سعيد أبو نعسة
12-11-2006, 02:30 PM
الحبّ الأعرج
اعتلت سدة الهرم
تنصب أهدابها صوب المطلق ، تناجيه ،وتغرف من ينبوع سحره نورا يضيء ظلمة الطريق
يقيها العثرات، يؤنسها في وحدتها، يشد من أزرها،ويعينها على نوائب الدهر .
نور عجيب رافقها أنّى ذهبت و حيثما حلّت.
كل يوم تسأل نفسها هذا السؤال: كيف يمخر البشر عباب هذا النور ، يكنزون من عطائه، ثم يمضون عنه غافلين ؟!
تبحث عن فارس الأحلام ، تروح تستقصي ويجهدها المسير، تسخّر المنطق و الفلسفة علّ النّـور يسعفها بمقياس دقيق .
تسألها عن مواصفات فتاها ، فتجيب: أبحث عن ( الإنسان )
- وهذه الملايين من الذكور؟!
- زيتهم لا يضئ !! أية قيمة لمخلوق همّه الأوحد إشباع رغبات مخارج جسده!!
- أنتِ تبحثين عن صورة طبق الأصل لذاتِكِ !!ما رأيُك اذاً بالاستنساخ؟!
- ليس الأمر بهذه السذاجة؛ لقد جاهدتُ و أتلفتُ عيوني بحثا عن خيط يشد عرى الوجود
ورحت أرتقي مدارج السالكين بصبر و أناة حتى كُشف لي الغطاء وشعّ النور في داخلي
وهكذا، فالأمر متاح ! لست في عجلة من أمري ، فالزواج ائتلاف أرواح لا التقاء أجساد
ابتكرتْ تعريفات نهائية لا تقبل النقاش لكل المفاهيم وحددت الأسماء كلها فيما يشبه نظرية فلسفية خاصة آمنت بها ، و ملأت عليها كيانا ضجّ سعادة وحبورا، رضى و قناعة ، و أَترعت حياتها بالعمل و التأمل ، الدراسة و الراحة، ووسمت طبعها بالعناد و التحدي .
وتولت عيناها الذابلتان ترجمة ما يعتلج في صدرها من مشاعر إنسانية فياضة طبعت قسماتها ببسمة عذوب و أفترت عن نظرة عميقة الأغوار ترصد باتساعها حركة الكون وبخضرتها نسغ الحياة ، و ترفد نظريتها الفلسفية بالدليل تلو الدليل على صحتها و شموليتها في تضافر مبادئ الحق و الخير و الجمال في العمل من أجل سعادة الإنسان .
أطلق الفكر حرّيتها فتخلّصت من قيود العبودية و نضت عنها أسمال التحجّر و التطرف وأقنعة الرياء الاجتماعي ، و عقدت صداقة متينة مع كل ذي روح ، بشرا كان أم حيوانا أم نباتا .
تغدو في مشيتها أقرب إلى الرقص وهي تقفز كحجل صغير . و تختار من الثياب ما لا يعيق الحركة ولا يحدّ السرعة ولا يظهرها بمظهر أنثوي ضعيف خانع ، منقاد تابع .
تنضح الأنوثة الشامخة و الأمومة السامقة من أسلوبها في التعليم ومن جرس كلماتها المنتقاة بدقّة و إحكام ، فلا تجد أمامها سبيلا لك غير الاقتناع .
تفعل في العلن ما (تتوشوش) النسوة عليه في السر ، و لا تأتي من السلوك ما يشين ولا من الخطأ ما يهين .
تعرف نفسها حق المعرفة فليس يعيبها عصبية مزاجها وهي تصطدم بتيار من العلائق البشرية الحذرة ، و المكر و الخبث المستشري بين جمهور الممثلين الفاشلين على مسرح الحياة .
مفهوم واحد لم يتسنّ " لنور" أن ترسم حدوده وتتصور أبعاده التي لا تتضح إلا بالتجربة
ذاك هو ( الحب ) ، كعاطفة تولّد تيارا من التواصل بين الرجل و المرأة.
