د.أحمد محمد كنعان
14-11-2006, 07:30 AM
قصة قصيرة
الهدايـا
د.أحمد محمد كنعان
عندما وطأت قدماي أرض الوطن أحسست أنني ولدت من جديد ، وأنني قد ودَّعت أيام التعب والغربة إلى غير رجعة .
شددت يدي على المحفظة التي تضم شهادة الدكتوراة ، وخامرني شعور عذب بالتفوق ، فها أنا ذا أعود إلى الوطن منتصراً بعد أن حققت حلمي وحلم حبيبتي ( سهام )
في بهو المطار سألت عن بائع الزهور ، وأسرعت إليه فاخترت باقة ورد جوري أحمر لتكون مع الشهادة أحلى هدية لزهرتي الحلوة ( سهام ) ، وركبت أول ( تاكسي ) صادفتها ورجوت السائق :
- بسرعة لو سمحت .. بيت سهام ..
لكنه لم يتحرك ، بل نظر إلي نظرة لم أتبين مغزاها في البداية ، ومع ابتسامة خفيفة سألني :
- سهام !؟
- أجل .. سهام !
قلت له ، لكنه ظل في مكانه لا يريم ، وعندها انتبهت إلى غفلتي ، فكيف له أن يعرف عنوان حبيبتي وأنا لم أخبر به بعد ؟ وحتى لا يذهب به الظن بعيداً فيظن أن بي شيئاً من الجنون بادلته بابتسامته ابتسامة أعرض ، وأردفت قائلاً :
- أنا آسف .. آسف جداً .. حي الروضة لو سمحت ، الشارع الخامس ..
فانطلق بي ، وراح يثرثر بكلمات لا دخل لي بها ، وما بين جملة وأخرى رحت أقاطعه راجياً إياه أن يسرع !
وبعد دهر طويل من الانتظار واللهفة وصلنا ( دارها ) ، وقبل أن أدخل رحت أدور حول الدار وأنا لا أصدق أنني أصبحت على بعد ثوان من ضم الحبيبة إلى صدري ، وقبل أن أقرع الجرس اختلست نظرة هنا وهناك حتى اطمأننت أن لا أحد يراني ، وبكل ما في قلبي من شوق لها ولدارها التي شهدت مولد حبنا أهويت على الحيطان أقبلها ، وعندما لمحت البئر الذي كنت و ( إياها ) نختبئ خلفه عن أعين العزال دمعت عيناي ، وتذكرت آخر لقاء لنا هناك حين ضبطنا أبوها متلبسين بقبلة عابرة !
وكم كان حظي عظيماً حين قرعت الجرس وفتحت ( هي ) الباب لي ، وعندما رأتني غمرتها السعادة كأيام زمان حين كانت تراني فترف أهدابها ، ويخفق صدرها وتتنهد من أعماقها ، وتحمرُّ وجنتاها ، وبدت لي عاجزة عن أن تقول شيئاً لشدة المفاجأة ، فأنا لم أخبرها بقدومي رغبة مني في أن أرى لهفتها برجوعي ، وتعانقت نظراتنا في لحظة نادرة طالت انتظارها ، وذهلنا عن الدنيا وما فيها ، ودمعت عيوننا ، وبعد عمر من اللهفة وهمس العيون سمعتها تقول لي :
- أهلاً .. رجعت ؟
وخشيتُ أن يخذلني صوتي لشدة ما بي من شوق فأومأت برأسي ( أجل ) واكتفيت بابتسامة هادئة أودعتها كل ما في قلبي من حنين ، ورأيتها تبتسم تلك الابتسامة التي تسلبني الإرادة ، ورأيت الكون كله يبتسم لابتسامتها ، وسمعتُ قلبي يناجيها ( اشتقت إليك كثيراً . كيف حالك ؟ ) ولم أنبس !
فعادت تقول :
- اشتقنا إليك كثيراً !
فتشجعتُ قليلاً ، وقلت :
- ليس أكثر من شوقي إليك !
ولبثت أتأمل وجهها الأنيس ، وعينيها الخجولتين ، وشعرها المنسدل على كتفيها شلال أحلام ، ورحت أناجيها في سري ( آه لو تعلمين ما بي من شوق إليك يا سهام ، كم تعذبت من أجلك ، وكم قاسيت ، وكم انتظرت هذه اللحظة ! )
- ماذا أحضرت لي ؟
قطعتْ عليَّ نزهتي في رحاب عينيها ، فابتسمت لها ، وبدأتُ لحظتها أذوق حلاوة الانتصار الحقيقي الذي عملت له ، بل لها ، سنتين متواصلتين دون كلل ولا ملل ، ومددت يدي إلى المحفظة فأخرجت شهادة الدكتوراة ، وقدمتها لها مع باقة الجوري الأحمر ، متعمداً أن تصلها الباقة أولاً ، وقلت وأنا أقترب من عطرها وألامس دفأها :
- كل هذا إكراماً لعينيكِ .
ولشدة دهشتي رأيتها تأخذ الباقة من يدي ، فتتأملها في لمحة عابرة ثم تضعها جانباً ، ولمحت كأن ابتسامتها قد فترت ، وبعد نظرة عجلى إلى الشهادة التفتت إلي تقول :
- أهذا كل شيء ؟!
- ... !؟( أهذا كل شيء !؟ )
طعنتني بسؤالها في الصميم ، وزلزل سؤالها قصور أحلامي فدكَّها ولم يبق فيها حجراً على حجر ، وتكسرت فرحتي مثل قطعة من الزجاج الرديء ، وأدركت لحظتها أنها تطلب مني أشياء مختلفة ، وتوقف قلبي عن همسه كأنما سحقته عجلات مجنونة ، وجندلني الموقف من قمة الانتصار إلى حضيض الخيبة !
غير أني أخفيت عنها انكساري ، ولبثتُ أداري جراحي بصمت وأنا أتأمل ورودي وشهادتي مركونة بلا اكتراث ، وبكل ما بفي بي من طاقة على الاحتمال قررتُ أن أعيد لها الطعنة ، فنظرت في عينيها ونفحتها لأول مرة في حياتي بابتسامة كاذبة لا أدري كيف واتتني الشجاعة عليها ، وبعد صمت موجع التفت لها وقلت :
- بلى ، بلى ، أحضرت لك أشياء كثيرة .. كثيرة جداً ..
ورأيت الفرحة تعاود مقلتيها ، وأقبلت تسألني بكل ما في جوارحها من لهفة :
- أين هي ؟ ما هي ؟
فابتسمت لها ابتسامة أخرى أشد كذباً من الأولى ، وبعد أن تركتها لحظات على نار الجواب قلت :
- أحضرت لك قميصاً من حرير الهند ..
فقالت وقد استولت الفرحة على خلجاتها :
- حقاً ؟!
ولم أجبها ، بل أضفت :
- ولؤلؤة من بحار السند ..
فمدت ذراعيها وطوقتني ، وراحت تشدني إلى صدرها حتى أحسست نبضات قلبها تراقص قلبي ، وهتفت من أعماقها :
- يا حبيبي !
لكني لم أكترث واكتفيت بابتسامة كاذبة ثالثة ، وتابعت قائمة هداياي وقلت لها :
- وعقد ماس لم تحلم بمثله شهرزاد ..
فانهمرت عليَّ بوابل من قبلاتها ، وحين رأتني صامتاً ، وعرفتْ أن هداياي انتهت ، عادت تسألني :
- أين هداياي ؟!
فتمهلتُ ، وتنهدتُ ، وتمطيتُ ، ورشفت رشفة طويلة هادئة من فنجان القهوة البارد ، متعمداً اللعب بأعصابها كما أتلفت أعصابي ، وحين رأتني صامتاً شدت على ذراعي بدلالها المعهود الذي لم يعد يعنيني ، وعادت تسألني :
- أين الحرير ؟
قلت :
- كانت رحلتي طويلة ، والريح عاتية ، مزقتْه الريح !
قالت :
- وعقد الماس ؟!
قلت :
- وهبتُه لصبية حلوة غنَّتْ لي عندما علمتْ بنجاحي !
قالت :
- ولؤلؤتي ؟!
قلت :
- نفحتُها لسائق التاكسي الذي أوصلني إليكِ !
وقبل أن أرى وقع الخبر عليها لملمت ورودي وشهادتي وانكساري ومضيت .
