مشاهدة النسخة كاملة : هذيان كل يوم
مأمون المغازي
11-01-2007, 02:53 PM
هذيان كل يوم
بين الأشجار المتكاثفة الأغصان وعلى الحشائش المتعطشة كان مجلسهما حيث يسترقان من الزمن هنيهة يهدهد القلبان بعضهما بعيدًا عن المدينة التي يلتهم زحامها المشاعر حين تتشعب الطرق المزدحمة بالمشاة الذين ربما لا تهتدي خطواتهم إلى أهدافها ، وتلك البنايات التي تحوي في جنباتها الآلام ولا تبوح شرفاتها إلا بالأقنعة المخفية وراءها أسرار الحياة الصعبة في الأحياء البائسة التيهي بذاتها تحلم أن تسير كالجبال يوم القيامة لتزور تلك الأحياء التي فاح عبقها ورقصها وموسيقاها وطربها بشجنه ومجونه . حتى البنايات تطمع في تلمس الانفلات من حالها
تحت أعطاف الخميلة مالا بعطفيهما ... احتضنت راحتاه يدها التي أوت إلى فراشها الوثير واستراحت من عناءات الأيام التي عانقتها الريح وأدوات الطبخ والتنظيف ، وكأنها بين كفيه تستشفي من أدوائها ، وتستجم على بحيرة زهرية تهفو على ضفافها فراشات ألوانها ضيائية الملامح ترقب تلك اليد وقد تمددت ملقية كل خلاياها تستحم بومضات الشوق المنبعث من قبة اليد العليا إلى فضاءات اليد السفلى وبينهما هذه الورقاء التي انتبهت أنها هنا شاكية مما هدد العالم أنه ذابحها لا محالة ، فقد طلبها الصياد وصوب وهو الآن يسدد البارود طالبًا هذه اليد التي ترى أنها ملك لحاضنها .
ارتعدت في راحتيه ارتعادة المحموم الذي كان قد غفى هروبًا من الجحيم المتقد في خلاياه ... رفعت يدها الأخرى التي كانت قد عبثت بالحشائش ما عبثت ، واقتلعت منها ما اقتلعت وأطبقتها على يده ، وكأن العشق كله انحدر إلى الأيدي ... مال وكأنه النسيم مقبلاً يدها كأنه يتنفس آخر الأنفاس ... رفع رأسه لتلتقي العيون تحمل التحدي المقاوم لكل الانكسارات ... غاصت كل عين بعين تحتضنها حينًا ، وتفتش في حناياها عن عالم غير العالم وقانون بلا صياد ولا مقصلة صنعت من الفقر والقهر والحرمان تقص رقاب الآمال .
تبادلا الآراء في صمت الشفاه ونطق العيون ... توترت اللحاظ كلما حف الحفيف ، أو تهامست الأشجار ... لم يدركا أن الأشجار أحياء ترقب وتمدح وتهجو ... رفعا رأسيهما حين هوت وريقات من غصن مال يسترق السمع ، أو أنه أراد أن يكون بينهما في لحظة البوح ، أو أن الشجرة أرادت أن تضربهما لما بدى من ضعف و انهيار ... ودا لو أن الجزع ينفتح ليهربا داخله ليبدأ التاريخ من جديد ... ضمها وضمته في اتحادية التوحد ... وقفا ... تجردا من ثيابهما ... مازالت العيون تحكي أسرارها ... تجردا ... بديا عاريين ...تعريا وتعريا وتعريا ... من الثياب ... من الغبار وأتربة الشوارع التي حملت رائحة العرق المتساقط عليها من اجساد الكادحين وخلت من بقايا الطعام الذي لم يكن يتبقى منه شيء ... من المقصلة ... من الزحام ... من الهواجس والظنون .
تعريا ... إلا من عفة هي ما أبقت لهما السنون .
تذكرت أن جيب أبيها لا يختلف عن جيبه أو جيب أبيه ، فالزوار ممنوعون من الإقامة فيه ، وتذكر أن طبخ أمها لا يختلف عن طبخ أمه ، وتذكرا كم فرقهما الزحام ... كم وأدت المشكلات أحلامهما ... وتذكرا ألف مقصلة ... الأسوار ... أسوار نارية ... وأسوار وردية ...وتذكرا ...
قررا أن يتحولا إلى بذرتين فالبذور تتحول أزهارًا ، الأزهار تتلاقح ما شاءت ، تهمس ما شاءت ، أشواكها تحميها ..... وتحنو ما شاءت ...تصبح أشجارًا تتعانق في فضاء الغابة وبين نسائمها ، ودفئها ورعودها .
انحنيا ... ركعا ... استقبلتهما الأرض ... تضاءلا ... تحولا ...ارتجفا لرطوبة الأرض ... هبط غرابان أسحمان ... حمل كل منهما بذرة في منقاره ... صرخا ... تضاحك الغرابان ... طار كل منهما إلى حيث طار .
مأمون المغازي
الأربعاء 8 / 11 /2006
محمد سامي البوهي
11-01-2007, 04:14 PM
السلام عليكم ورحمة الله
الأديب القاص / مأمون
النص من النصوص الرمزية ، النص بفكرته الجديدة يحمل إلينا كتلة من مشاعر الحب بين (هي .. هو) ، مقابلة أديرت بقوة وإحكام ، لنصل إلى نهاية تحولية ، عندما وصلت إلى هذه النقطة حدقت للدهشة
(ضمها وضمته في اتحادية التوحد ... وقفا ... تجردا من ثيابهما ... مازالت العيون تحكي أسرارها ... تجردا ... بديا عاريين ...تعريا وتعريا وتعريا ... من الثياب ... من الغبار وأتربة الشوارع التي حملت رائحة العرق المتساقط عليها من اجساد الكادحين وخلت من بقايا الطعام الذي لم يكن يتبقى منه شيء ... من المقصلة ... من الزحام ... )
انتظرت كارثة قادمة ، وبت أحضر نفسي لمشاجرة عنيفة بيني وبينك ، لكني فوجئت بنهاية فلسفية تحمل من العمق الكثير ، فالتحول إلى بذرة في حد ذاته كناية عن التمهيد لبدء حياة جديدة ، بعيداً عن صخب هذه الحياة ، وما فيها من هموم ، ومشاكل ، وفساد ، لكني فوجئت بنهاية أخرى ، أن هذه البذور لم يكتب لها النجاح ، فجاء غراب وابتلعها ، حيث أبت الدنيا الحاضرة أن تنبت داخلها دنيا أخرى . فكانت مفاجأه ذات جيب .
لكن لي سؤال بسيط ، عن بداية القصة يا أخي ، كنت أتمنى لو بداتها بجملة فعلية ، وأظن أنه يسهل عليك ذلك ، لأن الجمل الفعلية عندما تتصدر الحكي تعطي القصة حيوية ، وسلاسة في السرد .
دمت مبدعاً
وفاء شوكت خضر
11-01-2007, 05:24 PM
تعريا ... إلا من عفة هي ما أبقت لهما السنون .
الله ما أجمل المغزى ..
هموم الحياة ، وقسوة العيش ، والحلم بالراحة والأمان ..
الضجيج والتلوث ، البيئي والأخلاقي ، وضيق المساحات ..
حتى لتكاد تجثم فوق الصدور بما فيها من أبنية وآليات وبشر ..
لكن ..
النهاية .. محزنه ، أن لا يكون أمل ..
انحنيا ... ركعا ... استقبلتهما الأرض ... تضاءلا ... تحولا ...ارتجفا لرطوبة الأرض ... هبط غرابان أسحمان ... حمل كل منهما بذرة في منقاره ... صرخا ... تضاحك الغرابان ... طار كل منهما إلى حيث طار .
أخي الفاضل / مأمون المغزي ..
توظيف رائع للصور ، وأسلوب شيق في السرد ، وتورية ذكية .
استعملت العري كناية عن إسقاط كل الأقنعة ، والتعري من كل زيف الحياة ، وكل زينتها ، ليتحدا بروح نقية لا تشوبها شائبة ، تنازلا عن كثير كي يكونا معا ، ولكن .. أنا لهما وهما ولا يملكان تغيير شيء .
الغراب نذير شؤم ، وقد انتهى أمرهما بفراق ، ليكون لكل مصيره .
سعدت بمروري على صفحاتك ..
تحيتي وتقديري لشخصك وقلمك .
حسنية تدركيت
12-01-2007, 01:44 AM
بداية بذرة نمت من الطبيعة بذرة حب وهروب من واقع الحياة المزدحم بالتناقضات الطبيعة التي تجسد الحرية والانطلاق لكن عبر سبيل آخروهو التحرر من جديد ربما من الذات حينما تضجر من القيد وان كان هلامي الشكل في آخر النص عودة رائعة للطبيعة ولكن بروح جديدة بذرة حب لكن الغراب يحقق فكرة لا استقرار
اخي الفاضل مامون المغازي قرات قصتك اكثر من مرة وجدتتها تجدد فكرة عامة عن العلاقة بين الرجل والمراة اسلوب رائع وسلس
الصباح الخالدي
12-01-2007, 04:25 AM
جميلة ياجميل
نصوصك حلوة وممتعة
يمنى سالم
12-01-2007, 04:28 PM
مأمون..
ينتشي الحرف ههنا، ليسقط مغشياً عليه في حضن اللغة البديعة..
حين يسرد مأمون يحكي حكايات جميلة معتقة برائحة الشقاء والتعب..
برائحة العرق العربي النازح من جبين مواطن مرهق...
مخضبة بقصة عشق جميلة...
تتلاشى في طين الأرض، وهذا إن نم على شيء سينم عن حب مأمون للأرض بطريقة إدمان حقيقي لعشق الوطن ..
تحياتي لقلمك الرائع مأمون
كن بخير
محمد إبراهيم الحريري
12-01-2007, 04:40 PM
هذيان كل يوم
بين الأشجار المتكاثفة الأغصان وعلى الحشائش المتعطشة كان مجلسهما حيث يسترقان من الزمن هنيهة يهدهد القلبان بعضهما بعيدًا عن المدينة التي يلتهم زحامها المشاعر حين تتشعب الطرق المزدحمة بالمشاة الذين ربما لا تهتدي خطواتهم إلى أهدافها ، وتلك البنايات التي تحوي في جنباتها الآلام ولا تبوح شرفاتها إلا بالأقنعة المخفية وراءها أسرار الحياة الصعبة في الأحياء البائسة التيهي بذاتها تحلم أن تسير كالجبال يوم القيامة لتزور تلك الأحياء التي فاح عبقها ورقصها وموسيقاها وطربها بشجنه ومجونه . حتى البنايات تطمع في تلمس الانفلات من حالها
تحت أعطاف الخميلة مالا بعطفيهما ... احتضنت راحتاه يدها التي أوت إلى فراشها الوثير واستراحت من عناءات الأيام التي عانقتها الريح وأدوات الطبخ والتنظيف ، وكأنها بين كفيه تستشفي من أدوائها ، وتستجم على بحيرة زهرية تهفو على ضفافها فراشات ألوانها ضيائية الملامح ترقب تلك اليد وقد تمددت ملقية كل خلاياها تستحم بومضات الشوق المنبعث من قبة اليد العليا إلى فضاءات اليد السفلى وبينهما هذه الورقاء التي انتبهت أنها هنا شاكية مما هدد العالم أنه ذابحها لا محالة ، فقد طلبها الصياد وصوب وهو الآن يسدد البارود طالبًا هذه اليد التي ترى أنها ملك لحاضنها .
ارتعدت في راحتيه ارتعادة المحموم الذي كان قد غفى هروبًا من الجحيم المتقد في خلاياه ... رفعت يدها الأخرى التي كانت قد عبثت بالحشائش ما عبثت ، واقتلعت منها ما اقتلعت وأطبقتها على يده ، وكأن العشق كله انحدر إلى الأيدي ... مال وكأنه النسيم مقبلاً يدها كأنه يتنفس آخر الأنفاس ... رفع رأسه لتلتقي العيون تحمل التحدي المقاوم لكل الانكسارات ... غاصت كل عين بعين تحتضنها حينًا ، وتفتش في حناياها عن عالم غير العالم وقانون بلا صياد ولا مقصلة صنعت من الفقر والقهر والحرمان تقص رقاب الآمال .
تبادلا الآراء في صمت الشفاه ونطق العيون ... توترت اللحاظ كلما حف الحفيف ، أو تهامست الأشجار ... لم يدركا أن الأشجار أحياء ترقب وتمدح وتهجو ... رفعا رأسيهما حين هوت وريقات من غصن مال يسترق السمع ، أو أنه أراد أن يكون بينهما في لحظة البوح ، أو أن الشجرة أرادت أن تضربهما لما بدى من ضعف و انهيار ... ودا لو أن الجزع ينفتح ليهربا داخله ليبدأ التاريخ من جديد ... ضمها وضمته في اتحادية التوحد ... وقفا ... تجردا من ثيابهما ... مازالت العيون تحكي أسرارها ... تجردا ... بديا عاريين ...تعريا وتعريا وتعريا ... من الثياب ... من الغبار وأتربة الشوارع التي حملت رائحة العرق المتساقط عليها من اجساد الكادحين وخلت من بقايا الطعام الذي لم يكن يتبقى منه شيء ... من المقصلة ... من الزحام ... من الهواجس والظنون .
تعريا ... إلا من عفة هي ما أبقت لهما السنون .
تذكرت أن جيب أبيها لا يختلف عن جيبه أو جيب أبيه ، فالزوار ممنوعون من الإقامة فيه ، وتذكر أن طبخ أمها لا يختلف عن طبخ أمه ، وتذكرا كم فرقهما الزحام ... كم وأدت المشكلات أحلامهما ... وتذكرا ألف مقصلة ... الأسوار ... أسوار نارية ... وأسوار وردية ...وتذكرا ...
قررا أن يتحولا إلى بذرتين فالبذور تتحول أزهارًا ، الأزهار تتلاقح ما شاءت ، تهمس ما شاءت ، أشواكها تحميها ..... وتحنو ما شاءت ...تصبح أشجارًا تتعانق في فضاء الغابة وبين نسائمها ، ودفئها ورعودها .
انحنيا ... ركعا ... استقبلتهما الأرض ... تضاءلا ... تحولا ...ارتجفا لرطوبة الأرض ... هبط غرابان أسحمان ... حمل كل منهما بذرة في منقاره ... صرخا ... تضاحك الغرابان ... طار كل منهما إلى حيث طار .