استخلصت من التجارب التي اطلعت عليها زيف ادعاءات المحبين حين يصبح الحب لديهم قناعا يشفّ عما تحته من الأنانية و الرغبة بامتلاك الآخر و اللهفة الجنسية الجامحة ، دون امتداده إلى العزف على أوتار الروح . لكنها في المقابل ترفض الاعتراف بعقد زواج لا يكتب بمداد القلب ، و لا يمهر بالدموع ، ولا ترقص كلماته على وقع أنغام حرفين صغيرين شكلاً
عظيمين فعلاً هما ( الحاء و الباء )
لا تعترف بحب يبعث منذ النظرة الأولى إن لم تتكاتف الثقافة و العلم و المعرفة و الاختبار والسلوك اليومي في تشكيل بنائه لبنة لبنة في رحلة متأنية مع الخيال و التحليل والتأويل رغم أنه يولد بمحض الصدفة ويشرق نتيجة استشراف سهمين من نور يهيمان في الفضاء و يندر أن يجود الزمان بلقائهما ، لذا فقد أرسلت عيون قلبها و قرون استشعارها في كل مكان وطئته قدماها ، حتى أنها كانت تقود سيارتها بعين واحدة بعد أن خصصت عينها الأخرى لالتقاط ذاك الشعاع .
قابلَتْه ذات صباح رائق جميل يقود سيارته أيضا بعين واحدة حيث أفسح لها الطريق بأدب رصين و بسمة واثقة نمّت عن الخيط الأول من خيوط الفجر .
توقف السائقان بعيد مسافة و رحل كل منهما في دهاليز ( لاوَعْيِـِه ) للتمتع بمشهد اتحاد الشعاعين ( الحاء و الباء ) . تنهّدا من بعيد على أمل اللقاء الثاني .
و انهمكت ملائكة الحب في ابتداع أساليب الجمع بين القلبين ، فتكرر رصد العيون وتبادل البسمات و التحيات الخرساء ، و قامت أضواء السيارتين بعملية الغمز نيابة عن العيون فلا سنّهما يسمح و قد تجاوزا عتبة الثلاثين و لا عقمت الألسنة
كان ملاكه شجاعا و يعلم علم اليقين أن حياء المرأة يمنعها من اتخاذ الخطوة الأولى
ألقى في روع ( س) أن يجهّز رسالة شاعرية بانتظار أول فرصة للتعارف ، و استهل رسالته بهذه الأبيات : لماذا أكتب اليكِ ؛ أسألُ نفسي ؟! أم أسألكِ؟!
إن كنت أسألك فما يدريكِ أو كنت أسألني ، فما يعنيك ؟!!
قادها ملاكها إلى إنجاز معاملة في مؤسسة قريبة من مكان عمل (س)
و انبرى ملاكه يحثه على الإقدام و (س) يستجمع جرأته و يجلد لسانه كي يهدأ ولا يتلعثم حين يواجهها . وقف أمامها كالطود ملقيا التحية ، فما كان منها إلا أن ترجّـلت من وراء المقود و صافحته مصافحة العارف ذي الشخصية العصامية القوية ، و طار لـبّه حيث كانت البادئة بسؤاله عن اسمه مما أهرق السكينة في نفسه وساعده على تسليمها قصيدته الأولى ، و غاب في شعاب المدينة شطرا من الوقت ، ليجدها في انتظاره أمام مقر عمله ، سعت إليه قائلة :
" لو لم تكن رسالتك شعراً لما وافقت على الاحتفاظ بها "
استضافها لحظة كانت كافية للتعارف ، و تواعدا على تكرار اللقاءات حسب الظروف .
