تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : المحرقة



ابن الدين علي
22-12-2006, 06:30 PM
لما بدأ نور الشمس ينبعث بصعوبة خلف الغيوم الداكنة, فتحت عائشة باب الغرفة الساكنة بتأن و تسللت داخل الغرفة الباردة تمشي على أطراف أصابع رجليها حتى لا توقظ الحاج زيدان مخافة أن تقطع عنه لحظات النوم القليلة التي كانت تيسر له بعسر بعد كل ليلة مهولة مفزعة أبطالها الأشباح و وسائلها السكين و النار و الحطب ... و ديكورها الدم في كل مكان ... لكنها لما اقتربت منه وجدت جثته الطاعنة في الشيخوخة المبكرة قد اختفى منها كل أثر للحياة. عائشة لم تبك ولم تولول, بل عبرت عن إرتياح ممزوج بالأسى بتنهيدة عميقة, و كأن المشكلة لم يكن لها من حل سوى هذا الذي حدث بعد أن إستعصت عليها و عليه و على الأطباء لم تتكلف عائشة الدموع أمام المعزيات... كانت تقنعهن أنه إرتاح إلى الأبد من عذابه الذي لازمه منذ عودته من الحج.

لقد استنفذ زيدان حيوية عائشة و استهلك شبابها و أذبل جمالها, و لم تسعفها الظروف كي تسعد بزواجها كما تسعد الزوجات مع أزواجهن, طالما انتظرت الاستقلال لتتمتع بحياتها معه, لكن بعد الاستقلال انتابه مرض عصبي خطير عذبه و عذبها معه.

عائلته كانت تسكن البادية,أبوه الحاج سليمان كان يملك قطيعا من الغنم و البقر يذر عليه ثروة جعلت منه إنسانا مرغوبا فيه و من كلمته كلمة مسموعة وسط مجالس الدوار ...و كان يريد أن يورث أبناءه هذا العز و هذا الجاه.

لما بلغ زيدان العاشرة من عمره إنكب أبوه على تعليمه أمور الرجولة: كركوب الخيل و تركه مع قطيع الغنم وحده ليلا في الخلاء كي ينتزع من قلبه كل أثر للخوف, ثم واضب على تعليمه ذبح الغنم و سلخها في أسرع وقت, بدأ زيدان مع مرور الوقت يتفنن و يتقن أمر الذبح و السلخ, ولم يكتف أبوه بذلك بل وجهه إلى ذبح و سلخ الماعز, لأن سلخها أمر عسير إلا على المقتدرين, فكان يأمره بقبض تيس و تكبيله ثم ذبحه و ترك جثته ليلة كاملة في البرد, و في الصباح الباكر يوقظه ليسلخ التيس فكان عند حسن ظن أبيه و صار يشعر بهذا الإمتياز أمام أقرانه و قد تفوق حتى على الكبار, إذ أضحى مضرب المثل في هذا الميدان.
أصبح يحب هذا العمل و يفرح كلما قدم عليهم ضيف أو ضيوف من ذوي الجاه, يفرح لأنه سيقوم بمهمته التي شغف بها.

كان الثوار يقصدون عائلته من حين لآخر طلبا للإستراحة و المؤونة, لم يكن الحاج سليمان يتأخر في إكرامهم, إذ يأمر إبنه ليقوم بمهمته, فيذهب زيدان يختار ضأنا سمينا و ما هي إلا لحظات حتى تكون رائحة الشواء قد ملأت الفضاء و الحناجر... لم يكن الثوار يخفون إعجابهم و دهشتهم من هذه الخفة و الرشاقة الأمر الذي كان يزيده إعجابا بنفسه واعتدادا بها.

بعد أن بلغ زيدان مرحلة الشباب واشتد عوده, أصبح والده يسمح له بالجلوس للسمر مع الكبار بعد العشاء و شرب الشاي في حضرتهم.
بينما يكون الثوار و الحاضرون صامتين, يبدأ القائد في توجيه حديثه إليهم لتوعيتهم عن أهداف الثورة, و عندما ينتهي من حديثه, يلتفت إلى الحاج سليمان سائلا إياه :" هل من أحد يضايقكم من الخونة؟ ... ثم يتوجه القائد إلى الجميع ليواصل:" تعلمون مصير الخونة ما هو؟ ... هو الذبح كما تذبح الشاة.. " هذه العبارة توقظ زيدان الذي كاد أن ينام, يحمر وجهه, فيعتدل في جلسته و يأخذ في الانتباه أكثر ليتتبع الحديث فيلفت بذلك انتباه القائد الذي يتوجه إليه بالحديث و قد أعجبته فتوته و شبابه: "نعم يا بني, الخائن هو الذي يخون بلاده عند العدو.. مثل هذا الشخص هو عدونا الأول أكثر من المستعمر ... إذا كان المستعمر يستحق القتل بالرصاص أثناء المواجهة , فالخائن عقابه أن يكبل كما تكبل الشاة و يذبح ذبحا..". زيدان لم يسمع من قبل أن الإنسان يذبح ... هي أول مرة . هو الذي كان يتقن ذبح الشاة و سلخها هاهو اليوم يكتشف أن الذبح يتعدى الحيوان ليصل إلى الإنسان. يتدخل الحاج سليمان و أصابعه تعبث بلحيته الكثة السوداء ليقول متضاحكا:" ابننا زيدان فنان في هذه الصنعة..."
بعد مغادرة الثوار الخيمة و يتفرق الجمع, يخرج زيدان وسط الظلمة الحالكة:" إنسان يربط كما تربط الشاة و يذبح ذبحا.." لا يستطيع أن يتصور ذلك ثم يذهب إلى فراشه محاولا النوم. في الصباح تسأله أمه:" زيدان ما بك البارحة, بت تتخبط في فراشك و تنهض بين الحين و الآخر مفزوعا... أ كنت مريضا؟" يجيبها و هو يحك عينيه متثائبا:" رأيت أشياء أخافتني... رأيت فيما يرى النائم أنني كبلت إنسانا كما تعودت أن أكبل الشاة و..." . كان أبوه على مقربة منهما فتدخل مخاطبا زوجته:" بدون شك لقد تأثر بحديث القائد البارحة.."ثم يلتفت إلى زيدان و يردف قائلا:" ستتعود على مثل هذه الأخباريا ولدي و الأيام كفيلة بأن تروضك على سماعها دونما انزعاج.."

في إحدى الأمسيات الهادئة بعد العصر بقليل, بينما كان زيدان مع غنمه يرعاها غارقا في مشاهدة الخيمة التي كانت تبدو له و كأنها نقطة صغيرة في تلك الصحراء الشاسعة, سمع دويا ظنه صوت الرعد من بعيد, ثم شاهد أشكالا صغيرة تطير في الفضاء حسبها غربانا, كانت تقذف أشياء سوداء و ما إن تصل الأرض حتى يتصاعد دخانا كثيفا و تحدث قعقعة, بسرعة نهض و حث غنمه على العودة. بعد وصوله وجد الخيمة قد تناثر شعرها بفعل ضربات الحديد النارية, ثم اقترب أكثر فشعر بعظمة الكارثة, إذ وجد جثث أسرته مترامية الاشلاء إلى جانب أشلاء بقرتهم, حتى النعاج لم تجد الزريبة التي تعودت أن تدخلها مساء فبقيت واجمة في مكانها.
..........يتبع

مجذوب العيد المشراوي
22-12-2006, 08:18 PM
جميل هذا الجزء يا ابن الدين أرجو إمكالها في أقرب وقت ...

حسام القاضي
23-12-2006, 11:32 PM
اخي الفاضل الأديب / ابن الدين علي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مرحباً بك مرة أخرى بعد غياب.

مقدرتك القصصية واضحة كالعادة لا غبار عليها..
قصتك مشوقة ومليئة بالتفاصيل ، وخاصة خلفية بطل قصتك .. نشاته وتطورها ..وهذه بعض من سمات الروائي .
ننتظر الباقي ، ولكن لم نعرف جنس هذا العمل هل هو قصة قصيرة ام رواية؟( يمكنك ان تنوه عن هذا في هامش أسفل الصفحة ).

تقديري واحترامي .

وفاء شوكت خضر
23-12-2006, 11:38 PM
أخي ابن الدين علي ..

سأنتظر البقية ..
بداية الجزء الأول يبشر بقصة رائعة .

تحيتي .

حنان الاغا
24-12-2006, 12:34 AM
استمتعت حقا بقراءة هذا الجزء ، للنفس الجميل والحدث المتصاعد جيئة وذهابا
جميل
ابن الدين علي
بشوق للمتابعة
تحياتي

ليال
28-12-2006, 12:38 AM
سرد مشوق ..ورسم ماهر لتفاصيل دقيقة ، كذلك أعجبتني طريقتك اعتمدها بالبدء من النهاية أوما يعرف بطريقة الفلاش باك ..وبرغم الدموية الحاضرة بقوة في خلفية القصة إلا أنها كما لاحظت تحتوي على إضاءات إنسانية عميقة ومؤثرة ..أنا كما البقية أنتظر البقية
أصدق تحياتي وأطيب تمنياتي

مصطفى بطحيش
30-12-2006, 09:26 PM
اثرت عقدة القص
وتركت اسئلة حائرة تنتظر جوابا !

لك التحية

ليال
05-01-2007, 02:55 AM
أخونا ابن الدين علي
اسمح لي أن أدرج رابط الجزء الثاني من هذه القصة لمن لم يتنبه لوجوده ..القصة مشوقة بالفعل و جديرة بالقراءة ولي عودة بإذن الله
المحرقة (الجزء الثاني) (https://www.rabitat-alwaha.net/showthread.php?t=19515)

مأمون المغازي
05-01-2007, 04:21 AM
الأخ / ابن الدين علي

استمتعت بهذا السرد القصصي بيد وأتوقع أن تكون التتمة رائعة فحبذا أن ترفعها لنا إن كانت موجودة

كان هذا مروري الأول

لك كل الاحترام والتحية

مأمون

مجذوب العيد المشراوي
11-01-2007, 11:19 AM
راهن على سمو المشاعر فيها وصدقها لأبعد الحدود ... الله

صابرين الصباغ
11-01-2007, 01:21 PM
أخي الفاضل
ابن الدين
لا أعتقد انها قصة قصيرة
بل رواية وانتظر رؤية باقي الأجزاء
سرد رائع ، تحترف صنع حبل بين النص والقاريء وتربطهما فلا يخرج منه
هناك جملة شعرت انها قللت من قوة الحدث
( اقتربت منه وجدت جثته الطاعنة في الشيخوخة المبكرة قد اختفى منها كل أثر للحياة )
الفلاش باك كتب باحتراف
سؤال........
أنا بدوية ولي علاقة بالذبح وخلافة فكنت أساعد فيها
لكن لم اكن اعرف أن ذبح الماعز شاق
فقد كنا نذبحه بدون مشقة
لعل هذه إضافة للنص لنعرف قوة هذا الراعي القوى ، لكن لو استخدم بدل الماعز مثلا ذبح العجل لكان
وصل لنا صورته مع الذبح اكثر قوة
أخي نص ثري يحمل بين جنباته أحداث اعتقد أن بها مفاجآت كثيرة
انتظرك زيدان وسكينه
دمت مبدعا

خليل حلاوجي
13-01-2007, 10:13 AM
أنتظر لأرى ... ايهم ينتصر


الثأر أم القصاص ؟

ناديه محمد الجابي
25-01-2023, 12:06 PM
بسرد شائق متقن الحبكة قدمت لنا بداية لقصة قوية الفكرة موفقة الطرح
باسلوب عميق ورائع سبكا وتعبيرا
نص بنسق روائي مائز وأداء جميل دقيق التفاصيل بما يدعم التشويق.
سأبحث عن بقية القصة...
ولك كل التحية والتقدير.
:sb::sb::sb: