المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : وجــــــــوه شــــــــاردة..!!



يمنى سالم
26-12-2006, 01:48 AM
http://www.khayma.com/adencity/babadenold.jpg

هذا الشارع الممتد ما بين العقبة الصغرى"الخُساف"*، وبطن الوادي السحيق"الميدان"*، يبدأ كل يوم نهاره بتلاوة أحلام الفقراء والمساكين..يرتل الأماني بين طرقاته غير المستوية ويسحق الواقع هامات الشاردين من رحم الوهم والشقاء والتعاسة الممزوجة بزخات فرح تقاوم تعرجات الألم.
هذا الشارع..كلما خطوت على جبينه خطوة كلما تعثرت بدموع وضحكات، وأقع دوماً على وجوه ترسم ملامح بشرية تؤثثها أتربة المشاعر بكل أنواع التجاعيد.
(1) إيمان
وجه عانق السمرة حتى غلبته، رسم الهمُّ هالات فزع تحيط بعينيه، وخط الوجع أخاديد لا تنتهي..كان شارداً..يجلس على باب دكانه الصغير، يرتقب زبائن منتظرين لم يأتوا بعد..!!
عيناه مركبٌ تائه في ملكوت الله يتفكر في حال الدنيا المتقلبة، بقلب مؤمن..وعقل لا يريد حتى أن يؤمن...!!
(2) بكاء
صعدت للحافلة، وجلست أمامها مباشرة، لا شيء يظهر منها سوى عينين محمرتين غارقتين في غابة رموش مبتلة...لم يفارقها الدمع.
كانت مساحة الحديث أبلغ من الصمت...لم تنبس ببنت شفة، ولكنها فاضت بما يعتريها من ألم، بين كل دقيقة وأخرى تختلس يدها مسح أدمعها من تحت نقابها الأسود، تتنبه للحظة..تضرب بيدها باب الحافلة لتقف...وتنزل بسرعة..!!
(3) عشق
يسير وكأنه يخطو نحو السماء، تتأبط ذراعه كملكة انجليزية، يخترق الضوء روحه..يتسامى مع حرارة الصيف..ثم يتجمع حول عينيها...شفتيها...كل شيء حوله مليء بالحب..حتى نظرتها إليه..
ينسيان لهيب الظهيرة، يستويان على شاطئ الصيادين "صيرة"* يجلس بجوارها محتضناً ظهرها بيده..كانت الساعة وقتها تشارف على الثانية ظهراً في صيف يوليو..!!
(4) طفولة
سقط على الأرض...وظل ممداً على بطنه يرقب رفاقه بصمت، وكأنه ينحني ليقف من جديد وقفةً قويةً، بمكر الأطفال وشقاوة تتطاير من عينيه كشررٍ لا يهدأ..انقض على صديقه وألقاه أرضاً...ثم صعد على ظهره منتشياً..ينغمس في ضحكة بريئة..ويصرخ مشيداً بنصره...!!
(5) جشع
لا أعرف كيف فقدت إحدى ساقيها، كل ما أعرفه أني كلما مررت بقربها في "السوق الطويل"*..أجدها تتوسد الأرض تمد ساقها السليمة وتلك الأخرى المفقود نصفها، والتي أكملتها بعصا خشبية قديمة، حاملة طفلة نائمة بين ذراعيها تستجدي المارّة هنا وهناك..!!
وجهها لا يشبه الفقراء ولا المساكين...وإنما الجشعون..كلما مررت بجانبها رمقتها بصمت...ورمقتني بمقت..!!
(6) حاجة
يسير برفقة عصاه، يطرقها هنا وهناك..شاب في العشرينات من العمر، فقد بصره لا أعرف كيف..تراه دوماً بجانب "ريمي"* وهو يتلو آيات من القرآن الكريم..بصوت شجي رقراق..يختلط صوته بمجون الأغاني...ولكنه جاهداً يرفع صوته لتصل قراءته لمسامع المارّة هنا وهناك..لعل رحيماً يرفق به ويعطيه ما يسدّ رمقه...!!
(7) تسول
منذ أن بدأتُ نهاري أسير في هذا الشارع وهو يلحق بي، وأحاول الهرب منه..حينما يئست منه..توقفتُ أمام مدخل مطعم صغير وألتفت إليه وهو مازال يردد نشيده " أعطيني نقودا..أريد أن أكل" كان فتى لم يبارح الثامنة من عمره،
- قلت له: أنت جائع.
- نعم.
- أدخل معي، سنتناول غذاءنا سوية
- لا، لن أدخل
- لماذا؟
- لأني أريد مالا. لا أريد طعاما..سيقتلني أبي إذا لم أحضر له شيء.
أحسست بغصة في قلبي، أعطيته ما يريد وأنا أفكر، كيف استحق هؤلاء أن يكونوا آباء..!!
(8) جنون
استوقفني، في البدء. ارتعبت فثيابه رثة ممزقة، وشعره متسخ وكأنه لم يعانق الماء منذ عشرين عاماً أو أكثر..استوقفني وهو يحك جسده بطريقة مريبة..فقلت له:
- ماذا؟
- هل رأيتِ لصا يمر من هنا؟
- لا
- أنتِ جميلة...هل تخونين؟؟!!
- شكرا ..هل أذهب فضلاً..!!
- لا...لا..انتظري..تلك الـ... خانتني..أدخلت رجال الحارة كلهم في بيتي أثناء غيابي..!!
وشرد قليلاً...ثم صرخ..وأمسك بتلابيبي وهم بضربي...صرخت..وأنقذني المارّة..وأخذوا يلومونني لماذا توقفت لأتحدث معه..!!
إلى اليوم ..لا أعرف السبب لماذا توقفت..!!
(9) شقاء
تستطيع أن تخمن من أول وهلة تنظر إليها، أنها تحمل على كتفيها ثقل سنين مرت عقيمة،
وجهها الدائري الممتلئ الشارب من حُمرة الظهيرة، جسمها المكتظ بأرتال لحم تنوء بحمله، ترزح تحت هجير الشمس تفترش خضارها طريق المشاة.
لمحتُ رجلاً في الثلاثين اقترب منها ، تحدثا بحدةٍ، ثم ضربها واغتصب مالها ومضى، اقتربتُ منها اسألها:"ماذا هناك..لماذا لم تستدعي الشرطة..!!" ..مسحت دموعها وعادت لتجلس حول خضارها قائلة:" إنه أخي الكبير، يريد مالاً ليشرب به الخمر..وحين رفضت حدث مثلما رأيت" وتابعت تتمتم بكلمات لا أفهمها ولكني اعتقد أنها تشتم وتسب يوماً عاثراً ساقها لتكون هي المسؤولة عن توفير لقمة العيش لرجال لم يجدوا عملاً يكفيهم مد أيديهم ليأكلوا من شقاء امرأة، إما بطالةً أو كسلاً..!!
(10) سُخط
مررت بقرب مقهى شهير يُدعى "مقهاية زكو"*، لم يعد في مستوى شهرته السابقة، ولكنه مازال مكتظا بالناس والسياح الأجانب، لم أجرؤ أبداً على الجلوس فيه فهذه المقاهي هي للرجال وحسب..وقفت أنتظر الحافلة لتمرّ..فاسترقت السمع لمحادثة غريبة :
- فسدت البلد يا أخي..كم كنا مرتاحين قبل هذا التوحد المشئوم..
- معك حق..أنظر..كثر المتسولون..وكثرت البطالة..وأبناء البلد الأصليون لم يجدوا وظائف تحتويهم، فُتح الباب لأبناء القرى..وأبناؤنا مثل النسوان في البيوت..
- لا حول ولا قوة إلا بالله...الله يرحم زمن الإنجليز...صحيح كنا مستعمرين ولكن..كانت تكفينا رواتبنا ونحصل على أرقى المنتجات والماركات..
- صدقت..الآن بعد ثلاثة أيام يطير الراتب..والمغالاة في الأسعار أصبحت خيالية..
- سمعت أن كيلو السكر وصل لخمسمائة ريال..!!
- إذن سنزيل السكر من قائمة مشترياتنا..!!
وصلت الحافلة...وصعدت..ولم أكمل هذا الحديث..لم تكن تلك المحادثة غريبة عني..كنت أسمعها يوميا في كل مكان اذهب إليه..!!
(11) حافلة
سرتُ بسرعة أريد أن ألحق بالحافلة، أحرقتني شمس الهاجرة بحرارتها، كان يوم الخميس إجازة للموظفين، وهو اليوم الوحيد الذي يتزاور فيه الأقارب، إما لصلة الرحم أو لمجالس "القات" المعتادة. نادراً ما تمر بقربك امرأة في ذلك اليوم لا تفوح منها رائحة البخور والفل والكادي، استقللتُ الحافلة كانت مكتظة بالنساء إلا المقعد الأخير كان هناك رجلٌ وحيد تبدو عليه ملامح قروية لم أجد بُدا من الجلوس بجانبه وفصلت بيني وبينه امرأة في كامل زينتها وتفوح منها أجمل الروائح التي قد تُسكر، ابتسمتُ لها ويممتُ وجهي شطر النافذة كعادتي ارقب حركة البلد الرائعة..وبدأت الحافلة في التحرك، وما أن وصلنا للعقبة الكبرى "باب عدن"* إلا و تصرخ المرأة بجانبي: " يا حقير...يا سـ...." وتبدأ بضربه ضرباً مبرحا..اندهشت..ماذا هناك..!!
نزل سائق الحافلة ومساعده وأخرجاه من الحافلة وانهالا عليه ضرباً..وتركاه هناك ومضيا..!!
وطول الطريق وهي تشتمه وتدعو عليه، بصراحة لم اعرف ماذا حصل، سألتها فأجابتني:" وكأنه ليس لديه نساء...تعرفين... لو كان شاب من أبناء عدن لترك الحافلة حين رآها ممتلئة بالنساء...أولادنا متربون وليس مثل هذا الحقير الذي لم يكن جالساً بأدبه.. التفتُ إليه ورأيته قد أخرج..." وهمست ببقية حديثها في أذني..أحسست بالحرج، وهممت أن أقول لها إنها السبب ولكني خفتُ أن تضربني..!!
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــ
الخُساف: هي بداية كريتر أو عدن وعدن هي العاصمة التجارية لليمن، وعاصمة اليمن الجنوبي سابقاً.
الميدان: آخر منطقة في ذلك السوق الممتد بشكل طولي، و هو عبارة عن ساحة دائرية فيها مواقف سيارات وحافلات وبعض باعة متجولين يفترشون الأرصفة.
صيرة: منطقة في كريتر مشهورة بقوارب الصياد و بالمطاعم الشعبية التي تقدم وجبات شعبية تُعرف بالمخبازة وهي عبارة عن سمك مشوي وخبز بالسمن البلدي، وفتة تمر وغيرها من المأكولات الشعبية.
السوق الطويل: هو السوق الذي دارت فيه الأحداث، وهو طويل بالفعل يمتد طولا على مسافة كيلو أو أكثر.
ريمي: مطعم صغير يقدم وجبات هندية وهو مشهور جداً هناك.
مقهاية زكو: مقهى زكو..وهي شهيرة أيضاً..تقدم الشاي العدني وهو عبارة عن شاي حليب بجوزة الطيب.
القات: نبات مخدر جرت العادة على مضغه في مجالس تسمى "مقيل"
باب عدن: أو بوابة عدن هي منطقة واقعة على عقبة كبرى فيها جبلان كان يصل بينها سور حجري كبير سقط معظمه في الحروب التي تتالت على عدن..وأصبح الآن هناك بناء يمثل هذا الباب قديما على شكل نافورة بعد خروجك من العقبة.

يمنى سالم
26-12-2006, 01:49 AM
الصورة المرفقة تمثل باب عدن ولكنه الآن متهدم في الواقع..

تحياتي

وفاء شوكت خضر
26-12-2006, 04:09 AM
يمنى سالم ..

أبدعت في تصوير الشارع ، ولقطات أخذت من أكثر من زاوية ، تعالج مواقف اجتماعية ، بأسلوب أدبي راق ، كتب بيراع متمرسة سامقة .
لو كتبت كل مشهد لوحده لكان حكياية منفرة في شارع قديم كان يوما .

أسجل إعجابي وتقدير ..
دمت رائعة متألقة .

الصباح الخالدي
26-12-2006, 09:24 AM
مجرد حضور للتأمل من جديد

سحر الليالي
26-12-2006, 10:59 AM
مدهشة أنت يا يمنى ...!!
بحق أسرتني حروفك هنا
لله درك من مبدعة

سلم ققلمك يا منى
لك خالص حبي وودي وباقة ورد

منى محمود حسان
26-12-2006, 02:38 PM
رائع ما صورتيه اختى يمنى بالقلم لنعيشه معك كأننا نراه

ومعايشة جميلة للواقع وأحلامه بأسلوب راقى وجميل

تحيتى لك ودمت بكل الخير

http://www.3z.cc/sml/32/ss1616.gif (http://www.3z.cc/sml)

حسنية تدركيت
26-12-2006, 07:13 PM
يمنى سالم اسجل اعجابي بكل حرف هنا وارجو لك مزيدا من التألق

يمنى سالم
30-12-2006, 05:38 AM
غاليتي وفاء شوكت..
بعض الأمكنة تفرض عليك عشقها بشكل أو بآخر..
ورغم الغربة والبعد إلا أني أعشق مدينتي الصغيرة..
وأحبها بجنون...

مرورك مواسم ماطرة بالجمال..

شكرا لك من القلب..

كوني بخير

يمنى سالم
30-12-2006, 05:40 AM
الفاضل الصباح الخالدي

مواسم الانتظار تشررع أبوابها نحو حضورك..

لا تطل الغياب

كن بخير

يمنى سالم
30-12-2006, 05:41 AM
الغالية سحر الليالي

لك من القلب وردة بيضاء..
بنقاء حضورك ورقة حرفك..

شكرا لمرورك غاليتي


كوني بخير

يمنى سالم
30-12-2006, 05:43 AM
الغالية منى حسان

متصفحي منور بوجودك غاليتي..

كلمات وسام أعتز به

شكرا لك

كوني بخير

يمنى سالم
30-12-2006, 05:45 AM
غاليتي حسنية تدركيت

ما أرقى مرورك سيدتي..

سعيدة أنا بانك دوما تعانقي أحرفي..

فهذا شرف لي

كوني بخير

عشتار
30-12-2006, 03:06 PM
يمنى ..
تجولت بنا في شوارع لم نعرفها أبدا .. وملكت قاوبنا بهذا الوصف المفعم بالمشاعر للوجوه المنتشرة في أصقاع الوطن ...
رائع ما خطه قلمك هنا

تحياتي لك
عشتار

مأمون المغازي
30-12-2006, 05:01 PM
الأديبة / يمنى سالم

لم أزر عدن بل لم أزر اليمن

لكني الآن تجولت المنطقة معكِ ، لم أتجولها جغرافيًا فحسب ولا اجتماعيًا ولا سياسيًا كما جاءت الإلماحات الدقيقة وإنما تجولتها نفسيًا .

عاينت هنا تشريحًا نفسيًا ( إن جاز التعبير ) وغوص في عدة حالات هي أمثلة للفئات المطحونة التي يراها البعض نشازًا اجتماعيًا في حين أراها تتمة المنظومة لأن المجتمعات تبدأ بهم وتنتهي إليهم .

لكِ قدرة غريبة على الأخذ بيد القارئ إلى الدروب التي ترسمينها وهو في أتم السعادة و الألفة فعلى الرغم من سوء بعض الممارسات التي سردتها والتي هي أمراض اجتماعية من ( اشحاذة / التسول / التكسب بالقرآن / التكسب بالأبناء / المعاكسات / التحرش / حتى تعاطي القات / التبرج بالزينة في مجتمع نهم ) إلى غير ذلك مما طرقت أبوابه ، إلا أنني كنت أتابع المشهد وكأني أسير خلفك أتعجب لما يحدث فأشهق أحيانًا وأحيانًا أغرق في الضحك ، وهذه مهارة منكِ يا سيدتي في السرد الموجه وكأنكِ تعرفين هوية كل من سيقرأ الموضوع .

سيدتي لم تنته قراءتي للموضوع

تقبلي تحيتي وتقديري

مأمون المغازي

يمنى سالم
01-01-2007, 02:59 AM
غاليتي عشتار

مرورك فرح سيدتي..

شكرا لكِ..

كوني بخير

يمنى سالم
01-01-2007, 03:07 AM
الرائع مأمون المغازي

لو أخبرك سراً، جربت أن أكتب القصص القصيرة، ولم أرض عن قصة مثلما رضيت عن"وجوه شاردة"..لأني أحب عدن وأحب تراب عدن وهواؤها وماؤها..

ماذا تتوقع سيدي من بلد طحنته الحروب ورزح طويلا تحت وطأة الفقر والمرض ورغم محاولة جاهدة لأن تقف هذه البلد على قدميها إلا أن طفرة التقدم السريع لها مساؤها فقد أوجدت طبقية المجتمع فهناك كأي مجتمع طبقة فارهة الغنى وطبقة معدمة..

الشارع الطويل هو السوق القديم وهو السوق المركزي في البلد مع محاولات خجولة جداً لإفتتاح مولات جديدة على غرار المولات في دول الخليج.

عدن مدينة الأولياء، وحكايات كثيرة منها عجيبة ومنها مؤلمة، حين تسير في شوارعها لا تخفي طهرها ولا عهرها ولا فقهرها ولا غناها، للبحر فيها رائحة مميزة لم أجدها في كل بحار الدنيا، رغم أني لم أولد هناك ولم أعش سوى خمس سنوات كانت كافية بان اعشقها بكل ما أوتيت من مقدرة على العشق..

حين تأتي لتغوص في هذا النص، يرتكب عقلي جنون الهرب من هذا الغوص الأدبي لأنه لم يخطط لهذا السرد أبداً،جاءت وجوه شاردة تلقائية تلقائية البلد التي أعشقها.

لذلك سانتظر مرورك الآخر العاطر..وسأترك لك دعوة مفتوجة بزيارة هذه البلد، واثقة أنك ستحبها..

تحياتي لك من القلب..

كن بخير