مأمون المغازي
الأربعاء 8 / 11 /2006
الأخ الحبيب : تحية طيبة
حملتني خطا الفضول أن أسير متوجس السرائر ، أعبر بين الحرف متلكئا ، خشية فرار حرف أو اختفاء معنى ، متأرجح الفكر مع كل فاصلة ، متأبطا قلم الرؤية ناثرا من ثغره مذكرة لرحلة وسعت الروح وجدانا ، وبقيت بين انامل الأدب أطوف بجرأة أثقلت خطاه بمسيرة البحث والتروي لآرى متعة البيان فإذا بالكاتب يحملنا قسر الانبهار إلى واحات وفضاءات هي عقدة الموضوع ، حتى عهدت أن الرحلة متعة بصيرة تتجلى فيها ألوان التفاؤل ، وصور الترقب ، لكن أزفت ساعة الرحيل بعد أن نثرت بذور الفلسفة في ثرى الأمل .
شكرا أخي الحبيب
كنت هنا حبا بقلمك
سحر الليالي
12-01-2007, 08:38 PM
أستاذي الفاضل مأمون:
بحق قصة رائعة
أعجبت بها جدا
سلم قلمك ودام لنا ابداعك
تقبل خالص إعجابي وتقديري وباقة ورد
مأمون المغازي
12-01-2007, 09:32 PM
الأديب / محمد سامي البوهي
أشكرك لهذه القراءة المتأنية للنص
هذه القراءة التي لمست فيها أحد المفاصل التي أجدها قريبة من نفسي وقد أعجبت برأيك فيها
أما الاستفتاح بالجملة الفعلية فلم يكن محبذًا لدي مع هذه القصة بالتحديد كي أبعد عن التقرير قدر الإمكان فليست القصة فردية كما ترى يا عزيزي إنما حملت في طياتها فلسفة بسيطة هدفت منها إلى إضفاء رومانسية الحب رغم القهر والشتات .
أديبنا الكريم
تقبل احترامي وتقديري
مأمون المغازي
مأمون المغازي
13-01-2007, 11:00 PM
الكاتبة والأديبة / وفاء شوكت خضر
أشكر لكِ هذا المرور الرائع الذي أثرى الموضوع
قراءتكِ يا سيدتي فيها متعة لي حيث تضعين أناملكِ بنعومة رائقة على مواضع الإحساس التي فيها روح القصة .
أشكرك قدر إعجابي بردكِ
مأمون المغازي
مأمون المغازي
14-01-2007, 02:55 PM
الكاتبة / حسنية تدركيت
أشكر لكِ هذه القراءة التي أراها مرحلة جديدة في قراءتكِ للنصوص ثم التعليق عليها
أعجبني هذا التعمق في فهم الدلالات هنا وتكوين رؤية ذاتية حول النص .
تقبلي ودي واحترامي
مأمون المغازي
ليلك ناصر
14-01-2007, 04:47 PM
الأديب القاص الرائع .. مأمون المغازي ..
قصتك رائعة جدا و ممتعة أيضا ..
حيث وجدت أن الحب هذا الذي أراد أن يبتعد عن كل التلوث و عن كل المتاعب التي
تلاحقه أن مصيره الفراق ..
سررت بمروري من هنا ...
فتقبل فائق احترامي وتقديري ..
مأمون المغازي
15-01-2007, 11:42 PM
الكاتب / الصباح الخالدي
أنت الأجمل بمرورك يا جميل
تحياتي
مأمون المغازي
15-01-2007, 11:44 PM
الكاتبة والأديبة / يمنى سالم
لا أجد الكلمات بعد هذا الجمال الذي انتظم بحرفكِ الرقيق العميق
أشكر لكِ هذه القراءة التي تنم عن إدراك لأبعاد فلسفية حاولت أن تحتويها القصة
أشكركِ كثيرًا
مأمون المغازي
مأمون المغازي
16-01-2007, 08:28 PM
شاعرنا الكبير / محمد الحريري
لمروركم عبق السحر في النفوس العاشقة يهيم بها وتهيم به ، ولكلماتكم وقع الندى على الغصون المورقة .
شاعرنا وسيد الحرف الشامخ ... أيها العاشق السابح في فضاءات الجمال والفيلسوف المحلق ي مدارات الحكمة ...
سعدت جدًا بما خطه قلمك هنا
لك احترامي والتحيات ترانيم في محراب فنك
مأمون المغازي
د. محمد حسن السمان
16-01-2007, 08:40 PM
سلام الـلـه عليكم
قراءة في قصة " هذيان كل يوم "
للأديب مأمون المغازي
بقلم الدكتور محمد حسن السمان
لقد قرات هذا العنوان " هذيان كل يوم " ولم ار اي هذيان , وعلى العكس من ذلك , وجدتني ادخل في عالم الابداع الفني , في عمق حالة من اللاوعي الايجابي , في تناغم غير متوافق , بل حالة صراع غير مشذبة الحدود , بين المشاعر الانسانية , وبين تحجر الحضارة المعاصرة , في مفردات وصور , تسمح بالتعبير العميق عن الفكرة , يغوص معها الكاتب , في رسم رموز الحضارة المعاصرة , بشكل لافت متفوق , فهو ينقل لنا بحالة اللاوعي و مشاهد المدينة , وازدحام الشوارع , والضياع والتيه , والبنايات التي تحوي جنباتها الآلام , وشرفاتها لاتظهر غير الاقنعة , حيث يختفي خلفها الاسرار الصعبة , ثم في لفتة اخرى , يعلن عن تذمره من سمات المدينة المعاصرة " لتزور تلك الأحياء التي فاح عبقها ورقصها وموسيقاها وطربها بشجنه ومجونه . حتى البنايات تطمع في تلمس الانفلات من حالها " مصورا حالة من الانفلات والضياع :
"بين الأشجار المتكاثفة الأغصان , وعلى الحشائش المتعطشة , كان مجلسهما , حيث يسترقان من الزمن هنيهة , يهدهد القلبان بعضهما بعيدًا عن المدينة , التي يلتهم زحامها المشاعر , حين تتشعب الطرق المزدحمة بالمشاة ,الذين ربما لا تهتدي خطواتهم إلى أهدافها ، وتلك البنايات التي تحوي في جنباتها الآلام , ولا تبوح شرفاتها إلا بالأقنعة المخفية , وراءها أسرار الحياة الصعبة , في الأحياء البائسة التيهية بذاتها , تحلم أن تسير كالجبال يوم القيامة , لتزور تلك الأحياء التي فاح عبقها ورقصها وموسيقاها وطربها بشجنه ومجونه . حتى البنايات تطمع في تلمس الانفلات من حالها "
ثم ينتقل بنا الكاتب الى حالة من الحميمية , في مشهد حب وعشق درامي , اجاد في رسم ملامحه بشكل أخّاذ , لايتقنه إلا من توغل كثيرا في غياهب شعور المحبين والعشاق , وتفهم دفء هذه اللقطات , عندما يصف حالة وضع يد المحبة بين كفي المحب , مستخدما صورة مبتكرة , من حيث الشكل والاحساس .
وقد وقفت طويلا عند هذه الاشارة الذكية الى معاناة الحبيبة ( المرأة ) , عندما وصف الكاتب يد هذه المرأة ,وهي تنسل بين راحتي حبيبها ( الرجل ) :
"احتضنت راحتاه يدها التي أوت إلى فراشها الوثير واستراحت من عناءات الأيام التي عانقتها الريح وأدوات الطبخ والتنظيف "
ثم يقدم صورة غير مسبوقة , غاية في الابداع , عندما يتابع :
"وكأنها بين كفيه تستشفي من أدوائها ، وتستجم على بحيرة زهرية , تهفو على ضفافها فراشات ألوانها , ضيائية الملامح , ترقب تلك اليد , وقد تمددت ملقية كل خلاياها , تستحم بومضات الشوق المنبعث , من قبة اليد العليا , إلى فضاءات اليد السفلى "
وفي غمرة هذا الحلم الخرافي , واليد تحط في مرفأ الامان , وتستشعر الحنان وتهفو للأمل , يقرع الكاتب ناقوس التذكير بالمعاناة , عندما يصف اليد وكأنها حمامة ورقاء , تعبيرا عن الوداعة والخير , وهي تنتبه فجأة الى أنها هنا فقط تشكو ذابحها , ويقرر الكاتب أن الصياد قد صوّب نحوها , بل هو يسدد البارود .
"وبينهما هذه الورقاء التي انتبهت أنها هنا شاكية مما هدد العالم أنه ذابحها لا محالة ، فقد طلبها الصياد وصوب وهو الآن يسدد البارود طالبًا هذه اليد التي ترى أنها ملك لحاضنها ."
ثم يزداد التوتر , على نحو درامي :
"ارتعدت في راحتيه ارتعادة المحموم الذي كان قد غفى هروبًا من الجحيم المتقد في خلاياه ... رفعت يدها الأخرى التي كانت قد عبثت بالحشائش ما عبثت ، واقتلعت منها ما اقتلعت وأطبقتها على يده ، وكأن العشق كله انحدر إلى الأيدي ... مال وكأنه النسيم مقبلاً يدها كأنه يتنفس آخر الأنفاس .."
وقد اضفى الكاتب على المشهد ألقا مدهشا , عندما يشير الى الحب , وكأنه انحدر وتلخص بحركة الايدي , ثم يتبع ذلك بلقطة حارة , يرسمها بواسطة العيون , وهي تبحث عن الأمل , وتبث الشكوى وحرقة المعاناة والخوف :
"مال وكأنه النسيم مقبلاً يدها كأنه يتنفس آخر الأنفاس ... رفع رأسه لتلتقي العيون تحمل التحدي المقاوم لكل الانكسارات "
"غاصت كل عين بعين تحتضنها حينًا ، وتفتش في حناياها عن عالم غير العالم وقانون بلا صياد ولا مقصلة صنعت من الفقر والقهر والحرمان تقص رقاب الآمال ."
وفي حالة متناغمة مع المشهد , يصف الكاتب لقطة حوارية صامتة , بين الشفاه دون بوح , والنطق التعبيري للعيون , ثم نستشعر مع الكاتب , حالة من الخوف والتوجس , مما يحيط به , لايقدر عن الافصاح عنها بشكل معلن , فيختزلها بقوله : توترت اللحاظ , كلما حفّ الحفيف , أو تهامست الأشجار ... لم يدركا أن الأشجار احياء ترقب وتمدح وتهجو ...رفعا رأسيهما حين هوت وريقات من غصن مال يسترق السمع ، أو أنه أراد أن يكون بينهما في لحظة البوح ، أو أن الشجرة أرادت أن تضربهما لما بدى من ضعف و انهيار .
ثم وفي حالة من اللاوعي , نجد ملامح محاولة الانعتاق , محفوفة بالياس , وينتظران حدوث معجزة , في أن التاريخ يعود من جديد , يشعران بأنهما نفس الحالة , نفس المعاناة , فضمهما الكاتب , ليبين حالة التوحد , بين الرجل والمرأة في المعاناة , ولكنه ابقى عليهما بعد حالة التعري , من مشاكل الحياة المعاصرة , صفة العفة , وهي ما أبقت لهما السنون ::
"ودا لو أن الجزع ينفتح ليهربا داخله ليبدأ التاريخ من جديد ... ضمها وضمته في اتحادية التوحد ... وقفا ... تجردا من ثيابهما ... مازالت العيون تحكي أسرارها ... تجردا ... بديا عاريين ...تعريا وتعريا وتعريا ... من الثياب ... من الغبار وأتربة الشوارع التي حملت رائحة العرق المتساقط عليها من اجساد الكادحين وخلت من بقايا الطعام الذي لم يكن يتبقى منه شيء ... من المقصلة ... من الزحام ... من الهواجس والظنون .
تعريا ... إلا من عفة هي ما أبقت لهما السنون ."
وبعدها يؤكد الكاتب , على أن المحبيّن الذين توحدا , هما فقيران ومن عائلة فقيرة , هي السواد الاعظم :
" تذكرت أن جيب أبيها لا يختلف عن جيبه أو جيب أبيه ، فالزوار ممنوعون من الإقامة فيه ، وتذكر أن طبخ أمها لا يختلف عن طبخ أمه ، وتذكرا كم فرقهما الزحام ... كم وأدت المشكلات أحلامهما ... وتذكرا ألف مقصلة ... الأسوار ... أسوار نارية ... وأسوار وردية ...وتذكرا ..."
ثم وفي حالة اللاوعي , وكأننا امام حلم ليلي مرهق , يقرر العاشقان ( الرجل والمرأة ) , أن يتحولا الى بذرتين , في محاولة لرسم الأمل والخلاص , وقيام مجتمع مختلف , ولكونهما عنصرا الحياة , يمكن أن ينتجا انسالا لمجتمع الغد , مجتمع الخلاص :
"قررا أن يتحولا إلى بذرتين فالبذور تتحول أزهارًا ، الأزهار تتلاقح ما شاءت ، تهمس ما شاءت ، أشواكها تحميها ..... وتحنو ما شاءت ...تصبح أشجارًا تتعانق في فضاء الغابة وبين نسائمها ، ودفئها ورعودها ."
وفي حالة من الارتقاء الروحي , يحاولان أن يكونا البذرتين , ولكن قسوة المجتمع , اكبر منهما فتقضي على الحلم , عندما تحرم هاتين البذرتين , من ان تكونا معا , مجتمع الغد , عنداما يحمل كل منهما غراب أسود مختلف , ليضيعا تائهين , كما هما الرجل والمرأة , في مجتمع تحلق فيه الغربان , وتضحك من السواد الاعظم من الناس .
"انحنيا ... ركعا ... استقبلتهما الأرض ... تضاءلا ... تحولا ...ارتجفا لرطوبة الأرض ... هبط غرابان أسحمان ... حمل كل منهما بذرة في منقاره ... صرخا ... تضاحك الغرابان ... طار كل منهما إلى حيث طار ."
وفي النهاية , فإن قصة " هذيان كل يوم " نص أدبي بامتياز , مزج بين الوعي واللاوعي , ليعبّر عن صور الصراع الاجتماعي , نجح الكاتب من خلاله , بتصوير الحالة , مقدما رسالة اخلاقية ومجتمعية فائقة المستوى .
مأمون المغازي
18-01-2007, 01:58 PM
أديبتنا الرقيقة / سحر الليالي
ما أسعدني بمرورك أيتها الرائعة
سعيد جدًا أن القصة أعجبتكِ ولاقت استحسانًا
تقبلي احترامي وتقديري
مأمون المغازي
بنور عائشة
18-01-2007, 06:35 PM
جميل ..جميل ..نص مميز..
موفق ..مع تحياتي
مأمون المغازي
20-01-2007, 10:58 PM
الأديبة / ليلك ناصر
أشكر لكِ مرورك الهامس برائع الكلم
نعم يا سيدتي هو الحب وهي الحياة وهي التناقضات
محاولة التغيير ... الوجع ... الفرار من الرحيل ... الصياد والتسديد بدفع المهر ... من يملك أكثر يملك أكثر ... الغابة يا سيدتي ... غابات الوجع وغابات الإسمنت ...
