تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : الشورى في القرآن الكريم



د. عمر جلال الدين هزاع
05-12-2006, 02:24 AM
الموضع الأول

قوله تعالى " فبما رحمة من الله لنت لهم "
قال -تعالى- في سورة آل عمران: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)( ) [ سورة آل عمران، الآية 159 ].

هذه الآية جاء الأمر فيها بالمشاورة صريحا واضحا. (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)( )

* قال الإمام الطبري في تفسير هذه الآية:
ثم اختلف أهل التأويل في المعنى الذي من أجله أمر -تعالى ذكره- نبيه صلى الله عليه وسلم أن يشاورهم، وما المعنى الذي أمره أن يشاورهم فيه؟ فقال بعضهم: أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)( ) [ سورة آل عمران، الأية: 159 ] بمشاورة أصحابه في مكايد الحرب، وعند لقاء العدو، تطييبا منه بذلك لأنفسهم، وتألفا لهم على دينهم، وليروا أنه يسمع منهم، ويستعين بهم، وإن كان الله  قد أغناه بتدبيره له أموره وسياسته إياه، وتقويمه أسبابه عنهم.
ثم ذكر أقوال العلماء في ذلك، ومن ذلك ما رواه عن قتادة حيث قال:
أمر الله  نبيه صلى الله عليه وسلم أن يشاور أصحابه في الأمور، وهو يأتيه وحي السماء، لأنه أطيب لأنفس القوم، وإن القوم إذا شاور بعضهم بعضا، وأرادوا بذلك وجه الله عزم لهم على أرشده.
* ثم قال الإمام الطبري: "وقال آخرون: بل أمره بذلك في ذلك -وإن كان له الرأي وأصوب الأمور في التدبير- لما علم في المشورة -تعالى ذكره- من الفضل".
وروي عن الضحاك بن مزاحم قوله: ما أمر الله  نبيه صلى الله عليه وسلم بالمشورة إلا لما علم فيها من الفضل.
* وقال الحسن: "ما شاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمورهم".
* قال الطبري: وقال آخرون: "إنما أمر الله بمشاورة أصحابه فيما أمره بمشاورتهم فيه، مع إغنائه بتقويمه إياه، وتدبيره أسبابه عن آرائهم، ليتبعه المؤمنون من بعده فيما حزبهم من أمر دينهم، ويستنوا بسنته في ذلك، ويحتذوا المثال الذي رأوه يفعله في حياته من مشاورته في أموره -مع المنـزلة التي هو بها من الله- أصحابه وأتباعه في الأمر، ينـزل بهم من أمر دينهم ودنياهم، فيتشاوروا بينهم، ثم يصدروا عما اجتمع عليه ملؤهم، لأن المؤمنين إذا تشاوروا في أمور دينهم متبعين الحق في ذلك، لم يخلهم الله -تعالى- من لطفه، وتوفيقه للصواب من الرأي، والقول فيه.

* ثم قال الطبري:
"وأولى الأقوال بالصواب في ذلك أن يقال: إن الله  أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه فيما حزبه من أمر عدوه، ومكايد حربه، تألفا منه بذلك من لم تكن بصيرته بالإسلام البصيرة التي يؤمن عليه معها فتنة الشيطان، وتعريفا منه أمته ما في الأمور التي تحزبهم من بعده ومطلبها، ليقتدوا به في ذلك عند النوازل التي تنـزل بهم، فيتشاوروا فيما بينهم، كما كانوا يرونه في حياته صلى الله عليه وسلم يفعله."
فأما النبي صلى الله عليه وسلم فإن الله كان يعرفه مطالب وجوه ما حزبه من الأمور بوحيه، أو إلهامه إياه صواب ذلك.
وأما أمته فإنهم إذا تشاوروا مستنين بفعله في ذلك على تصادق وتآخ للحق، وإرادة جميعهم للصواب، من غير ميل إلى هوى، ولا حيد عن هدى، فالله مسددهم وموفقهم ( ).

* وقال ابن الجوزي في تفسيره لهذه الآية:
اختلف العلماء لأي معنى أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه -مع كونه كامل الرأي، تام التدبير- على ثلاثة أقوال:
أحدها: ليستن به من بعده، وهذا قول الحسن وسفيان بن عيينة.
الثاني: لتطييب قلوبهم، وهو قول قتادة، والربيع، وابن إسحاق، ومقاتل، قال الشافعي -رحمه الله-: نظير هذا قوله صلى الله عليه وسلم " البكر تستأمر فيها نفسها " ( ). إنما أراد استطابة نفسها، فإنها لو كرهت كان للأب أن يزوجها ( ) وكذلك مشاورة إبراهيم -عليه السلام- لابنه حين أمر بذبحه.
الثالث: للإعلام ببركة المشاورة، وهو قول الضحاك.
• وقال ابن عاشور في تفسيره للآية:
(وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)( ) [ سورة آل عمران، الآية: 159 ] أل في الأمر للجنس، والمراد بالأمر: المهم الذي يؤتمر له، ومنه قولهم: أمْر أمِر. وقال أبو سفيان لأصحابه -في حديث هرقل-: لقد أمِر أمْر ابن أبي كبشة، إنه يخافه ملك بني الأصفر. وقيل: أريد بالأمر أمر الحرب، فاللام للعهد.
وظاهر الأمر أن المراد المشاورة الحقيقية التي يقصد منها الاستعانة برأي المستشارين، بدليل قوله -تعالى- عقبه: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ)( ) [ سورة آل عمران، الآية: 159 ] فضمير الجمع في قوله: (وَشَاوِرْهُمْ). عائد على المسلمين خاصة، أي: شاور الذين أسلموا من بين من لنت لهم، أي: لا يصدك خطل رأيهم فيما بدا منهم يوم أحد عن أن تستعين برأيهم في مواقع أخرى.
* ثم قال: وقد دلت الآية على أن الشورى مأمور بها الرسول صلى الله عليه وسلم فيما عبر عنه بالأمر، وهو من مهمات الأمة ومصالحها في الحرب وغيره، وذلك في غير أمر التشريع ( ).
وأختم ما ذكره المفسرون حول هذه الآية بهذا الكلام لسيد قطب حيث قال:
(وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)( ) [ سورة آل عمران، الآية 159 ] "وبهذا النص الجازم يقرر الإسلام هذا المبدأ، وهو نص قاطع، لا يدع للأمة المسلمة شكا في أن الشورى مبدأ أساسي، لا يقوم نظام الإسلام على أساس سواه، أما شكل الشورى، والوسيلة التي تتحقق بها، فهذه أمور قابلة للتحوير والتطوير، وفق أوضاع الأمة وملابسات حياتها، وكل شكل، وكل وسيلة تتم بها حقيقة الشورى -لا مظهرها- فهي من الإسلام".

* ثم قال كلاماً مهما أذكره -مختصرا-:
"لقد جاء هذا النص عقب وقوع نتائج للشورى تبدو في ظاهرها خطيرة مريرة، فقد كان من جرائها ظاهريا وقوع خلل في وحدة الصف المسلم. اختلفت الآراء قبل معركة أحد، فرأت مجموعة أن يبقى المسلمون في المدينة محتمين بها، وتحمست مجموعة أخرى، فرأت الخروج للقاء المشركين، وكان من جراء هذا الاختلاف ذلك الخلل في وحدة الصف، إذ عاد عبد الله بن أبي بثلث الجيش (كما وقعت الهزيمة في المعركة)."
ولقد كان من حق القيادة النبوية أن تنبذ مبدأ الشورى كله بعد المعركة، أمام ما أحدثته من انقسام في الصفوف في أحرج الظروف، وأمام النتائج المريرة التي انتهت إليها المعركة. (هكذا قد يبدو لنا الأمر)، ولكن الإسلام كان ينشئ أمة، ويربيها، ويعدها لقيادة البشرية، وكان الله يعلم أن خير وسيلة لتربية الأمة وإعدادها للقيادة الرشيدة أن تربى بالشورى، وأن تدرب على حمل التبعة، وأن تخطئ لتعرف كيف تصحح خطأها، وكيف تحمل تبعات رأيها وتصرفها، فهي لا تتعلم الصواب إلا إذا زاولت الخطأ، والخسائر لا تهم إذا كانت الحصيلة هي إنشاء الأمة المدربة، المدركة، المقدرة للتبعة.
إن وقوع تلك الأحداث، ووجود تلك الملابسات لم يلغ هذا الحق، لأن الله -سبحانه وتعالى- يعلم أنه لا بد من مزاولته في أخطر الشئون، ومهما تكن النتائج، ومهما تكن الخسائر، فهذه كلها جزئيات، لا تقوم أمام إنشاء الأمة الراشدة، المدربة بالفعل على الحياة، المدركة لتبعات الرأي والعمل، الواعية لنتائج الرأي والعمل، ومن هنا جاء هذا الأمر الإلهي في هذا الوقت بالذات (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)( ) [ سورة آل عمران، الآية: 159 ].
إن حقيقة الشورى هي تقليب أوجه الرأي، واختيار اتجاه من الاتجاهات المعروضة، فإذا انتهى الأمر إلى هذا الحد انتهى دور الشورى، وجاء دور التنفيذ، التنفيذ في عزم وحسم، وفي توكل على الله ( ).

* * وبعد: فقد أطلت في تفسير هذه الآية، لأنها أصل في تشريع الشورى، وما بعدها من آيات يدور حول معناها، وإن كان لكل آية مدلوها الذي تتميز به عن غيرها.

د. عمر جلال الدين هزاع
05-12-2006, 02:24 AM
الموضع الثاني: قوله تعالى " والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة"

قال -تعالى- في سورة الشورى: مبينا بعض صفات المؤمنين، ومثنيا عليهم في ذلك: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)( ) [ سورة الشورى، الآية: 38 ].

* قال الإمام الطبري في تفسير هذه الآية: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)( ) [ سورة الشورى، الآية: 38 ] وإذا حزبهم أمر تشاوروا فيما بينهم.
* قال ابن زيد: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ)( ) الأنصار (وَأَقَامُوا الصَّلاةَ)( ) وليس فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)( ) ليس فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا ( ).
* وقال القرطبي: كان الأنصار قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أمرا تشاوروا فيه، ثم عملوا عليه، فمدحهم الله -تعالى- به ( ).

* وقال: ابن كثير: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)( ) [ سورة الشورى، الآية: 38 ] أي لا يبرمون أمرا حتى يتشاوروا فيه، ليتساعدوا بآرائهم في مثل الحروب وما جرى مجراها، كما قال -تبارك وتعالى-: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)( ) [ سورة آل عمران، الآية: 159. ] ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يشاورهم في الحروب ونحوها؛ ليطيب بذلك قلوبهم، وهكذا لما حضرت عمر بن الخطاب رضي الله عنه الوفاة حين طعن، جعل الأمر بعده شورى في ستة نفر ( ).

* وقال القاسمي: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)( ) [ سورة الشورى، الآية: 38 ] أي لا ينفردون برأي حتى يتشاوروا ويجتمعوا عليه، وذلك من فرط تدبيرهم، وتيقظهم، وصدق تآخيهم في إيمانهم، وتحابهم في الله -تعالى- ( ).

* وقال سيد قطب: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)( ) [ سورة الشورى، الآية: 38 ] والتعبير يجعل أمرهم كله شورى، ليصبغ الحياة كلها بهذه الصبغة، وهو نص مكي، كان قبل قيام الدولة الإسلامية، فهذا الطابع إذن أعم وأشمل من الدولة في حياة المسلمين، إنه طابع الجماعة الإسلامية في كل حالاتها، ولو كانت الدولة بمعناها الخاص لم تقم بعد ( ).

* وقال الأستاذ عدنان النحوي: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)( ) [ سورة الشورى، الآية: 38 ] هي جزء من آية، فلا يستحب أن تؤخذ من دون الآية بتمامها، فستفقد بريقا وروحا ومعان.
والآية جزء من مجموعة من الآيات، قد لا تبدو علاقتها مع الشورى للنظرة الأولى، ولكنها تربط صفات المؤمنين ربط تكامل وتناسق، فإذا أخذت الآية وحدها اختفت ظلال وقواعد.

* وهذه المجموعة من الآيات جزء من سورة سميت الشورى، وقد لا تبدو علاقتها بالشورى لأول وهلة، ولكن التدبر، والتمحيص، وفهم أسلوب القرآن الكريم في البناء والتربية يكشف لنا عظمة ترابط الكلمات مع الآية، والآية مع مجموع الآيات، والمجموعة مع السورة كلها، والسورة كلها مع منهاج الله.
وهنا نجد البون الشاسع بين أن نأخذ الكلمات الثلاث وحدها، وبين أن نأخذها في أجواء منهاج الله على إيمان وعلم وتدبر ( ).

د. عمر جلال الدين هزاع
05-12-2006, 02:24 AM
الموضع الثالث: قوله تعالى "فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما"

قال -تعالى- في سورة البقرة: (فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا)( ) [سورة البقرة، الآية: 233 ].
وقال -سبحانه- في سورة الطلاق: (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى)( ) [ سورة الطلاق، الآية: 6 ].

هاتان الآيتان في موضوع إرضاع الصبي، ووجوب التشاور حول فطامه، ومن يرضعه ومقدار الأجرة لذلك؟!!

* قال الطبري في آية البقرة: قال بعضهم: عني بذلك: فإن أراد فصالا في الحولين عن تراض منهما وتشاور، فلا جناح عليهما.
* قال قتادة: إذا أرادت الوالدة أن تفصل ولدها قبل الحولين، فكان ذلك عن تارض منهما وتشاور، فلا بأس به.
* وقال مجاهد: التشاور فيما دون الحولين، ليس لها أن تفطمه إلا أن يرضى، وليس له أن يفطمه إلا أن ترضى.
* ثم قال الطبري: فإن أرادا فصالا في الحولين عن تراض منهما وتشاور، ولا تشاور بعد انقضائه، وإنما التشاور والتراضي قبل انقضاء نهايته ( ).

* وقال ابن كثير في سورة الطلاق الآية (6). (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ)( ) أي: ولتكن أموركم فيما بينكم بالمعروف من غير إضرار ولا مضارة ( ).

* وقال سيد قطب في آية البقرة: "فإن شاء الوالد والوالدة، أو الوالدة والوارث أن يفطما الطفل قبل استيفاء العامين، لأنهما يريان مصلحة للطفل في ذلك الفطام، لسبب صحي أو سواه فلا جناح عليهما، إذا تم هذا بالرضى بينهما، وبالتشاور في مصلحة الرضيع الموكول إليهما رعايته، المفروض عليهما حمايته" ( ).

* قال عدنان النحوي في آية سورة الطلاق: "وظلال هذه الكلمات من خلال الآية الكريمة توحي بضرورة التشاور بين الزوجين رعاية لحق المولود، حتى يتم الأمر بينهما على أساس من الحقوق المحددة الواضحة في هذه الآية الكريمة" ( ).

د. عمر جلال الدين هزاع
05-12-2006, 02:25 AM
الموضع الرابع: قوله تعالى "إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله "

قال -تعالى- في سورة النور: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ)( ) [ سورة النور، الآية: 62 ].

* قال ابن كثير: إذا كانوا في أمر جامع مع الرسول صلى الله عليه وسلم من صلاة جمعة، أو عيد جماعة، أو اجتماع في مشورة، ونحو ذلك، أمرهم الله -تعالى- ألا يتفرقوا عنه والحالة هذه إلا بعد استئذانه ومشاورته ( ).

* وقال الطبري: (عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ) ( ) يقول: على أمر يجمع جميعهم من حرب حضرت، أو صلاة اجتمع لها، أو تشاور في أمر نـزل (لَمْ يَذْهَبُوا)( ) يقول: لم ينصرفوا عما اجتمعوا له من الأمر، حتى يستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ( ).

وقال سيد قطب: والأمر الجامع: الأمر المهم الذي يقتضي اشتراك الجماعة فيه، لرأي أو حرب أو عمل من الأعمال العامة، فلا يذهب المؤمنون حتى يستأذنوا إمامهم، كي لا يصبح الأمر فوضى، بلا وقار ولا نظام ( ).

د. عمر جلال الدين هزاع
05-12-2006, 02:25 AM
الموضع الخامس : قوله تعالى "إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة"

قوله -تعالى- عن إخوة يوسف: (إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ)( ) [سورة يوسف، الآيات: 8-10. ] ثم قال بعد ذلك: (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)( ) [ سورة يوسف، الآية: 15 ].

وفي قصة السرقة التي ذكرها الله في آخر السورة، وبعد أن بذلوا محاولاتهم لأن يطلق يوسف سراح أخيهم، فلما عجزوا ماذا حدث؟ قال الله -تعالى-: (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ)( ) [ سورة يوسف، الآية: 80 ].
فهده الآيات مثال عملي على مزاولة الشورى، وهي منهج قد ألفوه، فقد تشاوروا عندما أرادوا التخلص من يوسف، وتشاوروا عندما وقعوا في مشكلة السرقة.

* قال الطبري: قال إخوة يوسف بعضهم لبعض: اقتلوا يوسف، أو اطوحوه في أرض من الأرض.
* ثم قال: قال ابن إسحاق في قوله -تعالى-: (قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ)( ) [ سورة يوسف، الآية: 10 ] ذكر لي -والله أعلم- أن الذي قال ذلك منهم روبيل الأكبر من بني يعقوب، وكان أقصدهم فيه رأيا ( ).

* وقال ابن كثير: فصرفهم الله عنه بمقالة روبيل فيه، وإشارته عليهم بأن يلقوه في غيابة الجب ( ).

* قال الطبري في قوله: (وَأَجْمَعُوا)( ) يقول: وأجمعوا رأيهم وعزموا على أن يجعلوه في غيابة الجب( ).
* وقال ابن كثير: إنهم اتفقوا كلهم على إلقائه في أسفل ذلك الجب ( ).
ومن خلال ما سبق يتضح أن الأمر كان بينهم شورى، حيث اختلفوا أولا، ثم اتفقوا ثانيا على الرأي الذي أبداه روبيل، أما في قصة السرقة التي وردت في السورة، فقد أخبر -سبحانه- عنهم بقوله: (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً)( ) [ سورة يوسف، الآية: 80 ].

* قال ابن الجوزي: (خَلَصُوا نَجِيّاً)( ) أي اعتزلوا الناس، ليس معهم غيرهم، يتناجون ويتناظرون ويتشاورون ( ).

* وقال ابن إسحاق: (خَلَصُوا نَجِيّاً)( ) أي: خلا بعضهم ببعض، ثم قالوا: ماذا ترون؟ ( ).

* وهكذا نجد إخوة يوسف -عليهم السلام - يتشاورون في قضية أخيهم ابتداء وانتهاء، مع أن تشاورهم الأول كان على أمر سوء (لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً)( ) [ سورة الأنفال، الآية: 44 ] وتشاورهم الثاني للخروج من مشكلة ليست من صنيعهم وفوجئوا بها. (مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ)( ) [ سورة يوسف، الآية: 76 ].

د. عمر جلال الدين هزاع
05-12-2006, 02:25 AM
الموضع السادس : قوله تعالى "قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري"

قال -تعالى- في سورة النمل، في ذكر ملكة سبأ وقصتها مع سليمان -عليه السلام-:
(قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ)( ) [ سورة النمل، الآية: 32 ].

• قال الطبري: قالت ملكة سبأ لأشراف قومها: (يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي)( ) [ سورة النمل، الآية: 32 ] تقول: أشيروا علي في أمري الذي قد حضرني من أمر صاحب هذا الكتاب الذي ألقي إليّ، فجعلت المشورة فتيا.
(مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ)( ) [ سورة النمل، الآية: 32 ] تقول: ما كنت قاضية أمرا في ذلك حتى تشهدون، فأشاوركم فيه.

* قال ابن زيد: دعت قومها تشاورهم ( ).

* وقال ابن الجوزي: قوله -تعالى-: (أَفْتُونِي فِي أَمْرِي)( ) أي: بينوا لي ما أفعل وأشيروا علي، قال الفراء: جعلت المشورة فتيا، وذلك جائز لسعة اللغة.
ثم قال: (حَتَّى تَشْهَدُونِ)( ) أي: تحضرون، والمعنى: إلا بحضوركم ومشورتكم ( )

* وقال ابن كثير: في تفسيره لهذه الآيات: لما قرأت عليهم كتاب سليمان استشارتهم في أمرها، وما قد نـزل بها. ولهذا قالت: (يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ)( ) [سورة النمل، الآية: 32] أي: حتى تحضرون وتشيرون( ).

قال سيد قطب: وهي تستشير الملأ من قومها في هذا الأمر الخطير، ثم قال: وواضح أنها لا تريد المقاومة والخصومة، ولكنها لا تقول هذا صراحة، إنما تمهد له بذلك الوصف، ثم تطلب الرأي بعد ذلك والمشورة ( ).
* وقال القاسمي في معنى الآية: (حَتَّى تَشْهَدُونِ)( ) أي: لا أبت أمرا إلا بمحضركم ومشورتكم، ولا أستبد بقضاء إلا باستطلاع آرائكم، والرجوع إلى استشارتكم ( ).

د. عمر جلال الدين هزاع
05-12-2006, 02:26 AM
الموضع السابع: قوله تعالى " قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم"

قال -تعالى- عن قصة فرعون مع موسى: (قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ)( ) [سورة الأعراف، الآيات: 109 - 111] وفي سورة الشعراء: (قَالَ لِلْمَلأِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ)( ) [ سورة الشعراء، الآيات: 34 - 36. ].

* قال الإمام الطبري: قال فرعون للملأ: (فَمَاذَا تَأْمُرُونَ)( ) [ سورة الأعراف، الآية: 110 ].
* يقول: فأي شيء تأمرون أن نفعل في أمره، بأي شيء تشيرون فيه ( ).

* وقال ابن الجوزي: قال ابن عباس: ما الذي تشيرون به عليّ ( ).

* وقال ابن كثير: فلما تشاوروا في شأنه، وائتمروا فيه اتفق رأيهم على ما حكاه الله عنهم في قوله -تعالى-: (قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ)( )( ) [ سورة الأعراف، الآية: 111 ].

د. عمر جلال الدين هزاع
05-12-2006, 02:26 AM
الموضع الثامن: قوله تعالى "وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك"

قال -تعالى- في سورة الأنفال: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)( ) [ سورة الأنفال، الآية: 30 ].

* قال قتادة ومقسم: تشاوروا فيه ليلة وهم بمكة، فقال بعضهم: إذا أصبح فأوثقوه بالوثاق، وقال بعضهم: بل اقتلوه، وقال بعضهم: بل أخرجوه ( ).

* وقال السدي: اجتمعت مشيخة قريش يتشاورون في النبي صلى الله عليه وسلم ( ).

وقال ابن زيد: اجتمعوا فتشاوروا في رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ( ).

قال ابن الجوزي: قال أهل التفسير: لما بويع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة، وأمر أصحابه أن يلحقوا بالمدينة، اتفقت قريش أن يعلو أمره، وقالوا: والله لكأنكم به قد كر عليكم بالرجال، فاجتمع جماعة من أشرافهم ليدخلوا دار الندوة فيتشاوروا في أمره ( ).

د. عمر جلال الدين هزاع
05-12-2006, 02:26 AM
الموضع التاسع: قوله تعالى "يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون"

قال -تعالى- في سورة يوسف حكاية عن العزيز عندما رأى الرؤيا، حيث جمع ملأه، ثم قال لهم: (يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ)( ) [ سورة يوسف، الآية: 43 ].

وهذه الآية وإن كانت في الرؤيا، ولكنها تدل على الشورى، حيث جمع أشراف قومه وحكماءهم، ولم يقصر الأمر على من يعبر الرؤيا (وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعَالِمِينَ)( ) [ سورة يوسف، الآية: 44 ] مما يدل على أنه إذا جاءه أمر مهم جمع الملأ من قومه فشاورهم، وهذه الرؤيا من الأمور المهمة عنده -وهي كذلك-، وفي قولهم: (وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعَالِمِينَ)( ) [ سورة يوسف، الآية: 44 ] ما يفهم أنهم قالوا: ليس هذا من اختصاصنا، حيث إن مهمتنا إبداء الرأي في غير الرؤيا، فلها أهلها.

* قال ابن الجوزي: فدعا أشراف قومه، فقصها عليهم ( ).

قال الزجاج: والملأ الذين يرجع إليهم في الأمور ويقتدي برأيهم ( )

وقال القاسمي: (يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ)( ) [ سورة يوسف، الآية: 43 ] خطاب للأشراف من قومه ( ).
وقد وفق في استشارته حيث وجد في الملأ من دله على من يعبر له رؤياه، وهذا من ثمرات الاستشارة.

د. عمر جلال الدين هزاع
05-12-2006, 02:27 AM
الموضع العاشر:

وردت آيات كثيرة في التناجي والنجوى، وإن كانت النجوى ليست خاصة بالشورى والمشاورة، ولكن المشاورة صورة من الصور التي تتم عن طريق النجوى، كما قال -سبحانه- عن قوم فرعون عندما تشاوروا في موسى بناء على طلب فرعون. (فَمَاذَا تَأْمُرُونَ)( ) [ سورة الشعراء، الآية: 35 ] قال -سبحانه- مبينا لحالهم في تشاورهم.
(فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى)( ) [ سورة طه، الآية 62 ].

وكما قال عن إخوة يوسف: (خَلَصُوا نَجِيّاً)( ) [ سورة يوسف، الآية: 80 ] ولذلك أمر الله أن تكون النجوى بالخير، والتناجي بالبر والتقوى. قال -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)( ) [سورة المجادلة، الآية: 9 ].

وكما ذكرت فإن هذه الآية ليست خاصة في الشورى، بل هي أعم من ذلك، ولكن الشورى تدخل فيها من باب أولى ( ).

وقبل أن أتجاوز المواضع التي وردت في القرآن الكريم دالة على الشورى، أذكر موضعين أشار إليهما بعض المفسرين، مع أن الدلالة ليست مسلمة بإطلاق، وبخاصة في الموضع الأول، وسأذكر بعض ما قيل حول هذين الموضعين:

الموضع الأول:
قال -تعالى- في سورة البقرة: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ)( ) [سورة البقرة، الآية: 30 ].

* قال ابن عاشور: وقول الله هذا موجه إلى الملائكة على وجه الإخبار، ليسوقهم إلى معرفة فضل الجنس الإنساني، على وجه يزيل ما علم الله أنه في نفوسهم من سوء الظن بهذا الجنس، وليكون كالاستشارة لهم تكريما لهم، فيكون تعليما في قالب تكريم، مثل إلقاء المعلم فائدة للتلميذ في صورة سؤال وجواب، وليسنّ الاستشارة في الأمور، ولتنبيه الملائكة على ما دق وخفي من حكمة خلق آدم، كذا ذكر المفسرون، وعندي -الكلام لابن عاشور- أن هذه الاستشارة جعلت لتكون حقيقة مقارنة في الوجود لخلق أول البشر، حتى تكون ناموسا أشربته نفوس ذريته، لأن مقارنة شيء من الأحوال والمعاني لتكوين شيء ما تؤثر تآلفا بين ذلك الكائن وبين المقارن ( ).

* وقال في تفسيره لقوله -تعالى-: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)( ) [ سورة آل عمران، الآية: 159 ].
هذا والشورى ما جبل الله عليه الإنسان في فطرته السليمة، أي: فطره على محبة الصلاح، وتطلب النجاح في المساعي، ولذلك قرن الله -تعالى- خلق أصل البشر بالتشاور في شأنه إذ قال للملائكة: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)( ) [ سورة البقرة، الآية: 30 ].
إذ قد غني الله عن إعانة المخلوقات في الرأي، ولكنه عرض على الملائكة مراده؛ ليكون التشاور سنة في البشر، ضرورة أنه مقترن بتكوينه، فإن مقارنة الشيء للشيء في أصل التكوين يوجب إلفه وتعارفه، ولما كانت الشورى معنى من المعاني لا ذات لها في الوجود جعل الله إلفها للبشر بطريقة المقارنة في وقت التكوين ( ).

الموضع الثاني:
قال -تعالى- في سورة الصافات: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)( ) [ سورة الصافات، الآية 102 ].

قال الإمام الطبري: فإن قال قائل: أو كان إبراهيم يؤامر ابنه في المضي لأمر الله، والانتهاء إلى طاعته؟ قيل: لم يكن ذلك منه مشاورة لابنه في طاعة الله، ولكنه كان منه ليعلم ما عند ابنه من العزم، هل هو من الصبر على أمر الله على مثل الذي هو عليه، فيسر بذلك أم لا!! وهو في الأحوال كلها ماض لأمر الله ( ).

وقال ابن كثير: وإنما أعلم ابنه بذلك ليكون أهون عليه، وليختبر صبره وجلده وعزمه في صغره على طاعة الله -تعالى- وطاعة أبيه ( ).

قال القاسمي: قال الرازي: الحكمة في مشاورة الابن في هذا الباب، أن يطلع ابنه على هذه الواقعة ليظهر له صبره في طاعة، الله فتكون فيه قرة عين لإبراهيم، حيث يراه قد بلغ في الحلم إلى هذا الحد العظيم، وفي الصبر على أشد المكاره إلى هذه الدرجة العالية، ويحصل للابن الثواب في الآخرة، والثناء الحسن في الدنيا ( ).

إن هاتين الآيتين قد تبدو الشورى في ظاهر سياقهما، ولكن عند النظر في تفسيرهما، ندرك أنه لا شورى فيهما، لأن الاستشارة الحقيقية هي استخراج الرأي للإفادة منه من قِبَل المستشير، وذلك بالعمل به إن كان صوابا، وليس من هذا شيء في هاتين الآيتين كما ذكر المفسرون.

