تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : قصتان قصيرتان



د.مصطفى عطية جمعة
06-01-2007, 12:12 AM
قصة قصيرة
ضــــياء اللـــذة
بقلم / د. مصطفى عطية جمعة
أديب مصري مقيم بالكويت
( 1 )
الهجعة الليلية التي يستلزمها الجسد ، وتسبح روحي في فضائها ، لا أعرف كينونتها ، سوى تلك الأخذة التي تجذب روحي ، من عالم الأحياء ،و الحركة والثرثرة ، إلى سُبات الجسد . هل الروح تسكن أيضًا ؟ لا أذكر ، من هجوعي – في ليلتي تلك – إلا هذا التماوج الذي عايشته ، وجوهًا …، نعم .. نعم .. ، لمن أعرفهم ، أحبهم . أبي ، أمي ، جدي …. ، كانوا يبتسمون لي ، يضحكون، تمدّ أمي يديها لي .
أُفْعَمُ بنشوة وراحة ، لذةٍ أستشعرها ، وكأن خلاياي تنطلق في ملكوت سرمدي .
……………
هدأة الليل ، النفوس ، هل تسكن الأرواح ؟
أضع المفتاح في باب المسجد ، أضغط زرًا فيتوهج مصباح . آيات القرآن ، تنساب بحنجرتي ، رطبة ، والفؤاد عائم .
أصدح بالآذان . يأتي عم عبد الرزاق :
- صوتك خافت اليوم يا عبد الحميد ؟!
- إنه مثل كل يوم .
يتفحصني بعينيه ، يصمت ، ويترنم بجواري بأوراده الصباحية . قلتُ :
- ماذا بك ؟
تطلع نحوي ، عيناه غائمتان :
- أنتَ ماذا بك ؟
صمتي ، قلبي منتشٍ . يردف :
- سلّم عليهم .
- ……………؟ !
غاص في تسبيحاته .
اصطففنا للصلاة .
قالوا لي وهم يصافحونني أمام المسجد :
- أطلتَ السجود كثيرًا ؟!
- أخذني الرجاء .
…………………
استيقظتْ أختي ، وأنا ألج البيت . قالتْ :
- صبحك الله بالخير .
- الخير كله لكِ .
- ستفطر ؟
- ……………..
تحركتْ ، متحسسةً ما حولها ، تحفظ أركان البيت ، انزويت في غرفتي ، خرخشة يديها وهي تغسل الآنية ، وتحرّك الوابور .
استلقيتُ على الكنبة ، أسندتُ رأسي ، النشوة تتجاذبني ، تغرقني ، كانوا يبتسمون ، ابتسمتُ ، أسبح في طاقات نورانية ، أتحرر من ربقة الجسد ، أتلاشى .. ، الملكوت يسعني ، أصافحهم .

( 2 )
- عبد الحميد ! الفطور ..
أكرر مناديةً عليه ، لا يحلو الفطور إلا به ، سيحكي لي عما ينوي فعله اليوم ، أتحسس الخبز الساخن، وطبق الجبن القريش والعسل ..
- عبد الحميد ! قم ، الفطور ..
أخذه النوم ؟ أتحرّك ، أدفع باب الغرفة ، صوت خطوي يطرق أذني .
- عبد الحميد .. ، قم يا أخي ..
أتحسسه .
صمتي .
الجسد نصف بارد ، جبهته تترقرق بعرق متجمد .
- فعلتها يا عبد الحميد ؟ فعلتها .. !
الوحدة تتماثل أمامي ، أودُّ الصراخ ، أصرخ ، الصوت بلا صدى . الخواء في أعماقي .
( 3 )
الضجيج والزحام . الناس متجمعون أمام المنزل .
- كان لا يزال في عزه .
- صلّى بنا .
آخرون في ركن وهم جالسون على المقاعد الخشبية المستأجرة :
- لم يتزوج ، وعاش من أجل أخته الضريرة .
- ربنا أعطاه من التجارة كثيرًا .
- يده لم تخرج فارغة من جيبه .
النسوة متشحات بالسواد . يقلن :
- عجيبة أخته ، لم تنحْ عليه ، فقط الدموع ، ولا حتى صرخة !
……………..
تقول أخته :
- ظننته نائمًا على الكنبة كعادته وهو يسبّح ، سبقتني ، وفعلتها ، كنتُ أمني نفسي بأنك لن تفارقني ، وأنا أكبرك في السن ، وستحملني إلى …
……………..
عم عبد الرزاق المطرق تحت شجرة الكافور ، أمام البيت :
- شفتُ البشرى في عينيه ، عقبا لي .














رأس بارز
تتحرك منحدرة من فوق مرتبتها ، تجرّ رجلها الفاقدة الحياة ، وبيدها تضبطها كلما زحفت. صرير باب الغرفة المكتوم ، درجتا سلم حجري تواجهها ، وبصيص من ضوء البكور ، تطالع الملح المتكلس على الحجر والجدران . تلتقط أنفاسها ، تحبو ، الدرجة الأولى ، ثم الثانية ، رجلها معلقة لأعلى ، تسحبها بتأوه خافت . تتشبث بثنيات الباب الخارجي للبيت ، تحرّك المزلاج .
أطلّ رأسها ، البكور ، زقزقة العصافير ، الأرجل تدب في الشارع . يهدمون بيت " نبوية أم شعبان " ، كانت هي وكل إخوتها ، بنسائهم وعيالهم .. ، الأطلال تنحسر عن مساحة صغيرة . كيف كان تجمعهم تلك الجدران ؟ منذ أن ماتت نبوية ، تفككوا ، وصفّى الصغير البيت لنفسه .
عمارة الحاج " جلال " ، خمسة أو ستة أدوار .. ، ترفع بصرها تعدها .. ، سبحان العاطي ، كان مرمطونًا عند المرحوم زوجي .
* * *
من الشرفة ، تقول " أم سيد " :
- شوفي الحاجة " تحيات " ، اشتاقت للشارع .
ترد ابنتها :
- أسمع عنها ..
- مريضة منذ سنين ، وحبستها ابنتها " أحلام " في غرفة تحت السلم .
* * *
من بُعدٍ ، طالعتها إحداهن، وكانت تسير في الشارع ، حاملة قفة خضار :
- شافت أيامًا مع زوجها المعلم " محي " ، عزًا وذهبًا .
رفيقتها ، تنظر للرأس البارز :
- دوام الحال من …….
- أنجبتْ له خمسة رجال وبنتًا واحدة .
- وأين هم ؟
- كل واحد تسيّره امرأته .
* * *
الرأس البارز يستند للباب ، أنهكه التطلع ، بعدما ارتفعت العمارات حاجبة أشعة الشمس ، "الحارة الضيقة نفق ملتوٍ ، يمتليء بالدراجات البخارية المركونة أمام الأبواب " .
كنت أجلس كل ليلة على العتبة قدام بيتي ، وبجواري قلة المياه التي يفوح منها النعناع ، وكوب الشاي ، وأنادي على جاراتي ، ونسمر باللب والذرة المشوية … ، لا مكان لي بين هذه الأعمدة والعمارات . يتراجع الرأس البارز .
* * *
الجارة ثانية لابنتها :
-" أحلام " بنت " تحيات " ، على كل بياضها وشعرها " السايح" ، ركنت جانب أمها بعد زوجين .
- والسبب ؟
- عقلها خفيف ، وفلوس أبيها دلّعتها .
تردف :
- وزوجها الأول أخذ العيّلين منها . فعاشت تناكف أمها .
* * *
تلتقط أنفاسها ، كأن درجتي السلم بناية عالية ، رجلها ثقيلة كالدهر وهي تسحبها . ترتخي الأصابع ، تتنسم هواءً من فرجة الباب ، " تحمل النسمات رائحة الهدم " .
ربما تكون الذكرى أريجًا ، يصاحبني في أويقات الزمن المتسحبة ، وربما تكون المرتبة القطنية ألين من العمارات المتطاولة .
صوت " أحلام " :
- أين أنتِ يا ولـيّة ؟ حبوتِ ثانيةً ؟!






ملحوظة :
القصتان السابقتان من مجموعة قصصية صدرت للمؤلف بعنوان : " طفح القيح " عن مركز الحضارة العربية بالقاهرة . وللمؤلف : نثيرات الذاكرة ، رواية ، دار سعاد الصباح
شرنقة الحلم الأصفر ، رواية ، مركز الحضارة العربية ، القاهرة
ودراسات أدبية ونقدية في مجلات نقدية وأدبية

خليل حلاوجي
06-01-2007, 02:35 PM
أعتذر لتأخرنا في استقبال القصتين بما يوازيهما من حفاوة

وأستميحك عذرا ً بنقلهما الى واحة القصة

\


مرحبا ً بالاديب المبدع الاستاذ
د. مصطفى عطية جمعة

محمد سامي البوهي
06-01-2007, 03:45 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
د/ مصطفي جمعة

أتشرف بهذه القراءة الأولى لكلماتك .
1- ضياء اللذة
اللغة هي السمة السائدة على النصوص , لغة سهلة ممتنعة , استطعت بها تشكيل الأحداث بسلاسة وطلاقة فائقة , بالنسبة للقصة الأولى , بدأت معنا برحلة استرجاع زمني للأموات من الأسرة , وحالة الصفاء النفسي التي يشعر بها الانسان الصالح عند قرب انتهاء الأجل , عندما يودع أعماله الصالحة لإحساسة , وحدسه السادس , من الإقتراب من النهاية , كنوع من انذار داخلي يلقي به الله سبحانه وتعالى داخل قلب من يحبهم من العباد , وبالفعل انتهت القصة كما توقعت , بموت هذا الانسان الصالح الذي قضى حياته في العبادة وتربية أخته بعد وفاة والديه .