***
د.أحمد محمد كنعان
kanaanam@hotmail.com
الهدايـا
د.أحمد محمد كنعان
عندما وطأت قدماي أرض الوطن أحسست أنني ولدت من جديد ، وأنني قد ودَّعت أيام التعب والغربة إلى غير رجعة .
شددت يدي على المحفظة التي تضم شهادة الدكتوراة ، وخامرني شعور عذب بالتفوق ، فها أنا ذا أعود إلى الوطن منتصراً بعد أن حققت حلمي وحلم حبيبتي ( سهام )
في بهو المطار سألت عن بائع الزهور ، وأسرعت إليه فاخترت باقة ورد جوري أحمر لتكون مع الشهادة أحلى هدية لزهرتي الحلوة ( سهام ) ، وركبت أول ( تاكسي ) صادفتها ورجوت السائق :
- بسرعة لو سمحت .. بيت سهام ..
لكنه لم يتحرك ، بل نظر إلي نظرة لم أتبين مغزاها في البداية ، ومع ابتسامة خفيفة سألني :
- سهام !؟
- أجل .. سهام !
قلت له ، لكنه ظل في مكانه لا يريم ، وعندها انتبهت إلى غفلتي ، فكيف له أن يعرف عنوان حبيبتي وأنا لم أخبر به بعد ؟ وحتى لا يذهب به الظن بعيداً فيظن أن بي شيئاً من الجنون بادلته بابتسامته ابتسامة أعرض ، وأردفت قائلاً :
- أنا آسف .. آسف جداً .. حي الروضة لو سمحت ، الشارع الخامس ..
فانطلق بي ، وراح يثرثر بكلمات لا دخل لي بها ، وما بين جملة وأخرى رحت أقاطعه راجياً إياه أن يسرع !
وبعد دهر طويل من الانتظار واللهفة وصلنا ( دارها ) ، وقبل أن أدخل رحت أدور حول الدار وأنا لا أصدق أنني أصبحت على بعد ثوان من ضم الحبيبة إلى صدري ، وقبل أن أقرع الجرس اختلست نظرة هنا وهناك حتى اطمأننت أن لا أحد يراني ، وبكل ما في قلبي من شوق لها ولدارها التي شهدت مولد حبنا أهويت على الحيطان أقبلها ، وعندما لمحت البئر الذي كنت و ( إياها ) نختبئ خلفه عن أعين العزال دمعت عيناي ، وتذكرت آخر لقاء لنا هناك حين ضبطنا أبوها متلبسين بقبلة عابرة !
وكم كان حظي عظيماً حين قرعت الجرس وفتحت ( هي ) الباب لي ، وعندما رأتني غمرتها السعادة كأيام زمان حين كانت تراني فترف أهدابها ، ويخفق صدرها وتتنهد من أعماقها ، وتحمرُّ وجنتاها ، وبدت لي عاجزة عن أن تقول شيئاً لشدة المفاجأة ، فأنا لم أخبرها بقدومي رغبة مني في أن أرى لهفتها برجوعي ، وتعانقت نظراتنا في لحظة نادرة طالت انتظارها ، وذهلنا عن الدنيا وما فيها ، ودمعت عيوننا ، وبعد عمر من اللهفة وهمس العيون سمعتها تقول لي :
- أهلاً .. رجعت ؟
وخشيتُ أن يخذلني صوتي لشدة ما بي من شوق فأومأت برأسي ( أجل ) واكتفيت بابتسامة هادئة أودعتها كل ما في قلبي من حنين ، ورأيتها تبتسم تلك الابتسامة التي تسلبني الإرادة ، ورأيت الكون كله يبتسم لابتسامتها ، وسمعتُ قلبي يناجيها ( اشتقت إليك كثيراً . كيف حالك ؟ ) ولم أنبس !
فعادت تقول :
- اشتقنا إليك كثيراً !
فتشجعتُ قليلاً ، وقلت :
- ليس أكثر من شوقي إليك !
ولبثت أتأمل وجهها الأنيس ، وعينيها الخجولتين ، وشعرها المنسدل على كتفيها شلال أحلام ، ورحت أناجيها في سري ( آه لو تعلمين ما بي من شوق إليك يا سهام ، كم تعذبت من أجلك ، وكم قاسيت ، وكم انتظرت هذه اللحظة ! )
- ماذا أحضرت لي ؟
قطعتْ عليَّ نزهتي في رحاب عينيها ، فابتسمت لها ، وبدأتُ لحظتها أذوق حلاوة الانتصار الحقيقي الذي عملت له ، بل لها ، سنتين متواصلتين دون كلل ولا ملل ، ومددت يدي إلى المحفظة فأخرجت شهادة الدكتوراة ، وقدمتها لها مع باقة الجوري الأحمر ، متعمداً أن تصلها الباقة أولاً ، وقلت وأنا أقترب من عطرها وألامس دفأها :
- كل هذا إكراماً لعينيكِ .
ولشدة دهشتي رأيتها تأخذ الباقة من يدي ، فتتأملها في لمحة عابرة ثم تضعها جانباً ، ولمحت كأن ابتسامتها قد فترت ، وبعد نظرة عجلى إلى الشهادة التفتت إلي تقول :
- أهذا كل شيء ؟!
- ... !؟( أهذا كل شيء !؟ )
طعنتني بسؤالها في الصميم ، وزلزل سؤالها قصور أحلامي فدكَّها ولم يبق فيها حجراً على حجر ، وتكسرت فرحتي مثل قطعة من الزجاج الرديء ، وأدركت لحظتها أنها تطلب مني أشياء مختلفة ، وتوقف قلبي عن همسه كأنما سحقته عجلات مجنونة ، وجندلني الموقف من قمة الانتصار إلى حضيض الخيبة !
غير أني أخفيت عنها انكساري ، ولبثتُ أداري جراحي بصمت وأنا أتأمل ورودي وشهادتي مركونة بلا اكتراث ، وبكل ما بفي بي من طاقة على الاحتمال قررتُ أن أعيد لها الطعنة ، فنظرت في عينيها ونفحتها لأول مرة في حياتي بابتسامة كاذبة لا أدري كيف واتتني الشجاعة عليها ، وبعد صمت موجع التفت لها وقلت :
- بلى ، بلى ، أحضرت لك أشياء كثيرة .. كثيرة جداً ..
ورأيت الفرحة تعاود مقلتيها ، وأقبلت تسألني بكل ما في جوارحها من لهفة :
- أين هي ؟ ما هي ؟
فابتسمت لها ابتسامة أخرى أشد كذباً من الأولى ، وبعد أن تركتها لحظات على نار الجواب قلت :
- أحضرت لك قميصاً من حرير الهند ..
فقالت وقد استولت الفرحة على خلجاتها :
- حقاً ؟!
ولم أجبها ، بل أضفت :
- ولؤلؤة من بحار السند ..
فمدت ذراعيها وطوقتني ، وراحت تشدني إلى صدرها حتى أحسست نبضات قلبها تراقص قلبي ، وهتفت من أعماقها :
- يا حبيبي !
لكني لم أكترث واكتفيت بابتسامة كاذبة ثالثة ، وتابعت قائمة هداياي وقلت لها :
- وعقد ماس لم تحلم بمثله شهرزاد ..
فانهمرت عليَّ بوابل من قبلاتها ، وحين رأتني صامتاً ، وعرفتْ أن هداياي انتهت ، عادت تسألني :
- أين هداياي ؟!
فتمهلتُ ، وتنهدتُ ، وتمطيتُ ، ورشفت رشفة طويلة هادئة من فنجان القهوة البارد ، متعمداً اللعب بأعصابها كما أتلفت أعصابي ، وحين رأتني صامتاً شدت على ذراعي بدلالها المعهود الذي لم يعد يعنيني ، وعادت تسألني :
- أين الحرير ؟
قلت :
- كانت رحلتي طويلة ، والريح عاتية ، مزقتْه الريح !
قالت :
- وعقد الماس ؟!
قلت :
- وهبتُه لصبية حلوة غنَّتْ لي عندما علمتْ بنجاحي !
قالت :
- ولؤلؤتي ؟!
قلت :
- نفحتُها لسائق التاكسي الذي أوصلني إليكِ !
وقبل أن أرى وقع الخبر عليها لملمت ورودي وشهادتي وانكساري ومضيت .
***
د.أحمد محمد كنعان
kanaanam@hotmail.com