فالموضع الأول: الله غني عن رأي أحد من المخلوقين.
والموضع الثاني: قد جاء الأمر فيه من الله، وليس بعد أمر الله أمر ولا خيار (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)( ) [ سورة الأحزاب، الآية: 36 ].
دلالات يخرج منها المتأمل لآيات الشورى في القرآن الكريم

د. عمر جلال الدين هزاع
05-12-2006, 02:27 AM
وبعد:
وبعد أن ذكرت آيات الشورى ومواضعها في القرآن الكريم، وبينت أقوال المفسرين حول هذه الآيات، أجد أن هناك عدة دلالات يخرج منها المتأمل لهذه الآيات أوجزها فيما يلي:

1- إن نـزول قوله -تعالى-: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)( ) [ سورة آل عمران، الآية: 159 ] بعد وقعة أحد، وما حدث فيها وقبلها من أحداث، له دلالته الكبرى على مكانة الشورى، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم استشار أصحابه قبل غزوة أحد، هل يقاتلون وهم داخل المدينة، أو يخرجون خارج المدينة؟ فكان رأي بعض الصحابة أن يبقوا داخل المدينة، ورأى آخرون -وأكثرهم من الشباب الذين يتقدون حماسا- أن يكون القتال خارج المدينة لأسباب ذكرها هؤلاء، كما أن أولئك ذكروا أسبابا للبقاء.
وقد حدثت بعد ذلك أحداث لها صلة مباشرة بالشورى، أهمها:
(أ) رجوع عبد الله بن أبي بن سلول إلى المدينة، وتبعه ثلث الجيش، بعد أن خرجوا منها احتجاجا على أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم برأي الشباب، وتركه لرأي الشيوخ ( ) ومعلوم ما لهذا التصرف في هذا الوقت الحرج جدا من آثار حسية ومعنوية، يصعب حصرها، ويطول ذكرها.
(ب) وقوع الهزيمة في أحد مما قد يستغله البعض في القدح في نتيجة الشورى، ويجعل ذلك بسببها.
في هذا الوقت، وفي ظل هذه الأوضاع تنـزل آية الشورى قاطعة الطريق على أي محاولة للتشكيك في مبدأ الشورى أو النيل منه، وما حدث مع ضخامته لا يعدو أن يكون حادثة عين لا تقدح في الأصل، لأن حوادث الأعيان تنتهي بانتهاء آثارها، أما الأصل والمنهج فله صفة الاستمرار والشمول ( ).

2- ورود الشورى في القرآن جاء في عدة صيغ، فمرة بصيغة الأمر، ومرة بصيغة الخبر، وأخرى على شكل قصة، أو في سياق حدث من الأحداث.
إن تكرار الشورى، وتنوع عرضها يدل على ما لهذا الأسلوب من أثر في رسم المنهج وبيانه، وأهمية ترسيخ هذا المبدأ في حياة الناس، وعامة شئونهم.

3- إن ثناء الله -جل وعلا- على الأنصار لممارستهم للشورى قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك في قوله: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)( ) [ سورة الشورى، الآية: 38 ] يرسم للدعاة منهجا في مواجهة الأحداث بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا ما كان يفعله الأنصار قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك فعلوه بعد انتقاله للرفيق الأعلى، حيث استمر المهاجرون والأنصار وغيرهم يمارسون الشورى، وبخاصة عند الأحداث المهمة.

4- مما يستدعي الوقوف والتأمل: ممارسة الشورى من قبل الكفار، كما ذكر الله -جل وعلا- في كتابه الكريم عن فرعون، وملكة سبأ، ومشركي قريش، وغيرهم، وهذا له دلالات عدة، من أهمها أن الكفار أيضا يشتركون في معرفة أهمية المشاورة، وآثارها على الأمم عاجلا وآجلا.

وسياق بعض الآيات يدل على أن القضية ليست قضية عين، بل منهج حياة، وممارسة مستمرة، حيث قالت ملكة سبأ: (مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ)( ) [ سورة النمل، الآية: 32 ] فهى لن تقطع بأي أمر من الأمور دونهم، ويبدو أن هذا هو منهجها قبل هذه الحادثة.

ودار الندوة التي اجتمعت فيها قريش للتآمر على الرسول صلى الله عليه وسلم حيث تشاوروا في ذلك، يدل اسمها على أنها خصصت مكانا للاجتماع، والتشاور في الأمور التي تهم قريشا وتغشاها.