2- رأس بارز

بالطبع أحييك على نشر هاتين القصتين مترافقتين , حيث أنه يوجد مقابلة رابطة بين النصين , الأولى رجل بار , والثانية ابنة عاقة لوالدتها التي عاشت مع زوجها عصوراً ذهبية , بعد ذلك تراكم عليها المرض , فحبستها ابنتها بغرفتها بعيداص عن الناس , ورغم ذلك فهي متطلعة للحياة , تزحف للإقتراب من الشارع , فجد بأنه قد تغيرت ملامحه , وبنيت عمارات جديدة , وسلحت قلوب الناس بقوالب الاسمنت , فتشعر أن المرتبة القطنية تحتها أحن عليها من هؤلاء البشر حتى لو كانت ابنتها , فالدنيا تغيرت ولم تعد هي دنياها كما كانت بالأمس .

أشكرك جداً أديبنا الرائع

وأرجو التواصل

أخوك محمد

د. مصطفى عراقي
07-01-2007, 02:50 PM
مرحبا بك يا أديبنا القدير والباحث المفكر : الدكتور مصطفى عطية


ومرحبا بقصصك البارعة ، وبأسلوبك المتميز




أخوك: مصطفى

عبلة محمد زقزوق
07-01-2007, 03:57 PM
لن أزيد على رد كاتبنا أ. سامي البوهي
إلا بكلمة الترحيت بكم أستاذنا الأديب والمفكر د. مصطفى عطية
يا هلا
وهل من مزيد ...
مع وافر الشكر والتقدير

وفاء شوكت خضر
26-01-2007, 11:46 PM
الفاضل / د. مصطفى عطية .

في كل قصة عبرة ..
أحسست بمتعة القراءة ، صور من واقع الحياة ، وأسلوب أدبي راقي لا يخلو من التشويق .

تعلمت درسا جديدا هنا في فن كتابة القصة .
شكرا لك .

تحيتي ومودتي ..

سحر الليالي
27-01-2007, 12:34 AM
قصتين رائعتين بحق...!!
ٌسلم قلمك وابداعك أستاذي د.مصطفى

بإنتظار جديدك ورواعك دوما
تقبل خالص إعجابي وتقديري وباقة ورد

د. سمير العمري
09-09-2013, 08:35 PM
قصتان تتناولان الجانب الإنساني وتصف الأولى حالة الصفو النفسي وصدق الهمة في حالة عبادة والتزام أوصلته للذة العبادة ورضوان الله.
نصوص زاهرة وأسلوب مميز يضيف لفن القصة ويثري المشهد.

تقديري

ربيحة الرفاعي
03-10-2013, 09:19 PM
قصتان بحمولة إنسانية عالية لعل الكاتب اختار نشرهما معا لالتقائهما في زاوية ما حتى وإن تكن المقابلة بين البار الصالح والعاقة التي تحتجز أمها، والمقارنة بين الصفاء الذهني والنفسي المتحقق بالصلاح والهدى واليأس القاتل المتأتي عن جحود الابنة والحياة من حولها

لغة سهلة وسرد ماتع بانسياب حدثي سلس وأسلوب شائق

دمت بخير

تحاياي

نداء غريب صبري
16-01-2014, 10:18 PM
قصتان رائعتان بطعم الايمان

شكرا لك

بوركت

ناديه محمد الجابي
27-07-2020, 05:49 PM
1ـ ضياء اللذة
قصة جميلة تصور حسن الخاتمة لإنسان صالح وإبن بار متدين، تقي ويعول أخته الضريرة
تجيئه الإشارة في رؤية أحباؤه الذين سبقوه، ينادونه وينتظروه.
2 ـ رأس بارز
قصة إبنة عاقة حبست أمها المعاقة وحرمتها من الحياة ـ فتزحف لتبرز برأسها من النافذة في
محاولة للإطلالة على الدنيا التي تركتها ـ فتكتشف إن كل شيء قد تغير وتبدل عما كانت تعرف
فتعود إلى فراشها وقد شعرت بغربتها .
قصتان رائعتان بأسلوب جذاب، وقلم متمكن وسرد جميل.
بوركت ـ ولك تحياتي وتقديري.
:hat::v1::hat: