تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : نص كتاب: تجربة القصة القصيرة في أدب محمد جبريل



د. حسين علي محمد
19-11-2006, 05:57 PM
تجربة القصة القصيرة في أدب محمد جبريل
(النص الكامل للكتاب)
***
الطبعة الثانية
(طبعة مزيدة ومنقحة)
دارالإسلام للطباعة، المنصورة

1425هـ-2004م
.......................
*أعتذر لعدم نشر الإحالات.

د. حسين علي محمد
19-11-2006, 05:58 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الطبعة الثانية
.......................
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد بن عبد الله وآله وصحبه، وبعد؛
فقد صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب بعنوان «تجربة القصة القصيرة في أدب محمد جبريل: دراسة أدبية تحليلية»، في مجلة كلية اللغة العربية بالمنصورة (العدد20)، لعام 1422هـ-2001م.
ولأن المجلة للبحوث المحكّمة لا يطَّلع عليها إلا عدد قليل من الباحثين والقرّاء، ومن ثمّ فقد كان من الطبعي أن نصدره في طبعة ثانية عن سلسلة «أصوات مُعاصرة» التي نشرتُ فيها معظم نتاجي الإبداعي والنقدي في قرابة ربع قرن.
والحمد لله رب العالمين، وصلّى الله على محمد.
د. حسين علي محمد
الرياض في 2من شوال 1423هـ
6من ديسمبر 2002م

د. حسين علي محمد
19-11-2006, 05:59 PM
مقدمة الطبعة الأولى
......................
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد بن عبد الله وآله وصحبه، وبعد؛
فهذا البحث يهدف إلى تناول «تجربة القصة القصيرة في أدب محمد جبريل» من خلال دراسة المجموعات القصصية التي أصدرها ـ دراسة موضوعية وفنية.
ومحمد جبريل (المولود في الإسكندرية عام 1938م) واحد من أبرز الروائيين وكتاب القصة القصيرة المصريين في الجيل التالي لنجيب محفوظ، وهو قد نشر نتاجه في القصة القصيرة في معظم الصحف والمجلات الأدبية المصرية والعربية؛ فقد نشر قصصه في "المساء" و"القصة" و"الهلال" و"أكتوبر" و"الأهرام" (في مصر)، و"العربي" (في الكويت)، و"الفيصل" و"الأدب الإسلامي" (في السعودية)، و"المنتدى" (في الإمارات) … وغيرها.
وقد أصدر سبع مجموعات قصصية، هي: تلك اللحظة من حياة العـــالم (1970)، وانعكاسات الأيام العصيبة (1981)، وهل؟ (1987)، وحكايات وهوامش من حياة المبتلى (1996)، وسوق العيد (1997)، وانفراجة البـــاب (1997)، ورسالة السهم الذي لا يخطئ (2000م)، وله مجموعة مُختارة من قصصه بعنوان "حارة اليهود" (1999م).
كما صدرت له اثنتا عشرة رواية، هي: الأسوار (1972م)، وإمام آخر الزمان(1984م)، ومن أوراق أبي الطيب المتنبي (1988م)، وقاضي البحار ينزل البحر (1989م)، والصهبة (1990م)، وقلعة الجبل (1991)، والنظر إلى أسفل (1992م)، والخليج (1993م)، واعترافات سيد القرية (1994م)، وزهرة الصباح (1995م)، والشاطئ الآخر (1996م)، ورباعية بحري (1997 ـ 1998م) ( ).
وقد صدرت ثلاثة كتب عن عالم محمد جبريل الروائي هي: "صورة البطل المطارد في روايات محمد جبريل" لحسين علي محمد (1999م)، و"فسيفساء نقدية" لماهر شفيق فريد (1999م)، و"استلهام التراث في روايات محمد جبريل" لسعيد الطَّواب، إلا أن أحداً من النقاد لم يصدر دراسة أدبية عن فن القصة القصيرة عنده مما جعلنا نكتب هذه الدراسة عن فن القصة القصيرة عنده.
وتقع هذه الدراسة في فصلين:
*الفصل الأول بعنوان "الدراسة الموضوعية"، درستُ قصص محمد جبريل القصيرة من خلال خمسة ملامح موضوعية للتجربة القصصية في مجموعاته القصصية، وهي:
1-المطاردة.
2-التمرد.
3-المقاومة.
4-انتظار الآتي
5-القاع الاجتماعي.
وفي الفصل الثاني وعنوانه "الدراسة الفنية" تناولنا أبرز جماليات القص في قصص محمد جبريل القصيرة من خلال:
1-الوصف.
2-الحوار.
3-الرمز.
4-جماليات المكان.
5-الشخصيات.
6-التكثيف.
7-الغرائبية.
وفي الخاتمة أشرنا إلى النتائج التي توصّلت لها الدراسة.
والحمد لله رب العالمين،
وصلّى الله على محمد.
د. حسين علي محمد
الرياض في 3 من رجب 1421هـ
30 من سبتمبر 2000م

د. حسين علي محمد
19-11-2006, 06:00 PM
الفصل الأول
الدراسة الموضوعية
.......................
أصدر محمد جبريل سبع مجموعات قصصية، نراه فيها يُحاول أن يغوص في أعماق الإنسان باعتباره فرداً في المجتمع، لـه أحلامه الخاصة، ومأساته المتفرِّدة. وبقدر ما نرى أن قضايا الوطن هي ما يشغله دائماً في إبداعه، وأن الوطن يبدو، وينبض، ويتشابك، ويتجلّى في مجموعاته القصصية، فإننا نستطيع أن نقول أن رؤياه الإبداعية تسبح في فلك المُعاناة الإنسانية، وتُسلِّط الأمر على صغائر الأمور ودقائقها، لتضر منها القضايا الوطنية والإنسانية الكبرى التي تشغله. ومن خلال قراءة لأعماله في القصة القصيرة نرصد خمسة ملامح موضوعية في تجربته الإبداعية، هي:
1-المطاردة.
2-التمرد.
3-المقاومة.
4-انتظار الآتي
5-القاع الاجتماعي.
وسنتناول ذلك من خلال النصوص القصصية في مجموعاته السبع المنشورة.
***
1-المطاردة:
يظهر البطل المطارد في عدد كبير من قصص محمد جبريل القصيرة، وقد يكون مُطارَداً من الآخر، أو العدو الذي يتربّص به ويقف في مُجابهته، أو الغريب، أو الظروف البيئية، أو الأسرة. ومن هذه القصص: "تكوينات رمادية"، و"التحقيق"، و"الرائحة"، و"تلك اللحظة من حياة العالم".
*في قصة "تكوينات رمادية" نرى الأب يحس أنه مضطهد ومُطارد من قبل الخواجة "ليفي" (الذي سافر فيما بعد إلى إسرائيل ضمن الأفواج الأولى لليهود المصريين)( )، وتتضح هذه المطاردة للبطل من خلال الوصف التالي:
"فاجأنا أبي ونحن حول الطبلية ننتظر عودته ـ بخطوات متعجلة، ووجه يكسوه قلق واضح، وضع الصحيفة وكيس البرتقال على المائدة، وعاد إلى الباب يستوثق ـ أعلى السلم ـ مما رآه. لم أكن رأيت أبي في تلك الصورة من قبل، تنقّل بعينين مرتعشي الأهداب بين باب الشقة والنافذة المطلة على المنور، ولوحة الكانفاة المعلقة على الجدار، وحركة مفيدة ـ داخل المطبخ ـ تعد الطعام، ونظراتنا القلقة، والقط السيامي تحت الطبلية. غلب التوتر محاولته لعناق السكينة. جلس على الكنبة الاستامبولي. أطال التحديق في اللاشيء حوله. في اللحظة التالية تبدّد السهوم، فانتفض، ووقف، ودار حول نفسه، وتحرّكت شفتاه بكلمات لم ينطق بها.
أزاح له نافع وشاكر مكاناً بينهما، فجلس. أمسك بيديه طرف الطبلية كأنه يهم بقلبها"( ).
ومن الحوار نعرف لماذا هو مُطارد؟ وممّن؟ إنه مُطارد من اليهود فهو يعلم كل شيء عنهم، وصدره مليء بالأسرار .. وهم يخشون أن يُذيعها:
ـ هلْ رأيتم ما رأيْت؟
تطلعنا بأعين متسائلة:
ـ الخواجة ديفيد ـ مساعد ليفي ـ يختبئ في بئر السلم! ..
قلت في ضيق:
ـ ولماذا تتصوّر أنه يختبئ؟ ربما يريدك في أمر ما.
ـ أنت لا تفهم شيئا .. منذ أيام أتابع تنفيذ المؤامرة.
ـ ضد من؟
ـ ضد أبيك!"( ).
إن هذه الفقرة السابقة تُرينا تربُّص العدو بنا. وليس من المهم أن أكون مسؤولاً كبيراً أو متنفِّذاً مهما حتى يتربصوا بي. وإنما هم (أي الأعداء) يقفون في وجه كل فرد منا يمتلك الوعي الصحيح، ويفهم قضايا وطنه. وكأن هذه القصة تُشير ـ فيما تشير ـ إلى أن الفن قد يكون وسيلة لاكتشاف الحقيقة، وهنا "يغدو العمل الأدبي في حقيقته شكلاً من أشكال المعرفة، ووسيلة لعرض نوع من التبصر في وجه من وجوه الوضع الإنساني، لا يتيسّر التعبير عنه بأي وسيلة أخرى"( ).
ونعرف في نهاية الحوار لماذا يُطاردون أبا السارد:
"استطرد وهو يهش ـ بعصبية ـ ذبابة حطت على أنفه:
ـ صدري مليئة( ) بالأسرار .. وهم يخشون أن أذيعها ..
تغلف صوته بحشرجة قاسية:
ـ لقد قرروا قتلي"( ).
لكنَّ الأب لا يستسلم لمُطاردة العدو لـه، "والسلاح الذي يملكه الأب في مواجهة المؤامرة هو الوعي الذي يتمثل في مثابرته على مُراجعة القواميس الإنجليزية والفرنسية وتدوين الجمل والملاحظات "فنسيان اللغة / الوعي تهديد بنسيان ما يعرفه من أسرار. ويأتي موت الأب تأكيداً لصحة مخاوفه، ووجود مؤامرة حقيقية تُهدد الأب / الوطن"( ).
ويرسم السّارد صورة البطل المُقاوم الذي يُريد أن يُحافظ على وعيه من خلال امتزاج الحوار بالسرد على النحو التالي:
"لزم أبي البيت، بعد أن تسلَّم مُكافأته، يكتفي بالتنقُّل بين غرفته والصَّالة، ويشغل نفسه بمراجعة قواميس اللغة الإنجليزية والفرنسية، ويُدوِّن جملاً ومُلاحظات ..
لمجرَّد الرغبة في قطع الصمت الذي كان يُعمِّقه مضغ أفواهنا للطعام، سألتُ أبي:
ـ لقد تقاعدت عن مهنة الترجمة .. فلماذا تقسو على نفسك بالمُذاكرة؟
قال في استغراب:
ـ التقاعد لا يعني أن أهجر اللغة ..
وعلا صوتُه في تغيُّر مُفاجئ:
ـ إذا نسيتٌ اللغة، نسيـتُ كل ما أعرفه من أسرار .. وهذا ما لن أمنحه لهم! ..
وصرخ في نظراتي الدّاهشة:
ـ أنت لا تفهم شيئاً .. لم تعد حياتي تهمني .. المهم أن أرد المؤامرة"( ).
إن الوعي الذي يتملَّكه البطل المُطارَد هو أولى خطوات المٌقاومة.
*وفي قصة "التحقيق" نجد فيها البطل صحفيا (اسمه محمد يوسف المصري)، والبطل مُطارد دون ذنب جناه، ويقوم الحوار في القصة بالدور الرئيس في إبراز المطاردة، حتى ينتهي البطل في خمسة عشر يوماً.
ويبدأ اليوم الأول وتبدأ القصة هكذا:
«فلمّا كان اليوم الأول، أشار رئيس نيابة أمن الدولة إلى سكرتير الجلسة ..
فتح السكرتير المحضَر ..
أدنى رئيس نيابة أمن الدولة كرسيا، أسند قدماً عليه، والقدم الأخرى على الأرض. اتجه إلى المتهم الجالس، بنظرة تخلو من تعبير محدد:
ـ اسمك؟
ـ محمد يوسف المصري ..
ـ عمرك؟
ـ 24 سنة ..
ـ عملك؟ ..
ـ صحفي ..
ـ ردك على الاتهام الموجه إليك.
ـ لم يُوجَّه إليَّ اتهام ما.
ـ فلماذا أتوا بك إلى هنا؟
ـ لا أعرف .. كنت نائماً لما أيقظتني زوجتي .. الحقيقة أنني استيقظت على الأصوات التي ملأت الحجرة .. أربعة رجال أصروا أن أُرافقهم، دون أن يُتيحوا لي ارتداء ملابسي .. احتجزت ثلاثة أيام في حجرة خالية .. ثم أتوا بي إلى هنا! ..
أنزل رئيس نيابة أمن الدولة قدمه من على الكرسي، وفَرَدَ قامته. أملى على سكرتير الجلسة الكلمات التالية:
«أنكر المتهم توجيه أي اتهام إليه، أمرْنا باستدعاء الضابط المسؤول، وأُقفِل الموضوع في تاريخه»( ).
وفي الأيام: الرابع، والسابع، والحادي عشر نلحظ التغيرات التي تطرأ على البطل المُطارَد "محمد يوسف المصري" (وفي اختيار الاسم "يوسف" دلالة تُذكِّرك بالنبي يوسف ـ عليه السلام ـ وموقف أخوته منه، وفي وصفه "بالمصري" رمز لمُعاناته، وإشارة إلى صبر المصري على الأهوال التي سيُلاقيها ويُعاني منها، كما عانى الشعب المصري من أهوال الحكام المستبدين وظلمهم له طوال تاريخه):
"فلمّا كان اليوم الخامس عشر أمر رئيس نيابة أمن الدولة الرجلين اللذين تساند عليهما المتهم بالانصراف، بدا تأثُّره لما عليه المتهم من إرهاق، قدَّم له سيجارة، وأمر بكوب شاي ..
أشار إلى سكرتير الجلسة، ففتح السكرتير المحضر:
"استدعينا المتهم لسؤاله في رسالة بعث بها إلينا: يعترف فيها بإقدامه على محاولة قتل عدد من الشخصيات السياسية" ..
أسند أصابعه ـ برفق ـ إلى كتفي المتهم:
ـ هل الرسالة بخطك، والتوقيع لك؟..
قال:
ـ نعم.
ـ أنكرت في البداية مجرد اشتراكك في تنظيم سياسي؟ ..
رفع المتهم نظراته إلى العينين الملتمعتين خلف الباب الموارب:
ـ كنتُ كاذباً! ..
فلنبدأ منذ البداية إذن .. منذ اشتراكك في التنظيم"( ).
إن البطل هنا مُطارَد من الجميع: من الشرطة، والطبيب، ورئيس النيابة. إن جمعهم يتكاثر، ويرى، ويصمت حتى يسقط البطل شيئاً فشيئاً أمام سطوة التعذيب.
ومن الملاحظ على المقطع السابق أن البطل قد لاقى تعذيباً شديداً حتى غيَّر من أقواله، ومن ثم فإن القوى الغاشمة لا تكتفي بالمطاردة، وإنما تقترف التعذيب في حق من تطاردهم، حتى تجعلهم يعترفون بما تريد !
وتبدو المُفارقة في هذه القصة من خلال بنية دالة هي الكلام أو الحوار؛ فالقصة تعتمد على الحوار، بينما النظام الذي يسوق البطل إلى نهايته لا يطيق الحوار، ويقوم الحوار في القصة بدور يتقاطع مع التصميم المسبق للأحداث في الإيقاع بالبطل، ومُطاردته حتى السقوط.
*وفي قصة "الرائحة"، نجد فيها البطل مطارداً برائحة لها طبيعتها الغامضة، أشبه بتداخل الظلمة والأوراق النقدية ودورات المياه والحجرات المغلقة، تسري في الهواء، تتسلل إلى الأنف. تُضفي على النفس شعوراً بالانقباض والتوتر والخوف من المجهول الذي لا يدري مبعثه"( ).
إن هذه الرائحة العفنة تُطارده في نافذة البيت، وفي المكتب وفي الشارع، وإذا علمنا أن البطل مؤرخ ـ أو كما يقول المؤلف "دراسة التاريخ عمله"( ) ـ فهمْنا سر هذه الرائحة القذرة التي تُطارده، والتي قد لا يراها الآخرون ومنها زوجته:
"سأل زوجته:
ـ ألا تشمين الرائحة؟
قالت:
ـ ليست جديدة .. بائع الطعمية تحت البيت من قبل أن نسكن ..
ـ لا أعني تلك الرائحة .. إنها رائحة أخرى ..
تساءلت:
ـ هنا داخل الشقة؟
في تأكيد:
ـ طبعاً ..
ـ لكنني ـ كما تعلم ـ أحرص على تنظيف الأرض جيداً بالدِّيتول، وأرش في الأركان ـ بعد ذلك ـ عطراً طيب الرائحة ..
كأنه يُحدِّث نفسه:
ـ هل هو ذلك العطر! ..
ـ إني أستعمله منذ سنوات.
ـ فمن أين تأتي الرائحة إذن؟
ـ لا أشم أية رائحة! .."( ).
إنها رائحة أخرى تزكم الأنوف ـ ربما أنوف كثيرين غيره أيضاً ـ هي رائحة التشكيك في كل الإنجازات السابقة، التي حقّقها مصريون مثلنا، وكأنَّ السابقين لم يفعلوا شيئاً، ونحن الذين بدأنا أولى خطوات التاريخ، وكأن التاريخ يبدأ من هنا.
إن البطل يُحاور الطبيب ـ أستاذ الأنف والأذن والحنجرة ـ الذي ذهب إليه يُعالجه من تلك الحالة:
ـ غلطتان كفيلتان بهز الأساس الذي شيدت الثورة فوقه كل ما بنته: زيادة أعداد الأميين وغياب الديمقراطية!
قال:
ـ فماذا عن التصنيع والسد العالي، وتوفير فرص العمل، ومجانية التعليم والرعاية الصحية والاجتماعية؟!
وهو يتراجع بأعلى صدره، ويرفع يدين مفتوحتين، كأنه يستسلم:
ـ لا أريد أن أبدو في موقف المعارض للثورة .. إني محب يرجو لمحبوبته الكمال"( ).
إن هذه "الرائحة" هنا تمثل هما مُطارِداً للبطل، لا يجدي معه العلاج ولا الأدوية، فما يزال النقاش ساخناً بين المثقفين حول جوانب كثيرة من تاريخنا الحديث والمعاصر، وفي هذا الحوار ـ غير الصحي ـ يتم تشويه الأبطال، وإلقاء الشكوك حول حياتهم وكفاحهم، ويحار الشباب فيما يطالعونه، ويسأل الكثير منهم: أين الخطأ وأين الصواب فيما نقرأ من كتب ومذكرات ومراجعات تاريخية؟
وفي نهاية هذه القصة يتناهى إلى مسامع البطل هذا السؤال:
"هل كان أحمد عرابي درويشاً أم بطلاً؟"( ).
ولعلَّ السؤال الأخير يكشف عن وعي البطل (المؤرِّخ) بكثرة الأسئلة التي تُثار، والتي تُلقي ضباباً على الأبطال ـ في ظلِّ زيادة أعداد الأميين، وغياب الديمقراطية ـ فلا نعرف الحقيقة، وتظل غائبةً محتجبة عن الجمهور المتعطِّش للمعرفة وسط مُحاولة التشويش، والتهميش لأدوار زعمائنا السابقين وأبطالنا التاريخيين، الذين بذلوا ما في طاقتهم للحفاظ على بلادهم حرة، ودفعها خطوات إلى الأمام. ويكشف الاستفهام عن حقيقة دور أحمد عرابي طبيعة العجب التي تكتنف السارد، فهل كان أحمد عرابي مجرد متصوف غافل يُحب بلده، ويوردها موارد الهلاك أم كان بطلاً من أبطالها المعدودين طوال تاريخها، ومن الباحثين لها عن العزة والمنعة والسيادة؟
إنه لا يُشكك في بطولة أحمد عرابي، ودوره في خدمة أمته ووطنه. وإنما يتأمَّل ما فعلناه بزعمائنا، وكأنه يقول: هل كان أبطالنا أبطالاً حقا؟ وإذا كانوا "أبطالاً" فلماذا لم يُفتِّحوا أعينَنا، ولماذا لم يجتهدوا في توسيع مداركِنا؟. ولماذا لا نبذل نحن خطوة أخرى لتجاوُز الأمية، (فالأمية كما يومئ القاص ليست في عدم القراءة والكتابة، أو الجهل بهما، وإنما هي العجز عن الرؤية الصحيحة للواقع، والقدرة على التحاور معه).
*وفي قصة "تلك اللحظة من حياة العالم" من المجموعة التي تحمل العنوان نفسه نرى شخصاً بلا اسم ولا ملامح، ينزع عنه الضابط ثيابه قطعةً قطعةً، ويقذف بها إلى أرض الطريق. ولم تتخلَّ قدماه عن الأرض رغم أن الشرطي خلع عنهما الحذاء والجورب وقذف بهما بعيداً، ونقتطف هذا المقطع الذي يُرينا مُطاردة غير متكافئة، بين متهم يُسأل ويُعذَّب، وضابط في مخفر شرطة مصمم على أن يأخذ من هذا المتهم ما يريده من اعترافات، وليس مهما أن تكون عارية من الحقيقة:
"فقد إحساسه بكل شيء، فلا خوف ولا قلق، ولا أدنى محاولة للسؤال.
تعالى صوت الضابط يسأل في غلظة: أين هم؟
حدَّق لأول مرة في وجه الضابط. اختلجت عيناه وشفتاه، وتطوَّح ذراعاه بلا هدف، ولم ينطق بشيء:
هوى الضابط بكفه على صدغه، وهو يصيح في حدة: أين هم؟
انفرجت شفتاه عن أنة مكبوتة: من؟
ـ زملاؤك.
أطال النظر إلى وجه الضابط. حاول أن يرسم على وجهه أي معنى للتساؤل والدهشة، ثم لاذ بالصمت.
دفعه الضابط داخل العربة:
ـ هل ستقوى على الصمت لفترة طويلة؟!"( ).
إن المتهم في النص السابق مُطارد، توقفه الشرطة في الشارع، ولم يصدر منه ما يجعله متهما في نظر القرَّاء، ومن ثم فالمطاردة هنا تُشير إلى تلك الفترة من تاريخ مصر التي كان يؤخذ الإنسان فيها بالظن، ثم يُواجه التحقيق في مراكز الشرطة ـ أو السجون ـ حتى يقول ما تريده الشرطة!
إن البطل في القصص الأربع السابقة مُطارد من قوى خارجية تتآمر على الوطن، وتُريد اغتيال وعيه (قصة تكوينات رمادية)، ومُطارد من القوى الحاكمة التي قد يُتَّهَم بمعارضتها دون ذنبٍ جناه، فتلجأ في مطاردته إلى محاكمته بعد سجنه وتعذيبه، وتُحاول أن تقهر روحه حتى يعترف بما يُطلَب منه أن يعترف به (قصتا التحقيق، وتلك اللحظة من حياة العالم)، ومطارد من الكتاب الذين يُشوِّهون القادة والزعماء ويقتلون كل شيء جميل في تاريخنا، حتى يتساءل متسائل بصوت يصل إلى إذني السارد بعد مائة عام من ثورة عرابي: "هل كان أحمد عرابي درويشاً أم بطلاً؟".
(يتبع)

د. حسين علي محمد
19-11-2006, 06:02 PM
2-التمرد:
يظهر البطل المتمرد في كثير من قصص مجموعاته، نمثل لها بأربع قصص، هي: "العودة"، و"الفرار" (من مجموعة «هل؟!»)، و"الخيوط" (من مجموعة «تلك اللحظة»)، و«أصداء» من مجموعة «حكايات وهوامش من حياة المُبتلى»).
*في القصة الأولى "العودة": نجد بطلها متمرداً على الغربة المكانية، ويريد أن يعود إلى مصر بعد تسع سنوات من الغربة، ولكن كفيله العُماني لا يفهم هذا الدافع، ويرى أن المصري قد أجرم، لأنه يُريد العودة إلى بلده ويترك عمله، في الوقت الذي يُحدده:
"ـ الكفيل يملك إيداعك السجن بلا سبب.
التمع الغضب في بحلقة العينين.
شمله مصطفى قاسم بنظرة إشفاق:
ـ جريمتك أنك ارتديت ثياباً في مستعمرة للعراة.
قال:
ـ هل يحاسب المرء على استقالته؟
قال:
ـ يرى أنك أربكت العمل بالاستقالة في موعد غير مناسب.
قال:
ـ وما الموعد المناسب؟
ـ هو الذي يحدده"( ).
ما الذي جعل البطل يتمرّد؟ لعله الحب والحنين إلى مصر، التي يعرفها معرفة تشي بحبه لها:
"لو أنه روى عن الباعث الحقيقي! .. كان يحجز تذكرة العودة في اليوم التالي لوصوله إلى مسقط. أتعس اللحظات حين يُغادر التاكسي في مطار القاهرة ويخطو إلى باب الدخول، أسعد اللحظات حين يُعلن المضيف عن التحليق في الأجواء المصرية. أدهشته الدمعة التي ذرفها بالرغم عنه لما أطلّ على الناس ـ وهو يُنهي أوراقه ـ من نافذة مرتفعة في مجمع التحرير. كان يحرص على قراءة الصحف، يُناقش القضايا البعيدة كأنه يحياها، يسأل ويناقش ويقترح ويرفض. يصلي الجمعة في مسجد أبي بكر الصديق الذي يرتاده المصريون. يزور ويُزار ويودع في مطار "السيب" يستوقفه اختلاف اللهجة والتصرفات والتكوين الجسدي. كان يُراهن على الطيف القادم في الظلام. يُهلل للشوارع والميادين والشواطئ والأبنية، إذا طالعته في التليفزيون: المراكب الصغيرة في شواطئ الأنفوشي .. زحام شارع الغورية .. لعلها مئذنة الحسين .. من هذه الأشجار فهي الإسماعيلية .. بور سعيد تخلو من البمبوطية فهؤلاء إذن من السويس .. إنها مستودعات البترول في مدخل الزقازيق .. حل الصيف، فجمهور إستاد القاهرة يرتدي القمصان"( ).
لقد عاد البطل من الخارج ليواجه مجتمعاً امتدّت رذائله السياسية والاجتماعية، واتسعت، وليُعرِّي خطايا هذا المجتمع، ويُحاكمه أمام نفسه، وتبدأ المواجهة عند وصوله إلى مطار القاهرة:
"بدا مُغايرا للمرّات السابقة، مجموعة من السائحين الإسرائيليين ينتظرون حقائبهم. تأمل اسم ورقم الرحلة (576 تل أبيب) تل أبيب؟ .. شمل المجموعة بنظرة جانبية. بدوا سعداء، يتضاحكون، وإن علت في أحاديثهم تلك المفردات التي يجهلها"( ).
ويكشف الاستفهام والتعجب عن أولى خطوات الوعي بالتمرد الذي فُرض عليه بعد العودة.
هل فقدت الكلمات معانيها، أو لم يعد لها معنى؟ لقد لاحظ ذلك وهو في مسقط: "فاجأه ضابط الجوازات بتلك الكلمات المدغمة، التي لا تنطوي على أي معنى ويصعب فهمها. ليست العربية ولا الإنجليزية ولا الفرنسية، ولا هي مفردات لغة بذاتها، مع ذلك واصل الضابط الحديث"( ).
وها هو يُلاحظ ذلك في مطار القاهرة حينما رأى الإسرائيليين، فتملكه الاستغراب والدهشة: "علت في أحاديثهم تلك المفردات التي عجز عن فهمها"( )، و"كان القرار قد سيطر على تصرفاته، فهو لا تعنيه تلك اللغة، اللهجة، الكلمات الغريبة المتناثرة"( ). و"فاجأته الكلمات الغامضة حين شرع المأمور مطواته"( ). ثم تتكرّر هذه الكلمات مع السائق، والبوّاب، وهدير القاهرة الزّاعق، حتى تجيء سطور النهاية.
"وصعد السلالمَ عَدْواً، أطال الوقوف لحظات أمام باب الشقة. هل تفاجئه أمه بهذه اللهجة؟ فكيف يُواجه الأمر؟ وماذا سيكون عليه تصرفه؟
قاوم التردد وضغط على الجرس، لم يرفع إصبعه حتى انفتح الباب. بدت أمه شعثاء الشعر، تفصَّد العرق في جبهتها، بيدها سكّين، فهي لا بُد قادمة من المطبخ .. اتجهت عيناه إلى شفتيها، ترقبان الارتعاشة التي تسبق الكلمات:
انفرجت الشفتان عن صيحة فرح:
ـ أنت؟
ارتمى في حضن أمه وأجهش بالبكاء"( ).
تُمثِّل هذه القصة بطلاً متمرداً (أحسبه هو الكاتب نفسه، وسأتناول ذلك فيما بعد)، ويتمثَّل هذا التمرُّد في عدة مظاهر:
1-رفض الاغتراب المكاني، وتصميمه على العودة.
2-محاولة إنهاء عقد العمل من جانبه، وبهذا يتمرَّد على حق الكفيل المطلق في التعاقد، وإنهاء العمل.
3-رفضه اللغة الغريبة العجيبة (التي هي رمز لما يدور في المجتمع الآن من مناقشات، وسياسات، وغسيل مخ إعلامي تجاه موضوعات معينة، وتعتيم إعلامي في المقابل على قضايا ساخنة … إلخ)، وفي القصة إشارات ذكية لهذه اللغة العجيبة الغريبة تتمثَّل في عدة مواقف:
أ- موقف ضابط الجوازات في مطار سلطنة عمان.
ب- موقف ضابط الجوازات في مطار القاهرة.
ج- موقف سائق سيارة الأجرة (التاكسي).
د- موقف البواب.
هـ- وموقف السّارد من ركّاب طائرة "شركة العال الإسرائيلية"، هل مازالت اللغة حية، وتُمارس دورها في بناء الوعي الإنساني "رقم الرحلة 576 تل أبيب. تل أبيب؟!"
والبطل المتمرِّد هنا في وعي محمد جبريل ينطلق من قوسين يتعانقان ليُشاركا في إيجاد الخارطة الخاصة بمسارات البطل وإمكاناته:
القوس الأول: هو الوطن، أو أرض الوطن بالتحديد والتي يسجلها تسجيلاً مباشراً حيا، في مقطع طويل سابق، نقلناه كاملاً.
والقوس الثاني: الأم، والمهد، واللغة النقية الصّافية، والحب بلا طنطنة.
إن الأم ترتفع ـ هنا ـ إلى أن تصير الرمز لمصر المتواضعة: "شعثاء الشعر"، العاملة: "تفصَّد العرق في جبهتها"، المقاوِمة: "بيدها سكين"، التي لا تتكلّم كثيراً، بل تبذل كلَّ وقتها في خدمة أبنائها، ثم تكون الحضن الحنون لهم في النهاية "هي لا بُد قادمة من المطبخ .. اتجهت عيناه إلى شفتيها، ترقبان الارتعاشة التي تسبق الكلمات:
انفرجت الشفتان عن صيحة فرح:
ـ أنت؟
ارتمى في حضن أمه وأجهش بالبكاء"( ).
ليست الغربة هي التي أملت على محمد جبريل كتابة هذه القصة الرائعة( )، وليست هي المحور الأول لعالمه القصصي، بل هي مصر التي يحملها في ضميره، وتحت جلده. والبطل في هذه القصة القصيرة ـ الشهادة ـ هو محمد جبريل نفسه ـ يقول في القصة:
"طالبه المأمور الجمرك بالاسم والمهنة وجواز السفر ..
ـ من أين؟ ..
ـ مسقط.
ـ آخر رحلاتك؟ ..
ـ أعمل في مسقط .. لكنني دائم التردد على القاهرة ..
ـ تاجر شنطة إذن؟ ..
لو أنه روى عن الباعث الحقيقي! .. كان يحجز تذكرة العودة في اليوم التالي لوصوله إلى مسقط"( ).
وما يجعلنا نقول إن البطل هو محمد جبريل عينه ما قاله في أحد الحوارات الصحفية: "أما بالنسبة لغيابي الجسدي عن القاهرة، فلم يكن حقيقيا، ذلك لأني كنتُ حريصاً على العودة إلى مصر بين فترة قصيرة وأخرى، وجواز سفري مزدحم بعشرات الأختام التي تبين عن أسفاري المتواصلة بين مسقط والقاهرة"( ).
والبطل ومحمد جبريل كلاهما عمل في عُمان ـ وبالتحديد في مسقط ـ بل إن من أصدقاء البطل في القصة حسين أبو طالب، ورشاد سليمان، وهما صديقا محمد جبريل: حسين أحمد مرسي، ومحمد سليمان، والبطل ـ في عمان وفي مصر ـ يفقد التواصل الإنساني، والفهم والوعي ـ من خلال الإشارات المتكررة إلى تغيُّر اللغة واختلافها؛ فيتمرَّد على مجتمع الغربة في مسقط، ويتمرّد على واقعه المصري، ويلجأ إلى أمه علَّه يجد في أحضانها الأمان، فتسكن روحه ويُعيد حساباته مع الحياة والأحياء، لعل يقينه يعود إليه فينطلق مُقاوماً.
*والقصة الثانية بعنوان "القرار"، وفيها نرى البطل "عاصما" قرّر أن يُحيط نفسه بأسوار العزلة "لا أزور ولا أُزار، ولا أُخالط ـ إلا لضرورة ـ هؤلاء الذين ينبغي أن أفتح لهم باب شقتي، كالبوّاب والزبّال، ومحصِّل النور، وما أشبه"( ).
لكن عاصم ـ كأبطال محمد جبريل الآخرين ـ بطل إيجابي يرى أن الذات التي تعيش وحيدة منعزلة مصيرها الموت، ولذا فلا بد أن يُشارك الآخرين، لا بد أن يحيا. ويصور الكاتب لحظة الوعي بالوحدة وأخطارها، مشبها إياها بالموت، مبيِّنا كيف أوصله التفكير والوعي إلى اتخاذ القرار، في جمل تُراوح بين الوصفية والشعرية، فكأنها واقعية سحرية أخرى ينفرد بها محمد جبريل:
"لكن اللحظة التي جاءت مغايرة لكل ما سبق، وبداية للآتي، شملتني بسرها الغامض، صحوت على تأثيرها المفاجئ عقب أذان الفجر في المسجد القريب، كأنها حلم أو هاجس، أو جزء من حركة الطريق، البسملات والحوقلات والخطوات التي تسعى لأداء الصلاة، كأنها تلك الأصوات التي تدعوك، وأنت بين اليقظة والنوم. ترد النداء، فتُفاجأ بخلو المكان، تعود بالأمر إلى الغيبيات والأرواح والأسرار التي لا قبل لنا بفهمها. كأنه تأكيد باقتراب الرحيل، لا مرض ولا شُبهة مرض. أكَّد الطبيب ـ لما عرضت نفسي عليه ـ صحة الجسد ومتانته، نصح بأقراص مهدئة لمجرد المساعدة ـ كما قال ـ في النوم وطرد المخاوف .. لكن الخاطر، الهاجس، التحذير، الأمر .. تناهى مع الأصوات التالية لأذان الفجر، توضّحت تفصيلاته في سمعي جيداً. بدا لي الصوت حقيقة يصعب مقاومته. انصعتُ لها بكل خضوعي وإرادتي، فقرّرتُ أن أضع فاصلاً بين الحالي والآتي"( ).
ولم يكن هذا الحد الفاصل بين الخوف والطمأنينة، سوى مشاركة الناس حياتهم، وعدم الانعزال، ومن ثمَّ نرى جملته الحاسمة في نهاية القصة: "قررت أن أحيا"( ).
*وفي بعض قصص محمد جبريل تقودُ المطاردةُ البطلَ إلى ما يُشبه السقوط، حيثُ تخورُ قواه، ويٌقاوم مقاومة هزيلة تدفعُ به إلى الهاوية.
فـ"فوقية" في قصة "الخيوط"( ) تُطاردها ظروف أسرية قاهرة، متمثلة في موت أمها، وزواج أبيها من امرأة فظة غليظة القلب، تدفع "فوقية" دفعاً إلى ترك البيت، فيُواجهها "عبده" الذي يُحاول أن يُسيطر عليها بدعاوى الحب، وينال منها ما يُريد في موقف يمتزج فيه الحب بالاغتصاب، وهذا الموقف يُمثِّل حيرة الإنسان المُعاصر، المُطارَد بقوى تنتهك روحه، وتستغلُّه أبشع استغلال، فيظن أنَّ ما يُحققه انتصار وحب ونجاح، فإذا به فشل وسقوط.
"قالت الأم: سأزوِّجك ابن السلطان! انظري يا بنت، هذا هو ابن السلطان. الشفتان غليظتان، والأنف واسع المنخارين، والعينان ضيِّقتان تشوب بياضهما صفرة قاتمة. والأم ماتت. وابن السلطان مات"( ).
لقد دفعتها زوجة الأب إلى ساحة العمل دفعاً، رغم قسوته:
"لم يعد العمل في المصنع بمثل بساطته الأولى، الطواحين تقذف بكميات هائلة من العطارة، ومع هذا أُضيفت طاحونة جديدة، وصراخ صاحب المصنع يستحث الجميع على العمل، والأيدي ترتفع وتنخفض لتملأ الأكياس بلا هوادة. قالت المرأة: لماذا لا تعمل؟ كل البنات يعملن"( ).
لكنها وهي عائدة من العمل إلى بيت جدتها في المساء تُطارد، وتحاول أن تُغيِّر طريقها لتتجنَّب المُطاردة، فيدور بينها وبين عبده هذا الحوار:
ـ فوقية! ..
هتفت في فزع:
ـ أنت؟!

ـ لماذا غيَّرتِ طريقك؟
ـ لا شأن لكَ بي!
غمغم في هدوء:
ـ ليتَ هذا يكون!
زوت ما بين حاجبيها وتساءلت:
ـ أبي؟
هزَّ كتفيه وقال:
ـ هل مازال يذكرك؟
ـ زوجته؟
ـ إنها مشغولة بذقن الرجل! .. لا.
ـ من إذن؟
ـ لا أحد ..
همهمت وهي تلتقط أنفاسها:
ـ أنت تعرف كل شيء
ـ هذا صحيح.
ـ كيف؟
ـ هل يتوه الأصل عن الظل؟
ـ لا أفهم شيئاً! ..
وضع راحته الغليظة على كتفها، وقال في مودّة:
ـ يكفي الآن أنّنا صديقان!
ـ لستُ صديقةً لأحد! ..
والدكاكين تُغلق أبوابها، والليل يحتضن الطريق بذراعي صمت، ودعوة العين صارت كلاماً، ودويُّ الصرخة يصم الأذنين، والفم مغلق.
قالت في صعوبة:
ـ دعني وإلاّ ..
ـ ماذا؟
ـ سأصرخ ..
ـ حاولي!( ).
إن كثرة الضغوط والمُطاردة الاجتماعية والنفسية جعلت البطلة في قصة "الخيوط" غير قادرة على الاستمرار في تمردها حتى النهاية.
*وفي قصة «أصداء» من مجموعة «حكايات وهوامش من حياة المُبتلى» ـ وهي من مقطعين ـ نرى في المقطع الأول تمرّد الشاب يتمرّد على خطيب المسجد، ويرى أن الخُطباء لا يُعبرون في خطبهم عمّا يمس المجتمع من خطوب، وما تُواجهه من مثبطات، ولهذا فهو يشتط في تمرِّده حتى يقترح على المصلين أن يصلوا على السلطان صلاة الجنازة، فهو ليس حاضراً في نفوس رعاياه، ربما لأنهم لا يجدونه حاضراً فيما يمر بهم من قضايا وخطوب:
«فوجئ المصلون ـ في الجامع الكبير ـ بصوت رجل يتناهى من الزاوية البعيدة مستنكراً:
ـ الخطيب يكتفي بمعاني الكلمات، فلا يشغله ما نحياه ..
تعالت الهمهمات، واتجهت الأعين إلى مصدر الصوت ..
بدا المتكلم شابا، وإن خالط الشيب لحيته ..
وشّى صوته بانفعال:
ـ إذا كان رجال السلطان يفيدون من عطايا، فإننا نُعاني ظُلم الجميع ..
وعلا صوته، فسكتت حتى الابتهالات الهامسة:
ـ لقد مات السلطان في نفوسنا .. ومن واجبنا أن نُصلي عليه صلاة الجنازة»!( ).
(يتبع)

د. حسين علي محمد
19-11-2006, 06:05 PM
ونُلاحظ أن قصص المُطاردة والتمرد عند محمد جبريل تميل إلى التفسير والتحليل، لإحداث الأثر النفسي الذي يرجوه الكاتب من إظهار أزمة الإنسان العربي المُعاصر، بل المصري المعاصر. ومن ثم فواقعيته تختلف عن واقعية مُعاصريه وأبناء جيله. فبقدر ما يهتمون بالبيئة (محمود البدوي ويوسف إدريس) ينصب اهتمام محمد جبريل على الواقع النفسي المتوتر واللحظات الشعورية المتغيرة، مع عدم إغفاله البيئة الاجتماعية والسياسية والثقافية، في تقاطعاتها مع الواقع / الزماني والمكاني الذي تدور فيه أحداث القصة القصيرة.
ويدل تنوع موضوعات قصصه على ثقافة واسعة ترفدها خبرة بأمور حياتية كثيرة في الوطن العربي جميعاً، حيثُ زار مدناً عربيةَ كثيرة، وعمل قرابة تسعة أعوام في سلطنة عمان.، وزار مدناً أخرى في العراق، وموريتانيا، وتونس، والكويت ... وغيرها.
3-المقاومة:
يتمثّل محور المقاومة في عدد من القصص، منها: "نبوءة عراف مجنون"، و"حدث استثنائي في أيام الأنفوشي"، و"هل؟!"، و"حارة اليهود"، و"حكايات وهوامش من حياة المُبتلى"، و«رسالة السهم الذي لا يُخطئ».
*في قصة "نبوءة عراف مجنون" من مجمــوعة "انعكاسات الأيام العصيبة" (1981م) نرى السارد يتتبّع رجلاً يعرفه منذ أن كان طفلاً صغيراً، والرجل يمر في شوارع الإسكندرية بمشية متميزة "الحرص على الأناقة واضح في البدلة الكاملة ـ حتى في عز الصيف ـ والقميص ذو( ) الياقة المنشّاة، وربطة العنق التي أحكم ربطها، ثم في تلك المشية التي كانت في الحقيقة أول ما شدّني إليه"( ).
إن الرجل / بطل القصة يُتابع الأحداث: حرب فلسطين (1948م)، وحريق القاهرة (1952م)، ووحدة مصر وسورية (1958م). ويترك السارد الإسكندرية ثمانية عشر عاماً (أي يعود عام 1976م)( ). ثم يراه للمرة الأخيرة:
"مع أنه لم يحل أيَّ موقع في ملايين الصور التي انثالت على الذاكرة خلال الأعوام التي بعدت فيها عن الإسكندرية، فإنني تذكّرته حالاً لما انتويت العودة إليها لإنهاء بعض الأوراق المتعلقة بهجرتي إلى الخارج. وكأنه كان ينتظرني، وإن بدا على غير الصورة التي عرفته فيها. غابت السحنة المألوفة، والمشية المميزة والتصرفات الهادئة. وكانت تشدني إليه الحركات الصامتة التي أضاف إليها ـ في ختام أيامي بالإسكندرية ـ كلمة واحدة، لا يكاد صوته يبين بها: النصر .. النصر. لكنني ـ هذه المرة ـ رأيته في صورة مُغايرة .. كانت قدماه قد تدلّتا من الباب الأيسر في ترام الرمل، وشعره الأبيض المنكوش تهدّل على جبينه وعينيه، وقبضتاه تقذفان الهواء .. والزبد يتطاير من شفتيه، والصيحات متلاحقة الكلمات، لم يتضح في سمعي منها سوى الكلمة القديمة: النصر! وكان أبي قد مات. وباع أخي الأكبر بيت الأسرة في الموازيني، وطرأ على الصورة السياسية نغيُّر واضح، ودهشت لأن الناس كانوا يعبرونه بنظراتهم .. "( ).
ورغم أن القصة لا تمتلئ بالهتاف والضجيج فهي من أدب المقاومة، وربّما كتبها القاص حينما فكر السادات في الذهاب إلى القدس لعمل صُلح تاريخي ـ كما كان يُقال ـ مع إسرائيل.
وهي قصة تُساق في بساطة وتلقائية لتنبهنا إلى خطر إجراء سلام مع العدو التاريخي لأمتنا. يقول محمد جبريل في حوارٍ معه: "رأيي الذي ألح عليه أن أدب المقاومة ليس وقفاً على التحريض ضد الاستعمار الذي احتل أرضي بالحرب، لكنه يتجاوز ذلك إلى المستعمر الذي يسعى إلى احتلال أرضي وتشويه حضارتي وقيمي وموروثاتي وملامح شخصيتي، بواسطة أدوات قد يكون من بينها معاهدة سلام"( ).
*وفي قصة "حدث استثنائي في أيام الأنفوشي" ـ وهي قصة رمزية بالغة الجمال والدلالة؛ بما فيها من تكثيف رائع، وابتعاد عن المُباشرة والتقريرية ـ يُقدِّم غزواً رقيقاً ـ إن صحَّ وصف الغزو بالرقة ـ لحي الأنفوشي من ملايين الأسراب من السمّان، وهو غزو منظَّم لا يُضايق النَّاس، ولا يسطو على ممتلكاتهم، ولا يدس منقاره في شؤونهم الشخصية، بل ويستفيد الناس من هذا الغزو، ولكنهم سرعان ما يتململون إذ يشعرون بملايين الأعين والأنفاس الغريبة التي تُقاسمهم المكان:
"بدا لهم استمرار الوضع ـ بصورته الحالية ـ غايةً في الصعوبة. تهامسوا .. وعقدوا الجلسات السرية .. وتبيّن لهم ـ بعد نقاش طويل ـ أن السكوت عن المقاومة ـ رغم كل شيء ـ طريق إلى الجنون"( ).
*وفي قصة "هل؟!"، نرى بطلها الميت منذ قليل يُقرر أن يُقاوم دفاعاً عن أكفانه، ضدَّ "التربي" الذي يُريد أن يُجرِّده منها:
"قررت أن أمنعه. دبَّر محروس ثمن الكفن بالكاد، وأصرَّ سليمان على أن يكون ستة أثواب من الحرير، واحتضنت أمي الجثمان قبل أن يتوسَّد التراب .. لو أني تحرَّكت بصورة ما، فلن يُجازف بالاقتراب. إصبعي أو عيني أو فمي، حركة خاطفة يلمحها فلا يقوى على فعل شيء. يعدل عن محاولته، ويظل جسدي مستورا"( ).
وقصة "هل؟!" نموذج لمحور المقاومة في إبداعاته؛ فالبطل الذي يُقاوم وهو ميت، قاوم من قبل، وهو حي، ودفع حياته ثمناً لرأيه:
"علا صوتي ـ مهدداً في غضب. تلاحقت الوخزات في صدري، حادة، قاسية، فأغمضتُ عيني.
قال الطبيب:
ـ ربما الوفاة جنائية، ولابد من تشريح الجثة! .."( ).
فالبطل هنا مُقاوم، ولا بد أن حياته كانت تتهدد لصوصاً ذوي سطوة وقوة، فمات (كأن يملك أدلة على إجرامهم، أو يهددهم بإبلاغ السلطات عنهم). ومن ثم، فنحن لا نعجب حينما نراه يُقاوم، حتى النهاية. إنه كما رأينا يُقاوم اللصوص الذين يتعقبونه بعد دفنه ليسرقوا أكفانه!
*وفي قصة "حارة اليهود" يتضح الصراع جليا بين محمد جعلص وحارة اليهود، فقد تعرض اليهود لعلي بن محمد جعلص، ومن ثم يصمم محمد جعلص على مقاومتهم، فهاهم يضربون ابنه، بعدما كانوا السبب في إفلاسه:
"قال محمد جعلص:
ـ بيني وبين سكان حارة اليهود ثأر .. سأُصفّيه! ..
قال هريدي:
ـ كل الحارة؟
ـ زادت التصرفات المجرمة .. فصار من الواجب تأديب الحارة كلها ..
قال هريدي:
ـ بمفردك يا جعلص؟ ..
ـ طبعاً لا، استقدمت مجموعة من بلدياتي في الصعيد فطّنتُهم على المسألة وما يجب عمله" .."( ).
لقد ضرب اليهود الولد الصغير، وأصبح الكبار غير آمنين، ومن ثم وجب تأديبهم:
"روى الولد ـ في مكانه ـ ما حدث. آذته المفاجأة أكثر مما آذاه الضرب. وجد نفسه وسطهم. أحكموا حصاره في حارة خميس عدس، وانهالوا عليه بالضرب القاسي، المتواصل، بالأيدي والأقدام، والعصي الصغيرة. أنقذه مرور موظف بدار سك النقود. صرخ في الأولاد فابتلعتهم البيوت والحواري الجانبية. أكّد الموظف ـ لما سأله جعلص كل ما قاله علي. أردف الرجل في تأثُّر:
ـ حتى الكبار لم يعودوا يأمنون على أنفسهم إذا ساروا في الحارة"( ).
إن محاولة محمد جعلص الثأر من اليهود تكشف عن رغبة القاص في إذكاء نار المقاومة من العدو الذي اغتصب فلسطين، ولا بد من المقاومة التي تعني الحياةَ عند محمد جبريل، وإلا فالبديل هو الجنون.
*وفي قصة "حكايات وهوامش من حياة المبتلى" (من المجموعة التي تحمل العنوان نفسه) نرى شخصيتي صابر عبد السلام وسلسبيل اللتين يرمز بهما إلى الشعب المصري؛ فصابر عبد السلام يُصر على السفر لأداء فريضة الحج، في الطريق البري نفسها التي سافر فيها أبوه لأداء الفريضة من قبل، ولكن الطريق مقطوعة (يشير إلى إسرائيل التي احتلت فلسطين، فمنعت انسياب الحركة البرية بين مصر والحجاز)، وصابر الذي يرمز إلى الشعب المصري يصفه المؤلف بهذه الفقرة التي تكشف عن خصائص الشعب المصري النفسية، وتنتهي بأمنية أن يعود التواصل بين أفراد الأمة العربية:
"فاعلم ـ غفر الله لك ـ أن صابر عبد السلام كان يحمل قلباً ينبض بالرحمة، يُشرق النور في داخله، يغيث الملهوف، يُساعد المحتاج. يُقتِّر على نفسه ويُكرم ضيوفه، يحدث من يلقاه ـ للمرة الأولى ـ كأنه يعرفه من زمان. يُوقِّر الكبير والصغير، ويحترم الناس كافة. يعود المرضى. يُشارك في الأفراح والمآتم. يُساعد الغلابة والضعفاء والمنكسرين. يفيض بالمحبة تجاه الآخرين. حتى الذين يواجهونه بالإساءة، يغض النظر عن إساءاتهم، إلا فيما يتصل بكرامته … يُصلي الفروض في أوقاتها. يعشق النكتة والعبارة اللمّاحة. أمنيته التي كثيراً ما حدّث بها زوجته وأصدقاءه، هي السفر إلى بلاد الحجاز من الطريق نفسها التي سافر فيها أبوه عندما انتوى أداء فريضة الحج"( ).
ومن الواضح أنه يرمز بالجملة الأخيرة "السفر إلى بلاد الحجاز من الطريق نفسها التي سافر فيها أبوه عندما انتوى أداء فريضة الحج" إلى الحلم المُقدَّس في وحدة الأرض العربية، وزوال العائق المتمثل في إسرائيل.
*وفي قصة "رسالة السهم الذي لا يُخطئ" (من المجموعة التي تحمل العنوان نفسه) نرى باحثاً عربياً تؤرقه نهاية اليهود الحمر في أمريكا، فيعد دراسة عنهم، مفترضاً في البداية، أن لليهود الحمر دوراً فيما وقع بهم على أرضهم من الأوربيين الغزاة.
يقول في المقطع الأول من القصة الذي حمل عنوان « فقرة أخيرة في رسالة من ثلاث صفحات» يبدو أنها موجهة من الباحث إلى المُشرف عليه:
«لم يكن ما حدث مسئولية الغزاة وحدهم. الهنود الحمر يتحملون جانباً من المسئولية . أعرف أن التأكيد في الدراسات العلمية مما ينبغي تجنبه. الأدق ـ ولو من قبيل التواضع ـ أن نكتب: ربما، ولعل، وحسب اجتهادي .. كلمات تنفى التأكيد، وترجح، وتحمل معنى التواضع .. لكن انشغالي بما جرى، في بحث شجعتني على البدء فيه، ومواصلته، وإتمامه، جعل من عدم التأكيد على مسئولية الهنود خطأ علمياً، أثق أنك ستؤاخذني عليه ..» ( ).
ويصف السارد تسلل الأوربيين إلى أرض الهنود الحمر، وكأنه يصف تسلل اليهود إلى أرض فلسطين:
« حين قدمت السفن الخشبية الصغيرة إلى السواحل المتباعدة، أطلق السكان صيحات الترحيب. دلّوا القادمين على أصلح الأماكن لرسو السفن. أظهروا الود، وأقاموا الحفلات الراقصة، وتناثر ريش الطيور ..
رفع الجندي عصا، صوب مقدمتها، واهتزت في يده بانطلاق شرارة منها، وصوت كالانفجار. وسقط هندي ـ في اللحظة التالية ـ فلم يتحرك ..
كانوا يركبون الجياد، ويتكلمون بلغة لم يفهمها الهنود ..
تكرر رفع العصي ذات الألسنة النارية في أيدي ذوى الوجوه الشاحبة. وتوالى سقوط الهنود قتلى. طردهم ذوو الوجوه الشاحبة خارج أرضهم، طاردوهم أينما ذهبوا، وكانت بنادقهم تحمل الموت دائماً ..» ( ).
ولم يترك ذوو الوجوه الشاحبة الهنود في الأراضي التي رحلوا إليها ـ ألا يذكرك هذا بمطاردة إسرائيل للفلسطينيين في بيروت وتونس؟ ـ وهذا ما أشار إليه السارد من خلال مطاردة ذوي الوجوه الشاحبة ـ في القصة ـ للهنود الحمر في كل مكان توجّهوا إليه:
«ألفوا صوت النفير، يفاجئهم في الأماكن التي رحلوا إليها، يتصورون فيها ابتعادهم عن شر ذوى الوجوه الشاحبة، يتركون الخيام إلى مناطق أخرى يعرفونها، ويثقون أن خطوات الرجل الشاحب الوجه يصعب أن تصل إليها، لكن صوت النفير يقترب بعد فترة تطول أو تقصر، ويتكرر الفرار إلى مناطق أخرى ..
نهب ذوو الوجوه الشاحبة، وحرقوا، ودمّروا كل ما وجدوه في طريقهم. فرت ـ أمام الهجوم ـ قبائل بأكملها، استقلوا المراكب، أو ساروا على الأقدام .. »( ).
وتدعو القصة إلى المقاومة، فالنار
« قال الإعصار المدمر :
ـ القطعان المتناثرة تغرى الصياد بها ..
ورسم بإصبعه دائرة واسعة، وعلا صوته بالغناء:
إن النار لا تعرف الرحمة ولا الشفقة
ولابد أن نكون كذلك أمام أعدائنا
وأعاد الإعصار المدمر قوله :
ـ القطعان المتناثرة تغرى الصياد بها .. »( ).
إن القصة تدعو إلى تجمع العرب فـ« القطعان المتناثرة تغرى الصياد بها» والحرب لا يفلها إلا الحرب فـ« النار لا تعرف الرحمة ولا الشفقة، ولابد أن نكون كذلك أمام أعدائنا».
وتشكل قضية فلسطين هما كبيراً للقاص يُفصح عن نفسه في كتاباته وأحاديثه، يقول في حوار معه:
«أعجبني جدا ما شاهدته في قناة «المنار» الناطقة بلسان «حزب الله» ... ظهر على شاشة القناة مجموعة من الأطفال الفلسطينيين، هذا يقول: «أنا من حيفا» وآخر يقول «أنا من يافا»، وثالث يقول «أنا من القدس»، ورابع يقول «أنا من دير ياسين» ... وهكذا، ثم جاءوا بزعماء الحركة الصهيونية، فإذا بهم جاءوا أشتاتا من مختلف بقاع الأرض، فمن جاء من بولندا، ومن جاء من أوكرانيا، ومن جاء من روسيا ... وهكذا. فلسطين لم تكن أبداً وطناً للصهاينة» ( ).
ويقول في موضع آخر من الحوار نفسه:
«القضية الفلسطينية هي قضية مصر وقضية الوطن العربي كله. البعض يتصور أن واجب الدفاع عن فلسطين محصور في كونها أرضاً عربية مجاورة، وهذا خطأ فادح؛ لأن أحلام الصهيونية تمتد من النيل إلى الفرات، وحتى المدينة المنورة، وهذا ما يُعلنونه بكل صراحة ووقاحة، وهو مذكور في كتبهم وفي تراثهم وفي مُعتقداتهم ... إنهم إذا نجحوا في القضاء على فلسطين اليوم، فسوف يزحفون في الغد إلى الأردن وسورية ولبنان ويلتهمون المدينة المنورة مروراً بالنيل ومدينة الإسكندرية»( ).
(يتبع)

د. حسين علي محمد
19-11-2006, 06:10 PM
4-انتظار الآتي:
يهدي محمد جبريل مجموعته «هل؟» «إلى الآتي»( )، وهذا الآتي يتمثل في العديد من قصصه، ومنها: «تسجيلات على هوامش الأحداث بعد رحيل الإمام»، و«الأستاذ يعود إلى المدينة»، و«الطوفان» (من مجموعة «هل؟!»)، و«الأفق» (من مجموعة «رسالة السهم الذي لا يُخطئ»، و«سوق العيد» (من مجموعة «سوق العيد»):
*في قصة «تسجيلات على هوامش الأحداث بعد رحيل الإمام» (من مجموعة «هل؟!») نرى امتداداً لرواية «إمام آخر الزمان»، ونرى فيها تقاطع الحلم الديني الغيبي وإشكالات العصر وقضاياه.
يمثِّل الحلم الديني: «يا أيها المهتدي من الله سبحانه، الهادي إلى السلام والعدل والمُساواة .. متى تظهر؟ يقترب يوم الإيمان، يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار، يلبسون ثياباً خُضْراً من سندس وإستبرق، وثياباً من حرير، يحلون بأساور من الذهب والفضة، لا يسمعون لغواً ولا كِذّاباً، ... إلخ»( ).
ويمثل الهم الواقعي ـ المتقاطع مع الحلم الغيبي: «علينا حتى يؤوب ـ أيده الله ـ أن نعمل ونعمل. تتحوّل أكواخ الطين والصفيح وأسطح البوص إلى بيوت من الطوب. تحل الباحات الواسعة النظيفة محل الزرائب. يعرف الجميع الثلاجة والتليفزيون والتليفون والفيديو. يكون للماشية مكانها المستقل؛ فلا تُشارك الفلاح نومه .. تختفي المُصادرات والحراسات وزوار الليل. تختفي ـ كذلك ـ اللامبالاة والسمسرة وأتعاب العمولات»( ).
والآتي في هذه القصة ليس إلا رجل الدين ـ أو «المهدي» في التصور الشيعي ـ أمل الخلاص للمؤمنين من الفقراء والمهمشين الذين ضاعت حقوقهم؛ ذلك «الإمام» الذي اختفى من قرون(!!)، فهل يعود إلى الأرض، فينشر في أرجائها الأمن والطمأنينة والسلام، ويملؤها عدلاً وفروسيةً وبطولة؟!!
*وفي قصة «الأستاذ يعود إلى المدينة» نرى أن البطل فيها هو «الأستاذ»، وهو بطل روايته الأولى «الأسوار»، حيثُ كنا في الرواية «لا نسمع صوته، ولانتابع تصرفاته السرية أو المُعلنة. لكننا نلمح تأثيراته في حياة هؤلاء الذين أخلصوا في محبته، مقابلاً لإخلاصه في محبتهم، فهو أقرب إلى شخصية المسيح ـ عليه السلام ـ وهم أقرب إلى حوارييه، وهو بالإقناع وهم بالوعي ينسجون ملحمة جديدة من ملامح الطموح المصري لصنع غد أفضل»( ).
و«الآتي» ـ هذا «الأستاذ» في هذه القصة ـ مُغاير للأستاذ في رواية «الأسوار»:
إن "الأستاذ" في قصة «الأستاذ يعود إلى المدينة» يقوم بمشاركة القادمين صنع المستقبل، ولكنه لا ينوب عنهم.
إنه يختار «سلسبيل» لتحمل المولود القادم (ابن كل مصر)، وحينما حان موعد ميلاد الطفل «رفض ـ في استنكار ـ أن يستدعوا الطبيب، طلب مقصا وماءً ساخناً ومناشف وأغطية، خلا بها في كشك عم أيوب، وعالج الأمر بمهارة أكّدها صمت المرأة، فلم تصرخ كعادة النساء، حمل الوليد على يديه في سعادة واضحة، تأكّد من دثاره بالقرب من صدره، وأودع الجميع نظرة عميقة ... ومضى إلى زحام شارع الميدان»( ).
*وفي قصة «الطوفان» (من المجموعة السابقة) نرى أن البطل فيها كائن غريب «جثة هائلة، غامضة الملامح والتفاصيل، أضخم ممّا اعتادت الأعين أن تراه، وأضخم ممّا رآه الجد السخاوي في حكاياته المثيرة عن أعاجيب الكائنات. مدّ الساقيْن في استرخاء، وأسند الرأس إلى ما بين الساقين. وتطلع بنظرة ساهمة إلى اللاشيء أمامه»( ).
ويعجز الناس عن معرفة هذا الكائن الذي «يخلو من أثر لحياة، لولا عينيه اللتين (كذا) تتحركان تحت أهداب مُسترخية، أميل إلى التهيؤ للنعاس»( )، ويعجز الجيش عن التعامل معه، أو طرده أوقتله، كما تعجز المخدرات على أن تنال من روحه، أو تؤثر في صحوه حتى تشجع الناس واقتربوا منه، وتحول ـ بمضي الأعوام ـ إلى مظلة يحتمون بها، وعقدوا الصفقات، وقضوا الأمسيات... وفي تلك الأيام التي بدا فيها هذا المخلوق الغريب جزءاً ثابتاً من حركة الحياة حوله، انتفض ـ فجأة ـ فسعى إلى الشاطئ المُقابل، ونفض الماء حوله، فأغرق كل شيء ( ).
والآتي هنا هو الشعب الذي عجز الجيش عن قهره، وعجزت المخدرات عن أن تنال منه، والذي نظنه أحياناً قد مات، فإذا به يثور ويُحطم كل شيء يقف في طريقه.
ومن هذا العرض نعلم أن البطل في قصص جبريل ـ أو المُخلص ـ مما نُعاني من انتكاسات وهزائم هو البطل المنتمي لهذه الأرض، وهو أيضاً الشعب بمختلف فئاته.
لكننا قد نرى قنوط البطل من انتظار «الآتي» ومن ثم انسحابه، وهذا قليل في قصصه، مثل قصة «المستحيل» في مجموعة «هل؟!».
إننا نرى البطل ـ بدلاً من أن يُقاوم، أو يتمرّد، أو ينتظر الآتي ـ يُغلق النافذة التي من خلالها يبصر الحياة ويتفاعل معها، ولعلّ وراء عزلته عدم إحساس الآخرين به، كبطل مدافع عن الجماعة، فآثر الانزواء.
«قال له الحاج إبراهيم الخليل بائع الحلوى في ناحية البوصيري:
كأنك أهملت مشكلاتنا مع الجماعات الوافدة؟! ..
لم يُخف استياءه:
ـ كنتُ أُواجه المُشاجرات بمفردي!
ـ نُقدِّر ما فعلت .. ولكن الأحداث تحت نافذتك.
ـ أزمعتُ أن أغلق النافذة»( ).
لكنه لم يستطع أن يعيش حياته كما يُريد، فلا العزلة التي أراد أجبر نفسه على معانقتها، ولا الأساس الذي تساند على الباب المُغلق، لا هذا ولا ذاك استطاع أن يمنحه سكينة روحه، أو أن يُبعده عن مصادر الفزع الذي يتهدده.
«علا الصوتُ وعلا، ارتج السقف والجدران. واهتز السرير من تحته. جرى ـ بتلقائية ـ ناحية الباب، امتدت يداه كأنه يتقي سقوط النافذة. التف حول نفسه وتضاءل وانكمش. حاصرته الوحدة فبكى، أطلق صيحة فزع لمّا تهاوى الأثاث وراء النافذة، وأطلّ المجهول ـ في الظلام ـ بنظرات ثابتة»( ).
إن انسحاب البطل لم يمنع من مجيء العدو إليه في عقر داره، ولهذا لا بد من المقاومة، والتأكيد على أن انتظار الآتي عمل إيجابي، يستدعي اليقظة ومواجهة العدو.
*ومن قصصه التي تنتظر الآتي قصة «الأفق» من مجموعة «رسالة السهم الذي لا يُخطئ»، وتتحدّث عن شخص قد تقتحمه العين ولا تأبه به ـ وهو يمثل بطلاً من أفراد الشعب العاديين ـ لا يمل من تكرار صيحته التي عُرف بها، وهي: «متى يأتي المد ؟» .
وتبدأ القصة بالإشارة إلى البطل والمكان:
« الصيحة التي أطلقها الرجل، حين وقف على الصخرة الناتئة، الصغيرة، في ساحل الأنفوشي، قبالة شارع الحجاري، ذكرتنا بقدومه إلى المكان للمرة الأولى ..
لم نكن رأيناه من قبل على الشاطئ ، ولا في شوارع بحري أو قهاويه أو مساجده. قامته الطويلة، ورأسه المفلفل الشعر، وعيناه الواسعتان، الحادتان، تظللهما رموش دائمة الارتجاف، وأنفه الكبير المستقيم. يرتدى قميصاً أحمر، وبنطلوناً شمره إلى ما تحت الركبتين، فبدت ساقاه نحيلتين طويلتين كصاري مركب، وحذاء من الكاوتش ..
ـ متى يأتي المد ؟ »( ).
وتمر أيام وشهور وسنون، وتتغيّر الفصول ومازال هذا الرجل لا يُفارقه حلمه بأن يأتي المد، وتنتهي القصة بهذه الفقرة:
« ألفنا وقفته، فلم نعد نطيل تأمل تصرفاته، ولم تعد تثير انتباهنا. ركب الرجال البحر، ينطلقون إلى الصيد، ويعودون، وامتلأت الكراسي وعلت النداءات والصيحات في القهاوي المقابلة للموضع الذي وقف فيه الرجل، وانشغل الأولاد بلعب الكرة ومتابعة تحليق الطائرات الورقية، وعادت حلقات الذكر وقراءة البردة إلى صحن البوصيري، وتقاطر النسوة على الأضرحة ... وازدحمت حلقة السمك بالطبالى والفصال، وصف الباعة عرباتهم أمام متحف الأحياء المائية وقلعة قايتباي يبيعون الآثار المقلدة، وأقيمت سرادقات العزاء، ودارت مواكب الأعراس أمام جامع أبو العباس، وارتفعت الأعلام والبشاير في الجلوات والموالد، وأغلقت الأبواب والنوافذ اتقاء برد الشتاء وحرارة الشمس، وفتحت المصاريع لاستقبال النسائم القادمة من البحر، وصرت عجلات الترام في انحناءة الطريق إلى الأنفوشي ..
عدنا إلى ما كنا نحياه ..
ظل الرجل ـ وحده ـ في وقفته، يطيل النظر إلى الأفق، ويشير بيديه إلى توهج الشمس، وانهمار المطر، وهبوب النوات، واستواء الأمواج، ويصيخ السمع إلى ما لم نكن نتبينه، ويتحدث ـ في صوت متعب كالحشرجة ـ عن الجزر الذي لا بد أن ينتهي .. والمد الذي لا بد أن يأتي .. لابد .. أن .. يأتي .. »( ).
والقصة أنشودة جميلة عن الحالمين بالغد الذي لا بد أن يأتي بالخير والعدل والسعادة، حتى بعد أن يمل الآخرون من ضعاف الهمة وقليلي العزيمة، وينطلقون يعيشون حياتهم الوقتية التي تعوّدوا عليها.
*وفي قصة «سوق العيد» (من مجموعة التي تحمل العنوان نفسه) نرى الطفل ينتظر الثورة، ويتمثل ذلك في رؤيته علي الزيبق (البطل الشعبي، ورمز الجماهير) يتمرد ـ في صندوق الدنيا ـ ويضرب الكلبي (ممثل السلطة):
«في لحظة أو أقل، بدا لي أن الصورة أمامي تتحرك. علي الزيبق قيَّد الكلبي مقدم الشرطة، وانهال عليه بعصا رفيعة. لم تعد العصا كما كانت، لكنها لامست الجسم بقوة وعلت..
فركتُ عيني، وأعدتُ النظر» ( ).
إنها رؤية تشي بقدرة الشعب على عمل شيء في موجهة السلطة، وبخاصة إذا كانت تظلم الشعب، ولا تقوم بحقوقه.
5-القاع الاجتماعي
اهتم الأدب الحديث بتصوير القاع الاجتماعي، وقصص المستضعفين في الأرض، ومنذ بداية الحرب العالمية الثانية أصبح "الهم الاقتصادي" قضية عملية وفكرية لا تقل أهمية عن مطلب التحرر السياسي من الاستعمار"( )، وقد برز هذا الهم الاجتماعي في كتابات المفكرين والأدباء والصحفيين.
وعلى سبيل المثال، فإن مجلة "الرسالة" التي مثلت اتجاهاً معتدلا، وغلب على صاحبها أحمد حسن الزيات الاهتمام الأدبي والبلاغي، نجد افتتاحياتها التي كتبها الزيات تتناول القضية الاجتماعية، وتثيرها بصورة متواترة وملحة تعبيرا عن ذلك المناخ المسيطر على المرحلة، فمن بين (93) مقاله كتبها الزيات بين يناير 1939م ومارس 1944م نجد حوالي ثلاثين مقالة تتناول المشكلة الاجتماعية، وبالذات مشكلات الفقر والغنى وطرق مكافحة الفاقة"( )، "ونجد له العناوين التالية "بين الفقر والغنى"، "ضحية من هذا ؟"، "عيد الفقير"، "كيف نعالج الفقر" ، "الطفولة المعذبة"، "غنى فقير"، "منطق الغنى"، "اقتلوا الجوع تقتلوا الحرب"، "فلاحون وأمراء"، "هل لأغنيائنا وطن؟"، "منهاج لوزارة الشئون الاجتماعية 000 الخ"( ).
وهناك العديد من قصص جبريل التي تتناول القاع الاجتماعي، منها قصة «يا سلام ..» التي تتناول شخصية أحد المهمشين الفقراء ، الذي لا يجد مكاناً يبيت فيه، ويُريح جسده فيه من عناء تعب النهار، وتبدأ القصة على لسان السّارد:
«تناهى صوته إلى أذني، وهو يكلم نفسه قائلاً في همس:
ـ وبعدين؟ .. أنا رايح فين دلوقت؟ .. ياه .. أنا تعبان قوي .. عاوز أنام .. آه .. عاوز أنام.
لفت كلامه نظري .. فأنا مثله شريد، ورجلاي مُتعبتان، والليل طويل طويل، وما تزال سـاعات حتى يؤذن للفجر، فأتسلّل ـ كعادتي إلى أقرب مسجد، وأكور نفسي تحت أحد أعمدته، وأنام»( ).
ويصف القاص هذا البائس الفقير بقوله:
«كان شيخاً عجوزاً كقنديل فرغ الزيت منه .. وعشرات الكيزان المعلقة في حبل غليظ حول عنقه، وخطواته البطيئة المتسكعة، وصوته الواهن البائس .. كل ذلك أثار في نفسي إحساساً دافقاً بالشفقة، وأنه ـ حقيقة ـ في حاجة إلى النوم»( ).
ويُطارده مخبر، ويدور بينهما هذا الحوار:
«ـ على فين؟
ـ على باب الله ..
ـ بالليالي؟ ..
ـ أعمل إيه؟ ..
ـ مالكش بيت؟
ـ كان! ..
ـ منين يا راجل؟
ـ من دمياط ..
ـ وإيه اللي جابك هنا؟
ـ أمر الله ..
ـ طب شوف لك حتة نام فيها .. بدل مشيك في الشوارع» ( ).
ويحس السارد بإشفاق وحب لهذا الرجل:
«أحسست نحو الرجل بإشفاق غريب .. وأحببتُه كأنه أبي» ( ).
ويقترب منه السارد ويتوحّد به في مأساته، لأنه ضائع مثله، ويكشف هذا الجزء الأخير من القصة.
(يتبع)

د. حسين علي محمد
19-11-2006, 06:12 PM
الفصل الثاني
الــدراسة الفنيـــــــة
.......................

يتحدث محمد جبريل في الحوارات التي أجريت معه عن استفادة الفنون من بعضها، ويتساءل في أحد الحوارات: "لماذا لا يُثري الفنان قصته أو روايته بإسهامات الفنون الأخرى، وبما تملكه الفنون الأخرى من خصائص جمالية وتكنيكية، وبما تمنحه للفن الروائي من أبعاد جديدة؟"( ).
وستناول هنا بعض الجماليات التي تشيع في قصص محمد جبريل القصيرة، وهي:
1-الوصف
2-الحوار.
3-الرمز.
4-جمالية المكان.
5-الشخصيات.
6-التكثيف.
7-الغرائبية.
***
1-الوصف:
يقوم الوصف بدور بنائي ـ لا يُغفَل ـ في قصص محمد جبريل القصيرة، فهو يرسم الإطار الذي تدور فيه الأحداث، أو يُساعد على تطوير الأحداث، والصعود بها إلى ذروتها، أو يصور شخصيات أبطال قصصه، أو يُضفي عليها ملامح خاصة يُريد لها أن تُفيد في رسم أحداث القصة وتطورها.
فمن رسمه للإطار الذي تدور فيه الأحداث قوله في مقطع «السمسار» من قصة «تلك اللحظة من حياة العالم» في وصف الزقاق الذي سيسكن فيه العروسان، لأنه المتاح فقط حسب إمكاناتهما المادية:
«أعادت النظر إلى ما حولها بعينين تنطقان بخيبة الأمل ..
الزقاق ضيق مسدود، على جانبيه أربعة بيوت، وحلاق، وبقال، وقهوة صغيرة، وعيال كثيرون يلعبون النحلة والبلي، وصوت الزهر على صفحة الطاولة، وضحكة رفيعة ممطوطة، وسعال أجش متقطع، وثدي ناضج غابت حلمته في شفتي رضيع، وقطان يُمارسان الحب، وأطفال ينظرون في بلاهة مشدودين، ورائحة غامضة، ومناشر غسيل، وذباب وطين ..» ( ).
فهذا الوصف من خلال عيني الفتاة يُرينا صورة وصفية لما ستؤول إليه حالها إذا سكنت في هذا الزقاق. فالزقاق الضيق المسدود يشي بالطبقة الفقيرة ـ من القاع الاجتماعي ـ التي تسكن فيه، والأطفال الذين يلعبون البلية والنحل يكشفون عن مستوى اجتماعي متدن أقرب إلى القرى، أو الطبقات التي تعيش على هامش المدينة، وكذلك الرائحة الغامضة، ومناشر الغسيل، والذباب والطين ..
ومن رسمه للإطار الذي تدور فيه الأحداث قوله في قصة «لحظات التلاشي» من مجموعة «رسالة السهم الذي لا يُخطئ»:
«الشوارع ـ في نهايات الميدان ـ خالية من الناس ، والدكاكين أغلقت أبوابها، والنوافذ المفتوحة كشفت ما بداخلها من أثاث لم يأخذه أصحابه. العربة التي تمتلئ بالناس والحقائب واللفائف تمضى في الشارع ـ على يمين الميدان. تلوِّح الأيدي داخلها بفتور، أو تتقلص الملامح بالحزن، فتبكي، وثمة دبابات وعربات، فوقها وحولها جنود، تقف في نواصي التقاء الميدان بالشوارع المتفرعة عنه ..» ( ).
فهو هنا يرسم إطاراً لتهجير المواطنين من الإسماعيلية بعد هزيمة حرب يونيو 1967م، وأثناء حرب الاستنزاف.
وقد كان وصفه دقيقاً، فبدأ بمظهر الحياة في الشوارع، التي تكشف عن الحياة في المدينة، وبيَّن أنها خالية من الناس، ثم أشار إلى المحال التجارية «الدكاكين»، وأشار إلى النوافذ المفتوحة التي تشي بما فعلته الحرب في الإسماعيلية ـ حيث هجر الناسُ بيوتهم وتركوا أثاثهم، ثم صور المهاجرين في الفوج الأخير في داخل عربة تمتلئ بهم، حيثُ « تلوِّح الأيدي داخلها بفتور، أو تتقلص الملامح بالحزن ، فتبكي».
ولا ينسى أن يُشير إلى مظهر من مظاهر الحرب «ثمة دبابات وعربات، فوقها وحولها جنود، تقف في نواصي التقاء الميدان بالشوارع المتفرعة عنه».
والوصف في مجمله دقيق، ويرسم إطاراً للقصة التي تدور أحداثها عن الحرب، والتهجير.
ومن رسمه للإطار أيضاً في القصة نفسها قوله عن مشاهد المدينة كما رآها البطل وهو يُغادرها:
« أطال التحديق في واجهات البيوت، يحفر ملامحها في ذهنه. يريد أن يأخذها معه إلى حيث تذهب السيارات ..
تكومت أمام البيوت ولصق الجدران وعلى الرصيف حقائب كبيرة وصناديق صغيرة وكبيرة وأجولة وأقفاص طيور وصرر ومراتب وحصر مطوية ومقشات وقفف وتنكات ماء. تدلت أسلاك على الحوائط بعد أن انتزع من الأسطح ما كانت تتصل به. تصاعدت روائح مختلفة: بخور وبقايا أسماك وتقلية وغسيل واحتراق أشياء، وثمة نسوة أطلت رءوسهن من النوافذ والشرفات، وتعالى اللغط، فتداخلت الأصوات. بدت غير واضحة. وزادت حركة الأولاد في الساحة الترابية ...»( ).
ونلاحظ أنه في تصويره للإطار الذي تدور فيه الأحداث يُعنى برسم المكان، في تصوير دقيق، لا يكاد يترك شيئاً، وهو بهذا الوصف يجعل الحدث في القصة أكثر تأثيراً، لأنه ينقله من دائرة العموم إلى دائرة الخصوص، ولا بأس هنا من أن يهتم بتفاصيل المكان التي تُعطي الحدث خصوصيته التي يتميَّز بها.
ونُطالع ذلك في قصته «أصداء باهتة» التي تصور لقاء بين محبين قديمين (هما «عايدة» و«أمير»)، مرّ على حبهما عشرون عاماً، فتزوّجت المرأة وصار لها أولاد في الجامعة، وهاهو الرجل يلتقي بها بعد عقدين من الزمان. وتبدأ القصة هكذا:
«لمحها في الموضع الذي اتفقا على أن تنتظره فيه. على ناصية الطريق المفضي إلى شارع الباب الأخضر. تأكدت صورتها في اقتراب السيارة: القامة الضئيلة، المنسجمة التكوين، والشعر المهوش حول الوجه المستدير، والبشرة السمراء، الرائقة، والعينان الواسعتان، المكحولتان، والغمازتان على الوجنتين، والشفة السفلى الممتلئة. أضافت بمرود الكحل خالاً صغيراً على خدها ..
عبر مفاجأة السنوات العشرين بما رسمته من تغير في الملامح، حين التقى بها أول الأسبوع. أعاد النظر ليتأكد من صاحبة الضحكة الطويلة، الممطوطة:
ـ عايدة ؟..
ـ أمير ؟!..
مد يده يصافحها. استبقى يدها في يده:
ـ مضى عمر ..
اختصرت الأعوام في قولها:
ـ أصبحت أماً لأولاد في الجامعة ..
أعاد القول :
ـ أولاد ..
ـ الولدان في الجامعة .. والبنت في الثانوية العامة ..
ابتدرته متسائلة :
ـ وأنت ؟..
هز كتفيه ، ومط شفته السفلى :
ـ تأخرت حتى أصبحت فكرة الزواج سخيفة ..» ( ).
*ويُساعد الوصف على «اكتشاف أشياء لم تكن معروفة من قبل، تُساعد على تطوير الأحداث» ( ).، وهذا ما نجده في قصة «اكتمال الدائرة» من مجموعة «رسالة السهم الذي لا يُخطئ»، فالسارد في رحلة للكويت، في فندق ويجد شاباً مُطارداً بتهمة ثأر يقول إنه لم يرتكبها، ويقول للسارد: « سأحاول ألا أنام .. وإذا ألح النوم فربما اضطررت لإيقاظك للسهر بدلاً منى ..» ( ) .
والسارد يستلقي على ظهره، وهو يصف الاثنتي عشرة ساعة الأخيرة وهو في طريقه من القاهرة إلى الكويت، وكأنه يقول : لماذا الثأر الشخصي ومعاناة أمتنا كبيرة؟. يقول:
« استلقيت على ظهري، وأسندت رأسي إلى تشابك الأصابع. واستلقى على ظهره، وأسند رأسه إلى تشابك أصابعه. عاود الكلام عن هواجسه، وحدثته عن الإثنتى عشرة ساعة التي أمضيتها في بيروت. لم أقصد وجهة. راقصت الأشباح في القصور المهجورة، وتأملت البيوت المهشمة الأبواب والنوافذ، وغادرت سينما سارولا بشارع الحمراء حين أضئ النور والمرأة تنهال بسوطها على جسد الرجـل، وتبادلت القبلات مع المطلين من قضبان سجن الرملة، وقرأت على صـدر ميشيل عفلق: حرية، اشتراكية، وحدة، وصفقت لعبد الناصر وهو يعلن تأميم القناة، وتعثـرت خطواتي في الزي الشيعي الأسود، وقرأت التعبيـرات التي غطت بها ثقوب الرصاص واجهات المنازل، وقفزت الفاصل بين جبهتي القتال في شارع الشيـاخ، وأجهدني البحث فيما لم أتبينه في سوق سرسق، وسوق الطويلة، وسرت فوق حبال مدها جنود الجيش السوري في تقاطعات شارع الفكهاني ، وحذرني الشيخ من نهر بيروت، فمياهه لا تصلح للشـرب، وأغمضت عيني ـ في كازينو لبنان ـ لصوت فيروز : باحبك يا لبنان ، وكتمت الرغبة والدهشة والاكتشاف ، وخضت في مناقشات قهاوى الويمبى وعروس البحر والشى أندريه والروضة ، وابتلعت ملايين الكلمات من الصحف في الأكشـاك ، والملصقات على الجدران، ولافتات القماش المتصلة بين الشرفات وأعمدة النور .. »( ).
وكأنه يقول له إن مشاهداتي الكثيرة هذه تخبرني أن كل شيء قبض الريح، فماذا الثأر، ولماذا التعارك فيما بيننا، وواقعنا على هذا الحال؟
*ويُساعد الوصف على الصعود بالأحداث إلى ذروتها، كما نجد في هذا المشهد من قصة «حدث استثنائي في أيام الأنفوشي»، حيث بدأ يعي الناس تأثير السمّان السلبي على حياتهم:
«لم يعد في الأمر ما يُريب، استفاد الناس من حياة السمّان بصورة مؤكّدة: النظام، والهدوء وحب العمل، والكسب، والميل إلى عدم السهر. لكن شيئاً مُقلقاً تحرّك في النفوس وتصاعد بالهمس، أثاره الملل والمخاوف والأسئلة. لاحظ الناس أنهم لم يعودوا يتصرّفون بمثل ما اعتادوا، وتنبَّهوا ـ وإن كان متأخِّراً ـ إلى ملايين الأعين والأنفاس القريبة، والمُقاسمة في المكان ـ مهما كان شخصيا ـ خلت التصرفات من العفوية التي كانت سمةَ أيامهم السابقة. بدا لهم استمرار الوضع ـ بصورته الحالية ـ غايةً في الصعوبة» ( ).
ومن ثم كان المشهد الوصفي السابق تمهيداً للقرار الذي يجب على سكان الأنفوشي أن يتخذوه، وهو وجوب المُقاومة:
«بدا لهم استمرار الوضع ـ بصورته الحالية ـ غايةً في الصعوبة .. تهامسوا .. وعقدوا الجلسات السرية .. وتبيّن لهم ـ بعد نقاش طويل ـ أن السكوت عن المقاومة ـ رغم كل شيء ـ طريق إلى الجنون» ( ).
*ويقوم الوصف بتصوير شخصيات القصص كما نرى في القصة السابقة، حيث يصور تمسك العجوز «فاطمة» بالبقاء في بيتها وعدم مغادرته، وأنها رفضت أن تترك الإسماعيلية لتقيم مع أصغر أبنائها في بور سعيد، وأنها تزور أولادها المتزوجين في زيارات متباعدة سرعان ما تعود بعدها للإقامة في الإسماعيلية. وكأنه يوحي بأنها متشبثة بالأرض، وأن الحرب وحدها ـ والتهجير التالي لها ـ هو ما دفعها إلى ترك موطنها.
وقد قدّم ذلك في الصورة الوصفية التالية:
« كانت العجوز فاطمة قد لمت حاجاتها في صرة، أسندتها لصق جدار القهوة الخالية من الرواد، وعلت شتائمها للأولاد الذين ملأوا الساحة بألعابهم وزياطهم. بدا الأمل في عينيها الدامعتين بأن يتأخر الرحيل ..
حين تزوج أصغر أبنائها، رفضت أن تنتقل معه إلى بور سعيد. اكتفت بزيارات متباعدة إليه، وإلى أبنائها في الزقازيق وبنها والقاهرة. يعودون بأبنائهم في عيدي الفطر والأَضحى. تسعد باللمة، وإن أعلنت ـ لدرء الحسد ـ ضيقها من ألعاب الصغار وزياطهم. يلاحقها أبناؤها بتوسلات، فلا تسلم نفسها للبكاء وهم يعدون حقائبهم للرحيل ..» ( ).
وقد يكتفي بتصوير الشخصيات من الخارج كما فعل مع الشخصيات الإسرائيلية الثلاث التي عادت لتزور الإسكندرية بعد أربعين عاماً من مُغادرتها، في قصة «حلاوة الوقت»:
«رجل في حوالي الستين، يميل إلى البدانة. أطال شعر فوديه وقفاه ليوائم صلع رأسه. يرتدى قميصاً من الجينز ، وعلق الجاكت على إصبعه المستند إلى كتفه، وامرأتان في عقدهما السادس، أولاهما نحيلة، وإن تناسق تكوينها، ذات بشرة سمراء اصطبغت بلون نحاسي، وعينين سوداوين، زججتهما بالكحل. ترتدى بلوزة حمراء، وجونلة رمادية تنتهي عند الركبتين، وتتدلى على صدرها سلسلة ذهبية. وفى قدميها حذاء من الكاوتش. الثانية ممتلئة، تداخل عنقها بين كتفيها، عيناها ساجيتان، كعيني قط سيامي، ووجهها يخلو من التزويق، وثمة تقاطعات من العروق الزرقاء تحت البشرة. ترتدي جلباباً قطنياً أبيض، مشغولاً بخرج النجف والترتر والخرز الملون، وصندلاً متقاطع السيور ..
قال الرجل :
ـ نحن من بحري .. لكننا عدنا إلى بلادنا بعد أربعين عاماً ..» ( ) .
وأحيانا يكتفي بتصوير الشخصية من الخارج في وصف سريع، كما فعل مع شخصية البطل في قصة «يا سلام» من مجموعة «تلك اللحظة».
يقول السّارد:
«كان شيخاً عجوزاً كقنديل فرغ الزيت منه .. وعشرات الكيزان المعلقة في حبل غليظ حول عنقه، وخطواته البطيئة المتسكعة، وصوته الواهن البائس .. كل ذلك أثار في نفسي إحساساً دافقاً بالشفقة، وأنه ـ حقيقة ـ في حاجة إلى النوم»( ).
ويقوم وصف الشخصية بدور كبير في مزج الشخصية بالحدث والمكان، حتى نحس أن هذا الحدث وهذا المكان امتزجا بالشخص، فصار الثلاثة شيئاً واحداً، وهذا ما نُلاحظه في عدد كبير من قصصه، ومنها قصة «الأفق» في مجموعة «رسالة السهم الذي لا يُخطئ».
فالبطل مجذوب إلى البحر، وحلمه الذي يملك عليه حياته ـ وهو بالتالي مقولة القصة الرئيسة وهاجسها الأساس «متى يأتي المد» يطرحه البطل في بداية النص، ويُجيب عليه ـ رغم تغير الأزمان والشخوص وكر السنوات ـ «لا بد أن يأتي»( ).
فهو يقدم شخصية البطل ـ الذي بلا اسم ـ هكذا:
«لم نكن رأيناه من قبل على الشاطئ، ولا في شوارع بحري أو قهاويه أو مساجده. قامته الطويلة، ورأسه المفلفل الشعر، وعيناه الواسعتان، الحادتان، تظللهما رموش دائمة الارتجاف، وأنفه الكبير المستقيم. يرتدى قميصاً أحمر، وبنطلوناً شمره إلى ما تحت الركبتين، فبدت ساقاه نحيلتين طويلتين كصاري مركب، وحذاء من الكاوتش ..
ـ متى يأتي المد ؟ » ( ).
وكل كلمة في الوصف تقوم بدورها البنائي في السرد فـ « قامته الطويلة، ورأسه المفلفل الشعر، وعيناه الواسعتان، الحادتان، تظللهما رموش دائمة الارتجاف، وأنفه الكبير المستقيم» تُرينا أن ملامحه معتادة، ولكن قامته الطويلة وعينيه الواسعتين تميزانه، وكأنه «زرقاء اليمامة» القادرة على رؤية المستقبل، وقل مثل ذلك عن «يرتدى قميصاً أحمر، وبنطلوناً شمره إلى ما تحت الركبتين» مما يشي بأنه من الطبقة الكادحة التي تجتهد في عملها حتى تستطيع العيش، وفي «بدت ساقاه نحيلتين طويلتين كصاري مركب» ما يشي بأنه كادح فقير، ليس من الطبقة المترفة.
ويصفه في فقرة ثانية بإصراره على الحلم ـ إن صح هذا التعبير ـ فهو ينتظر المد يأتي، ولا يشغله عـنه شاغل، وهو هنا يقدِّم شخصية طموحاً، مصـرة عـلى طموحها، وحلمها، وهو ما يخدم بناء القصة في تقديم شخصية البطل ذي القضية وذي الرؤية المحددة التي لا يشغله عنها شاغل:
«كان يراقب الأمواج في تدافعها نحو الشاطئ، ثم انحسارها، تخلف وراءها مساحات غير مستوية من الرمل المزبد، وبقايا الأشياء. يفاجئنا بالصياح، لا يشغله تبدد صوته في هدير الأمواج، وارتطامها بالمكعبات الأسمنتية ..
وكان يشبك يديه خلف ظهره، يرنو إلى الصخرة في نهاية الأفق، وإلى البلانسات والفلايك والجنادل والقلوع والأشرعة. ربما اتجهت عيناه إلى موضع غير مرئي في الأفق البعيد، وثمة أصوات قريبة لنوارس ..
وحين يبتلع الظلام مدى البحر، يظل في وقفته. لا مرئيات، سوى نقاط ضوء متباعدة ، ورائحة البحر، وهدير الأمواج في اندفاعها نحو الرمال. وكانت بشرته قد اكتست لوناً بنياً غامقاً، وجفافاً، بتأثير الشمس وملوحة البحر .. »( ).
إننا نجد المكان هنا (الإسكندرية) في الصخرة في نهاية الأفق ـ البلانسات ـ الفلايك ـ الجنادل والقلوع والأشرعة ـ رائحة البحر ـ هدير الأمواج في اندفاعها نحو الرمال.
إنه يظل في موقفه على البحر، رغم حلول الظلام، وهاهو المكان يؤثر فيه حيث نرى بشرته تتغيَّر بتأثير الشمس وملوحة البحر، ولكنه مصمم على حلمه.
وقد نجح الوصف في تقديم الشخصية من خلال الوصف ذي الأبعاد الثلاثة: للشخصية، والحدث، والمكان، وتآزر الوصف مع العناصر الفنية الأخرى ليقدم لنا نصا معبراً عن الشخصية المصرية التي لا تكف عن الحلم رغم المثبطات والمُجهضات.
*وقد يُستخدم الوصف لوصف تحوّل أصاب الشخصية، كما في قصة «امتدادات» حيث تهدد الزوجة بترك البيت، وتطلب من زوجها أن يُرسل لها ورقة الطلاق، والرجل يُناشدها «أنا مريض فاعذريني» ( ). ويجيء الوصف ليكشف لنا ـ على لسان الابن / السارد ـ التحولات التي أصابت الأب:
«لم يعد ذلك الصوت الآمر .. صار أقرب إلى التذلل .. ومضت في ذاكرتي صورة أبي التي كانت: القامة الطويلة، الرأس الذي غزا الشيب معظمه، وإن ظل شعره على كثافته، والجبهة العريضة البارزة، والعروق النافرة في رقبته، شعيرات زرقاء تداخلت وتشابكت في البشرة البيضاء، والشارب الكث ينسدل على الشفة السفلى وجانب الفم. إذا غادر البيت يحرص على البدلة الكاملة، والياقة المنشاة، والكرافتة، والطربوش. وإن ارتدى في جلسته جلابية زرقاء، اتسخت ببقع القهوة، لها فتحة في الصدر، يبرز منها فانلة تآكل أعلاها، ودس قدميه في شبشب من البلاستيك» ( ).
ويستخدم الوصف لماضي الشخصية كثيراً لإضاءة صفحات الحاضر، يقول في قصة «باب البحر»، التي تدور أحداثها في ليبيا عن شخص مهاجر يستقبل خاله بعد غياب طويل:
(يتبع)

