمية)، فإنما العلماء: الفقهاء الربانيون الوُرَّاث، كما سبق تفصيله. وليس العالم المنتصب أو الوارث هو من جمع في ذهنه عدداً كبيراً من المحفوظات والمكتبات! ولكنه من أوتي حكمة التصرف في المعلومات؛ بما يناسب الزمان والإنسان! ولشيخ المقاصد أبي إسحاق الشاطبي كلمة ذهبية في هذا، قال ـ رحمه الله ـ: إن على العالم الرباني (أن لا يذكر للمبتدئ من العلم ما هو حظ المنتهي! بل يربي بصغار العلم قبل كباره. وقد فرض العلماء مسائل مما لا يجوز الفتيا بها؛ وإن كانت صحيحة فى نظر الفقه! (...)، وضابطه أنك تعرض مسألتك على الشريعة، فإن صحت في ميزانها؛ فانظر في مآلها بالنسبة إلى حال الزمان وأهله، فإن لم يؤد ذكرها إلى مفسدة؛ فاعرضها في ذهنك على العقول، فإن قبلتها فلك أن تتكلم فيها، إما على العموم إن كانت مما تقبلها العقول على العموم، وإما على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم. وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغ؛ فالسكوت عنها هو الجاري على وفق المصلحة الشرعية والعقلية!»(13).

إن أمثال هؤلاء ليس منهم في الأمة إلا الندرة! بله القلة، بله الكثرة والوفرة! ولقد رأيتَ كيف أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد خرَّج للناس منهم جيلاً! فما ظنك بزماننا هذا؟ وقد بلغ عدد المسلمين في العالم ملياراً ونصف المليار! هذا إذا حددنا مخاطَبنا في المسلمين خاصة، وإنما الإسلام جاء لمخاطبة العالمين!

يتبع

عطية العمري
08-11-2006, 08:49 AM
( 11 )
ثالثاً: يسر الدعوة وبساطة المفهومات:
إن من أهم معالم البعثة النبوية؛ أنها تميزت باليسر، والسهولة في الخطاب، وفي التكليف، وهذا أمر مهم جداً لضبط الاتجاه الدعوي المعاصر؛ ذلك أن بعض الحركات الإسلامية إنما انغلقت على نفسها بسبب عسر مفهوماتها، وتنطع فهمها، وما جرت عليه من حمل الناس على العنت، وقد تواتر في الدين مفهوم (رفع الحرج)، وما تعلق به من قواعد كلية، فالنصوص القرآنية والحديثية مجمعة على هذا المعنى؛ بما يجعله كلية قطعية من كليات الدين؛ دعوةً، وتكليفاً. فالخطاب القرآني صرح بذلك تصريحاً، ونص الحـق ـ جـل وعلا ـ على اليسر بإطلاق، فقال ـ سبحانه ـ: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} [القمر: 32]، وقال ـ تعالى ـ: {فَإنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الدخان: 58]، وقال ـ جل وعلا ـ في الآية الجامعة المانعة، على سبيل الشمول والاستغراق: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، إلخ.
وأوصى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مبعوثيه إلى اليمن جابر بن عبد الله ومعاذ بن جبل ـ رضي الله عنهما ـ فقال لهما: «يَسّرا ولا تُعَسّرا، وبشّرا ولا تنفّرا»(14)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «إنّ هَذَا الدّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادّ الدّينَ أَحَدٌ إلاّ غَلَبَهُ، فَسَدّدُوا، وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا، وَيَسّرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرّوْحَةِ وَشَيْء مِنَ الدّلْجَة»(15). ومثله قوله -صلى الله عليه وسلم-: «يَا أَيّهَا النّاسُ، عَلَيْكُمْ مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ؛ فَإِنّ الله لاَ يَمَلّ حَتّى تَمَلّوا، وَإِنّ أَحَبّ الأَعْمَالِ إِلَىَ الله مَا دُوِمَ عَلَيْهِ وَإِنْ قَلّ»(16)، وروى الصحابي الجليل أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: «جاء ثلاثة رَهْط إلى بيوت أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- يسألون عن عبادة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما أُخبروا كأنهم تَقَالُّوهَا، وقالوا: أين نحن من النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر! قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبداً! وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر! وقال الآخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً! فجاء رَسُولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- إليهم، فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله! إني لأخشاكم لله وأتقاكم له؛ لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني»(17)، ومثل هذا في السُّنة كثير جداً؛ مما يفيد استقراؤه كليةً قطعية من كليات الدين، فوجب إذن أن يؤخذ على هذا الوزان؛ تكليفاً وتعليماً، ودعوةً وتزكيةً، وما خالفه فإنه يُرَدُّ إليه.
ولذلك قال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية ـ رحمه الله ـ من بعد ما سرد عدداً من أدلة اليسر والتيسير في الشريعة: «وهذا وأمثاله في الشريعة أكثر من أن يُحصر! فمن قال إن الله أمر العباد بما يعجزون عنه ـ إذا أرادوه إرادة جازمة ـ فقد كذب على الله ورسوله، وهو من المفترين»(18).
ولقد التقط أبو إسحاق الشاطبي هذا المعنى العظيم، فجعله أصلاً من أصول المقاصد، حيث استعمل مصطلح (الأمية) في وصف الشريعة، لكن ليس بمعنى الجهل، وهذا أمر غلط فيه كثير من طلبة العلم، ممن قرأه في كتاب الموافقات؛ فمن السذاجة أن يفهم عن أبي إسحاق ـ رحمه الله ـ أنه يصف الشريعة بالجهل، أو أنها غير صالحة إلا للعوام! كيف وهو شيخ المقاصد المجدد لعلم أصول الفقه؛ ولكن بمعنى السهولة والبساطة واليسر في الفهم وفي التكليف؛ على ما أصلنا آنفاً.
وقد نقل المصطلح من دلالته اللغوية، الدالة على الجهل بالحساب والكتاب، ليستعمله في وصف الشريعة نفسها، لكن بدلالة أخرى اصطلاحية، على مفهوم منهجي، متعلق أساساً بمعنى اليسر المشترك في التكليف، وفي تطبيق الشـريعة، قال ـ رحمه الله ـ في المسألة الثالثة من كتاب المقاصد في الموافقات: «هذه الشريعة المباركة أمية»(19). وهو ما فسره في موطن آخر بقوله: «ربما أُخِذ تفسير القرآن على التوسط والاعتدال، وعليه أكثر السلف المتقدمين، بل ذلك شأنهم، وبه كانوا أفقه الناس فيه، وأعلم العلماء بمقاصده وبواطنه. وربما أُخِذ على أحد الطرفين الخارجين عن الاعتدال؛ إما على الإفراط، وإما على التفريط، وكلا طرفَيْ قَصْدِ الأمورِ ذَميمٌ! فالذين أخذوه على التفريط قصروا في فهم اللسان الذي به جاء، وهو العربية، فما قاموا في تفهم معانيه ولا قعدوا! كما تقدم عن الباطنية وغيرها. ولا إشكال في اطراح التعويل على هؤلاء، والذين أخذوه على الإفراط أيضاً قصروا في فهم معانيه، من جهة أخرى. وقد تقدم في كتاب المقاصد بيان أن الشريعة أمية، وأن ما لم يكن معهوداً عند العرب فلا يعتبر فيها»(20).
وهذا معنى عظيم؛ إذْ عدم اعتباره أدى بكثير من الناس إلى الزيغ عن جادة المنهج النبوي، في الدعوة والتكليف، وإنما الأصول قائمة على حمل الناس على الوسط والتوسط، والاعتدال، لا على الغلو؛ سواء في ذلك: الفهم أو التكليف.
فالداعية قد يؤدي به التمسك بآحاد الأدلة ـ دون اعتبار كلياتها الأصولية ـ إلى الانحراف في المنهج. كما أن مراعاة بعض الجزئيات في الفهم والإفهام لا ينقض ما تقرر قطعاً في الكليات الاستقرائية، فقد تقرر مثلاً أن الدعوة يجب أن تقوم على منهج التيسير والتبشير؛ قصد التمكين من عموم التطبيق والتنزيل، فإذا وجد ما يخالفه حمل عليه وأرجع إليه. وعدم مراعاة ذلك يوقع في إشكالات منهجية، ويؤدي إلى مناقضة الفروع للأصول وهو محال.
فليس كل شيء يتناوله البحث، ويصح في التحليل والاستدلال؛ يصلح ليكون مادة للدعوة والتربية، ومقصداً شرعياً يخاطب به عموم الناس. إن السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن تبعهم على منهجهم؛ إنما كانوا على (عقيدة سلفيةٍ موضوعاً؛ تربويةٍ منهجاً)، لا على (عقيدة سلفيةٍ) موضوعاً، (جدليةٍ) منهجاً، وفرق بينهما كبير!
إن (العقيدة السلفية موضوعاً؛ التربوية منهجاً)؛ هي التي وردت في كتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهي التي خرّجت جيل الصحابة والتابعين، وسائر العلماء الربانيين، وهي التي أطاق الجمهور من المسلمين اعتقادها والعمل بها، وكانوا بها صالحين.
فلم تكن البعثة المحمدية إلا بسيطة وسهلة، وميسرة تيسيراً في الفهم والعمل، ولا نجاح لعمل دعوي يخرج عن هذا المنهج، ولذلك كان هذا مَعْلَماً من معالم (بعثة التجديد)، فحاجة العالَم اليوم إلى الدين شديدة، وعودة الناس إلى الله رغبة أكيدة، وهي كامنة في الوجدان الإنساني، تنتظر أهل البعثة ليكتشفوها، وينزلون عليها كلمات الله طريةً ندية. وأما التعقيد فلا يجعل ماءها إلا غوراً، فلا يستطيع المعنتون له طلباً.
البعثة اليوم ـ بعد ما حفره رجال الصحوة والدعوة، من أهل الحركات الإسلامية وغيرهم ـ هي على عمق صخرة واحدة، قريبة ورقيقة، تحتاج إلى من يكشف عنها شقاً واحداً؛ لتتدفق جداول وأنهاراً.
يتبع

عطية العمري
08-11-2006, 08:58 AM
( 12 )

رابعاً: التنظيم الفطري:

وأحسب أن هذا المَعْلَمَ هو من ألطف حِكَم البعثة المحمدية، فقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منظماً في عمله كله، لا ارتجال فيه ولا فوضى، ولا اضطراب ولا عبث، بل كل خطوة من خطواته -صلى الله عليه وسلم- كانت بحسابها؛ إذ «كان خلقه -صلى الله عليه وسلم- القرآن»(21). والقرآن نظام بديع، بل هو أبدع نظام؛ مبنىً ومعنىً، عقيدةً وشريعةً، لغةً وجمالاً، وهو الذي فيه قول الله ـ تعالى ـ: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْـحَمِيرِ} [لقمان: 19]، كما أن سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- نظام كلها، وحكمة جميعها. ومن هنا كان إنكار تنظيم الدعوة إلى الله، والعمل الإسلامي التجديدي؛ غباءً وجهلاً بالدين، وانحرافاً عن سنن الله في الكون وفي المجتمع، وهي المبثوثة في الكتاب والسنة، أو ربما كان موقفاً سياسياً مريباً؛ للتشويش على الحركة الإسلامية، وإرباك عملها الدعوي الجهادي، ليس إلا!

لكنَّ التنظيم ذا الطبيعة الميكانيكية، كما اعتمدته أغلب الحركات الإسلامية المعاصرة؛ صار إلى ما ذكرناه من الحزبية الضيقة! وهو ابتداع شنيع، وخطأ فظيع! إذ آل أمره إلى محاصرة الدعوة الإسلامية حصاراً ذاتياً، فصار كثير من (الإسلاميين) بذلك يعيشون في منفى اختياري، بين شعوبهم ومجتمعاتهم! بسبب الغلو في بناء التنظيمات، والمبالغة في تسوير الجماعات، على طريقة المنظمات الغربية. كيف الحل إذن؟ إنه الوسط، الوسط دائماً حل لكل انحراف سبَّبه الغلو، ولذلك جعلنا تسمية هذا المعلم بـ (التنظيم الفطري)؛ تحرزاً عن (التنظيم الحزبي) الذي أهلك الدعوة وحاصر الدعاة، وأجبرهم على الإقامة داخل أفكارهم وهياكلهم!

إن (التنظيم الفطري) هو النسق الجميل الذي ينظم العبادات في الإسلام، وهو أكثر ما يتجلى في صلاة الجمعة والجماعة، وهو الذي طبع السيرة النبوية في حركيتها ومراحلها، فالقيادة الشرعية يفرزها علمُها وورعُها، وتصنعها تجربتُها، فتنتصب للناس هنا وهناك بلا حرص، وتـؤم المجتمع بصـورة طبيعيــة، بلا تحيل، ولا تشنج، ولا قتال! لا تفرض نفسها فرضاً، ولا تسعى إلى ذلك قصداً، وإنما الناس هم الذين يطلبونها؛ لما فاض عنها من العلم والهدى، ولما انبعث عنها من أخلاق النبوة، وكذا لما تحقق فيها من برهان (الإرث النبوي)، (فالعلماء ورثة الأنبياء) كما سبق بيانه بأدلته ومقاصده.

هل وصل أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد إلى إمامة الناس بانتخابات حرة أو مقيدة؟ وقبْلَهم قياداتُ التابعين، ثم قبلهم أصحابُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخلفاؤه الراشدون؛ ألم يكن الوجدان الإسلامي مجمعاً عليهم قبل توليهم، وبعد توليهم؟ ألم يكونوا أئمة في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ أليسوا هم أهل شوراه -صلى الله عليه وسلم-، وأهل الحل والعقد عنده؟

إن أئمة بعثة التجديد لا تصنعها الانتخابات الراجعة إلى أصوات العوام! ولا الديمقراطيات التي قد تُغَلِّب الغثَّ على السمين، وتنصر الباطل على الحق؛ بمجرد كثرة الغث، وغلبة أهل الباطل عدداً، من الفاتنين والمفتونين.

ولقد رأينا في بعض الظروف من تجاربنا الدعوية، كيف أن ذلك المنهج الهجين قدَّم ـ في الولايات الدعوية للصف الإسلامي ـ السفهاءَ على الحلماء، والأشقياءَ على الأتقياء، وذلك لعمري هو غاية الفساد! وإنما الحَكَمُ في إمامة بعثة التجديد، أو (حركة الإسلام) هو قاعدةُ المحدثين المشهورة: (إن هذا العلم دين؛ فانظروا عمن تأخذون دينكم»(22).

ركنان عظيمان في الشخصية الإسلامية القيادية، لا يجوز تخلفهما، كلاهما أو أحدهما؛ فيمن انتصب لإمامة التجديد: (القوة والأمانة)؛ فهما أساس الولايات الشرعية في الدين، قال ـ تعالى ـ: {إنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ } [القصص: 26]. وقال ـ سبحانه ـ على لسان يوسف ـ عليه السلام ـ: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55]. وصار ذلك مرجع المحدِّثين في تقويم الشخصية الإسلامية، في خاصيتي (الضبط والعدالة). وكل ذلك إنما مآله إلى ذينك المفهومين: (القوة) و (الأمانة) في الإنسان المسلم.

ذلك إجماع السابقين، في التأمير والتقويم، ولا خير في بدع اللاحقين!

كيف التنظيم الفطري إذن؟ إنه شبكة بسيطة من العلاقات العلمية والتربوية، يشرف عليها مجموع مُتَنَامٍ من العلماء الربانيين، ينتصبون للاشتغال بالقرآن العظيم ومفاهيمه؛ تداولاً تربوياً واجتماعياً، فمرجعه إذن إلى عنصرين:

الأول: مجموع من (الأئمة المنتصبين) للبعثة ـ باصطلاح الشاطبي الآنف الذكر ـ، كل منهم محور للعاملين والمتعلمين، يقومون فيهم مقام النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما حدده القرآن، بلا ابتداع ولا تضليل، ولا ترسيخ لوساطات الأشياخ والأقطاب والأبدال، وإنما هم الربانيون وُرَّاثُ النبوة، كما سبق وصفهم بأدلته، تتحدد علاقاتهم جميعاً في ذلك ـ علماء ومتعلمين ـ بقول الله ـ تعالى ـ: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْـمُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّـمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْـحِكْمَةَ وَإن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} [آل عمران: 164]. فـ (التعليم والتزكية) هما مناط (القوة والأمانة) اللذين يقوم عليهما بناء الأمة الإسلامية في بعثة التجديد، تماماً كما قام في البعثة الأولى.

ولمفهومي (التعليم والتزكية) تفصيل بيناه في غير هذا المكان، فلا حاجة للتكرار(23). فالعلماء الربانيون، أو الوُرَّاثُ المنتصبون، هم الركن الأول لكل بعثة حقيقية، بوجودهم وبانتصابهم ينتصب الدين ويقوم، وبغيابهم تنتصب المحن والفتن! وتدبر قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً؛ اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسُئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا!»(24) وترجم الإمام البخاري في كتاب العلم من صحيحه: (باب: كيف يقبض العلم؟ وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم: انظر ما كان من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاكتبه، فإني خفت دُروسَ العلم(25) وذهابَ العلماء، ولا تقبل إلا حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولتُفْشُوا العلمَ، ولتجلسوا حتى يعلـم مـن لا يعلم، فإن العلـم لا يهــلك حتى يكـون ســراً).

وإن من أخطر ما تواجهه الأمة اليوم فعلاً من المعضلات، في هذه المرحلة الحرجة من الاكتساح العولمي الصهيوني؛ هو هذا الموت المتواتر، والمستحر بالعلماء، مع ضعف نتاج الخلف! فهذا مما يجب الانتباه إلى خطورته الشديدة، وإلى الضرورة الاستعجالية التي تقضي بتفرغ شباب الصحوة الإسلامية لطلب العلم الشرعي، بشروطه المذكورة قبل؛ قصد إنتاج علماء البعثة المنتصبين لها، وإنما الموفق من وفقه الله.

الثاني: الاشتغال التداولي بالقرآن العظيم؛ تربوياً واجتماعياً؛ بناء على مناهج القرآن الدعوية، كما سبق بيانه في (المَعْلَم الأول) من معالم البعثة؛ وذلك لتجديد بنية الدين في المجتمع.

فهما عنصران إذن كما ذكرنا: الأئمة العلماء بشروط البعثة ومعالمها، ثم المنهجية القرآنية المنظِّمة لفقه الدعوة، هذا الفقه الذي ينتج بذاته تلقائياً، وذلك بمجرد تنزيل نصوص القرآن على واقع النفس وواقع المجتمع. وهو سِرٌّ ـ لمن تدبره ـ من أسرار الإعجاز القرآني في الدعوة والتربية، وذلك يغني عن كثير من المحركات الإدارية التي لا تفيد إلا في إثقال حركة الإنتاج الدعوي، وتقييد المبادرات، كما هو علم الميكانيك والنظام الحزبي الذي يمنع كل حركة لم تنتج عن حركته، وهو ما تعتمده كثير من الحركات الإسلامية اليوم مع الأسف، فنظامها الميكانيكي الصرف يفـــرض عليها قتــل التجـــديد والمبادرات، لا إحياءه وإنتاجه، ومثل هذا لا ينتج بعثة، ولا تجديداً، وإنما قد يحفظ للأمة بعض المصالح إلى حين. كما قد يجر عليها من المفاسد ما يفوق تلك المصالح في بعض الظروف! أما أفكار البعثة التي تنظم العمل الدعوي بشكل تلقائي؛ فإنما هي منهج الاشتغال بالقرآن تداولاً كما بيناه.

إن (التداولية القرآنية) هي التي صنعت المجتمع الإسلامي الأول على يد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهي التي حضَّرت جيل الهجرة، وخرجت رجاله (الأقوياء الأمناء) من مجالس القرآن، من دار الأرقم بن أبي الأرقم، ومن بين شعاب مكة، وهي التي صنعت الدولة الإسلامية الأولى؛ انطلاقاً من مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة المنورة.

إن بث بصائر الآيات في المجتمع، عبر شبكة العلماء الربانيين، المنظمين؛ لكن بمنهجية القرآن الدعوية؛ يكفيك ويغنيك عن تأمير الأمراء بصورة ميكانيكية، وانتخاب النقباء، وإنشاء الخلايا المعقدة، الحية والنائمة! فالقرآن وحده نظام البعثة وتنظيمها؛ لكن لو كان له مهندسون مبصرون! فالتنظيم الحزبي له مصالحه وله مفاسده، والتنظيم الفطري يجلب تلك المصالح، ويدرأ تلك المفاسد، وإنما الموفق من وفقه الله.

ولا يصلح للدعوة غير ذلك؛ إذ كان المقصود الاستجابة لداعي بعثة التجديد، فتدبر سيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بث الإسلام بين الناس، وفي تربيتهم على مبادئه، إنما كان يُؤَمِّر (القراءَ) ويرسلهم إلى الأمصار، ويختار من أصحابه أعلمهم وأحكمهم؛ للمهمات القيادية، والأمور الصعبة. وجاهد بذلك المنهج السهل والبسيط، يكتشف القيادات، وينوط بها رسالة القرآن؛ لتدور في (تداولية) شاملة، بصورة حلزونية تستوعب المجتمع شيئاً فشيئاً؛ حتى نزل قوله ـ تعالى ـ: {إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 1 - 3]، فما كان لتنظيم حزبي معقد أن يعيد الناس إلى دين الله أفواجاً من بعد ما خرجوا عن كثير من حقائقه أفواجاً!

إن المراهنة على التنظيمات الإسلامية ذات التركيبة الحزبيـة الميكانيكية لإقامة الدين بصورة كلية؛ لهي مغامرة خاسرة! نعم يمكنها أن تدافع عن الإسلام بصورة جزئية، ويمكنها إذا وصلت إلى السلطة أن تستصدر بعض التشريعات؛ لحفظ الدين وحمايته، وهو شيء مهم وحسن؛ ولكن لا يمكنها أن تحمل الناس عليه حملاً، ولا أن تجعله حركة وجدانية في المجتمـع، ولا هي قادرة أن تستوعبهم دعوياً ولا تربوياً. فتنظيمها الحزبي هو بطبيعته نموذج تجزيئي، فلم يضعه الفكر البشري ليستوعب الجميع، بل ليستوعب فئة محدودة جداً من الناس، ويبقى المجتمع بعيداً عن هموم الحركات، وصراعات الأحزاب، ذات الأبواب والألقاب! ويتوب الله على من تاب!

فدع بصائر القرآن العظيم تصنع خلاياها الطبيعية في المجتمع، كل المجتمع، وتبسط هندستها العمرانية بين شرائحه، كل شرائحه.

وإنما خلايا التنظيم الفطري هي (مجالس القرآن)، وإنما رأيه العام هو (التداول الاجتماعي) الطبيعي للآيات والسور، وإنما مقراته هي المساجد! وإنما قياداته هم العلماء الربانيون المنتصبون للبعثة والتجديد.


--------------------------------------------------------------------------------

(*) مراسل مجلة البيان، رئيس قسم الدراسات الإسلامية، جامعة المولى إسماعيل، مكناس، المغرب.

(1) رواه أحمد، والترمذي، وابن حبان، وصححه الألباني: حديث رقم: 702 في صحيح الجامع.

(2) متفق عليه.

(3) رواه مسلم.

(4) انظر: بلاغ الرسالة القرآنية، للكاتب، ص 101 ـ 105.

(5، 6) متفق عليه.

(7) الحلية، لأبي نعيم: 1/ 256.

(8) السابق: 1/ 257.

(9) جزء من حديث رواه أحمد، والأربعة، وابن حبان. وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير، رقم: 6297.

(10) الموافقات: 3/ 317.

(11) الموافقات: 4/ 250.

(12) انظر: صحيح البخاري، كتاب العلم، (باب العلم قبل القول والعمل).

(13) الموافقات: 4/ 190 ـ 191.

(14) متفق عليه.

(15) رواه البخاري.

(16، 17) متفق عليه.

(18) مجموع الفتاوى: 8/ 440.

(19) الموافقات: 2/ 69.

(20) الموافقات: 3/ 409.

(21) رواه مسلم.

(22) هذه القاعدة في علم الجرح والتعديل، رويت عن غير واحد منهم. فقد أخرجها مسلم بسنده عن محمد بن سيرين، بمقدمة صحيحه: (باب بيان أن الإسناد من الدين). كما أخرجها ابن عبد البر عن مالك رحمهما الله. التمهيد: 1/ 47.

(23) انظر: كتابنا: بلاغ الرسالة القرآنية، 101 ـ 105.

(24) متفق عليه.

(25) دروس العلم: يعني انقراضه، دَرَسَ الشيءُ يَدْرُسُ: انقرض.

يتبع

عطية العمري
08-11-2006, 09:00 AM
( 13 )

بعثة التجديد المقبلة في ظل الاجتياح العولمي:

تجديد العمران الديني للإنسان هو القضية الأولى لبعثة التجديد:

ليس المقصود بالعمران في اصطلاح هذه الأطروحة هو تخطيط البناء المادي وهندسته، كلا! وإنما المقصود به هندسة المذهبية الحضارية الكامنة في الإنسان، والتي كان بمقتضاها كما كان.

العمران إذن: هو الإنسان؛ بما هو عقيدة وثقافة، وبما هو حضارة وتاريخ، وبما هو فكر ووجدان، وبما هو نفس ونسيج اجتماعي.