الحب يا سيدتي ... والمواجع
أشكرك قدر سعادتي بتعليقك
مأمون المغازي
د. مصطفى عراقي
21-01-2007, 10:05 PM
هذيان كل يوم
بين الأشجار المتكاثفة الأغصان وعلى الحشائش المتعطشة كان مجلسهما حيث يسترقان من الزمن هنيهة يهدهد القلبان بعضهما بعيدًا عن المدينة التي يلتهم زحامها المشاعر حين تتشعب الطرق المزدحمة بالمشاة الذين ربما لا تهتدي خطواتهم إلى أهدافها ، وتلك البنايات التي تحوي في جنباتها الآلام ولا تبوح شرفاتها إلا بالأقنعة المخفية وراءها أسرار الحياة الصعبة في الأحياء البائسة التيهي بذاتها تحلم أن تسير كالجبال يوم القيامة لتزور تلك الأحياء التي فاح عبقها ورقصها وموسيقاها وطربها بشجنه ومجونه . حتى البنايات تطمع في تلمس الانفلات من حالها
تحت أعطاف الخميلة مالا بعطفيهما ... احتضنت راحتاه يدها التي أوت إلى فراشها الوثير واستراحت من عناءات الأيام التي عانقتها الريح وأدوات الطبخ والتنظيف ، وكأنها بين كفيه تستشفي من أدوائها ، وتستجم على بحيرة زهرية تهفو على ضفافها فراشات ألوانها ضيائية الملامح ترقب تلك اليد وقد تمددت ملقية كل خلاياها تستحم بومضات الشوق المنبعث من قبة اليد العليا إلى فضاءات اليد السفلى وبينهما هذه الورقاء التي انتبهت أنها هنا شاكية مما هدد العالم أنه ذابحها لا محالة ، فقد طلبها الصياد وصوب وهو الآن يسدد البارود طالبًا هذه اليد التي ترى أنها ملك لحاضنها .
ارتعدت في راحتيه ارتعادة المحموم الذي كان قد غفى هروبًا من الجحيم المتقد في خلاياه ... رفعت يدها الأخرى التي كانت قد عبثت بالحشائش ما عبثت ، واقتلعت منها ما اقتلعت وأطبقتها على يده ، وكأن العشق كله انحدر إلى الأيدي ... مال وكأنه النسيم مقبلاً يدها كأنه يتنفس آخر الأنفاس ... رفع رأسه لتلتقي العيون تحمل التحدي المقاوم لكل الانكسارات ... غاصت كل عين بعين تحتضنها حينًا ، وتفتش في حناياها عن عالم غير العالم وقانون بلا صياد ولا مقصلة صنعت من الفقر والقهر والحرمان تقص رقاب الآمال .
تبادلا الآراء في صمت الشفاه ونطق العيون ... توترت اللحاظ كلما حف الحفيف ، أو تهامست الأشجار ... لم يدركا أن الأشجار أحياء ترقب وتمدح وتهجو ... رفعا رأسيهما حين هوت وريقات من غصن مال يسترق السمع ، أو أنه أراد أن يكون بينهما في لحظة البوح ، أو أن الشجرة أرادت أن تضربهما لما بدى من ضعف و انهيار ... ودا لو أن الجزع ينفتح ليهربا داخله ليبدأ التاريخ من جديد ... ضمها وضمته في اتحادية التوحد ... وقفا ... تجردا من ثيابهما ... مازالت العيون تحكي أسرارها ... تجردا ... بديا عاريين ...تعريا وتعريا وتعريا ... من الثياب ... من الغبار وأتربة الشوارع التي حملت رائحة العرق المتساقط عليها من اجساد الكادحين وخلت من بقايا الطعام الذي لم يكن يتبقى منه شيء ... من المقصلة ... من الزحام ... من الهواجس والظنون .
تعريا ... إلا من عفة هي ما أبقت لهما السنون .
تذكرت أن جيب أبيها لا يختلف عن جيبه أو جيب أبيه ، فالزوار ممنوعون من الإقامة فيه ، وتذكر أن طبخ أمها لا يختلف عن طبخ أمه ، وتذكرا كم فرقهما الزحام ... كم وأدت المشكلات أحلامهما ... وتذكرا ألف مقصلة ... الأسوار ... أسوار نارية ... وأسوار وردية ...وتذكرا ...
قررا أن يتحولا إلى بذرتين فالبذور تتحول أزهارًا ، الأزهار تتلاقح ما شاءت ، تهمس ما شاءت ، أشواكها تحميها ..... وتحنو ما شاءت ...تصبح أشجارًا تتعانق في فضاء الغابة وبين نسائمها ، ودفئها ورعودها .
انحنيا ... ركعا ... استقبلتهما الأرض ... تضاءلا ... تحولا ...ارتجفا لرطوبة الأرض ... هبط غرابان أسحمان ... حمل كل منهما بذرة في منقاره ... صرخا ... تضاحك الغرابان ... طار كل منهما إلى حيث طار .
