المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : بقايا ـ قصة ـ



عبدالسلام المودني
13-12-2006, 05:38 PM
بقـــايا



شمس ملهبة تطأ رأسه، كثبان من عدم تنتصب أمام يومه. ينفث دخانه بضجر، حتى السجائر ما عادت تثير فيه حماسته الأولى. لا طعم ليومه الأشبه بأمسه، و غده مكرور لهما. مسخ مضاعف لأصل واحد )حتّى الذباب هجر الوطن(. صارت لازمة أوقات ضيقه التي هي كل أوقاته. كلما أمعن في رؤية الفراغ الذي ملأ أماكن عيشه أو طيف حياته.

مذ ولى من هناك وحيداً، ألفى كل شيء تغير، أو أنه لم يجد شيئاً البتة. لم تعد الصحراء جنته التي قاتل من أجلها، و الأهل لم يخلّوا وراءهم غير خرقة من ثقوب ذاكرة معطلة.

كلما استفاق من خدر ذاكرته هجعت حواسه، بيد أنّ صوتاً عميقاً أخذ يلح في طرق صماخيه. تنشط عيناه. يشرعهما ببله مبصراً أطيافاً تتهادى إليه من بعيد موجع. يدعك عينيه. يقرص خده، يتألم. حتّى الأحلام هجرت أوطانها و أخذت في نزقها النوم مخلية له نزراً منه، يعوده كلما عنّ له ذلك. و في اليقظة الفراغ، و الأحلام تحب الفراغ.

لم يكن يحلم، موكب يتقدم منه تسبقه موسيقى يعرفها جيداً. متهالكة تهوي إليه أجزاء من ذاكرته. متعبة تضمد غربته. يذكرها جيداً.
كم كره مطاردتها لألمه كلما تورط في تشييع و دفن واحد من زملاء الحرب. لم تُبقٍِ له أحداً منهم. ذهبوا كلهم و خلوه حيث العدم.

لاشك أنهم جند فقدوا أحد رفاقهم في حرب الجنوب التي سمع عنها، و فقدوا معه طريق حُفر الموت. هم يسلكون الطريق الخطأ. بحركة غريزية و قف مستعيداً نشاطه و لياقته و ألمه. أخذ يعدل بزته العسكرية المتآكلة. حين عاد لم يجد الوطن الذي قاتل من أجله لكنه أصر على الإبقاء على تذكار منه. يعدل قبعته التي أضحت أكبر من رأسه.
تساءل مرة بسخرية مريرة:
- هل القبعة التي تكبر أم هي رأسي التي تصغر؟
يمسح التراب عن مؤخرته. أول شيء سيخبرهم به أنهم ضلوا طريقهم. يتصلب في وقفة عسكرية صارمة. تتجمد عيناه حيث الأفق المديد. يلقي التحية العسكرية. يخطف نظرة. نعم هو جندي قضى أثناء عمله في الحرب. )لأجل مثله تقام مثل هذه الطقوس( فكر بذلك و هو يرمق العلم الذي دثر الصندوق.

تستمر الموسيقى في العزف. يستمر هو في مكانه. يتوقف الموكب. يتقدم منه جنديان. ازدرد ريقه بصعوبة بالغة. الموسيقى مستمرة. على إيقاعها يشرع الجنديان في حفر حفرة أمامه. مستمر في وقفته الثابتة، يريد أن يقول شيئاً فيمنعه احترام قديم للجندية أن يفعل. )هم بلا شك ضلوا طريقهم (.

تستمر الموسيقى في العزف. يستمر هو في مكانه. ينتهي الجنديان من الحفر. يضع آخران الصندوق جانب الحفرة. ازدرد ريقه بصعوبة بالغة. الموسيقى مستمرة. على إيقاعها ينزع الجنديان العلم عن الصندوق. يشرعان في طيه طيّاً محكماً.
يسرق نظرة أطول هذه المرة إلى العلم.) العلم للصحراء. كان لها. هو لها بألوان الطيف و الأطياف(. يسلمه أحدهما للضابط بكل احترام. يتقدم منه الضابط بكل احترام. يلقي العلم في الحفرة بكل احترام. ينظر إليه في الحفرة بكل قرف. يعرف تلك النظرات جيداً. تعدو الذاكرة مولية إليه. تقرفص على عتبات وعيه. تلك الملامح و النظرات مستوطنة منطقة زاد بعدها من ظلمتها.

تستمر الموسيقى في العزف. يستمر هو في مكانه. يدنو منه الضابط بكل حزم. يلقي عليه التحية العسكرية بكل حزم. يزدرد ريقه بصعوبة بالغة. الموسيقى مستمرة. على إيقاعها يمد الضابط يده بكل ثقة. يقولً بكل حزن:
- أعزيك فيك.

بحث عن أهله طويلاً في بٍيد ذاكرته ولم يعثر لهم على مضارب. يعرف تلك البحة و ذاك الصوت. لا يمكن، إنه هو. قتل في الحرب من أجل الصحراء كما زملاء الموت الآخرين. يذكر تلك الملامح جيداً. ذاك الوجه كان يراه كل صباح على مرآته عند حلاقته. كسرت المرآة و بقي الوجه يلملم شظاياه.

يستفيق من هذيانه على أشلاء موسيقى بعيدة لأطياف تبتلعها الصحراء، و علم بألوان الطيف دفين حفرة، و صندوق مفتوح خال تماماً، و عزاء قديم قدّم له فيه.


سلا 23فبراير 2006

عبدالسلام المودني
18-12-2006, 03:06 PM
الفاضل شاهين أبو الفتوح

جزيل الشكر للمرور الكريم و الكلمات الجميلة التي غمرت بها متصفحي.

نعم سيدي

الفراغ يعشق الفراغ

ممتن لك و سعيد لتجاوبك و تفاعلك مع النص

محبتي الصافية
ع.السلام المودني

د. محمد حسن السمان
18-12-2006, 04:58 PM
سلام التلـه عليكم
الأخ الفاضل الأديب عبد السلام المودني

" بقايا " نص قصصي موفق , كتب بلغة رقيقة , تم بناؤه بشكل مشوّق , يعتمد الرمزية , والاسقاط النفسي , والمداهمات الخيالية , تخللته صور ذات بصمات قوية التأثير , تدفع القارىء الى التحليق في خيالاته , ثم جاءت النهاية بشكل لافت , صحوة خاطفة:
يستفيق من هذيانه على أشلاء موسيقى بعيدة لأطياف تبتلعها الصحراء ، و علم بألوان الطيف دفين حفرة ، و صندوق مفتوح خال تماماً، و عزاء قديم قدّم له فيه.
وكم تمنيت لو كانت المشاهد اكثر تكثيفا .

تقبل محبتي وتقديري

اخوكم
السمان

علي ابريك
19-12-2006, 04:54 PM
بقـــايا
شمس ملهبة تطأ رأسه، كثبان من عدم تنتصب أمام يومه. ينفث دخانه بضجر، حتى السجائر ما عادت تثير فيه حماسته الأولى. لا طعم ليومه الأشبه بأمسه، و غده مكرور لهما. مسخ مضاعف لأصل واحد )حتّى الذباب هجر الوطن(. صارت لازمة أوقات ضيقه التي هي كل أوقاته. كلما أمعن في رؤية الفراغ الذي ملأ أماكن عيشه أو طيف حياته.
مذ ولى من هناك وحيداً، ألفى كل شيء تغير، أو أنه لم يجد شيئاً البتة. لم تعد الصحراء جنته التي قاتل من أجلها، و الأهل لم يخلّوا وراءهم غير خرقة من ثقوب ذاكرة معطلة.
كلما استفاق من خدر ذاكرته هجعت حواسه، بيد أنّ صوتاً عميقاً أخذ يلح في طرق صماخيه. تنشط عيناه. يشرعهما ببله مبصراً أطيافاً تتهادى إليه من بعيد موجع. يدعك عينيه. يقرص خده، يتألم. حتّى الأحلام هجرت أوطانها و أخذت في نزقها النوم مخلية له نزراً منه، يعوده كلما عنّ له ذلك. و في اليقظة الفراغ، و الأحلام تحب الفراغ.
لم يكن يحلم، موكب يتقدم منه تسبقه موسيقى يعرفها جيداً. متهالكة تهوي إليه أجزاء من ذاكرته. متعبة تضمد غربته. يذكرها جيداً.
كم كره مطاردتها لألمه كلما تورط في تشييع و دفن واحد من زملاء الحرب. لم تُبقٍِ له أحداً منهم. ذهبوا كلهم و خلوه حيث العدم.
لاشك أنهم جند فقدوا أحد رفاقهم في حرب الجنوب التي سمع عنها، و فقدوا معه طريق حُفر الموت. هم يسلكون الطريق الخطأ. بحركة غريزية و قف مستعيداً نشاطه و لياقته و ألمه. أخذ يعدل بزته العسكرية المتآكلة. حين عاد لم يجد الوطن الذي قاتل من أجله لكنه أصر على الإبقاء على تذكار منه. يعدل قبعته التي أضحت أكبر من رأسه.
تساءل مرة بسخرية مريرة:
- هل القبعة التي تكبر أم هي رأسي التي تصغر؟
يمسح التراب عن مؤخرته. أول شيء سيخبرهم به أنهم ضلوا طريقهم. يتصلب في وقفة عسكرية صارمة. تتجمد عيناه حيث الأفق المديد. يلقي التحية العسكرية. يخطف نظرة. نعم هو جندي قضى أثناء عمله في الحرب. )لأجل مثله تقام مثل هذه الطقوس( فكر بذلك و هو يرمق العلم الذي دثر الصندوق.
تستمر الموسيقى في العزف. يستمر هو في مكانه. يتوقف الموكب. يتقدم منه جنديان. ازدرد ريقه بصعوبة بالغة. الموسيقى مستمرة. على إيقاعها يشرع الجنديان في حفر حفرة أمامه. مستمر في وقفته الثابتة، يريد أن يقول شيئاً فيمنعه احترام قديم للجندية أن يفعل. )هم بلا شك ضلوا طريقهم (.
تستمر الموسيقى في العزف. يستمر هو في مكانه. ينتهي الجنديان من الحفر. يضع آخران الصندوق جانب الحفرة. ازدرد ريقه بصعوبة بالغة. الموسيقى مستمرة. على إيقاعها ينزع الجنديان العلم عن الصندوق. يشرعان في طيه طيّاً محكماً.
يسرق نظرة أطول هذه المرة إلى العلم.) العلم للصحراء. كان لها. هو لها بألوان الطيف و الأطياف(. يسلمه أحدهما للضابط بكل احترام. يتقدم منه الضابط بكل احترام. يلقي العلم في الحفرة بكل احترام. ينظر إليه في الحفرة بكل قرف. يعرف تلك النظرات جيداً. تعدو الذاكرة مولية إليه. تقرفص على عتبات وعيه. تلك الملامح و النظرات مستوطنة منطقة زاد بعدها من ظلمتها.
تستمر الموسيقى في العزف. يستمر هو في مكانه. يدنو منه الضابط بكل حزم. يلقي عليه التحية العسكرية بكل حزم. يزدرد ريقه بصعوبة بالغة. الموسيقى مستمرة. على إيقاعها يمد الضابط يده بكل ثقة. يقولً بكل حزن:
- أعزيك فيك.
بحث عن أهله طويلاً في بٍيد ذاكرته ولم يعثر لهم على مضارب. يعرف تلك البحة و ذاك الصوت. لا يمكن، إنه هو. قتل في الحرب من أجل الصحراء كما زملاء الموت الآخرين. يذكر تلك الملامح جيداً. ذاك الوجه كان يراه كل صباح على مرآته عند حلاقته. كسرت المرآة و بقي الوجه يلملم شظاياه.
يستفيق من هذيانه على أشلاء موسيقى بعيدة لأطياف تبتلعها الصحراء، و علم بألوان الطيف دفين حفرة، و صندوق مفتوح خال تماماً، و عزاء قديم قدّم له فيه.

سلا 23فبراير 2006
نص رائع ..
ورؤية تحليلية ..
تصور كأني أكتب النص ..
الى لقاء ..

عبدالسلام المودني
15-01-2007, 05:26 PM
سلام التلـه عليكم
الأخ الفاضل الأديب عبد السلام المودني
" بقايا " نص قصصي موفق , كتب بلغة رقيقة , تم بناؤه بشكل مشوّق , يعتمد الرمزية , والاسقاط النفسي , والمداهمات الخيالية , تخللته صور ذات بصمات قوية التأثير , تدفع القارىء الى التحليق في خيالاته , ثم جاءت النهاية بشكل لافت , صحوة خاطفة:
يستفيق من هذيانه على أشلاء موسيقى بعيدة لأطياف تبتلعها الصحراء ، و علم بألوان الطيف دفين حفرة ، و صندوق مفتوح خال تماماً، و عزاء قديم قدّم له فيه.
وكم تمنيت لو كانت المشاهد اكثر تكثيفا .
تقبل محبتي وتقديري
اخوكم
السمان



القدير د. محمد حسن السمان

أشكر حضورك المتميز هنا أيضاً و قراءتك الجميلة و ملاحظتك التي أحترمها بخصوص المشاهد غير المكثفة و أتفق معك نسبياً في ذلك.
تعلم سيدي الفاضل، أن هناك من النصوص التي من قدرها ان تتبع مباشرة لموضوع نشأتها، و هي تسير وفق مناخه و تستمد طبيعتها منه مباشرة.
عدم التكثيف راجع بالأساس لهذا.
فالموضوع عبارة عن خيالات و هذيانات لرجل يعيد رؤية نفسه في موته و ما لذلك من علاقة بالحرب التي أتت على كل شيء.
لأجل ذلك جاء النص عبارة عن صور مربوطة إلى بعضها بخيط دقيق لكنه متين.

أشكرك مجدداً.
محبتي الصافية.
عبدالسلام المودني

عبدالسلام المودني
15-01-2007, 05:28 PM
نص رائع ..
ورؤية تحليلية ..
تصور كأني أكتب النص ..
الى لقاء ..


القدير علي ابريك

بل حضورك هنا قمة الروعة.

أشكر لك ذلك فعلاً.

محبتي الصافية.
عبدالسلام المودني

ربيحة الرفاعي
03-03-2014, 11:35 PM
برمزية عميقة موفقة، وأداء قصّي طاب سردا بأسقاط نفسي ملفت وتصوير حدثيّ مائز وأطياف غرائبية تلوح في أفق النص

دمت بخير أيها الكريم


تحاياي

خلود محمد جمعة
06-03-2014, 06:48 AM
ملامح الضياع التي لونتها برمزيتك العالية وسردك المسترسل مع التصوير والتحليل النفسي لما خلف حدود الذاكرة
بأسلوب مشوق و فكر عميق زاد من ألق القصة
دمت بخير
مودتي وتقديري

نداء غريب صبري
06-12-2014, 12:48 AM
قصة بأسلوب رمزي جميل وفهم للنفس ساعدت على منح النص قيمة تحليلية نفسية

امتعتني قراءتها

شكرا لك أخي

بوركت