د. حسين علي محمد
19-11-2006, 06:13 PM
«ومض في الذاكرة نثار مما رواه لـه: ساقاه المتدليتان على كتفي أبيه يشاهدان مواكب الطرق الصوفية في شارع الأباصيرى. تلاقى أذان العصر في الجوامع والزوايا الصغيرة. هياكل البلانسات الخشبية، ومد الموج يرتطم بالمكعبات الأسمنتية أسفل الكورنيش الحجري، وأفق البحر، ورائحة ملوحة الماء واليود والطحالب والأعشاب. خطوات أمه المتسارعة إلى مقابر العامود صباح الطلعة الرجبية. تصاعد الكره لقول خاله وهم يلتفون حول الطبلية: إنه لا يصوم، فلماذا توقظوه للسحور ؟.. أصوات النرد والدومينو والنداءات والصيحات تترامى من القهوة أسفل البيت. صياحه مع التلاميذ في خروجهم من المدرسة وبأيديهم المصاحف والأقلام والألواح والكراريس والدوي. تطلعه من النافذة المواربة إلى غياب أبيه في انحناءة الشارع العمومي. بكاء أمه المفاجئ في وقفتها ـ وأخواله ـ وراء الحاجز الحديدي ، وهو يمضى إلى داخل المطار ..» ( ).
وهذا الوصف الصادق يجعلنا نتذكّر ما كان يراه نقاد الواقعية من "أن الأدب الصحيح هو الأدب الواقعي البعيد عن المثاليات المرتبط بأرضه، المصور للفترة التي عاشها الكاتب، والنابع من وجهة إنسانية سليمة بحيث يكون دافعاً إلى تحرير الإنسان، داعياً إلى السلام والمحبة والإخاء، وكل ما هو شريف ونظيف في الحياة"( ).
***
2-الحوار( ):
وهو جزء لا يتجزأ من نسيج القصة عند محمد جبريل، وقد عمد القاص إليه ليعرض به فكرة أو حدثاً، أو ينمي به الحدث ويطوره ، أو يرسم به شخصية ، وكان وسيلة لاستهلال بعض القصص، مثل قصة «السمّان لا يُطارد نفسه» من مجموعة «انعكاسات الأيام العصيبة»، وقصة «امتدادات» من مجموعة «انفراجة الباب»، وقصة «المحتسب» من مجموعة «حكايات وهوامش من حياة المبتلى».
وتبدأ قصة «السمّان لا يُطارد نفسه» هكذا:
«التمعت عيناها ببريق التذكر، وقالت في مودة:
ـ هذا أنت؟! ..
قال ويداه تهبطان بالحقيبتين إلى الأرض:
ـ تسعة أعوام وربما عشرة .. أليس كذلك؟ ..
سوّت ـ بلا وعي ـ خصلة الشعر المتهدِّلة على عينها:
تقريباً كانت أياماً طيبة ..
أشارت إلى الخادم، وقالت:
ـ غرفة أربعة.
حمل الخادم الحقيبتين، واتجه إلى السلم ..
اتسعت ابتسامتها حتى ضاقت عيناها:
ـ نفس الغرفة القديمة ..
أضاف في تأكيد:
ـ التي تطل على السوق ..
ـ نعم، لم يتغيَّر شيء»( ).
وتبدأ قصة «امتدادات» بداية حادة، نعرف منها أن الأسرة على وشك الانهيار، فالزوجة تريد أن تترك البيت، والزوج مريض:
«قالت أمي:
ـ أنت لن تظل تُدير البيت طول العمر ..
قال أبي:
ـ مادُمتُ أحيا فأنا سيد البيت ..
ـ لكنك تكتفي بكتم أنفاسنا ..
غلّف أخي نبيل جدّية نبراته بابتسامة:
ـ لقد كبرتُ ومن حقي أحصل على الفُرصة ..
اتجه أبي إلى أمي بنظرات متسائلة:
ـ ماذا ينقصُك؟ ..
أشارت بيدها إلى ما حولها:
ـ كل شيء .. لازلتُ صغيرة، وأحتاجُ إلى الكثير الذي لا تفهمه ..
ـ وأولادك؟ ..
ـ سأصحبهم معي ..
ـ وأظلُّ بمفردي؟ ..
ـ أكّد الطبيب استحالة شفائك .. فهل أقضي ما تبقّى من عمري في تمريضك»( ).
ومثل قصة «المحتسب» من مجموعة «حكايات وهوامش من حياة المبتلى»، حيث نجد في مطلعها:
«قال السلطان لمحتسب العاصمة:
ـ لماذا الضرائب والمكوس على حالها، منذ أعوام، دون زيادة؟
قال المحتسب:
ـ نحن نأخذ من كل الناس ما عليهم .. لا نُفلت أحداً ..
ـ فلماذا لا تزيد قيمة الضرائب؟
ـ ضجّ الناس من آخر زيادة .. فصدرت توجيهاتكم بإلغائها ..
أطل من عيني السلطان غضب:
ـ الطبيب الشاطر لا يُؤلم مريضه»( ).
وقد تشتمل القصة القصيرة عند محمد جبريل على حوار قليل، وقد لا تشتمل على أي حوار. وإذا وُجِد الحوار فإنه يكون جزءاً من بنائها العضوي، ويكون عاملاً من عوامل الكشف عن أبعاد الشخصية، أو التطور بالحدث، أو تجلية غموض يكتنف الشخصية أو الفكرة المُراد التعبير عنها.
ومن القصص التي يقوم الحوار فيها بدور محوري قصة "الرائحة" من مجموعة «هل؟!»، وهي تلك القصة التي تتناول محاولات تشويه الشخصيات الوطنية وإلقاء الشكوك على الزعماء الوطنيين على امتداد تاريخنا الحديث، وبطلها مؤرخ لا يُوافق على ما يراه يملأ الساحة من تيارات لا تلتزم الموضوعية فيما تكتب أو تقول.
يقول السّارد على لسان المؤرِّخ عن تلك الرائحة التي يعاني منها: "طبيعتها الغامضة أشبه بتداخل الظلمة والأوراق النقدية ودورات المياه والحجرات المغلقة. تسري في الهواء، تتسلل إلى الأنف، تُضفي على النفس شعوراً بالانقباض والتوتر والخوف من المجهول الذي لا يدري مبعثه"( ).
ولكي يُرينا أن البطل فحسب هو الذي يُحس بتلك الرائحة، فإنه يجري حواراً بينه وبين زوجته:
"سأل زوجته:
ـ ألا تشمين الرائحة؟
قالت:
ـ ليست جديدة .. بائع الطعمية تحت البيت من قبل أن نسكن ..
ـ لا أعني تلك الرائحة .. إنها رائحة أخرى ..
تساءلت:
ـ هنا .. داخل الشقة؟ ..
في تأكيد:
ـ طبعاً .. طبعاً
ـ لكني كما تعلم أحرص على تنظيف الأرض جيداً بالديتول، وأرش في الأركان ـ بعد ذلك ـ عطراً طيب الرائحة ..
كأنه يحدث نفسه:
ـ هل هو ذلك العطر! ..
ـ إني أستعمله منذ سنوات ..
ـ فمن أين تأتي الرائحة إذن؟!
ـ لا أشم أية رائحة!"( ).
إنه يحس برائحة نفاذة وغير عادية تُطارده، ولكن زوجته لا تشم هذه الرائحة، ويكشف التساؤل " فمن أين تأتي الرائحة إذن؟!" عن حيرته، التي يُعمِّقها الحوار في الفقرة التالية بينه وبين زوجته:
سأل زوجته، وهو يسحب الغطاء على صدره:
ـ هل تُعانين من القلق؟ ..
توقف إصبعها على زر النور:
ـ أنا؟ ..
ـ أراكِ تُسرفين في تدخين السجائر ..
زوت ما بين حاجبيها:
ـ ينبغي أن أدخن السجائر أولاً .. لتصبح المشكلة بعد ذلك هي الإسراف في تدخينها! ..
ـ كأنك لا تُدخنين؟! ..
ـ طبعاً .."( ).
وكان من الطبيعي أن يذهب لطبيب ليعالجه من تلك الرائحة "الغامضة، المثيرة، التي يشعر لقوتها ـ أحياناً ـ كأنه يوشك على الإغماء.
"سأله الطبيب:
ـ ماذا تشم الآن؟
قال:
ـ رائحة العيادة .. أدوية ومطهرات ..
ـ ألا تشم تلك الرائحة التي تتحدث عنها؟ ..
ـ لا! ..
ـ فأين تُصادفك بالتحديد؟
ـ في نافذة البيت .. في الشارع .. في المكتب .. حاولت أن أصل إلى مصدرها، قلم أوفق! ..
أمال الطبيب رأسه. وضع قطرات في منخاريه، وانتظر قليلاَ:
ـ ماذا تشم الآن؟ ..
ـ رائحة هذه القطرة ..
ـ وتلك الرائحة؟ ..
ـ لا أشمها! ..
هز الطبيب رأسه في حيرة"( ).
إنَّ الحوار يكشف عن بشاعة مُطاردة الرائحة المُقلقة للسّارد / المؤرِّخ، الذي يشمُّ تلك الرّائحة في كلِّ مكان يتجه إليه. وتنتهي القصة بينما "تلفه الرائحة اللعينة، تُعمي عينيه، وتُضايق صدره، وتسري بتثاقل في رجليه"( ).
وإذا كان من صفات الحوار الجيد ـ كما يرى حسين القباني ـ أن «يُساعد على رسم شخصيات القصة، لأن الشخصية لا يُمكن أن تبدو كاملة الوضوح والحيوية إلا إذا «سمعها» القارئ وهي تتحدث»( )، فإننا نرى الحوار عند محمد جبريل يقوم بدور بنائي هام في الكشف عن معالم شخصيات قصصه، ويـتآزر مع الوصف في القيام بهذا الدور، ونجد ذلك في قصة «القرية التي عرفت الحب» من مجموعته «تلك اللحظة من حياة العالم»، حيث يدور حوار بين عبد المولى (الخفير) وعطوة (الذي تتهمه القرية بأنه سارق دون بينة):
يقول لعبد المولى وهو يرسم على وجهه ابتسامة طيبة:
ـ خذ سيجارة ..
يُطوِّح عبد المولى يده قائلاً ..
ـ لا أُحب مال السرقة! ..
ـ إذن .. تعال نلعب الطابة ..
في عصبية:
ـ لا أُريد.
ـ لأني أغلبك ..
ـ لأنك لص!
ـ هل رأيتني أسرق؟
ـ كنت قتلتك ..
ـ هل يملك أحدكم الدليل على أنني السارق؟( ) .
ويدور حوار بين عطوة وأبيه:
« ـ عطوة ..
ـ نعم يا أبي ..
ـ أريد .. أريد أن أعقد معك اتفاقاً
ـ إني ولدك يا أبي .. وخادمك ..
علا غضب الرجل على محاولته أن يهدأ:
ـ يا ابن الكلب .. من أين أتيت بهذا الأدب؟
ـ وهل عهدتني بلا أدب؟
ـ عهدتُك سارقاً ..
ـ تلك تهمة باطلة ..
ـ الواقع يؤكدها
ـ كيف؟ ..
ـ ساعة الجيب التي ورثتها من أبي، خلخال أمك التي قضت ثلاثة أيام لا تقرب الطعام حزناً على فقده، اللاسة الحريرية التي كانت مظهر وجاهتي الوحيد .. هه .. ماذا أقول؟ الساعة والخلخال واللاسة الحرير ... فماذا أقول؟
ـ إني منصت لك ..
ـ اعترافك يُسهِّل الاتفاق .. المسألة باختصار أني سأشتري منك كل ما تنوي سرقته .. والبيت أولى بأشيائه ..
ثم وهو يهتف في عصبية:
ـ ما رأيك؟
في مرارة:
ـ أوافقك يا أبي .. والآن أريد أن أبيع لك هذه الطبلية.
ـ لكننا نأكل عليها ..
ـ ألم نتفق؟ ..
ـ إذن سأُعطيك عشرة قروش.
ـ نصف جنيه لا ينقص مليما .. وإلا فسأبحث عن مشترٍ آخر »( ) .
إن الحوارين السابقين بين الخفير وعطوة، وبين الأخير وأبيه يكشفان أن القرية تتهمه بأن عطوة لص، وأنه وراء ما سُرق من أشياء في القرية. بل إن أباه يؤكد أنه سُرِقتْ أشياء من البيت. وقد نجح الكاتب في هذا الحوار أيما نجاح، فقد أقنعنا أن عطوة لص، حتى نكتشف المُفارقة في النهاية حينما يحمل عطوة بندقيته ليُطارد اللصوص والكلاب التي تتهدّد القرية، حتى يُعيد إليها الحب والأمان الذي افتقدته كثيراً.
وقد تعتمد بعض مقاطع قصصه على الحوار اعتماداً كاملاُ؛ فالمقطع الأخير من قصة "تلك اللحظة من حياة العالم" يحمل عنوان "الخطأ"، ويُشير إلى ما يُعاني منه العالم من كوارث، في حوار بين شخصيتين من شخصيات القصة، والوصف يحتل أقلَّ من سطرين، بينما يحتلُّ الحوار المقطع كاملاً، وهذا نصُّ المقطع:
"تساءل، وأصابعه تُدير مؤشِّر الرّاديو بعصبية:
ـ كم عددُ الضّحايا؟
ـ قُتِل أربعةَ عشرَ مدنيا .. وأُصيب ستة وعشرون ..
ـ ولكن .. كيف حدثَ ما حدث؟
ـ إذاعة سايجون أكّدت أنَّ القنابل أُلقيت بطريق الخطأ .. القرية ـ كما تعلم ـ تقع في أقصى الشمال من فيتنام الجنوبية ..
صادف موسيقى صاخبة .. فأدار مفتاح الصوت إلى أعلى مداه"( ).
إن البطل المُقاوم في قصة "تلك اللحظة من حياة العالم" يستمع إلى الإذاعة، ويتحاور مع صديقه حول مقاومة الفيتناميين التي تُواجه بشراسة حرب أمريكا، فنجد الموت يهبط بالمجّان ـ أو عن طريق الخطأ ـ على قرية تقع في أقصى الشمال من فيتنام الجنوبية. وكأنه يقول: إن الموت إذا كان يهبط على من لم يُقاوم أو يُحارب، فلا يجب أن يخشى منه من يُقاوم ويعيش حياته مُحارباً عمّا يعتقده.
وهكذا تآزر الحوار مع عناصر السرد الأخرى ليُثري القصة ويجعلها أكثر جمالاً واكتمالاً.
وفي آخر مجموعات محمد جبريل القصصية "رسالة السهم الذي لا يخطئ" نجده يعتمد في بناء قصصه على الحوار، بل إن بعض قصصه تكاد تكون حواراً من أولها إلى آخرها، ومنها أقصوصته "الحكايات الأخرى" وهذا نصُّها:
"فلما كانت الليلة الثانية بعد الألف ، قال شهريار :
- تركتني في الليلة الماضية ، دون أن تبدئي حكاية تعدين باستكمالها هذه الليلة ..
قالت شهرزاد :
ـ اعترفت بأبوتك لأبنائك الثلاثة ، ووهبتني الحياة .. فلم أعد بجاجة إلى الحكايات لترجئ ما كان ينتظرني ..
تلون صوته بحزن :
ـ هل انتهت حكاياتك يا شهرزاد ؟
قالت :
ـ كنت أبتعد بالخيال عن الواقع ..
أضافت وهي تتحسس الكلمات :
ـ أما الآن ، فإن الواقع هو ما يجب أن تقتصر عليه حكاياتنا ..
هتف في ضيق :
ـ ورحلات السندباد، وحسن البصري، ومريم الزنارية، والجارية تودد، وشمس النهار، والورد في الأكمام، وحاسب كريم الدين، وعلي الزيبق، وست الحسن، والملك عمر النعمان، ومدينة الأبنوس، وحكايات الخليفة هرون الرشيد .. هل انتهى ذلك كله ، بعد أن اعترفت بأبوتي لأبنائي ، ورفعت عقابي عنك ؟..
افتعلت ابتسامة في مواجهة التماع عينيه :
ـ منذ اليوم ، لا يشغلني مصير أبنائي ولا حياتي .. إنما تشغلني حكايات رعاياك التي لم أحدثك عنها ، ولا أحد حدثك عنها ..
هز رأسه بما يعني عدم الفهم :
ـ الرعية !؟.. وهل للرعية حكايات ؟!..
قالت شهرزاد :
ـ إنها تفوق في غرابتها كل ما رويته لك في الليالي الألف ..
ـ هل هي مثل حكايات طائر الرخ، وملكة الحيات، والمارد، والطير الأسود، ووادي الوحوش، وشواهي ذات الدواهي، ودليلة المحتالة، وزينب النصابة، وبحار المهلكات، والعفريت جرجريس، وملوك الجان ؟..
ـ إنهم بشر .. يظلون بشراً .. لكن حياتهم لا تفترق عما يحياه الحيوان والنبات والجماد ..
اعتدل شهريار في جلسته ، ومال بأعلى جسده :
ـ فارو لي .. "( ).
إن الحوار يكشف في هذا النص عن مسؤولية القاص الجديد في عصرنا، وأنه لا ينبغي ـ ولا يجب عليه ـ أن يحكي القصص الخيالية، وإنما عليه أن ينظر حوله ليجد الواقع أكثر غرابةً من الخيال، وإن عليه أن يقدِّم صوت البشر المقهورين في إبداعه القصصي.
وهو يقدِّم في هذه القصة "شهر زاد" في صورة جديدة في الإبداع العربي المٌعاصر، صورة المرأة المهمومة بهموم الشعب، والتي تعرف عن معاناته ما لا يعرف زوجها الحاكم "شهريار"، وتعرف عن حكايات الشعب الغريبة وغير المألوفة ما تفوق في غرابتها كل ما روته "شهر زاد" القديمة، في حكاياتها الألف لشهريارها.
وهو هنا يقدم صورة غير مألوفة لشهر زاد التي ألف القارئ أن يقرأها في استدعاء الشعراء المعاصرين لها "رمزاً للمرأة العربية التي مازالت تعيش أسيرة عصر الحريم، تنتهي آمالها عند تحقيق حياة مادية باذخة تفيض بالترف والدعة والخمول، حتى وإن لم يتجاوز دورها في هذه الحياة كونها مجرد جارية تُباع وتشترى ككل طرف هذه الحياة التي تحلم بها"( ).
وتبدو شهر زاد منحازة إلى المستقبل، وهي تصف معاناة الشعب "إنهم بشر .. يظلون بشراً .. لكن حياتهم لا تفترق عما يحياه الحيوان والنبات والجماد .."، حيث تكشف هذه الفقرة من حوارها عن رؤيتها البصيرة لما يُعانيه أفراد الشعب في حياة قاسية "لا تفترق عما يحياه الحيوان والنبات والجماد".
وكأن محمد جبريل من خلال استدعائه لشهر زاد ـ رمز الحكَّاءة في الأدب العربي ـ يطلب من الحكَّائين المعاصرين أن يلتفتوا إلى معاناة أبناء الشعب، وأن يكتبوا عن الطبقات الفقيرة التي تُعاني ، وتعيش حياة قاسية لا تليق بالبشر!
لكننا نجد الحوار في بعض القصص يتحوّل إلى مُحاورة فلسفية، قد تصير عبئاً على بنائه القصصي، ويتضح هذا في بعض قصص مجموعته الأولى "تلك اللحظة من حياة العالم" (مثل قصتي: "القرية التي عرفت الحب" و"برج بابل")( ).
ونأخذ مثالاً على هذا بعض حوار في نهاية المقطع الأول من قصة «برج بابل»:
« ـ خير لي أن أكون سقراط معذباً من أن أكون خنزيراً راضيا
ـ قالها جون ستيوارت مل.
ـ وهل هناك كلمات لم يقلها أحد؟
ـ وماذا كان يريد سقراط المعذب؟
ـ الحقيقة.
ـ وهل وجدها؟
ـ مات وعلى شفتيه سؤال: من أن؟
ـ وماذا تُريد أنت؟
ـ الحقيقة.
ـ وكيف تصل إليها؟
ـ أن أكون سقراط المعذب.
ـ ألست مؤمنا؟
ـ أنا أريد الحقيقة .. ولو تحت شجرة.
ـ أي حقيقة؟
ـ حقيقة كل شيء ..
ـ ألست مؤمنا؟
ـ الإيمان عقل وعاطفة»( ).
(يتبع)

د. حسين علي محمد
19-11-2006, 06:15 PM
إلا أن مثل هذا الحوار الذي لا يُضيف شيئاً ويكون عبئاً على العمل القصصي قليل في مجموعاته القصصية، وربما ينتمي زمنيا إلى فترة البدايات، فنحن لا نجده إلا في قصتين من مجموعته الأولى «تلك اللحظة».
ويمكننا أن نقول إن الأديب في مجموعاته القصصية كان يستخدم الحوار أداة فنية بقدر ما يخدم بناء القصة، وأنه كان يُديره غالباً ببراعة ومقدرة فنية لافتة.
***
3-الرمز:
الرمز وسيلة إيحائية من أبرز الوسائل الفنية التي يستخدمها الأدباء المتمكنون من فنهم، وفي قصص محمد جبريل نرى استعمال الرمز في ثلاثة مستويات:
أ-الرمز الإيحائي:
وهو أن يوحي لك بما يريد أن يقوله، وهذا هو الرمز البسيط، مثل شخصيتي صابر عبد السلام وسلسبيل اللتين يرمز بهما إلى الشعب المصري ومصر في قصة "حكايات وهوامش من حياة المبتلى"؛ فصابر عبد السلام يُصر على السفر لأداء فريضة الحج، في الطريق البري نفسها التي سافر فيها أبوه لأداء الفريضة، ولكن الطريق مقطوعة (يشير إلى إسرائيل التي احتلت فلسطين، فمنعت انسياب الحركة البرية بين مصر والحجاز)، وصابر الذي يرمز إلى الشعب المصري يصفه المؤلف بهذه الفقرة التي تكشف عن خصائص الشعب المصري النفسية، وتنتهي بأمنية أن يعود التواصل بين أفراد الأمة العربية:
"فاعلم ـ غفر الله لك ـ أن صابر عبد السلام كان يحمل قلباً ينبض بالرحمة، يُشرق النور في داخله، يغيث الملهوف، يُساعد المحتاج. يُقتِّر على نفسه ويُكرم ضيوفه، يحدث من يلقاه ـ للمرة الأولى ـ كأنه يعرفه من زمان. يُوقِّر الكبير والصغير، ويحترم الناس كافة. يعود المرضى. يُشارك في الأفراح والمآتم. يُساعد الغلابة والضعفاء والمنكسرين. يفيض بالمحبة تجاه الآخرين. حتى الذين يواجهونه بالإساءة، يغض النظر عن إساءاتهم، إلا فيما يتصل بكرامته … يُصلي الفروض في أوقاتها. يعشق النكتة والعبارة اللمّاحة. أمنيته التي كثيراً ما حدّث بها زوجته وأصدقاءه، هي السفر إلى بلاد الحجاز من الطريق نفسها التي سافر فيها أبوه عندما انتوى أداء فريضة الحج"( ).
ومن الواضح أنه يرمز بالجملة الأخيرة "السفر إلى بلاد الحجاز من الطريق نفسها التي سافر فيها أبوه عندما انتوى أداء فريضة الحج" إلى زوال العائق المتمثل في قيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين العربية.
وقد لاحظنا هنا أن الكاتب يلجأ إلى لغة تراثية أقرب إلى لغة الكتابات في العصرين المملوكي والعثماني، ويُقصد باللغة التراثية "اللغة التي يستوحيها الكاتب القصصي، "وترجع مفرداتها إلى نمط تُراثي معيَّن، كالنمط الأسطوري أو الصوفي أو التاريخي، أي أن التراكيب التي يستخدمها الكاتب … ترجع إلى لغة الكتابات التراثية، التي يستخدمها بعض المؤلفين القُدامى في كتاباتهم، وبخاصة الكتابات التاريخية والصوفية، ويستوحيها الكتّاب لتؤدِّي دلالة إيحائية ورمزية"( ) في عمله القصصي.
ولعل اللغة التاريخية عنا تُساعد على إبراز رمز تواصل الأرض الإسلامية ـ قبل أن يقتطع اليهودُ فلسطينَ ـ وتكون اللغة هنا رمزاً إيحائيا أيضاً.
ومن هذا الرمز الإيحائي شخصية "الأم" في قصة "العودة"، التي نرمز إلى مصر: العطاء، والأصالة، والسكينة، وشخصية "محمد يوسف المصري" في قصة "التحقيق" التي ترمز إلى الإنسان المُطارَد في أنظمة الحكم الشمولي، كما ترمز قصة" الرائحة" ـ في القصة التي تحمل العنوان نفسه ـ إلى العفن الذي يسود حياتنا بعد مرور أعوام طويلة على قيام الثورة في مصر، ويتمثل هذا العفن في عدم القدرة على الرؤية، الذي نتج عن التعتيم، وعدم إتاحة وثائق التاريخ الحديث والمعاصر ـ حتى أمام المتخصصين فيه ـ فيتناهى صوت أمام المؤرخ: "هل كان أحمد عرابي درويشاً أم بطلاً؟"( ) فلا يستطيع الإجابة.
ويتضح الرمز الإيحائي في قصته "رسالة السهم الذي لا يخطئ" في المجموعة التي تحمل العنوان نفسه، حيث يتحدّث السارد عن الهنود الحمر الذين طردهم الوافدون الجدد في أمريكا من أرضهم. وتُشير القصة ـ من طرف خفي ـ إلى معاناة الفلسطينيين الذين طردهم اليهود من أرضهم.
ويتضح الرمز الإيحائي في مثل قوله:
"تكرر رفع العصي ذات الألسنة النارية في أيدي ذوي الوجوه الشاحبة . وتوالى سقوط الهنود قتلى. طردهم ذوو الوجوه الشاحبة خارج أرضهم، طاردوهم أينما ذهبوا، وكانت بنادقهم تحمل الموت دائماً ..
ألفوا صوت النفير، يفاجئهم في الأماكن التي رحلوا إليها، يتصورون فيها ابتعادهم عن شر ذوى الوجوه الشاحبة، يتركون الخيام إلى مناطق أخرى يعرفونها، ويثقون أن خطوات الرجل الشاحب الوجه يصعب أن تصل إليها، لكن صوت النفير يقترب بعد فترة تطول أو تقصر، ويتكرر الفرار إلى مناطق أخرى ..
نهب ذوو الوجوه الشاحبة، وحرقوا، ودمروا كل ما وجدوه في طريقهم. فرَّت ـ أمام الهجوم ـ قبائل بأكملها، استقلوا المراكب، أو ساروا على الأقدام ..
قال الإعصار المدمر:
ـ القطعان المتناثرة تغرى الصياد بها .."( ).
والرمز الإيحائي لا يكتفي بالإشارة، وإنما ينطلق إلى تحديد المسؤولية، فلم يعد التحذير كافياً للناس ليتجنبوا ما وقع لهم:
"فاجأني الرجل بالقول:
ـ ما حدث للهنود على أيدي الأوروبيين مسؤولية الهنود أنفسهم ..
قلت في تعجب:
ـ هل هذه وجهة نظرك؟
قال:
ـ هذه هي الحقيقة ..
ـ فارو لي ..
أفسح لي كرسياً من الكتب المصفوفة عليه، فجلست ..
وظل الرجل يروى ويروى، وأنا أخلى وجهي للحيرة .."( ).
ب-الرمز التراثي:
وهو استخدام شخصيات من التراث بمصادره المتعددة، لقدرتها على الإيحاء، وإثراء العمل، والتأثير في نفوس القراء.
وقد استخدم المؤلف الرمز التراثي في رواياته، فاستخدم "أبا الطيب المتنبي" في روايته "من أوراق أبي الطيب المتنبي"، واستخدم رمز "الإمام" ـ في المفهوم الشيعي ـ في روايته "إمام آخر الزمان"، وهو ذلك الشخص الذي يجيء فيملأ الأرض عدلاً بعد أن امتلأت جوراً.
وقد استخدم شخصية "الإمام" ـ أيضاً ـ في قصة "تسجيلات على هوامش الأحداث بعد رحيل الإمام"، ليشير إلى الحلم الذي يُعذَّب البشرية في بحثها الدائب عن الأمن والسكينة والاستقرار، بعد أيام الضنى والترقب والقلق( ).
وفي قصة "الأستاذ يعود إلى المدينة" يستوحي شخصية "الأستاذ" في روايته "الأسوار"( )، وهي شخصية مثالية تقترب من شخصية السيد المسيح ـ عليه السلام ـ يقول عنها القاص: "كانت تصرفاته أميل إلى العفوية والبساطة. ولم يكن في نظراته ما يدعو إلى الريبة أو الخوف. كانت عيناهُ تلتمعان ببريق هادئ كأنه الطهر … شاركهم أغنياتهم وأحاديث الراحة من العمل، ارتاد بهم عوالم جديدة ـ استهوتهم ـ في آيات القرآن وأحاديث الرسول والحكم البليغة. دعوه ـ أحياناً ـ إلى الغداء، فلبَّى ببساطة طيبة"( ).
ج-الرمز الكلي:
حيث يتمدّد الرمز في ثنايا القصة، ليُشير إلى شيء، أو يشي به، كما في قصة "حدث استثنائي في أيام الأنفوشي"( )، التي تتحدّث عن أسراب السمّان التي غزت الأنفوشي، ثم ابتدأت تُقاسِم الناس المكان، وأصبحت حياة الناس تضيق يوماً فيوماً، إلى أن قرّروا وجوب مقاومة السمان، فالبديل هو الجنون!
وليست أسراب السّمّان سوى إسرائيل، وحي الأنفوشي هو مصر، والناس هم المصريون. وهي قصة رمزية تُقدِّم نموذجاً للأدب الجيد، الملتزم بقضايا الوطن، وقد استطاع محمد جبريل أن يُقدِّمها في بناء فني محكم جميل لم يُغفل فيه الجمال مع الالتزام بهموم الوطن وقضاياه.
وسنُلاحظ في القصة أن الرمز يتولّد من مجموع ما تُشير إليه الصورة كرمز موحَّد، لأنَّ علاقة الرمز بالصورة أقرب إلى علاقة الجزء بالكل، وإنَّ سمة الرمز الجوهرية إنما تولد من الأسلوب( )، ولذا سنستعرض القصة لنرى كيف استطاع القاص أن ينقل لنا رمزه من خلال النص:
*وتبدأ القصة هكذا:
"بعد أن استقرّت السمّانة فوق الصّاري المرتفع الخالي من العلم في الجانب الأيمن من سراي رأس التين .. ألقت نظرة متأملة على مباني السراي من حولها، والحديقة المرتفعة يُحيط بها سور مرتفع كحدوة حصان، والمباني المُقابلة للشاطئ تآكلت واجهاتها بملح البحر. والقوارب الصغيرة تناثرت فوق الرمال والشاطئ وطريق الكورنيش في تلك الأيام الخريفية التي تخلو من الحركة.
تقافزت السمانة فوق الصاري وتهيّأت لمواصلة الرحلة، لكنها ـ في قرار مُفاجئ ـ غيَّرت طريقها، وعادت إلى شواطئ أوربا ..".
يُقدِّم لنا القاص قصته من خلال السرد، فلم نر جملة حوار واحدة( ).
والكلمة في السرد القصصي لابد أن تكون دقيقة قادرة على حمل المعنى وإشعاعاته، وهذا ما نُلاحظه بوضوح في الفقرة الأولى من القصة، فكلمة "استقرّت" توحي بالاطمئنان وعدم المقاومة، و"الصاري المرتفع" توحي بالهيمنة والتمكن، و"الخالي من العلم" توحي بزوال المجد وضياع الهيبة التي مكّنت العدو من أن يحتل القمة، و"حدوة حصان" تشبيه يوحي بالهوان الذي آلت إليه حال أمتنا، و"تآكلت" توحي بما فعلته السنون بنا، وكذلك "القوارب الصغيرة المتناثرة فوق الرمال والشاطئ" تُرينا الموات الجاثم، والذي يدل على كسل وركود حاليين، ويشف في الوقت نفسه عن حركة ونشاط في الماضي الذي صار أثراً.
تكشف نهاية الفقرة عن أن السمان ـ إسرائيل ـ لم يستطع أن يعيش حياتنا، فقرّر أن يعود إلى شواطئ أوربا، وهنا إيحاء بأن إسرائيل لم تستطع أن تعيش حياة الشرق، فقرّرت أن تكون وجهتها أوربا، تعيش حياتها وتتقلّد زيّها!
لو نظرت إلى الخريطة العربية التي تُشبه "حدوة حصان" لوجدت في الجانب الأيمن منها تستقر السمانة ـ إسرائيل.
*في المقطع الثاني، والذي يمكننا أن نُطلق عليه عنوان "التسلل"، نرى السمان ينفذ إلى كل جزء من الأنفوشي:
"في اليوم التالي قدمت ـ في الطريق نفسه ـ ملايين الأسراب من السمّان .. غطَّت الشاطئ والشوارع والأزقة وأسطح البيوت. تهادت من الأبواب والنوافذ إلى داخل الشقق والدكاكين. حتى الكبائن القليلة المغلقة في امتداد الشاطئ استطاعت ـ بوسيلة ما ـ أن تنفذ بداخلها..".
ويُرينا هذا المقطع:
ـ إصرار السمّان ـ العدو الإسرائيلي: "في اليوم التالي".
ـ واحتشاده: "ملايين الأسراب" (لاحظ أن السرب يضم الآلاف).
ـ هيمنت وتمكنه: "غطّت الشاطئ والشوارع والأزقة وأسطح البيوت".
ـ قدرته على التسلل: "تهادت من الأبواب والنوافذ داخل الشقق" والدكاكين. حتى الكبائن القليلة المغلقة في امتداد الشاطئ استطاعت ـ بوسيلة ما ـ أن تنفذ بداخلها..".
في نهاية هذا المقطع نرى الناس ـ العرب ـ وقد أخذهم هول المفاجأة فيما يشبه الاستسلام عاجزين عن المقاومة:
بدا للناس من كثافة الأسراب، ودقة تنظيمها، وانتشارها في كل الأمكنة ـ عجزهم عن المقاومة. مالوا مؤقتاً إلى التريث؛ فرحلة السمّان لا تعرف التوقف.
الجملة الأخيرة تكشف عن قدرة محمد جبريل على استخدام الرمز المشع، فالسمان ـ الرجل اليهودي ـ لا يعرف الاستقرار، هكذا قال الناس في دخيلة نفوسهم، وكأنهم يقررون: إذا كنا عاجزين عن المقاومة الآن فسيحل الزمن مشكلتنا بأن تهجرنا أسراب السمّان وتعود من حيث جاءت، أو ترحل إلى أرض أخرى.
وهكذا يكشف المقطع الثاني عن تسلل السمان ـ إسرائيل، واستسلام الناس للواقع ومعايشتهم له، وأملهم في أنَّ مرور الزمن سوف يحل مشكلتهم مع السمان ـ إسرائيل.
في المقطع الثالث يُعايش السكانُ السمانَ الذي يُنظِّم نفسه دون أن يُضايقهم، بل يُقدِّم السمّان القدوة لهم في العمل والتنظيم، وهذه مرحلة عاشتها أمتنا العربية مع العدو الإسرائيلي عقب الهزيمتين (1948م و1967م) حيث بدأ بعض المفكرين من دعاة الاستسلام والهزيمة يتحدّثون عن إسرائيل ومجتمعها العامل النشط المنظّم وسط صحراء الفوضى العربية!!:
"هل يُعدُّ السمان نفسه لإقامة طويلة؟ لم يُحاولْ أنْ يُضايق الناس، ولا أن يسطو على ما يمتلكون، أو يدسُّ منقاره في شؤونهم الشخصية. أهمل حياتهم، فهم يحْيوْنها بمثل ما اعتادوا: النوم، والصحو، والعمل، والنقاش، والفِصال، والأخذ، والرد، واجترار الذكريات".
يكشف الاستفهام في صدر الجملة عن قلق عابر في حياة الناس: هل سيُعايشهم السمان؟ وهل سيستقر فوق تراب أرضهم لمدة طويلة؟ ثم لا يلبث هذا الاستفسار أن يذوب وسط مُكابدة الحياة اليومية في النقاش والفِصال( ) واجترار الذكريات العربية.
والكاتب في هذا المقطع يُزاوج بين الواقع والرمز في فنية مقتدرة: "أحسنت مجموعاته الانتشار؛ فهيّأت لنفسها الرزق، اكتفت بحجرة في نقطة الأنفوشي تدير منها أحوالها، أفرزت ـ من بين أسرابها ـ كل ما تحتاجه من جنود وعلماء وحرفيين وموظفين. حتى الصغار أقامت لهم مدارس ودور حضانة في حنيات السلالم والأدوار الأرضية".
تتضح هذه المزاوجة في أن الواقع يكاد يُفصح عن نفسه من خلال الرمز في "جنود وعلماء وحرفيين وموظفين"( ) فهذه الطوائف الأربعة لا تكون إلا من بني البشر، وإذا كنا نقول: إن من مخلوقات الله الأخرى غير بني الإنسان جنوداً، فإننا لا يمكن أن نجد علماء وحرفيين وموظفين إلا في بني الإنسان.
لكن القاص يعي أن سرده القصصي يتحدّث عن طائر السمّان، فمدارسه يجب أن تكون هي ودور الحضانة في "حنيات السلالم بالأدوار الأرضية" فهذه تُناسب الطيور، وفي الوقت نفسه تكشف عن معدن اليهود وذوات أنفسهم وخصائصهم؛ فالسلالم توحي بالتسلُّق، والأدوار الأرضية تكشف عن ضعتهم!
وينتهي هذا المقطع بأن يبدوَ السمّانُ وكأنَّه يتعاون مع مجتمعه الجديد وناسه، بأن يتنازل لهم عمّا لا غناء فيه ولا نفع من ورائه.
"أغنت الناس عما ألفوه ـ في الزمن الخالي ـ من الجري وراء أسراب السمان حتى يهوي مُجهداً في أيديهم، فتنازلت ـ بطيب خاطر ـ لموائد الطعام عن مرضاها والمصابين في الحوادث".
في المقطع الأخير نرى الناس وقد أحسُّوا بوطأة تسلل العدو، يقرِّرون المقاومة، ويُمكن أن نُسمي هذا المقطع "الكشف".
إن السرد يصل إلى نهايته من خلال جملة يبدأ بها هذا المقطع: "لم يعد في الأمر ما يُريب" يكشف عن تجمُّع كل الخيوط وظهور الحقيقة كفلق الصبح:
"لم يعد في الأمر ما يُريب، استفاد الناس من حياة السمّان بصورة مؤكّدة: النظام، والهدوء وحب العمل، والكسب، والميل إلى عدم السهر. لكن شيئاً مُقلقاً تحرّك في النفوس، وتصاعد بالهمس، أثاره الملل والمخاوف والأسئلة. لاحظ الناس أنهم لم يعودوا يتصرّفون بمثل ما اعتادوا، وتنبَّهوا ـ وإن كان متأخِّراً ـ إلى ملايين الأعين والأنفاس القريبة، والمُقاسمة في المكان ـ مهما كان شخصيا ـ خلت التصرفات من العفوية التي كانت سمةَ أيامهم السابقة".
إن هذه الجمل المتتابعة تعني أن الناس ـ العرب ـ في وجود السمان ـ إسرائيل ـ لم يعودوا أحراراً، وهنا نصل إلى النهاية الحاسمة، فقد صحا الناس من غفلتهم ليُقرِّروا أن المقاومة هي الطريق الأوحد للحياة الحرة الكريمة، لأن البديل هو الجنون:
"بدا لهم استمرار الوضع ـ بصورته الحالية ـ غايةً في الصعوبة.
تهامسوا .. وعقدوا الجلسات السرية .. وتبيّن لهم ـ بعد نقاش طويل ـ أن السكوت عن المقاومة ـ رغم كل شيء ـ طريق إلى الجنون".
وهكذا رأينا قصة "حدث استثنائي في أيام الأنفوشي" قصة رمزية لم تلجأ إلى الغموض، ولا إلى البهلوانية الأسلوبية، بل قدّمت من خلال السرد حكاية الغزوة الصهيونية الشرسة الطارئة للأرض العربية، وفي النهاية طرحت سؤالاً من خلال بنيتها المفرطة في البساطة ـ وشأن الفن الجميل أن يطرح الأسئلة ـ هل نستطيع أن نعيش حياتنا بحق فنقاوم، أو نسكت ونرضى بالواقع فيكون هذا هو الجنون عينه؟
والقصة رغم سردها المفرط في البساطة تسير في خطين متوازيين:
1-خط الحكاية البسيطة عن السمان الذي استوطن حي "الأنفوشي" بمدينة الإسكندرية، وضايق الناس حتى قرّروا أن يُقاوموه.
2-خط الرمز الذي بيّنّاه في قراءتنا هذه.
ونستطيع أن نُقرِّر في النهاية أن قصة "حدث استثنائي في أيام الأنفوشي" للقاص محمد جبريل تُعطينا مثالاً طيباً للأدب الرمزي الجيد الملتزم بقضايا الوطن دون أن تقع في شِراك التسجيلية والتقريرية، ودون أن تهبط ـ رغم حرارة الرؤية وحدتها ـ إلى دَرَكِ الخطاب الفج. ثم إن لغة القصة لغة مكتنزة، مكثفة، محملة بدلالات لغوية وشعورية تُضيء الحدث وتكشف عن جوانبه دون أن تترهّل أو تسقط في شرك العشوائية؛ فكل كلمة بحساب، ولا نستطيع أن نحذف جملة واحدة دون أن يتأثَّر سياق العمل كله، وهذا هو منتهى الإحكام الفني.
(يتبع)

د. حسين علي محمد
19-11-2006, 06:17 PM
ولعل استخدام محمد جبريل للرمز الكلي يكسب قصته حيوية وجمالاً وقدرة على التأثير تتعدّد بتعدد القراءة، وتجعلنا نرى أن هذا العالم الغريب الذي تقدمه لنا القصة هو عالم محمد جبريل الخاص، الذي أبدعه وصوّره، حتى ولو كانت مفرداته مستمدة من الوجود الواقعي، لكن صياغة المفردات على هذا الشكل يمنح القصة طاقة هائلة من الشعرية والقوة التي تجعلها لا تفقد متعنها مهما تعددت القراءة.
***
4-جماليات المكان:
في قصة "أصداء باهتة" يدور حوار بين البطلة والبطل اللذين التقيا بعد فترة بعاد طويلة:
"ـ هل تقيم في القاهرة أو الإسكندرية ؟..
ـ الإقامة الدائمة في القاهرة .. ولى بيت في العجمي ..
سحبت يدها من يده :
ـ أنا حتى الآن أتوه في شوارع القاهرة .. أما في الإسكندرية .. فيكفى أن أتجه ناحية البحر لأعرف طريقي .."( ).
وتكاد تكون الفقرة الأخيرة من الحوار معبرة عن محمد جبريل نفسه، حيث نراه يتخذ من الإسكندرية ـ المدينة التي شهدت مولده وطفولته وصباه ـ مكاناُ لقصصه القصيرة ورواياته، بل من "حي الأنفوشي" بالذات، الذي يُمثِّل حيا شعبيا سكندريا ـ عاش فيه طفولته وصباه ـ وهذا ما يتضح في قصصه ورواياته( ).
وقد سألتُه في حوارٍ أجريته معه: "لاحظتُ ـ كما لاحظ الكثير من النقاد ـ أن الإسكندرية مكاناً هي الفضاء الأثير لرواياتك، وإن كنت خرجت من فضائها في أعمال قليلة، فلماذا هذا الاستغراق الحميم في الإسكندرية وعلى وجه أخص حي بحري أو "الأنفوشي"؟
فأجاب: "لقد وُلدت ونشأت في الإسكندرية، لذلك فمن الطبيعي أن تكون مكاناً للعديد من أعمالي، حتى الأعمال التي جرت أحداثها الحقيقية في أماكن أخرى جعلت الإسكندرية فضاء لها؛ فأحداث روايتي "الصهبة" الحقيقية جرت في قرية بالقرب من الجيزة، لكنني فضلت أن أنقلها إلى الإسكندرية ـ إلى حي بحري تحديدا ـ لأنه المكان الذي أعرف ملامحه جيدا، ومن ثم فإنه بوسعي أن أتحرّك فيه بحريتي! .. ومع ذلك فإن المكان في رواياتي لا يقتصر على الإسكندرية. أذكرك برواياتي : قلعة الجبل، واعترافات سيد القرية، والأسوار، ومن أوراق أبي الطيب المتنبي، وبوح الأسرار … إلخ"( ).
ومن المُلاحظ على المكان أن يُقاسم الشخصيات أدوارها في بناء القصة، ففي قصة "الخيوط" تبدأ القصة هكذا:
"خلا الذهن إلا من أمنية واحدة: لو أنها أغمضت عينيها، ثم فتحتهما لتجد نفسها في حضن جدتها، والظلام يتمدّد في أرجاء الغرفة الصغيرة، واللمبة السَّهاري ترسم دائرة من الضوء الخافت على الجدار، وهتاف بائع الكباب في الموازيني يتناهى عبر النافذة: يا كريم!
"لم يعد العمل في المصنع بمثل بساطته الأولى، الطواحين تقذف بكميات هائلة من العطارة، ومع هذا أُضيفت طاحونة جديدة، وصراخ صاحب المصنع يستحث الجميع على العمل، والأيدي ترتفع وتنخفض لتملأ الأكياس بلا هوادة. قالت المرأة: لماذا لا تعمل؟ كل البنات يعملن"( ).
فهذا الوصف لجمالية المكان يُرينا عالم "فوقية" الفقير، المتمثل في "الغرفة الصغيرة، واللمبة السَّهاري ترسم دائرة من الضوء الخافت على الجدار" في بيت جدِّتها حيث تفتقد الأمان والإحساس بالسعادة في بيت أبيها، حيث زوجته ـ وليست أمها ـ التي تُريد منها أن تعمل"، وتتآزر جماليات المكان الأخرى مثل "هتاف بائع الكباب في الموازيني يتناهى عبر النافذة: يا كريم!" ليرسم صورة للأجواء الشعبية الفقيرة التي تعيش فيها "فوقية". والتي ستُطاردها ليمتزج ما تظنه حبا بالاغتصاب ـ كما وضّحنا من قبل ـ .
ونرى المكان ماثلاً في فقرات أخرى من السرد:
"فكّرت أن تركب الترام إلى قهوة فاروق، والمسافة من هناك قصيرة إلى "الموازيني"، لكنّها تذكّرت طلب جدتها في الصباح شراء ربع أقة حلاوة سكرية، فمالت إلى حارة الصّاغة، وأسرعت من خطواتها.
ورأت أمام السبيل الصغير في أول الحارة عربة يد تسدُّ عليها الطريق، فعادت بخطوات غاضبة إلى سوق الترك، ومنه إلى شارع الميدان بين أكوام العطارة"( ).
فالمكان هنا جزء رئيس من العمل الأدبي، ولا يُمكن تصور شخصيات القصة وأحداثها إلا في هذا المكان الذي دارت فيه الأحداث، وعاشت فيه الشخصيات.
وقد يكون المكان في مدينة أخرى، غير الإسكندرية، يعمل فيه البطل، أو يلتقي فيها بشخصيات أخرى. يُحاول أن يصفها بدقة، ليستكمل من خلال الوصف جزءاً أصيلاً من بناء قصته، فنراه يفتتح قصة «باب البحر» التي يستقبل فيها حسن ـ الذي يعمل بليبيا من مدة طويلة خاله، بهذا الوصف للمكان:
«سبقت عيناه خطواته بتأمل المكان. الواجهة من الطوب الأحمر المتآكل بتأثير الرطوبة. على يمين المدخل كشك خشبي، سقفه من الصاج. الطاولة ـ في داخله ـ عليها الإبريق الضخم والأكواب والبوتاجاز المسطح. اختلط في الأرضية التراب وقطع الحجارة الصغيرة ورمل الشاطئ القريب، وعلقت في الجدار مشكاة من النحاس المجلفن والزجاج ذي التكوينات الملونة.
المدخل الجانبي يُفضي إلى ساحة واسعة، مستطيلة، على جانبيها دكاكين، أقلها مفتوح، وأغلق بقيتها بقطع من الحديد تتوسط أبوابها الخشبية ، وتنتهي بأقفال ضخمة، يعلوها طابق تتجاور فيه غرف ذات ضلفتين. لاحظ أن الجدران خلت من الملصق الذي طالعه في الميادين وعلى نواصي الشوارع وواجهات البيوت: "اللجان الشعبية في كل مكان". وثمة أصوات النرد والدومينو والنداءات والصيحات ، ورائحة التمباك والمعسل المحترق .. » ( ).
لقد جعل الرؤية من خلال عيني الخال الزائر، الذي سيجلس مع ابن أخته في لحظات حميمة لا يُطارده فيها شعار « اللجان الشعبية في كل مكان»، كما أن في وصف المكان ما يشي بطبيعة النظام والناس والحياة، حيثُ الحياةُ تعاني من كبت وإغلاق، مع توق الناس للحرية وهو ما تكشف عنه المُفارقة بين الساحة الواسعة والدكاكين المُغلقة! «المدخل الجانبي يُفضي إلى ساحة واسعة، مستطيلة، على جانبيها دكاكين، أقلها مفتوح، وأغلق بقيتها بقطع من الحديد تتوسط أبوابها الخشبية ، وتنتهي بأقفال ضخمة».
***
5-الشخصيات:
للشخصية دورها الأساس في بناء القصة، حيث هي «الوسيلة الأولى غالباً لسرد القصة، ونقل الأفكار» ( ).
و«إذا كان الإنسان مركز هذا الوجود الواقعي؛ فإن الشخصيّة البشريّة في العمل القصصي المتخيِّل هي الشرط الأساسي لوجود ذلك العمل حتى ولو كان البطل فكرة لا شخصاً» ( ).
وقد أشار النقاد كثيراً إلى أثر الشخصيات في القصة القصيرة، ويشترط سيد قطب في الشخصيات القصصية أن تكون مرسومة بعناية بحيث تتضح ملامحها وسماتها في العمل القصصي، فيقول: "وكلما وضحت السمات والملامح كاملة من الخارج والداخل كان ذلك أكمل … وليس المهم هو لون الشخصية وعظمتها، إنما المهم هو طريقة التناول والسير فيه"( ).
وقد يُقدِّم الكاتب شخصيته دفعةً واحدة، كما كان يفعل محمود تيمور، ومحمد عبد الحليم عبد الله، ومحمود البدوي … وغيرهم.
فمثلاً محمود تيمور في قصة "شندويل يبحث عن عروس" يقدم الشخصية الرئيسة مرة واحدة هكذا «"شندويل" هذا فلاح من قرية "المنشية"، وهي من أعمال "شبين الكوم" .. رجل في حاله، لا يعرف العيب ولا يجري لسانه به، مخلص أمين، طيب القلب، ليِّن العريكة، ولكنه معروف بصراحته، لا يُداري أحداً. نشأ يتيم الأبوين، لم تكتحل عيناه بمرآهما، فكفله رجل خير، مزارع له أرض تفيء عليه رزقاً محدوداُ، فضمَّه إلى أسرته»( ).
وفي قصة "الرخيص الغالي" لمحمد عبد الحليم عبد الله، نجده يصف الشخصية الرئيسة هكذا، مؤثراً تقديمها مرة واحدةً:
«كان الرجل طويلاً نحيلاً، يركب حماراً قصير القامة، ويرتدي جلباباً من الصوف قد انقضت أيام عزه وولّت سنوات مجده، لوّحته الشمس من على الكتفيْن، فاتخذ النسيج لوناً آخر، وتكاد رجلاه تلمسان الأرض لطول ساقيه وقصر قامة الدابة. وفي نعله البالي عدةُ رقع، وفي يده عصا من الخيزران تُشبه عصا "المايسترو" كان يضرب بها عنق الدابة من آن لآن كلما أفاق من الأفكار ... إن "عم هاشم" رجل غليظ القلب يُعلِّل دائماً قسوته على الناس بقسوة الناس عليه: "كيف تجني الرمان من شجرة الحنظل؟" هكذا كان يقول. وكان مُعادياً للأقدار أشدّ العداء، يكاد يلعنها حتى في صلاته .. ويتوهّم أنها نصبت له في كل مرحلة فخا لا تراه عيناه … وأصبح المسكين ينظر لمآسي الناس بشماتة وراحة بال كأنما كان يأمل أن تعمم الأقدار بلواه فلا يبقى في القرية قلب سعيد واحد»( ) .
ومن الملاحظ على قصص محمد جبريل أمها تهتم برسم الشخصية، لدرجة يُمكننا أن نقول إن معظم قصصه تنتمي إلى ما يُمكن أن نسميه "قصص الشخصية"، ونقصد بها تلك القصص "التي لا تحفل بالحدث احتفالاً كثيراً … ولكنها تركز على رسم الشخصيات وبيان همومها وأحزانها أو مشاكلها"( ).
وقد يقدم الشخصيات مرة واحدة كما فعل في قصة "الطائر بعيداً عن سربه"، حينما قدّم الشخصيات الرئيسة الثلاثة (محمد المهدي ـ المسلم البرتغالي وزوجته وابنته):
"في حوالي الخامسة والثلاثين. ملامحك أوروبية، وإن اجتذبني عينان سوداوان عميقتا النظرة، وحاجبان رفيعان مقوسان، وجبهة عريضة، ترتدي بذلة بنية، وكرافتة بها نقوش متداخلة. أما السيدة فهي لا تكاد تبلغ السابعة والعشرين، شعرها أصفر، كومته فوق رأسها، وعيناها زرقاوان، صافيتان، يزيد من عمقهما رموش طويلة. في وجنتيها غمازتان تبتسمان مع ابتسامتها الدائمة. يبدو قوامها نحيلاً في الجونلة البنفسجية والبلوزة البيضاء. أما الطفلة فهي في حدود السابعة، شعرها حنطي ناعم، انسدل على كتفيها في ضفيرتين طويلتين. ولها بشرة صافية موردة، وشفتان في لون الفراولة. ترتدى حذاء أسود، وجورب أبيض يمتد إلى أعلى ساقيها، وجونلة رمادية تنتهي عند الركبتين .."( ).
ومثلما فعل في قصة "الأفق" من المجموعة نفسها، حيثُ يُقدِّم الشخصية الرئيسة هكذا:
"قامته الطويلة، ورأسه المفلفل الشعر، وعيناه الواسعتان، الحادتان، تظللهما رموش دائمة الارتجاف، وأنفه الكبير المستقيم. يرتدى قميصاً أحمر، وبنطلوناً شمره إلى ما تحت الركبتين، فبدت ساقاه نحيلتين طويلتين كصاري مركب، وحذاء من الكاوتش .."( ).
في بعض قصص محمد جبريل نلاحظ أنها لا تبعد عن أن تكون صورةَ من صور سيرته الذاتية، أو للحقائق الموضوعية التي كان يُلاحظها، وقد دفعه حبه للحقيقة إلى أن يتحول بقصصه إلى استعراض تاريخي وكأنها سيرة حياة، و"إلى أن يستخدم في عرضه للقصة طريقة السرد المباشر التي يكون الكاتب فيها مؤرخاً يسرد من الخارج"( ).
ولا يهتم المؤلف برسم الشخصيات الجسدي اهتماماً كبيراً، وقد يهتم برسم شخصية ثانوية اهتماماً يفوق اهتمامه بشخصية رئيسة، ولكن رسمه الجسدي يكون كافياً لتقديم ما يخدم بناءه القصصي.
***
6-التكثيف
نقصد بالتكثيف أن تكون القصة في سطور قلائل، وأن تكون قادرة على إحداث الأثر الذي يُحدثه فينا العمل الأدبي المُتكامل.
وتكشف عن دور محمد جبريل الرائد في فن القصة القصيرة جدا مجموعته الأولى «تلك اللحظة من حياة العالم» الصادرة في عام (1970م)، قبل أن يشيع هذا المصطلح في نهاية القرن العشرين، وتخصص لمبدعيه بعض صفحات الصحف الأدبية، أو تُعقد له الندوات هنا وهناك.
وظاهرة القصة القصيرة جدا أثارت جدلا واسعا بين أوساط المثقفين، فهناك من يعتبرها أمرا جديدا يستحق الدراسة والعناية، وفريق آخر يرفضها شكلا ومضمونا, ورهط يقول بأن القصة هي القصة بغض النظر عن حجمها وعدد كلماتها مادام تتوفر فيها عناصر القصة ومقوماتها. والبعض يرى أن هذه الظاهرة قديمة وليست جديدة، وأول من كتب فيها على مستوى العالم العربي القاص المبدع زكريا تامر في السبعينيات من القرن الماضي.
والقصة القصيرة جدا بلا شك تستحق كل هذا الاهتمام فهي شكل جديد، يُقدم القصة في كلمات موجزة، فكأنها بيت القصيد في القصيدة العمودية.
من المعترضين عليها من يرى «أنها فتحت الباب واسعا لدخول أسماء لا تستحق أن تنضم لهذا الفن .. بينما هناك أسماء أصيلة جميلة استطاعت أن تضيف إلى فن القصة القصيرة جدا، من هذه الأسماء يأتي اسم القاص المبدع عدنان كنفاني ليضيف ويجدد ويسير بخطوات واثقة إلى الأمام، طبعا هذه القصة "مسمار جحا" واحدة من كثير لعدنان كنفاني وهي تحقق كل الشروط لهذا الفن الجميل .. حين نقرأ عدنان نقرأ فنا جميلا ورائعا فإلى الأمام يا صديقي ..»( ).
ففي قصة «تلك اللحظة من حياة العالم» نجد مجموعة من اللقطات الصغيرة التي تحكي عن الضغوط التي يُواجهها الإنسان المُعاصر، وفي اللقطات الإحدى عشرة التي ضمتها القصة أراد القاص لكل لقطة أن تُشكل ملمحاً خاصاً، وتحدثُ كليا ـ أو معاً ـ أثرها فيما تهجس به من رؤى تكون قابلة للتأمل والتأويل.
وسنتوقف عند ثلاث لقطات، نرى فيها كيف كانت اللقطة القصيرة حواراً أو تصويراً، تنقل ـ في اختصار ـ عالماً شديد الثراء، قادراً على الإيحاء بما يريده الفنان:
(يتبع)