سأل ( س) نفسه : لماذا يطرق الحب بابي وأنا على مشارف خريف العمر ؟
هل تراه يحمل بشائر سعادة افتقدتها مع أم أولادي ؟
أويضحك الدهر لي بعد أن جرّعني كؤوس الإملال و أظهر منّي شقي الحيواني فيما مضى من سالف الأيام ؟
صار (س) إنسانا بعد أن غزاه النور ، فخطّ لها رسالته الثانية و قال في الختام :
قبل أن ألقاكِ ، كنتُ شيئا ساكنا
لكنني بعد أن قابلتكِ ، يا أنتِ
صرت أنا
تابعها كظلّها ، فعل مراهق حرم الحب و الحنان ، و تدفق شعره مشحونا بعاطفة جياشة ومشاعر صادقة ، و قام يختلق المناسبات للقائها و إغراقها بالقصائد .
كبّـلها هذا الحب المفاجئ و أعاد خلط الأوراق في ذهنها ، و غامت الرؤية أمامها وراحت تقـلّب الأمر على وجوهه في جوٍ متشنّج تحكمه ظروف الولهان (س) و ظروفها الشخصية وكلام الناس ، و الخوف من المستقبل المجهول ، و تساؤلات لا حصر لها .
خاف (س) من الإبحار في الظلام إذا أفل الشعاع ، فصارحها بحبّه ، تاركاً لها حريّة القرار
بل ولج دارها ذات يومٍ محتجا بكتاب قد ينفعها في تحضير رسالة الماجستير ، خطوة ، رآها
(س) ضرورية للتعرف إلى عائلتها ، و قرأتها (نور) بمنظار آخر هو التسرع .
هل ترفض(نور)الحب للحب،و لا تؤمن بحب لا يفضي إلى الزواج ؟ أم العكس هو الصحيح؟
وأي زواج هذا الذي تصبح معه ضرّة مرّة ، تلوكها الألسن و تقذفها سهام أطفال (س) ؟** عاهدته على اللقاء وواعدته جانب الأماكن العامة ، و سهرت مثله الليالي ، و ناجت القمر ، و ربما ذرفت دموعا حرّى وهي تحتضن وسادتها الخالية كما فعلَ . لكن هذا شئ و الزواج شئ آخر تماما
سنة ؛ سنتان و الأمر على حاله من المراوحة ، و اختلاق الأعذار و التفكير الممل
قال لها :( الحب جذوة ملتهبة وقودها الشوق و الآهات ، الوصل و اللقاءات ؛ تيار كهربائي قطباه موجبان إذ لا مكان للسلبية مع الحب و إلا صار حباً أعرج مآله دارالمعوقين )
أنزلها هذا الحب من برجها الحالم و غمسها في حمأة اليومي المُعاش ،غبّش أحلامها الوردية وعكّر صفاءها النفسي ، فانقلبت حالها إلى ما يشبه( الفصام ) ، و ندّت عنها تصرّفات غير مفهومة و عبارات غير مبررة ، لم يجد (س) إزاءها إلا التحلي بالصبر و التحمل باحثا لها عن أسباب تخفيفية
كان متأكدا من أمر واحد ، انه يحبها حباً جما**ً، و أنها تحبه ، لكن عقبات كثيرة تحول بينها و بين التصريح بحبها له .
كانت من الرفعة الإنسانية بحيث لا يقف اختلاف مذهبه الديني عن مذهبها ، و جنسيّته الفلسطينية المغايرة لجنسيتها اللبنانية حائلا دون اكتمال قصة الحب .
هل كانت تخضعه لاختبارات تلجأ المرأة إليها دائما لسبر حب الرجل و مدى تعلّقه بها ؟
فرغم أنه تخطّى الامتحان بنجاح باهر نال رضاها و جعلها تمنحه درجة كاملة إلا أنها بخلت بتقديم هديّة النجاح إليه ؛ كلمة أحبك **
عذّبه هذا الحب ، فلا هو فاز بثمرة نضاله ولا احتفظ بماء وجهه أمام عياله .
كان مستعداً أن يرحل معها خلف النجوم وأن يفرد لها في قلبه مكان الصدارة جنبا إلى جنب مع أولاده ، و أن يعيش معها في عشٍ منفصل يتردد في جنباته تغريدهما ، لكنها نصحَته على
الدوام بالتريث و الانتظار .
لم يكن (س) أول رجل تخضعه (نور) للإمتحان ، لكنه كان الفائز الوحيد .
وهذا ما قضّ مضجعها و أدخلها في غيبوبة القلق ، و شلّ قدرتها على اتخاذ القرار .
الإنتظار هو خيار (س) الوحيد بعد أن ألقى في حضرتها أوراقه كاملة .
ولم يكن أمام (نور) إلا الهرب إلى الأمام و الانشغال بالعمل و العمل ، تعويضا عن التأمل الذي افتقدته و السعادة العرجاء ، و الحظ الذي أخرج لسانه في وجهها .
جرّت أذيال الخيبة منهوكة محطمة و حاولت أن تقفز صعودا إلى قمة الهرم ، بيد أنها عجزت وراحت تدبّ دبيبا ، ناصبةً عينا على المستقبل القاتم ، و أخرى على شعاع حبيب لمس شغاف قلبها و أنار الجزء المعتم من كيانها ، و دسّ في نفسها خوفا ما كانت تعرفه يوماً**.
حاولت التمرغ بين أحضان الطبيعة و معانقة الأشجار ، و الحيوانات الأليفة كدأبها فيما مضى
لولا أن أشاحت هذه المخلوقات عنها و لسان حالها يقول :
(من يرفض النور لا حاجة له بالعيون)
أيقنت أنها لم تعد اسما على مسمى ، وأنها لا تنظر إلى أبعد من موطئ قدمها ، رغم أنها عطشى و الماء وفير يحمله على بعد أمتار قليلة رجل اسمه(س)
كان بودها لو تملك الشجاعة وتتحدى الكون لتبوح له بحبها وتحقق اتحاد النور وتكمل دورة الزمان ،لكنها ولّت وجهها شطر القمة .
وحين تربعت لاهثة على صهوة الهرم ، سألها ملاكها : ماذا فعلتِ؟؟
زفرت زفرة عميقة وقالت بحسرة : وجدته ؛ و لكن ......
===============
اعتلت سدة الهرم
تنصب أهدابها صوب المطلق ، تناجيه ،وتغرف من ينبوع سحره نورا يضيء ظلمة الطريق
يقيها العثرات، يؤنسها في وحدتها، يشد من أزرها،ويعينها على نوائب الدهر .
نور عجيب رافقها أنّى ذهبت و حيثما حلّت.
كل يوم تسأل نفسها هذا السؤال: كيف يمخر البشر عباب هذا النور ، يكنزون من عطائه، ثم يمضون عنه غافلين ؟!
تبحث عن فارس الأحلام ، تروح تستقصي ويجهدها المسير، تسخّر المنطق و الفلسفة علّ النّـور يسعفها بمقياس دقيق .
تسألها عن مواصفات فتاها ، فتجيب: أبحث عن ( الإنسان )
- وهذه الملايين من الذكور؟!
- زيتهم لا يضئ !! أية قيمة لمخلوق همّه الأوحد إشباع رغبات مخارج جسده!!
- أنتِ تبحثين عن صورة طبق الأصل لذاتِكِ !!ما رأيُك اذاً بالاستنساخ؟!
- ليس الأمر بهذه السذاجة؛ لقد جاهدتُ و أتلفتُ عيوني بحثا عن خيط يشد عرى الوجود
ورحت أرتقي مدارج السالكين بصبر و أناة حتى كُشف لي الغطاء وشعّ النور في داخلي
وهكذا، فالأمر متاح ! لست في عجلة من أمري ، فالزواج ائتلاف أرواح لا التقاء أجساد
ابتكرتْ تعريفات نهائية لا تقبل النقاش لكل المفاهيم وحددت الأسماء كلها فيما يشبه نظرية فلسفية خاصة آمنت بها ، و ملأت عليها كيانا ضجّ سعادة وحبورا، رضى و قناعة ، و أَترعت حياتها بالعمل و التأمل ، الدراسة و الراحة، ووسمت طبعها بالعناد و التحدي .
وتولت عيناها الذابلتان ترجمة ما يعتلج في صدرها من مشاعر إنسانية فياضة طبعت قسماتها ببسمة عذوب و أفترت عن نظرة عميقة الأغوار ترصد باتساعها حركة الكون وبخضرتها نسغ الحياة ، و ترفد نظريتها الفلسفية بالدليل تلو الدليل على صحتها و شموليتها في تضافر مبادئ الحق و الخير و الجمال في العمل من أجل سعادة الإنسان .
أطلق الفكر حرّيتها فتخلّصت من قيود العبودية و نضت عنها أسمال التحجّر و التطرف وأقنعة الرياء الاجتماعي ، و عقدت صداقة متينة مع كل ذي روح ، بشرا كان أم حيوانا أم نباتا .
تغدو في مشيتها أقرب إلى الرقص وهي تقفز كحجل صغير . و تختار من الثياب ما لا يعيق الحركة ولا يحدّ السرعة ولا يظهرها بمظهر أنثوي ضعيف خانع ، منقاد تابع .
تنضح الأنوثة الشامخة و الأمومة السامقة من أسلوبها في التعليم ومن جرس كلماتها المنتقاة بدقّة و إحكام ، فلا تجد أمامها سبيلا لك غير الاقتناع .
تفعل في العلن ما (تتوشوش) النسوة عليه في السر ، و لا تأتي من السلوك ما يشين ولا من الخطأ ما يهين .
تعرف نفسها حق المعرفة فليس يعيبها عصبية مزاجها وهي تصطدم بتيار من العلائق البشرية الحذرة ، و المكر و الخبث المستشري بين جمهور الممثلين الفاشلين على مسرح الحياة .
مفهوم واحد لم يتسنّ " لنور" أن ترسم حدوده وتتصور أبعاده التي لا تتضح إلا بالتجربة
ذاك هو ( الحب ) ، كعاطفة تولّد تيارا من التواصل بين الرجل و المرأة.
استخلصت من التجارب التي اطلعت عليها زيف ادعاءات المحبين حين يصبح الحب لديهم قناعا يشفّ عما تحته من الأنانية و الرغبة بامتلاك الآخر و اللهفة الجنسية الجامحة ، دون امتداده إلى العزف على أوتار الروح . لكنها في المقابل ترفض الاعتراف بعقد زواج لا يكتب بمداد القلب ، و لا يمهر بالدموع ، ولا ترقص كلماته على وقع أنغام حرفين صغيرين شكلاً
عظيمين فعلاً هما ( الحاء و الباء )
لا تعترف بحب يبعث منذ النظرة الأولى إن لم تتكاتف الثقافة و العلم و المعرفة و الاختبار والسلوك اليومي في تشكيل بنائه لبنة لبنة في رحلة متأنية مع الخيال و التحليل والتأويل رغم أنه يولد بمحض الصدفة ويشرق نتيجة استشراف سهمين من نور يهيمان في الفضاء و يندر أن يجود الزمان بلقائهما ، لذا فقد أرسلت عيون قلبها و قرون استشعارها في كل مكان وطئته قدماها ، حتى أنها كانت تقود سيارتها بعين واحدة بعد أن خصصت عينها الأخرى لالتقاط ذاك الشعاع .
قابلَتْه ذات صباح رائق جميل يقود سيارته أيضا بعين واحدة حيث أفسح لها الطريق بأدب رصين و بسمة واثقة نمّت عن الخيط الأول من خيوط الفجر .
توقف السائقان بعيد مسافة و رحل كل منهما في دهاليز ( لاوَعْيِـِه ) للتمتع بمشهد اتحاد الشعاعين ( الحاء و الباء ) . تنهّدا من بعيد على أمل اللقاء الثاني .
و انهمكت ملائكة الحب في ابتداع أساليب الجمع بين القلبين ، فتكرر رصد العيون وتبادل البسمات و التحيات الخرساء ، و قامت أضواء السيارتين بعملية الغمز نيابة عن العيون فلا سنّهما يسمح و قد تجاوزا عتبة الثلاثين و لا عقمت الألسنة
كان ملاكه شجاعا و يعلم علم اليقين أن حياء المرأة يمنعها من اتخاذ الخطوة الأولى
ألقى في روع ( س) أن يجهّز رسالة شاعرية بانتظار أول فرصة للتعارف ، و استهل رسالته بهذه الأبيات : لماذا أكتب اليكِ ؛ أسألُ نفسي ؟! أم أسألكِ؟!
إن كنت أسألك فما يدريكِ أو كنت أسألني ، فما يعنيك ؟!!
قادها ملاكها إلى إنجاز معاملة في مؤسسة قريبة من مكان عمل (س)
و انبرى ملاكه يحثه على الإقدام و (س) يستجمع جرأته و يجلد لسانه كي يهدأ ولا يتلعثم حين يواجهها . وقف أمامها كالطود ملقيا التحية ، فما كان منها إلا أن ترجّـلت من وراء المقود و صافحته مصافحة العارف ذي الشخصية العصامية القوية ، و طار لـبّه حيث كانت البادئة بسؤاله عن اسمه مما أهرق السكينة في نفسه وساعده على تسليمها قصيدته الأولى ، و غاب في شعاب المدينة شطرا من الوقت ، ليجدها في انتظاره أمام مقر عمله ، سعت إليه قائلة :
" لو لم تكن رسالتك شعراً لما وافقت على الاحتفاظ بها "
استضافها لحظة كانت كافية للتعارف ، و تواعدا على تكرار اللقاءات حسب الظروف .
سأل ( س) نفسه : لماذا يطرق الحب بابي وأنا على مشارف خريف العمر ؟
هل تراه يحمل بشائر سعادة افتقدتها مع أم أولادي ؟
أويضحك الدهر لي بعد أن جرّعني كؤوس الإملال و أظهر منّي شقي الحيواني فيما مضى من سالف الأيام ؟
صار (س) إنسانا بعد أن غزاه النور ، فخطّ لها رسالته الثانية و قال في الختام :
قبل أن ألقاكِ ، كنتُ شيئا ساكنا
لكنني بعد أن قابلتكِ ، يا أنتِ
صرت أنا
تابعها كظلّها ، فعل مراهق حرم الحب و الحنان ، و تدفق شعره مشحونا بعاطفة جياشة ومشاعر صادقة ، و قام يختلق المناسبات للقائها و إغراقها بالقصائد .
كبّـلها هذا الحب المفاجئ و أعاد خلط الأوراق في ذهنها ، و غامت الرؤية أمامها وراحت تقـلّب الأمر على وجوهه في جوٍ متشنّج تحكمه ظروف الولهان (س) و ظروفها الشخصية وكلام الناس ، و الخوف من المستقبل المجهول ، و تساؤلات لا حصر لها .
خاف (س) من الإبحار في الظلام إذا أفل الشعاع ، فصارحها بحبّه ، تاركاً لها حريّة القرار
بل ولج دارها ذات يومٍ محتجا بكتاب قد ينفعها في تحضير رسالة الماجستير ، خطوة ، رآها
(س) ضرورية للتعرف إلى عائلتها ، و قرأتها (نور) بمنظار آخر هو التسرع .
هل ترفض(نور)الحب للحب،و لا تؤمن بحب لا يفضي إلى الزواج ؟ أم العكس هو الصحيح؟
وأي زواج هذا الذي تصبح معه ضرّة مرّة ، تلوكها الألسن و تقذفها سهام أطفال (س) ؟** عاهدته على اللقاء وواعدته جانب الأماكن العامة ، و سهرت مثله الليالي ، و ناجت القمر ، و ربما ذرفت دموعا حرّى وهي تحتضن وسادتها الخالية كما فعلَ . لكن هذا شئ و الزواج شئ آخر تماما
سنة ؛ سنتان و الأمر على حاله من المراوحة ، و اختلاق الأعذار و التفكير الممل
قال لها :( الحب جذوة ملتهبة وقودها الشوق و الآهات ، الوصل و اللقاءات ؛ تيار كهربائي قطباه موجبان إذ لا مكان للسلبية مع الحب و إلا صار حباً أعرج مآله دارالمعوقين )
أنزلها هذا الحب من برجها الحالم و غمسها في حمأة اليومي المُعاش ،غبّش أحلامها الوردية وعكّر صفاءها النفسي ، فانقلبت حالها إلى ما يشبه( الفصام ) ، و ندّت عنها تصرّفات غير مفهومة و عبارات غير مبررة ، لم يجد (س) إزاءها إلا التحلي بالصبر و التحمل باحثا لها عن أسباب تخفيفية
كان متأكدا من أمر واحد ، انه يحبها حباً جما**ً، و أنها تحبه ، لكن عقبات كثيرة تحول بينها و بين التصريح بحبها له .
كانت من الرفعة الإنسانية بحيث لا يقف اختلاف مذهبه الديني عن مذهبها ، و جنسيّته الفلسطينية المغايرة لجنسيتها اللبنانية حائلا دون اكتمال قصة الحب .
هل كانت تخضعه لاختبارات تلجأ المرأة إليها دائما لسبر حب الرجل و مدى تعلّقه بها ؟
فرغم أنه تخطّى الامتحان بنجاح باهر نال رضاها و جعلها تمنحه درجة كاملة إلا أنها بخلت بتقديم هديّة النجاح إليه ؛ كلمة أحبك **
عذّبه هذا الحب ، فلا هو فاز بثمرة نضاله ولا احتفظ بماء وجهه أمام عياله .
كان مستعداً أن يرحل معها خلف النجوم وأن يفرد لها في قلبه مكان الصدارة جنبا إلى جنب مع أولاده ، و أن يعيش معها في عشٍ منفصل يتردد في جنباته تغريدهما ، لكنها نصحَته على
الدوام بالتريث و الانتظار .
لم يكن (س) أول رجل تخضعه (نور) للإمتحان ، لكنه كان الفائز الوحيد .
وهذا ما قضّ مضجعها و أدخلها في غيبوبة القلق ، و شلّ قدرتها على اتخاذ القرار .
الإنتظار هو خيار (س) الوحيد بعد أن ألقى في حضرتها أوراقه كاملة .
ولم يكن أمام (نور) إلا الهرب إلى الأمام و الانشغال بالعمل و العمل ، تعويضا عن التأمل الذي افتقدته و السعادة العرجاء ، و الحظ الذي أخرج لسانه في وجهها .
جرّت أذيال الخيبة منهوكة محطمة و حاولت أن تقفز صعودا إلى قمة الهرم ، بيد أنها عجزت وراحت تدبّ دبيبا ، ناصبةً عينا على المستقبل القاتم ، و أخرى على شعاع حبيب لمس شغاف قلبها و أنار الجزء المعتم من كيانها ، و دسّ في نفسها خوفا ما كانت تعرفه يوماً**.
حاولت التمرغ بين أحضان الطبيعة و معانقة الأشجار ، و الحيوانات الأليفة كدأبها فيما مضى
لولا أن أشاحت هذه المخلوقات عنها و لسان حالها يقول :
(من يرفض النور لا حاجة له بالعيون)
أيقنت أنها لم تعد اسما على مسمى ، وأنها لا تنظر إلى أبعد من موطئ قدمها ، رغم أنها عطشى و الماء وفير يحمله على بعد أمتار قليلة رجل اسمه(س)
كان بودها لو تملك الشجاعة وتتحدى الكون لتبوح له بحبها وتحقق اتحاد النور وتكمل دورة الزمان ،لكنها ولّت وجهها شطر القمة .
وحين تربعت لاهثة على صهوة الهرم ، سألها ملاكها : ماذا فعلتِ؟؟
زفرت زفرة عميقة وقالت بحسرة : وجدته ؛ و لكن ......
===============