وكما يكون فكر الإنسان وتصوره للحياة تكون عمارته، فالمادة في هذا تبع للفكر. وكما كانت بعثة محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- تقوم على نظام أولويات؛ فكذلك كل بعثة تجديدية يجب أن تقوم على ذلك النظام من الأولويات، بلا حرفية ولا ظاهرية، وإنما بمنهجية مقاصدية؛ حفاظاً على سر الإرث النبوي، وطلباً للصواب في المنهج، ورغبةً في استجابة النتائج بإذن الله.

ودورنا اليوم هو تجديد ذلك العمران؛ بدءاً بتجديد الإنسان حتى تجديد السلطان.

الإنسان هو أول عناصر العمران، وأول مرتكزاته، فهو الذي يعطي للبناء معناه العمراني، وقصده الكامن فيه هو الذي يجعله مسجداً أو خمارة! قال ـ عز وجل ـ: {إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْـمُهْتَدِينَ} [التوبة: 18]، الإنسان إذن هو أساس العمران، ولذلك كان محل خطاب الرحمن بالقرآن.

و (العمران القرآني) له أصول رئيسة في بناء النفس والمجتمع، إليها تستند هندسته، وعليها يقوم بناؤه، فهي التي كانت تمثل اللبنات الكبرى في بناء (البعثة المحمدية) وعمارتها، عليها كانت تدور أولوياتها التي نحسب أنها ثابتة، لا تتغير بمصر، ولا تتبدل بعصر، وهي: التوحيد، والعبادة، والمجتمع، والعلم. وغاية ذلك كله هو إقامة العمران الوجداني والمادي؛ لعبادة الله الواحد القهار. وبيان تلك اللبنات ـ على الإجمال ـ هو كما يلي:

1 - التوحيد: وذلك بالدعوة إلى عقيدة السلف الصالح، كما قررها العلماء، وكما كانت في الصدر الأول من الإسلام، عند الصحابة والتابعين، لكن ليس بالمنهج الجدلي الكلامي الذي آلت إليه عند المتأخرين الجدليين، كلا! فذلك هو أيضاً ابتداع في المنهج. وإنما بالمنهج القرآني التربوي الذي يقوم على التعرف على الله والتعريف به؛ تربيةً وتزكيةً؛ لتحصيل الخوف والرجاء، والرغبة والرهبة؛ عبادةً لله الواحد القهار، وذلك من خلال استغلال المقاصد التعبدية، والأهداف التربوية للأسماء الحسنى والصفات العلى.

وليس بالجمود على استظهار الحدود والتعريفات لمفهومات الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، على وزان فصول المناطقة ورسومهم! فذلك منهج عقيم لم يزد الأمة إلا خبالاً! وإنما باستثمار ذلك عقيدةً تربوية، تملأ القلب علماً وورعاً، وتنتج خلقاً قرآنياً في النفس وفي المجتمع(1)، والبناء القرآني للتوحيد هو الكفيل بتكوين الشخصية المسلمة الجامعة لصفتي (القوة والأمانة)، واللتين بهما يكون الإنسان المسلم ـ كما سبق بيانه ـ فاعلاً في التاريخ أو لا يكون؛ إذ إن (التوحيد) من حيث هو منهج القرآن في التعرف إلى الله والتعريف به، والذي هو جوهر المنهج السلفي الأصيل لا الجدلي الدخيل؛ يُخَرِّج من العامة: أجيالَ الربانيين، ومن القادة: الفقهاءَ المجاهدين. واجتماع العامة والخاصة على هذه (الثنائية التربوية) العظيمة؛ هو خير ما يقوم عليه النسيج الإسلامي السليم، ومن لم يراع ذلك كان عمله مخروماً من إحدى الجهتين، وغـراس (التوحيد) ـ بالمفهوم الذي وصفنا من التخلق بأخلاق القرآن ـ هو الكفيل بالجمع بينهما في التربية القرآنية.

ولنا ها هنا كلمة ذهبية جمعت بينهما، رويت بأسانيد صحيحة عن عدد من الصحابة، منهم الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود، في أثر صحيح مليح، قال ـ رضي الله عنه ـ: «المتقون سادة، والفقهاء قادة، ومجالستهم زيادة!»(2).

يتبع

عطية العمري
08-11-2006, 09:01 AM
( 14 )



2 - العبادة: وأهم رموزها فريضة الصلاة: فالصلاة هي عماد الدين، وهي العهد الذي بين الرسول وبين المسلمين! لكن تجديد الصلاة إنما معناه بعث مضمونها في الأمة، وإحياء دورها العظيم الواصل بالله، الناهي عن الفحشاء والمنكر، والحافظ لحدود الله. وإحياء عمارتها ومركزيتها، من المساجد والجوامع، وإظهار ما تبثه من مقاصد في المجتمع. ومهم جداً أن تعلم أن أول عمل في الإسلام - بعد الإيمان - أُمِرَ به رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- هو الصلاة! وأول عمارة بناها النبي -صلى الله عليه وسلم- في الإسلام هي المسجد! فتدبر هذا ثم أبصر! واقرأ مقاصد الحديث العجيب؛ إذ قال -صلى الله عليه وسلم-: «أتاني جبريل في أول ما أوحي إلي، فعلمني الوضوء والصلاة، فلما فرغ من الوضوء أخذ غرفة من الماء فنضح بها فرجه»(3).

الصلاة مفتاح صلاح المجتمع، وأول أعمال التجديد فيه، وبقدر إقبال الناس عليها يكون تقويم مراحل البعثة، ومعرفة ما قطعته من أشواط. نعم؛ الصلاة من حيث هي عبادة؛ لا من حيث هي عادة يمارسها المسلم كما يمارس عادة شرب القهوة، أو قراءة جريدة الصباح والمساء! بل الصلاة بما هي رباط وجداني، وحركة فردية وجماعية تصل الناس بالله عقيدةً وشريعةً، وتصنع عمارتهم الإيمانية في طريق بعثة التجديد(4). ولك أن تتدبر حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات! إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة.. فذلكم الرباط! فذلكم الرباط! فذلكم الرباط!»(5). فمن ها هنا البدايات والمنطلقات؛ لعمران الوجدان وبناء الإنسان؛ لمن يدرك حقاً: كيف تقوم أركان بعثة التجديد في المجتمع.

3 - المجتمع: ونواته الأولى إنما هي (الأسرة) بالمفهوم الإسلامي، فالأسرة مفتاح فريد لكل تجديد، الأسرة هي أساس المجتمع، والخلية الأولى من نسيجه الكبير. بتماسكها يتماسك المجتمع كله، وبتمزقها يتمزق كله، ثم ببقائها سليمةً معافاةً يَسْلَمُ التدين ويستمر، وبفسادها أو خرابها يفسد ويخرب، ألم تر أن الله ـ عز وجل ـ قد أعطى للأسرة أولوية الأولويات في التشريع القرآني؛ بينما أحال كثيراً من بيان تفاصيل التشريعات الأخرى ـ بما في ذلك أركان الإسلام وفرائضه الكبرى ـ على بيان السنَّة، أو استنباط الاجتهاد؟! وإنما اكتفي في القرآن بتشريع مبادئها وأصولها؛ بينما تولى ـ جل وعلا ـ بنفسه ـ سبحانه ـ تفصيل قضايا الأسرة في القرآن العظيم، وبَيَّنَ فيه أحكامها الكلية والجزئية؛ إلى درجة من التفصيل لم تكد تبقي للسنة من ذلك إلا قليلاً، ولم تكد تبقي للاجتهاد بعدهما شيئاً!

إن هذا الصنيع الرباني في حد ذاته خطاب منهجي؛ لمن فكَّر في تجديد العمران.

ولقد شهد التاريخ أن الدين في كثير من البلاد؛ لم تحفظه لا هيأة كبار العلماء، ولا وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ولا الجمعيات والجماعات الإسلامية القديمة والحديثة. وإنما حفظه الله بالأسرة! هذه الخلية الدعوية العجيبة التي بقيت على فطرتها الدينية، وأساسها الإسلامي، كما كان الشأن في الجمهوريات الإسلامية التي بقيت ردحاً من الزمن ليس باليسير، تحت الحصار الحديدي لدولة الإلحاد الكبرى: (الاتحاد السوفياتي) البائد! وكذا صنوه (الاتحاد اليوغوزلافي). لقد انبعثت الحياة الإسلامية في تلك الجمهوريات من جديد في غياب المؤسسات الدينية الممنوعة، وغياب كل أشكال التدين السنّي والبدعي سواء! ولم يبق لديهم من الإسلام إلا نظام حياتهم الخاص بالأسرة، وثقافتها الدينية المتوارثة، وكان ذلك وحده كفيلاً بحفظ جمرة الإسلام متوقدةً عدة أجيال، تحت رماد الكفر والإلحاد! لذلك كان التشريع القرآني يحصن أحكام الزواج والطلاق والمواريث، وما تفرع عنها جميعاً، بترسانة عظيمة من الحدود، جعلها الله من حماه ومن محارمه. وإنما تقوم بعثة التجديد بإعادة بناء كل المفهومات الإسلامية المتعلقة بالأسرة في النفس وفي المجتمع، وإغفال تجديد هذه المعاني في الأمة لن ينتج عنه بعثة شاملة كاملة.

يتبع

عطية العمري
08-11-2006, 09:03 AM
( 15 )

وللأسرة في الإسلام قيمتان أساسيتان، لا بد من الانتباه إليهما عند التجديد:

الأولى: قيمة العِرض: وذلك على ما قرره علماء المقاصد في أصول الضروريات الخمس. وإنما العِرض قيمة خلقية، ترجع إلى أخلاق إسلامية كثيرة؛ من أهمها: الحياء والغيرة، فأما الحياء ففيه من النصوص ما يكفي؛ لجعله كلية من كليات الأخلاق في الإسلام، ومن أجمع ما ورد في هذا حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن الحياء والإيمان قُرِنَا جميعاً، فإذا رُفع أحدهما رفع الآخر»(6). وأما الغيرة فيكفي فيها حـديثه -صلى الله عليه وسلم- أيضـاً: «إن الله ـ تعالى ـ يَغَارُ، وإن المؤمن يغار. وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله عليه»(7). وشرع لحفظ ذلك عدداً من التشريعات؛ مما يتعلق بأركان الزواج وعقوده وآدابه، وكذا بعض الحدود الراجعة إلى صونه من كل لوث، كحد الزنى وحد القذف.

الثانية: قيمة النسل: على ما قرره علمــاء المقاصــد أيضاً. و (النسل) مفهوم كلي في الدين، يقوم عليه عدد كبير من الأحكام الشرعية التي تنظم الحياة الزوجية؛ بما يضمن استمرار هويتها الإسلامية، وانتسابها الديني في ذريتها إلى يوم القيامة! قال ـ جل وعلا ـ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإيمَانٍ أَلْـحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21]، وقال ـ سبحانه ـ: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران: 34]، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه. كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء؛ هل تحسون فيها من جدعاء؟ ثم يقول: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِـخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30]»(8).

واستمرار (الأسرة) بمفهومها الإسلامي؛ هو الذي يضمن بقاء ثقافة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) على المستوى الشعبي، ذلك أن التحصينات الأسرية تربي ذوق الجيل؛ بما ينكر كل ما خالف (معروفه)، وينتصر لكل ما وافقه.

4 - العلم: مشهورة جداً (ترجمة) الإمام البخاري، في كتاب العلم من صحيحه، وهي باب: (العلم قبل القول والعمل؛ لقول الله ـ تعالى ـ: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ} [محمد: 19]. فبدأ بالعلم)(9). والعلم باعتباره قضية من قضايا (بعثة التجديد) ركن من أعظم أركان البعث والإحياء؛ غايةً ووسيلةً، فبالعلم كانت الأمة، وبه تكون مرة أخرى بحول الله. إلا أن لطبيعة العلم المجدد خواص، نفردها بالدرس لأهميتها فيما يلي:

يتبع

عطية العمري
08-11-2006, 09:04 AM
( 16 )

تجديد العلم كامن في تجديد مناهجه:

لسنا في حاجة إلى تجديد قضايا العلم؛ بقدر ما نحن في حاجة إلى تجديد مناهجه، وإنما قضاياه تَبَعٌ لمناهجه، فإذا تجددت هذه؛ تجددت تلك بالضرورة. والعكس ليس بصحيح!

وتجديد المناهج هو الكفيل بتأطير بعثة التجديد، وإسنادها على المستوى العلمي الذي هو الوعاء الجامع لحركتها تأصيلاً وتوجيهاً، ومناط التجديد المنهجي يكون بإحياء الصناعة الفقهية المقاصدية بضوابطها الشرعية؛ بعثاً وتجديداً.

إن مشكلة العلم والعلماء اليوم إنما ترجع إلى ضمور هذه الصناعة وندرتها.

والمقصـــود بـ (الفقـه) هنــا: المعنـــى المصــدري للفــظ، لا الاسمي؛ أي الفقه من حيث هو حركة عقلية، ونشاط ذهني بالقصد الأول، ينتجها (العقل المسدَّدُ)، لا (العقل المجرَّد). فالفقه عـن الله ورسـوله إنما يقع بعقـل العالـم الـرباني الحكيم ـ والعقل مناط الفهم والتكليف ـ بما كان عبداً لله خاضعاً لسلطانه، وذلك هو (العقل المسدَّد). وأما (المجرَّد) فعقل متمرد على الله، متجرد عن تسديد الوحي وتأييده! وهو عقل الفيلسوف الذي يركّب المقولات على ما يمليه فهمه هو للكون والحياة دون استناد إلى الوحي، وربما ناقضه ولا يكترث لذلك؛ ما دام عقله قد حكم به!

وفقه (العقل المسدَّد) هو المقصود في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: «نضَّر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها، ثم بلغها عني. فَرُبَّ حامل فقه غير فقيه! ورُبَّ حامل فقه إلى مَنْ هو أفقه منه!»(10) إلخ.

والفقه المقاصدي كان أهم ملامح بعثة التجديد في القرون الهجرية الأولى، مع الإمام الزهري، وربيعة، وأبي حنيفة، ومالك، والأوزاعي، والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد وغيرهم.

نحن اليوم في حاجة ـ على مستوى تجديد الفقه ـ إلى ثلاثة أعمال منهجية:

الأول: بعث الثقافة الفقهية القديمة:

ومن الحِكَم المأثورة عن بعض العلماء قولهم: (أول التجديد قتل الماضي بحثاً!)، وإنما المقصود ببعث الثقافة الفقهية: بعث المفهومات والمصطلحات الضرورية في العلم، وتجديد تداولها؛ ذلك أن دروس معاني المصطلحات الفقهية وضياعها، هو مما يسبب غاية الاختلال في الفهم، والانحراف في التطبيق؛ مما قد ينتج غلواً في الدين، وخروجاً عن مقاصده الشرعية؛ فتنزل أحكامه على غير منازلها!

ذلك أن بعض أعلام الدعوة اليوم ـ مثلاً ـ لا يعرفون من نصوص القرآن والحديث إلا حكمين شرعيين اثنين: الوجوب والتحريم! فكلما ورد الأمر عندهم حملوه على أصله من الوجوب! وكذا يحملون النهي مطلقاً على أصله من التحريم؛ ليس لأنهم يجهلون القاعدة المدرسية المشهورة: (الأصل في الأمر الوجوب؛ إلا أن تصرفه قرينة إلى الندب أو الإباحة. والأصل في النهي التحريم؛ إلا أن تصرفه قرينة إلى الكراهة)، كلا! فهو يحفظها، لكنه لا يفقهها! فهو ـ بكل سهولة ـ (حامل لدليل الفقه) وليس (بفقيه)؛ وبينهما فرق كبير، وهو ما عبّر عنه الحديث النبوي السابق ذكره: (فرُبَّ حامل فقه ليس بفقيه!)؛ إذ لا يعرف مثلاً كيف يراعي عناصر السياق الثلاثة: من القرائن، والسوابق، واللواحق. ولا كيف يراعي قواعد الدلالة ويوظفها، ولا ما يُعْمِلُ من مناهج الاستدلال وما يُهْمِل، حسب طبيعة الحكم الشرعي ومجاله، من العبادات أو العادات! فحملوا الناس على العنت جهلاً بصناعة الفقه، ومالوا عن الوسط والاعتدال، وخرجوا عن حد الإجماع الذي جعل الأحكام التكليفية موزعة على الخمسة المعروفة: الوجوب، والندب، والإباحة، والكراهة، والتحريم. لقد كانت هذه الأمور معلومة من الدين بالضرورة، بل كانت ثقافة شعبية يوم كان (الفقه) إمام الأمة، ومنهج تلقيها عن الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-.

إن الفقه صناعة لا بد من إحيائها بالبحث في مناهجها؛ حتى تصبح في متناول (التداول الثقافي) للأمة.

ويمثل المصطلح الفقهي عنصراً من أهم عناصر الإحياء الثقافي، وقناة من أخطر قنوات التداول المفهومي لمنهج التفكير الفقهي، ولذا فهو يعتبر من أهم أولويات البحث العلمي لمن رام القبض على العلم من صلبه لا من مُلَحِه وحواشيه. وللأسف فإن غالب البحوث العلمية اليوم في الدراسات الأكاديمية تعاني من الهزال الشديد في المنهج؛ ذلك أنها تعاني أزمة في الاستراتيجية العلمية، وأزمة في الشروط المنهجية.

أما الأزمة الاستراتيجية؛ فهي تتمثل في غياب القصد العمراني في البحث الذي يراعي حاجات الأمة الكبرى في بناء التفكير المنهجي، وتوفير مادة علمية صالحة لبناء المستقبل العلمي في المجال الشرعي، وذلك لما طغى على أغلب تلك البحوث من الارتجال ونفسية ردود الأفعال، فكلما ألقى الإعلام على الأمة شيئاً من القضايا، أو كلما أثار (الآخرون) شيئاً من الشبهات؛ رأيت البحوث على عرض العالم الإسلامي وملء جامعاته ومعاهده؛ تنصبُّ على موضوع الشبهة بالبحث لبضع سنين! بينما كان يكفي ذلك أن يصدر فيه (تأليف) فقط، أو حتى عدة (تآليف) لا (بحث). وفرق عندي بين مفهوم (البحث) ومفهوم (التأليف)، فالتأليف: جمع لما هو موجود من العلم، وتصنيف له، ثم عرض له بمنهج إنشائي. فالمؤلف يجمع الأفكار أو يعيد إنتاجها، ثم يعرضها عرضاً حسناً في كتاب. أما (البحث): فهو كشف عن مجهول(11)، إنه تجديد في بناء العلم، أو زيادة - مهما قلت - في صرحه وعمرانه. وما أدق كلمة لأبي بكر ابن العربي المعافري ـ رحمه الله ـ في هذا، قال: «ولا ينبغي لحصيف أن يتصدى إلى تصنيف؛ أن يعدل عن غرضين: إما أن يخترع معنى، وإما أن يبتدع وضعاً ومبنى. وما سوى هذين الوجهين فهو تسويد الورق، والتحلي بحلية السرق!»(12).

وبالمناسبة؛ فقد رأيت عدة (بحوث) أُنجزت في موضوع المرأة في السنوات الأخيرة، أو سُجّلت لنيل بعض الشهادات، وبالاستقراء كانت القضايا المدروسة في أغلب هذه البحوث هي هي! والمنهجية المتبعة هي هي! والنتائج المتوصلة إليها هي هي! لماذا؟ السبب يسير: هو أن موضوع (المرأة في الإسلام) قد قُتل بحثاً من لدن الدارسين. وما بقي فيه مجال إلا (للتأليف) بالاصطلاح المذكور! وما كان ينبغي أن نكون كلما ألقى شيطان الغرب في روع عملائه ومقاوليه شبهةً؛ أن نهب بكل طاقاتنا لإصدار البحوث، وإنجاز الأطروحات!

إن الأمة اليوم في حاجة إلى البحث في التراث الفقهي، أصوله وفروعه، تحقيقاً وتخريجاً وتجديداً؛ بما يضمن تطوير مناهجه وبث ثقافته. كما أنها في حاجة استعجالية لوقف النـزيف الحاصل اليوم في الجامعات العربية والإسلامية، حيث تهدر الأموال، والطاقات، والأعمار؛ في إصدار وفرة من التآليف باسم البحث العلمي!

إنه لا بد من بناء (استراتيجية البحث العلمي) لدراسة الجدوى من كل عمل؛ قصد تحقيق بعثة التجديد في الجامعة؛ بما يغطي حاجات الأمة المستقبلية في فقه الدين والدنيا، ومن أجل ذلك؛ لا بد من إنجاز العنصر الثاني من الأعمال المنهجية الثلاثة للتجديد الفقهي، وهو:

يتبع

عطية العمري
08-11-2006, 09:06 AM
( 17 )

الثاني: تجديد أصول الفقه ومقاصد الشريعة:

وليس معنى ذلك عندي إلغاء العمل بالقياس، ومسالك التعليل، على ما يراه بعض الفضلاء(13). كلا! فلا تزال المنهجية الأصولية في أغلب قواعدها صالحة للإعمال والاستعمال، في إنتاج التفكير الفقهي الجديد وضبطه، وإنما هي في حاجة إلى كشف رصيدها العلمي الضخم أولاً، ثم تطوير قواعدها الإجرائية؛ بما يضمن استيعاب قضايا العصر الحديث بشكل مناسب لمقاصد الشريعة ثانياً.

فهي إذن؛ في حاجة إلى (تكميل) أكثر مما هي في حاجة إلى (تغيير)، هذه حقيقة يعرفها من خبر مناهج الاستنباط الفقهي في مصادرها الأصيلة، وذلك على الأقل في هذه المرحلة من تاريخ الأمة العلمي. قلت: هذا لمن كان يعرف طبيعة المادة الأصولية والمقاصدية حق المعرفة؛ من خبراء الميدان. فالدرس الأصولي غني جدّاً بالتنوع المنهجي، وبالتعدد الإمكاني لمسالك البحث والاستنباط؛ بما يكفل تغطية أغلب الحاجات العلمية للأمة، في العصر الحديث.

والقياس المعياري ـ ولا أقول (الضيق) ـ وُضِعَ لأسباب حضارية، وحاجات علمية، ما تزال قائمة إلى اليوم. ووضعت له منافذ للتوسعة، تبرز حيث تنتصب حاجتها علمياً. من مثل القواعد المآلية، كقواعد الاستحسان، وسد الذرائع وفتحها، وقاعدة مراعاة الخلاف، وقاعدة اطراد المصالح الكلية... إلخ(14).

إن الحاجة اليوم هي في تجديد الضوابط الأصولية، والقواعد المقاصدية، فيما يتعلق بفقه الأولويات والموازنات، وكذا قواعد ترتيب الحجاج والاستدلال. فأصول هذه الأمور تكاد تنعدم، فالخبراء يستنبطون مفهوماتها لأنفسهم، ويبقى غيرهم من أهل العلم تائهين في فتنة تعارض الظواهر ومقتضيات الدلالات، فتدخل الأمة بذلك في فتنة ردود الأفعال، من مثـل ما يحصل اليـوم مـن افتراقٍ مفتونٍ، ينشـق بين قـوم لا يشتغلـون بالسـنة مكتفين فقـط بالقـرآن! وبين قـوم آخــرين لا يشتغلــون بالقــرآن مكتفين فقط بالسنة! وبين قـوم آخــرين لا يقبلـون اجتهـــاداً فـي الدلالـة ولا فـي مقاصــد الشـريعة؛ ولا نظراً في تحقيق المناط بين عموم وخصوص! وقوم غيرهم تسيبوا في تفسير الخطاب الشرعي بما يخالف الأصول الكلية والثوابت الشرعية. كل ذلك ردود أفعال لا شعورية؛ بسبب غياب العدل في العلم، والقصد في المنهج.

إننا في حاجة إلى تكميل أصول الفقه بقواعد، تضمن بناء مراتب التشريع؛ ليس بمعنى الترتيب المعتاد للأصول: الكتاب فالســنة فالإجمــاع فالقيــاس، كلا! فهـذا ترتيب مـدرسـي، لا إشكال فيه ولا خلاف، وإنما القصد منه بيان قوة الحجة الكلية للدليل. وأما قواعد الترتيب التشريعي المطلوب تجديدها؛ فهي المتعلقة بترتيب التفكير الفقهي، والضابطة لمراحله الذهنية؛ بدءاً بمرحلة الفهم للنص: كيف يتم؟ ثم مرحلة الاستنباط منه: كيف تقع؟ ثم مرحلة التحقيق للمناط: كيف تتنزل أحوالها ومآلاتها بين العموم والخصوص؟ وما يعتري كل ذلك من تقديم وتأخير، أو استثناء وتخصيص، للأدلة بعضها على بعض، وبعضها من بعض، إلى غير ذلك من سائر الأحوال، والممكنات الاستدلالية في الدرس الأصولي والمقاصدي.

ثم أيضاً القواعد المقعِّدة لقوة التحقيق والتطبيق على الواقع الإنساني، وميزان أولوياتها على وزان قوة الحكم الشرعي، وإنما يكتسب قوته بمصدره ومآله، فليس ما شــرع فـي القرآن ـ من حيث القوة ـ كما اشتغلت السنة بتشريعه، ولا ما شرع في السنة كما اشتغل الاجتهاد بتشريعه. وليس ما أجمل في الكتاب كما فصل فيه. هذا ترتيب لا تكاد تجد له في أصول الفقه قواعد إلا قليلاً.

وعـدم اعتبار هـذه المعاني الكليـة، والترتيبات الاســتدلاليــة ـ مما سبق ذكره إجمالاً ـ يؤدي إلى أحد غُلوّين: غلو في اعتبار القرآن بلا سنة، أو السنة بلا قرآن، أو غلو في اعتبار النصوص مطلقاً بلا فقه، ولا منهج معلوم، وإنما هي الفوضى في المنهج وفي التفكير!

كما أننا في حاجة - بعد ذلك - إلى تكميل قواعد تحقيق المناط بمعناه العام والخاص(15). وتطوير ذلك من مجال النفس إلى مجال المجتمع، ذلك أن كثيراً من التضارب بين العلماء والدعاة اليوم، في الفتاوى وفي رسم التوجهات الفقهية؛ يرجع في غالبه إلى غياب ما يمكن تسميته بفقه (تحقيق المناط الاجتماعي). وهو صناعة أصولية درج بعضهم على تسميتها اليوم: (بفقه التنزيل). وهذا لا يزال في حاجة إلى تأصيل وتقعيد، وما صنف من هذا في التراث القديم هو فعلاً في حاجة إلى (تجديد) بعض نماذجه؛ خاصة في مجال المعاملات والعادات؛ إذ فقه تحقيق المناط في مثل هذه الأمور مرتبط بطبيعة الزمان وأهله، يتغير بتغيرها، وقد تغير فعلاً منه الكثير الكثير، فلا بد من تجديد ذلك، على شروط العلم، وقواعد المنهج الأصولي والمقاصدي.

وأما تجديد مقاصد الشريعة من أصول الفقه، فهو ـ أولاً ـ بالصياغة المنهجية؛ لما يوجد منها منثوراً في كتب الفقه وأصوله، ومعلوم أن من فعل ذلك من العلماء الأقدمين والمحدثين في الأمة قليل، فلا يذكر منهم غير الشاطبي في الأقدمين وشراحه من المحدثين ـ كالطاهر بن عاشور والدكتور أحمد الريسوني ـ، المفاهيم المقاصدية لا تزال مبثوثة في كتب الأقدمين ليس فقط في الكتب المشتهرة بذلك كقواعد الأحكام للعز بن عبد السلام، كلا! وإنما في كتب الفقه مطلقاً وفي كل كتب الأصول، بل في كتب التفسير أيضاً وفقه الحديث، وهي تحتاج إلى كشف أولاً، ثم إلى صياغة علمية منهجية على وزان القواعد والأصول.

ويضاف إلى ذلك ـ ثانياً ـ ما دعت إليه الحاجة المعاصرة؛ من تقعيد القواعد؛ مما يُقَصِّدُ الشارع تقصيداً شرعياً، في تفسير النصوص الكلية؛ لاستيعاب المفهومات الجديدة للمصالح والمفاسد والحقوق؛ بما ينضبط إلى أحكام الشريعة.

والتفكير المقاصدي ضرورة من ضرورات البعثة، وأصل من أصول التجديد، فبغيره تتيه الأمة بين الظواهر؛ بما قد يرفع شوكة الفكر الخارجي من جديد، أو يدخلها ـ بالضد ـ في متاهات التحليل الباطني، ويبقى الوسط بعيداً عن لسان الميزان! وشيء من هذا وذاك ـ مع الأسف ـ هو حاصل، ولله عاقبة الأمور.

يتبع

عطية العمري
08-11-2006, 09:07 AM
( 18 )

ثالثاً: تجديد (أصول الفقه السياسي):

إن هذا الاصطلاح دال على مفهوم هو في الحقيقة من مفهومات علم أصول الفقه بمعناه العام، لكننا أفردناه بالذكر ها هنا لجهل بعض الناس به؛ بل لإنكارهم إياه مطلقاً! ثم لما له من خطورة في بعثة التجديد، خاصة في زماننا هذا.

إن (أصول الفقه السياسي) أمر لازم بالضرورة عن فقه تحقيق المناط في أصول الفقه، وأمر لازم بالضرورة أيضاً عن فقه (اعتبار المآل) في مقاصد الشريعة، كما قرره الإمام الشاطبي(16)، ثم هو ـ قبل هذا وذاك ـ ضرورة من ضرورات الاجتهاد المعاصر، لا يكون العالم اليوم مجتهداً بحق؛ إلا بتحصيل درجة الاجتهاد فيه.

لكن لا بد من بيان أمر:

لقد قررنا في كتابنا (البيان الدعوي) تأخرَ الرتبة التشريعية للأحكام السياسية في الإسلام؛ بما يعني عدم مفتاحية الشأن السياسي دعوياً(17)، فذلك أمر آخر تماماً ومختلف عما نحن فيه، إن ذلك يتعلق ببناء (البرنامج السياسي) في المجال الدعـوي.

ونحن نفرق بين (البرنامج السياسي) و (أصول الفقه السياسي)، فالأول فقه جزئي تطبيقي، والثاني كليات وقواعد، بمعنى أن (البرنامج السياسي) ما هو إلا عنصر جزئي من عناصر (أصول الفقه السياسي)، كنسبة فقه المواريث مثلاً إلى مجموع الفقه، بل إلى كلي أصوله. ولذلك رأينا أن (البرنامج السياسي) ـ بما هو علم جزئي ـ ليس هو المفتاح الأساس لبعثة التجديد الإسلامي، وهو ما اصطلح عليه اليوم بـ (المشاركة السياسية) في المجال الحزبي، بل هو أمر مقصود بالتبع، وليس بالأصالة في تجديد العمران الديني للمجتمع.

أما الثاني ـ أعني فقه الكليات السياسية، أو أصول الفقه السياسي - فهو منهج معرفة سنن التحولات، وسنن التوقعات والمآلات، فيما يتعلق بتدبير شؤون المجتمعات، على المستوى المحلي والإقليمي والعالمي، وبهذا كان مصدراً من مصادر فقه الدعوة الإسلامية. ومن ظن أن العالم الإسلامي قطعة معزولة، أو بالأحرى يمكن عزلها عن السياسة الدولية؛ فهو ما يزال يعيش خارج التاريخ!(18)

وبمثل هذه الأخطاء القاتلة، في الفهم وفي المنهج؛ يتم استغفال بعض العلماء وتوظيفهم - على جلالة قدرهم -، والدفع ببعض الجماعات الإسلامية؛ بما يؤدي بها إلى الانتحار في نهاية المطاف! أو إلى زيادة تمزيق مِزَقِ الأمة؛ بما يؤخرها عشرات السنين إلى الوراء!

إن (أصول الفقه السياسي) ضرورة من ضرورات الاجتهاد اليوم، لا يجوز لعالم أن يتصدى للإفتاء في الشأن الإسلامي العام، المتربط بمصائر الشعوب الإسلامية، وأمنها الاستراتيجي المادي والمعنوي؛ إلا بتحصيل درجة الاجتهاد فيه، فلا بد إذن من إحكامه، وبناء قواعده، واستنباط مناهجه؛ لضمان تفكير فقهي سليم، يبني ولا يهدم، ويرشد ولا يضلل.

إن أصول الفقه السياسي هو قواعد لفهم ما يجري في العالم، وقواعد لاستنباط ما يناسبه من أحكام وفتاوى على موازين الكتاب والسنة. وأي فتوى تُنَزَّلُ على محلها بغيره؛ فهي رمية من غير رام. وإنما جاء الدين ليتنزل على واقع الناس بما هو موصوف في الزمان والمكان، و (أصول الفقه السياسي) هو الكفيل بذلك الوصف، في مجال تدبير الشأن العام.

ويمكن أن تستقرئ قواعده ـ زيادة على التراث الأصولي والمقاصدي ـ من قواعد العلوم السياسية والاقتصادية والإعلامية. فهذه ثلاثة مجالات، هي من الخطورة بحيث يُعتبر الخوض في محاولة بناء الأمة، وتجديد بعثتها من دون مراعاتها؛ ضرباً من المغامرة بمصيرها، ونوعاً من المقامرة بوجودها، وقد عُلِم شرعاً تحريم كل عقد بني على الغرر والمقامرة.