د. حسين علي محمد
19-11-2006, 06:18 PM
*الأولى بعنوان «الرجل»، وهذا نصُّها:
«يا ابن الكلب .. الأولى كانت غصباً عنك .. لكن الثانية قرصة حقيقية .. هل أصفعه أمام الركاب؟!..»( ).
تكشف هذه القصة القصيرة التي تشبه الومضة عالماً ثريا، فهي على لسان امرأة أو بنت من الطبقات الشعبية (نعرف ذلك من لهجتها «يا ابن الكلب»)، وهي مغيظة لأنها مُضطرة إلى الركوب في وسائل النقل (التي كانت غير آدمية، حيث نرى فيه الزحام الذي يسحق آدمية الإنسان وخصوصيته، وهاهو «رجل» يحتك بها في هذا الزحام عفويا ـ للمرة الأولى و«يقرصها»، دون أن يقصد، لكنها حين سكتت، وعفت عن هذه العلة العفوية الأولى، عاود الاحتكاك بها قاصداً، وهاهي تُحدِّث نفسها « هل أصفعه أمام الركاب؟!».
إن هذه القصة / الومضة تتناول إنسانية امرأة اقتُحمت خصوصيتها وأُهينت أنوثتها، وهي تُفكِّر في الرد الذي يردُّ لها حقوقها، ويحفظ لها كرامتها. كل ذلك في جمل قصيرة لا تتعدّى السطرين، في اكتناز شفيف.
والعنوان «الرجل» يكشف عن مُفارقة مع النص، فهو جزء من بناء القصة، وكأن العنوان ـ بعد قراءة النص ـ يجعلنا نتساءل: أي نمط من الرجال هؤلاء؟ وهل هم رجال حقا؟
*والثانية بعنوان «الشيخ»، ونصها:
«كانت من القرف في غاية ..
قال لها «البيه» من وراء نظارته الطبية، وهو يُخفِض الجريدة، كأنما ليتأمّل وقع كلامه عليها:
ـ أتعبتك اليوم لكن العلبة خالية من السجائر تماماً ..
حاولت أن تُبدي استياءها ..
أشاحت بيدها ولوت بوزها، ورمقته بنظرة غاضبة وقحة .. لكنها فوجئت بالشيخ ينصرف إلى قراءة الجريدة؛ دون أن ينتظر ـ كما توقّعت ـ نتيجة لكلامه ..
دسّت قدميْها في الشبشب ..
وخرجت ..»( ).
تصور القصة فتاة ـ أو امرأة ـ من القاع الاجتماعي، تعمل في بيت كهل ثري ـ يصفه القاص بـ «البيه»، وهذا يكشف عن مستواه الاجتماعي. لكن هذا الشيخ يُرهق هذه العاملة بكثرة العمل، ثم يجهِّز لها طلباً لتنجزه له ـ بعد أن انتهت من عملها المرهق، وهو أن تشتري له «علبة من السجائر»، فقد نفدت علبته التي كان يدخن منها، من السجائر.
ولا تملك «الخادم» إلا أن تُعبر له عن استيائها، متمردة عليه، وقد وضح هذا التمرد من تعبيراتها الجسدية التي صوّرها القاص في أفعال مُتلاحقة « أشاحت بيدها ولوت بوزها، ورمقته بنظرة غاضبة وقحة ... دسّت قدميْها في الشبشب ... وخرجت .. ».
وكأن الخروج هنا يمثل خروجاً من عالم هذا الشيخ الذي يُرهق كاهل خادمه، بما لا يُطيق.
*والثالثة بعنوان «الخطأ»، وهذا نصها:
«تساءل وأصابعه تدير مؤشر الراديو في عصبية:
ـ كم عدد الضحايا؟
ـ قُتِل أربعة عشر مدنيا .. وأُصيب ستة وعشرون ..
ـ ولكن كيف حدث ما حدث؟
ـ إذاعة سايجون أكّدت أن القنابل أُلقيت بطريقة الخطأ .. القرية ـ كما تعلم ـ تقع في أقصى الشمال من فيتنام الجنوبية ..
صادف موسيقى صاخبة .. فأدار مفتاح الصوت إلى أعلى مداه»( ).
وتشير هذه القصة إلى لا إنسانية الحروب، التي قد تقتل الأهل ـ وهي تُريد قتل الأعداء ـ وهذا قد رأيناه في الحروب الأخيرة، فقد قتلت أمريكا بعض أبنائها في أفغانستان، وسمّت ذلك الفعل الخاطئ أنه جاء نتيجة «للنيران الصديقة»!!
فها هنا ـ في النص ـ نجد أن أربعة عشر مدنيا يفقدون حياتهم بطريق الخطأ، فقد قتلتهم القوات الأمريكية، وهي تظن أنهم من فيتنام الشمالية التي تحاربها، وعذر هؤلاء الناس أنهم من قرية «في أقصى الشمال من فيتنام الجنوبية».
والصخب الذي يدور في حوار السارد ـ الذي اتخذ صفة السائل أو الباحث عن الحقيقة ـ يرتفع إلى درجة أنه وهو يستمع إلى المذياع يُدير «مفتاح الصوت إلى أعلى مداه»، لعله يُنسيه هذا الضجيج الذي يملأ دنياه، وكأن ضجيج المعركة انتقل إلى داخل عقله، فهو يُريد أن يُسكته بالموسيقى الصاخبة الهائجة!!
وتكشف قصص محمد جبريل القصيرة جدا عن قدرة مبدعة على التكثيف الذي يقول في سطور قلائل ما تقوله قصة أخرى في صفحات طوال. ومن هذه القصص قصته «خطأ» وهذا نصُّها:
«نطق الحاجب باسم الوالي، فوقف الجميع.
مضى الوالي إلى موقعه في صدارة المكان. حيا الحضور بإيماءة، ودعاهم إلى الجلوس.
هم الوزير بقراءة أوراق الوزارة وأوراق عمّال الأقاليم، أسكته الوالي بإشارة من يده، كانت هي إشارة الوالي للمتخفين وراء الستائر المُسدلة، تعدّدت عرائض الناس وشكاياتهم، زادت فاعتبرت الوالي مسئولاً، وهدّدت بقتله. خشي الوالي على نفسه وعلى الحكم. طلب من حراسه أن يدخلوا في اللحظة التي يُحددها، يصوِّب كل جندي بندقيته إلى واحد من الجالسين، فيقتله.
دخل الجندي بإشارة الحاكم، صوّب كل جندي بندقيته إلى صدر واحد من رجال الوالي.
لم يُسعف العمر الوالي لتبين الجندي الذي أخطأ، فصوّب إليه رصاص بندقيته» ( ).
إن هذه القصة ـ في كلمات قليلة تحتوي على حدث يتكرر كثيراً في عالمنا المُعاصر، وبخاصة في دول العالم الثالث، حيثُ يضيق الحاكم بالشكوى، ويتمنّى لو يتخلّص من معارضيه بضربة واحدة!
لكن السحر ينقلب على الساحر، ويُقتل الوالي بسلاح أحد حراسه الذين طلب منهم أن يقتلوا الحاضرين (لقد قتلوا أركان حكمه خوفاً من أن يثبوا إلى الحكم، فهل كانوا همْ من يتقدّمون بالشكايات من ظلم الوالي؟!).
***
7-الغرائبية
يستخدم محمد جبريل في قصصه بعض اللقطات الغرائبية التي لم يعرفها القارئ ولم يتعوّد عليها، بل إنه سبق في ذلك الأدباء العرب، الذين أخذوا هذا التصوير الغرائبي عن «الواقعية السحرية» بعدما اطلعوا على ترجمات الأدب القصصي في أمريكا اللاتينية.
من هذه اللقطات ما ذكره في مطلع قصته ذات العنوان الطويل «أبناء السيد الصافي ـ تنفيذاً لوصيته ـ يبحثون عن الأخوات»:
«بعد أن أغمض السيد الصّافي عينيه ومات تذكّر أنه نسي شيئاً. أزاح عن وجهه الملاءة التي كان الأبناء قد غطوه بها، ورفع رأسه إلى حد يسمح لـه بأن يجيل عينيه في الأبناء الكثيرين الذين امتلأت بهم الغرفة، وقال بصوته الهادئ، الواهن، المهيب:
ـ حياتكم بلا معنى .. لو لم يبحث الأخ عن أخته، والأخت عن أخيها.
وأغمض السيد الصّافي عينيه، وأعاد ـ دون مُعاونة ـ سحب الغطاء على وجهه، وبدأ الأبناء في مُغادرة الحجرة، ما عدا قلة قليلة، خامرها الإحساس بأن الأب ربما يصحو من جديد»( ).
وقد وضع عنواناً للفقرة السابقة هو "أصل الحكاية في رواية بعض الأبناء".
و«الغرائبية أسلوب من أساليب القص العربي، عرفته القصة في القرن العشرين، كما عرفته قديماً كتب الأخبار والنوادر والأمثال، إنه أسلوب يراعي العلاقات غير المنطقية بين الحوادث والشخصيات، ويروح يبني استناداً إليها مجتمعاً قصصياً لا ينتمي إلى مملكة التعليل والسببية، بل ينتمي إلى مملكة أخرى غير معقولة من مقاييس المنطق، وغير واضحة في معايير القصة التقليدية. إنه أسلوب ترميزي يختفي القاص وراءه من الرقيب الذي يحاسبه على الدلالات السياسية الانتقادية الواضحة المحددة المباشرة في قصصه. فإذا كانت الدلالات انتقادية غير مرغوب فيها ولكنها عصية على التفسير الأحادي حار الرقيب ونجا القاص من المساءلة. ومن ثم لم يكن للأسلوب الغرائبي صلة بالرمزية المنتمية إلى مدرسة ذات اتجاه أدبي عريق في الشعر والنثر على حد سواء. إن الغرائبية أسلوب قص لا يزدهر في المناخ الديمقراطي، ولا يعيش في مناخ حرية التعبير والتفكير، بل يزدهر كلما زادت الديمقراطية هزالاً، ويتألق كلما انحسر حق المبدع في التعبير. ولهذا السبب عرفت الآداب الأجنبية والعربية هذا الأسلوب الغرائبي في أزمنة الضيق والتضييق وحدها. وشهدت في الأزمنة نفسها وتنويعه ونقله من المحلية إلى الإنسانية»( ).
ويرى الدكتور سمر روحي الفيصل أن الأسلوب الغرائبي "ليس نمطاً واحداً لدى أتباعه من القاصين العرب، بل هو أنماط عدة، يتزياً كل نمط منها بزي صاحبه، ويحمل طابعه. فالتكثيف الشديد، والإيحاء العميق، والارتفاع فوق الواقع، وتوظيف التاريخ والحيوان وأشياء الطبيعة، أبرز سمات الأسلوب الغرائبي عن زكريا تامر، ولا نعثر على هذه السمات في أسلوب فاضل السباعي، بل نعثر على حكاية واضحة مباشرة، ولكن بطلها يلاحق دون أن يعرف سبب ملاحقته، وتقطع يده دون أن يكف عن الكتابة والنقد، وتفقأ عيناه دون أن يفقد القدرة على التحديق في الأشياء الممنوعة. وعلى الرغم من التباين بين أسلوبي هذين القاصين، فإنما اشتركا في بناء علاقات قصصية غير منطقية بين حوادث قصصهما وشخصياتها"( ).
ويقول: «وهناك تعليلات كثيرة لسيادة هذا الأسلوب الغرائبي، أبرزها التضاد بين رغبة القاص في نقد النظام السياسي، ورغبة النظام نفسه في منع النقد من أن يكشف حقيقته. ولا حل منطقياً للتضاد بين هذين الطرفين؛ لأن النظام مستعد دائماً لإسكات القاص، ومن مبادئ القاص ألا يسكت عن فضح الدمامة في المجتمع، ولكنه إنسان يخاف كما يخاف كل إنسان، فينتقد بأسلوب غرائبي قابل لتأويلات شتّى، وإيحاءات كثيرة، كل تأويل منها ينجيه من العقاب؛ لأنه دال على الشيء ونقيضه، فليمسك به الرقيب إذا كان قادراً على فهم شيء واحد ليس غير من الأسلوب الغرائبي»( ).
ويستخدم محمد جبريل أحياناً الغرائبية المرتبطة بالخرافة والاعتقادات الشعبية في بعض المناطق، ومنه ما يرويه عن شيخ عُماني: «حدثتُ نفسي أني قادم إلى بهلا لأعرف أين أنت، وليس للعثور عليك. جئتُ إلى الشيخ بأحاديث كراماته وأعاجيب سحره. روى الناس أنه نقل مسجداً في بهلا ـ لخطيئة لواط ارتكبت في داخله ـ إلى مدينة بعيدة، ورووْا أنه حوّل البشر إلى حجارة بإذن الله»( ) .
(يتبع)

د. حسين علي محمد
19-11-2006, 06:20 PM
الخاتمة
.......
شغلت أبناء الستينيات وما تلاه قضية الالتزام مع الإحكام الفني، وتشعّبت السبل، ولكن اتفق الجميع على أن العمل الفني (قصيدة ـ قصة ـ مسرحية .. إلخ) يجب ـ مع رؤيته الملتزمة بهموم الوطن أن يكون بناءً فنيا متماسكاً له معماره الخاص جماليا الذي يستولي على قارئه: فيحس القارئ أنه أمام عمل فني عظيم ليست فيه زوائد، ولا يُمكنك بتْر جزء من منه وإلا خرّ بنيان العمل الفني من أساسه.
وليست هناك (وصفة) سحرية يلتزمها كل أديب ليحقق الالتزام والإمتاع الفني، فكل أديب يُحاول أن يُقدِّم إجابته لهذا الإشكال عن طريق عمله الفني ذاته.
إن التزام الكاتب يجعل الأمر ميسَّراً بالنسبة للمتلقي، حيث يستجيبُ للعمل الذي يمسُّ قضاياه المعاصرة، و(يتعاطف) معه، ويستطيع القارئ أن يتأمّل ويرى: هل هذا العمل مناسب؟ وكيف طرح رؤاه؟ وهل هناك جمل أو كلمات غير مناسبة ويمكن الاستغناء عنها؟ … إلخ.
وكما لاحظنا فإن الهم الأكبر عند القاص محمد جبريل يتمثَّل في الهمِّ السياسي، الذي يُحاصر أبطاله، ويُطاردهم في شراسةِ مُطاردة "ليفي" في قصة "تكوينات رمادية"، والسمان" في قصة "حدث استثنائي في أيام الأنفوشي". وقد تكون المُطاردة من الواقع الإعلامي والثقافي الذي يُشوِّه الأبطال التاريخيين لنا، كما في قصة "الرائحة". وقد يكون الواقع الاجتماعي الضاغط على البطل العادي، الذي يمثل الإنسان المأزوم ـ كما في قصة "الخيوط" ـ لكن يبقى الهم السياسي هو الضّاغط، والمسيطِر على الكم الأكبر من قصص محمد جبريل القصيرة، التي مثّلنا لها بنماذج محدودة.
وقصص محمد جبريل من المطاردة إلى التمرد إلى المٌقاومة تكشف عن رغبة القاص في إذكاء نار المقاومة من العدو الذي اغتصب فلسطين، ويُهدد وجودنا ذاته، ولا بد من المقاومة التي تعني الحياةَ عند القاص، وإلا فالبديل هو الجنون.
ولم يتوقف محمد جبريل عند الهم السياسي، ولكنه صور هموم القاع الاجتماعي، وأهم ما توقف عنده هو عدم وجود مأوى للإنسان يضمه، وينام فيه ليستريح من عناء يومه، وليستطيع في غده أن يكمل مسيرة حياته.
وقد حافظ محمد جبريل على العناصر الفنية للقصة من أحداث ومكان وزمان وشخصيات وحبكة. لكن اللافت للنظر أنه أفاد من إمكانات الفنون الأخرى، فقد أفاد من التصوير في عنايته برسم جمالية المكان، وأفاد من المسرحية في الحوار المكثف الذي يكشف عن دوافع الشخصيات، وينمي الحادثة ويسير بها ناحية الاكتمال، وأفاد من الشعر في لوحاته التصويرية المكثفة.
وقد كشف الكتاب عن دور محمد جبريل الرائد في فن القصة القصيرة جدا في مجموعته الأولى «تلك اللحظة من حياة العالم» الصادرة في عام (1970م)، قبل أن يشيع هذا المصطلح في نهاية القرن العشرين، وتخصص لمبدعيه بعض صفحات الصحف الأدبية، أو تُعقد له الندوات هنا وهناك.
***
المصادر والمراجع
أ-المصادر:
محمد جبريل:
1-انعكاسات الأيام العصيبة، كتاب الوطن، سلطنة عمان، نزوى 1981م.
2-انفراجة الباب، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1997م.
3-تلك اللحظة من حياة العالم، لجنة النشر للجامعيين، مطابع رابطة الإصلاح الاجتماعي، القاهرة 1970م.
4-حارة اليهود، مطبوعات الثقافة الجماهيرية (العدد38)، القاهرة 1999م.
5-حكايات وهوامش من حياة المبتلى، سلسلة "أصوات أدبية"، القاهرة 1996م.
6-رسالة السهم الذي لا يُخطئ، ط1، مكتبة مصر، القاهرة 2000م.
7-سوق العيد، مختارات فصول، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1997م.
8-موت قارع الأجراس، سلسلة «أصوات أدبية» العدد (329)، الهيئة العمة لقصور الثقافة، نوفمبر 2002م.
9-هل؟، مختارات فصول، العدد (42)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1987م.
ب-المراجع (كتب)
د. إبراهيم حمادة:
10-طبيعة الدراما، دار المعارف، القاهرة 1978م.
أحمد حسن الزيات:
11-من وحي الرسالة، دار نهضة مصر، القاهرة د.ت.
أ. م. فورستر:
12-أركان القصة، ترجمة: كمال عيّاد جاد، دار الكرنك، القاهرة 1960م.
تشارلس مورجان:
13-الكاتب وعالمه، ترجمة: د. شكري محمد عيّاد، الألف كتاب (العدد 500)، مؤسسة سجل العرب، القاهرة 1964م.
حسن بحراوي:
14-بنية الشكل الروائي: الفضاء، الزمن، الشخصية، ط1، المركز الثقافي العربي، بيروت 1990م.
حسين حلمي المهندس:
15-دراما الشاشة بين النظرية والتطبيق، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1989م.
د. حسين علي محمد:
16-الأدب العربي الحديث: الرؤية والتشكيل، الوفاء لدنيا الطباعة، الإسكندرية 1999م.
17-البطل في المسرح الشعري المُعاصر، ط2، سلسلة «أصوات مُعاصرة»، مطبعة الفارس العربي، الزقازيق 1996م.
18-جماليات القصة القصيرة، ط1، الشركة العربية للنشر والتوزيع، القاهرة 1996م.
19-صورة البطل المطارد في روايات محمد جبريل، ط1، دار الوفاء لدنيا الطباعة، الإسكندرية 1999م.
20-قراءات في أدب محمد جبريل، ط1، مكتب منيرفا للطباعة، الزقازيق 1984م.
21-من وحي المساء (مقالات ومحاورات)، ط1، دار الوفاء لدنيا الطباعة، الإسكندرية 1999م.
حسين القباني:
22-فن كتابة القصة، ط3، دار الجيل، بيروت 1979م.
د. حلمي محمد القاعود:
23-الواقعية الإسلامية في أدب نجيب الكيلاني: دراسة نقدية، ط1، دار البشير، عمّان 1417هـ-1996م.
د. حمدي حسين:
24-الرؤية السياسية في الرواية الواقعية في مصر (1965-1975م)، ط1، مكتبة الآداب، القاهرة 1414هـ-1994م.
ديفيد دتشس:
25-مناهج النقد الأدبي بين النظرية والتطبيق، ترجمة: د. محمد يوسف نجم، دار صادر، بيروت، د.ت.
د. رشاد رشدي:
26-فن القصة القصيرة، ط2، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة 1964م.
روبرت هولب:
27-نظرية التلقي، ترجمة: د. عز الدين إسماعيل، النادي الأدبي الثقافي، جدة 1994م.
د. سعد البازعي:
28-إحالات القصيدة: قراءات في الشعر المُعاصر، نادي الرياض الأدبي، الرياض 1419هـ.
د. السعيد الورقي:
29-القصة والفنون الجميلة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة 1997م.
د. سليمان الشطي:
30-الرمز والرمزية في أدب نجيب محفوظ، ط1، المطبعة العصرية الكويت 1976م.
د. السيد مرسي أبو ذكري:
31-العمل الأدبي بين الإبداع والأداء، ط1، دار الطباعة الحديثة، القاهرة 1987م.
د. سيد حامد النساج:
32-أصوات في القصة القصيرة المصرية، دار المعارف، القاهرة 1994م.
د. شكري محمد عياد:
33-الأدب في عالم متغير، ط1، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، القاهرة 1971م.
د. صلاح فضل:
34-أساليب السرد في الرواية العربية، سلسلة "كتابات نقدية"(36)، شركة الأمل للطباعة والنشر، القاهرة 1995م.
د. عبد الحميد القط:
35-يوسف إدريس والفن القصصي، ط1، دار المعارف، القاهرة 1980م.
عبد العال الحمامصي:
36-انطباعات غير نقدية، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة د.ت.
د. عبد الله بن صالح العريني:
37-المجال الإبداعي في الشعر: دراسة نقدية، ط1، نادي القصيم الأدبي، بريدة 1422هـ-2001م.
د. عبد المحسن طه بدر:
38-الروائي والأرض، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، القاهرة 1971م.
39-نجيب محفوظ: الرؤية والأداة، دار الثقافة للطباعة وانشر، القاهرة 1978م.
د. عز الدين إسماعيل:
40-الأدب وفنونه، ط1، دار الفكر العربي، القاهرة 1957م.
41-التفسير النفسي للأدب، دار العودة، بيروت 1972م.
د. علي عشري زايد:
42-استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر، دار الفكر العربي، القاهرة 1417هـ-1997م.
43-عن بناء القصيدة العربية الحديثة، ط2، مكتبة دار العلوم، دار مرجان للطباعة، القاهرة 1979م.
كارل رايس:
44-فن المونتاج السينمائي، ترجمة: أحمد الحضري، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر، القاهرة 1965م.
د.كمال نشأت:
45-في النقد الأدبي: دراسة وتطبيق، ط2، الجامعة المستنصرية، بغداد 1976م.
د. ماهر شفيق فريد:
46-فسيفساء نقدية، ط1، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، الإسكندرية 1999م.
د. محسن أطيمش:
47-دير الملاك: دراسة نقدية للظواهر الفنية في الشعر العراقي المُعاصر، ط1، دار الرشيد، بغداد 1982م.
د. محمد جابر الأنصاري:
48-تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي 1930-1970م، سلسلة عالم المعرفة، العدد 35، الكويت 1980م.
محمد جبريل:
49-حكايات عن جزيرة فاروس، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، الإسكندرية 1998م.
50-نجيب محفوظ: صداقة جيلين، سلسلة "كتابات نقدية" (16)، مطابع الأهرام، القاهرة 1993م.
محمد عبد الحليم عبد الله:
51-ألوان من السعادة، مكتبة مصر، القاهرة د.ت.
د. محمد فتوح أحمد:
52-الـرمز والرمزية في الشعر العربي المُعاصر، دار المعارف، القاهرة 1977م.
د. محمد يوسف نجم:
53-فن القصة، ط7، دار الثقافة، بيروت 1979م.
محمود تيمور:
54-دراسات في القصة والمسرح، مكتبة القاهرة، المطبعة النموذجية، القاهرة د.ت.
د. مراد عبد الرحمن مبروك:
55-الظواهر الفنية في القصة القصيرة المعاصرة في مصر (1967-1984)، ط1، الهيئة المصـرية العامة للكتاب، القاهرة 1989م.
56-العناصر التراثية في الرواية العربية في مصر (1914-1986): دراسة نقدية، ط1، دار المعارف، القاهرة 1991م.
الدوريات
د. أحمد السعدني:
57-الأداء والفن في «أزمنة الحلـم الزجاجي» لخالد أحمد اليوسف: مقارنة ببعض أعمال ناتالي ساروت، العددان (7، ، رجب 1420هـ-نوفمبر 1999م.
باسم عبدو:
58-شخصيات القاع الاجتماعي في قصص عدنان كنفاني، الأسبوع الأدبي ـ العدد 760 ـ 26/5/2001م.
د. حسين علي محمد:
59-أستدعي الإلهام ولا أجلس في انتظاره (حوار مع الروائي محمد جبريل) المجلة العربية"، العدد (254)، الصادر في ربع الأول 1419هـ ـ يوليو 1998م.
60-الحوار في قصص محمد جبريل القصيرة، موقع "أزاهير" على الإنترنت، في 14/5/2006م.
61-حوار مع الروائي محمد جبريل، مجلة "القصة"، عدد يوليو 1990م.
62-الرمز في قصص «حارة اليهود» لمحمد جبريل، مجلة «الرافد»، عدد مايو 2002م.
63-السحار: رحلة إلى السيرة النبوية: لمحمد جبريل، مجلة "الأدب الإسلامي"، العدد (24) ـ عام 1420هـ.
د. حمدي السكوت:
64-الواقعية ومدرسة محمد تيمور، مجلة «المجلة»، العدد (165)، سبتمبر 1970م.
د. سمر روحي الفيصل:
65-الغرائبية، صحيفة «الأسبوع الأدبي» (دمشق)، (موقع المجلة على الإنترنت).
طلعت سقيرق:
66-مشكلة القصة القصيرة جدا، موقع «القصة القصيرة جدا»، في 29/11/2001م.
علاء الدين وحيد:
67-ضياء قصبجي وعالـم القهر، مجلة "الموقف الأدبي" (دمشق)، العـدد (358)، شباط 2001م.
د. علي زيتون:
68-بناء الشخصيات في رواية حسن العواقب لزينب فوّاز، صحيفة "الأسبوع الأدبي"، العدد 821 تاريخ 24/8/2002م.
مجهول:
69-حوار مع محمد جبريل، مجلة «اليقظة»، العدد (1756)، في 25/10/2002م.
محمد جبريل:
70-الجسر (قصة قصيرة)، الأهرام ، العدد 42368، في 6/12/2002م، الملحق.
محمود تيمور:
71-شندويل يبحث عن عروس، مجلة "العربي"، العدد ( 127)، يونيو 1969م.
مصطفى بيومي:
72-قراءة في مجموعة "هل؟"، مجلة "إبداع"، عدد ديسمبر 1987م.



(تــــــــــم الكتـــــــــــــاب)