إن تجديد العلم بتلك المواصفات معناه تجديد العلماء؛ لأنهما متلازمان كتلازم الصفة مع الموصوف، فالعالم الفقيه حقاً: إنما هو الذي بقدر ما يجتهد في استنباط الأحكام من النصوص، أو من عللها، أو حكمها؛ يجتهد أيضاً في تربية الجيل بها. ولا يكون ذلك إلا بمعرفة الزمان وأهله، على ما قررناه في (أصول الفقه السياسي)، فذلك هو الإمام المنتصب، أو العالم الوارث، المبعوث للتجديد بإذن الله.

يتبع

عطية العمري
08-11-2006, 09:09 AM
( 19 )

خاتمة:

إن الاستعمار الأمريكي الصهيوني للعالم الإسلامي اليوم، مشرقه ومغربه، سيؤدي ـ بحول الله ـ إلى تحول كبير في بنية الأمة الإسلامية. ويكون ذلك بأحد أمرين:

الأول: حرب عالمية بين الأمة ـ بعد تجددها القريب ـ وبين أعدائها.

والثاني: انهيار ذاتي لبنية العولمة والنظام العالمي الجديد. وكلاهما وارد.

ومن هنا تظهر حاجتنا إلى الفقهاء الحكماء، بما وصفنا وبيَّنا، لإدارة بعثة التجديد، من القرآن إلى العمران.

فأما الاحتمال الأول؛ فلعله أشد وطأةً، وأكثر توقعاً بمستقبل آت بإذن الله؛ إذْ لا نرى أحداث العالم الإسلامي اليوم إلا ناراً تنضج جيله الحامل لأمره.

إن العدوان الأمريكي الفظ، المستمر على الأمة الإسلامية، والسرطان الصهيوني بفلسطين، والتطبيع المفروض من قبل الغرب، والتواطؤ المفضوح مع ذلك كله من قِبَلِ الأنظمة العربية، هذا مع استمرار الإذلال للشعوب المسلمة، والتقليل والتذبيح الجماعي، والتمزيق لخرائط العالم الإسلامي، وانتهاب الثروات، كل ذلك يصنع في الأمة أجيالاً مقاتلة، ونفسية جهادية. لكن الله وحده عليم بموعد الإبَّان!

ومن هنا وجب توجيه تجديد العلم، والبحث الأكاديمي إلى الفقه وأصوله ومقاصده، كما أشرنا قبل. إن الفقيه الحكيم هو القيادة الرشيدة للأمة عبر التاريخ، في محنها وأزماتها؛ تماماً كما كان فقهاء الصحابة عند الفتنة، وكما كان ابن تيمية عند انهيار المشرق ودخول التتار إلى قلب الأمة.

إن النار الشديدة التي تلهب العالم الإسلامي اليوم؛ بما لم يسبق له مثيل في تاريخه الحديث؛ إنما تنضج فيه أطباق الجيوش المجاهدة، وقيادتها الفقهية الربانية المؤمنة.

إنها تباشير الخير إذن، لكن طبعاً من خلال الدماء والمعاناة، وتلك سنة الله في التاريخ، فلم ينتصر بنو إسرائيل في عهد موسى ـ عليه السلام ـ على فرعون، وحضارة الفراعنة؛ إلا من بعد تذبيح وتقتيل: {إنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إنَّهُ كَانَ مِنَ الْـمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص: 4 - 6].

وكذلك كانت سنة الله في الأمم المستضعفة وطغاتها، وكذلك هي جارية في هذه الأمة إلى يوم القيامة، كما قال ـ تعالى ـ في طغيان بني إسرائيل وإفسادهم: {وَقَضَيْنَا إلَى بَنِي إسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً} [الإسراء: 4 - 5].

إن الفرعونية هي أوج مرض الطغيان؛ إذ يبلغ مرحلة (المرض المخوف)! حيث يدعي الألوهية والتحكم في مصير الأرض والشعوب، كما سبق قوله ـ تعالى ـ: {إنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَـــــاءَهُـــمْ إنَّـــــــهُ كَانَ مِـــنَ الْـمُفْـــسِدِينَ} [القصـص: 4]، وإنمـــا كان ذلك بمقتضى الوهم الفرعــوني بإدعائه الألـوهية، كما في قوله ـ تعالى ـ: {فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى (25) إنَّ فِـي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّـمَــن يَخْشَــى} [النازعــات: 21 - 26]، وقـوله ـ سبحانه ـ: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْـمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]، وهو بالضبط حال الطغيان الأمريكي ـ الصهيوني اليوم في العالم! وقد ثبت في سنة الله الجارية؛ أن الطغيـان بمجرد مـا يصـل مـرحلة تحـدي رب الكـون؛ فإن الله ـ تعالى ـ يأخذه أخذ عزيز مقتدر! وما نحسب النظام العالمي الجديد إلا وصل تلك المرحلة، أو قاربها! وهذا بيّن من خلال لغة إعلامه، ومنهج اقتصاده، وصور حروبه. فالتأله والتعدي على سلطان الله ـ جل وعلا ـ في الأرض؛ هو السمة الغالبة على طبيعة الطغيان الأمريكي، وما نرى إلا أن مرحلة (الأخذ) قد قربت؛ بمعنى ما سبق من قوله ـ تعالى ـ: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى} [النازعات: 25].

سواء ترجح الاحتمال الأول أم الثاني؛ فإن الاستخلاف لن يكون في هذه الأمة إلا بعد صلاحها، فاقرأ هذا البلاغ القرآني العظيم وتدبر: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِـحُونَ (105) إنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء: 105 - 106]. إن الصلاح بفعل ما ذكرنا آت بالجملة، وعودة الناس إلى دين الله أفواجاً رغبة شعبية عارمة، ومن مختلف الشرائح والطبقات، لكن البداية الحقيقية لن تكون إلا بما بدأ به العهد الأول، والبعثة الأولى، فهي لم تبدأ بالسيف يوم بدأت، ولا بالقتال. وإنما بدأت بالقرآن! إن أول شيء حدث في الأمة لتكون أمةً هو نزول القرآن! فتدبر هذه الحقيقة فإنها غير معتادة تماماً! القرآن الذي بدأ يتنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- فوق مرتفع جبل النور بضواحي مكة؛ كان هو منطلق العمل لبناء صرح هذه الأمة، ثم جعل يسري بين الناس همساً؛ حتى صار (تداولاً اجتماعياً) و (مجالس) بين الدور والشعاب، إلى أن صار حديث المنابر بالمدينة، ونزهة المجالس على ملأ العالمين بالجزيرة العربية كلها، إلى أن عمت أنواره، وغلبت كل أضواء العالمين.

ولذلك نقول: القرآن أولاً يا دعاة الإسلام! فإن القرآن أول القطر النازل من مطر بعثة التجديد، والله الموفق للخير والمعين عليه، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200].


--------------------------------------------------------------------------------

(•) مراسل مجلة البيان، رئيس قسم الدراسات الإسلامية، جامعة المولى إسماعيل، مكناس، المغرب.

(1) انظر: بلاغ الرسالة القرآنية، ص 50 ـ 58.

(2) رواه الطبراني في الكبير. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رجاله موثقون. كما رواه ابن النجار عن أنس ـ رضي الله عنه ـ بلفظ: (العلماء) بدل (الفقهاء). وقال العجلوني في كشف الخفاء: رجاله ثقات. كما روى نحوه الديلمي عن علي رضي الله عنه.

(3) رواه أحمد والدارقطني والحاكم، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 76.

(4) انظر: قناديل الصلاة، للمؤلف، وبلاغ الرسالة القرآنية، ص 70 ـ 80.

(5) رواه مسلم.

(6) رواه الحاكم والبيهقي عن ابن عمر. وصححه الألباني. انظر حديث رقم: 1603 في صحيح الجامع.

(7، 8) متفق عليه.

(9) صحيح البخاري، كتاب العلم.

(10) رواه أحمد، وابن ماجه عن أنس مرفوعاً. وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير، رقم: 6765، كما رواه الترمذي والضياء عن زيد بن ثابت مرفوعاً، بسند صحيح كما في صحيح الجامع، رقم: 6763.

(11) انظر: أبجديات البحث، للمؤلف، ص 24، منشورات الفرقان. الدار البيضاء.

(12) عارضة الأحوذي شرح سنن الترمذي، لأبي بكر ابن العربي المعافري.

(13) تجديد أصول الفقه، للدكتور حسن الترابي.

(14) انظر: الموافقات: 4/ 194 ـ 210.

(15) الموافقات: 4/ 98.

(16) الموافقات: 4/ 194.

(17) البيان الدعوي، للمؤلف، (مخطوط).

(18) المرجع السابق.


تم بحمد اللـه تعالى
مع الشكر الجزيل للدكتور فريد الأنصاري