مأمون المغازي
الأربعاء 8 / 11 /2006
=================
أخانا الغالي الأديب المبدع الأستاذ مأمون المغازي
أطالع قصتك الجميلة مستعينا بالأضواء الكاشفة التي أضاءها كل من سبقني هنا من الأخوات الفضليات والإخوة الأفاضل وفي القلب منها بقراءة أستاذي العالم الناقد الأديب الدكتور السمان فاكتشفت أنني أمام مشهد سينمائي عبقري يفيض بالحيوية ، مصور تصويرا فنيا يتسم بالشاعرية.
بدءا من رسم المشهد ببراعة بتضافر جميل بين المكان والزمان :
فأما المكان فمن خلال تقديم الظرف : بين الأشجار المتكاثفة الأغصان وعلى الحشائش المتعطشة
وهذا التقديم النحوي يدل على عناية الكاتب برسم المشهد وتحديد المكان ليوحي به ووصفه بهذا التكاثف وذلك التعطش إلى جو القصة (المشهد) بما يتسم من غموض وتكثيف في الأحداث ، وشوق وتعطش للشخوص
وأما الزمان فبتأمل الفعل "كان" الدال على الزمن الماضي ا، ولكن هذا الزمن الماضي يستحضره المشهد استحضارا بالفعل المضارع "يسترقان" وكأنه يعرض أمامنا الآن :" كان مجلسهما حيث يسترقان من الزمن هنيهة ".
فهو ماضٍ من حيث الزمن الواقعي ، وحاضر من حيث الزمن القصصي.
بل إن الزمن يتحول هنا إلى شيء مجسد يحاول البطلان استراق شيء منه!
فنحن إذن أمام مشهد متميز زمانا ومكانا ، وفي هذا المشهد نرى البطلين ولكن الكاتب لا يقدمهما لنا بصفتهما شخصين عاديين بل قلبين، نتأملهما :
"يهدهد القلبان بعضهما بعيدًا عن المدينة "
وكأنهما ليسا إلا قلبين متحابين ثم يضيف إلى المكان صفة جديدة هي البعد عن المدينة ولكنه كعادته يصور لنا المدينة تصويرا إنسانيا ليضعنا في مفارقة بين المكانين لنرى أن الأشجار رغم تكاثفها أكثر رحمة وأشد رحابة من هذه المدينة :
"التي يلتهم زحامها المشاعر حين تتشعب الطرق المزدحمة بالمشاة الذين ربما لا تهتدي خطواتهم إلى أهدافها ، وتلك البنايات التي تحوي في جنباتها الآلام ولا تبوح شرفاتها إلا بالأقنعة المخفية وراءها أسرار الحياة الصعبة".
ليصور العلاقة القوية بين المكان و مشاعر الإنسان، ثم يمدنا بطبيعة المكان من خلال هذا التصوير الموحي في سيناريو متكامل نكتشف من خلاله أنه يشير إلى مكانهما الأصلي حيا من تلك الأحياء الشعبية أو العشوائية التي لا تليق بسكنى البشر بما لديهم من مشاعر بل تلتهمهم وتلتهمهم بطبيعتها وليس برغبةٍ منها بل إنها هي أيضا تتوق للهروب من هذا الواقع البائس القاسي حتى ولو بقيامة القيامة حيث:" تحلم أن تسير كالجبال يوم القيامة لتزور تلك الأحياء التي فاح عبقها ورقصها وموسيقاها وطربها بشجنه ومجونه ."
ليتنقل الكاميرا لتأكيد المفارقة إلى مشهد ثالث في جنبات الأحياء الراقية اللاهية!
وبعد هذا التجول بنا بين المشاهد نعود إلى المشهد الأول لنتابع تأمل البطلين (القلبين) الفارَّين بمشاعرهما الصادقة من قسوة مكانٍ لا يرحم، إلى مكان يشهد عاطفتهما النقية :
"تحت أعطاف الخميلة"
التي أخذها كاتبنا من معنى : العَطْفَةُ ، وتعني : اللَّبْلابُ سُمِّي بذلِكَ لتَلَوِّيهِ على الشَّجَرِ ، أوالعِطْفَةُ بالكَسْرِ ، وهي: أَطْرافُ الكَرْمِ المُتَعَلِّقَةُ منه.
وما أجمل اختيار لفظة الأعطاف هنا لتتسق شعورا وتصويرًا مع ما يحملانه من عاطفة وما يتعطشان إليه من حنوّ في لجوئهما إلى الخميلة الظليلة الشفيقة ، ولكن يبدو أن اللعبة اللغوية استهوت كاتبنا إلى عبارة " مالا بعطفيهما ... "
فأدى إلى معنى يختلف تماما عن سياق القصة ، بل يتناقض مع غرضها ، إذ يدل على التكبر والإعراض!
ثم يقرب كاتبنا الكاميرا من البطلين بعد أن تجول بها في المكان ببراعة ، فنراهما وقد:
" احتضنت راحتاه يدها التي أوت إلى فراشها الوثير واستراحت من عناءات الأيام التي عانقتها الريح وأدوات الطبخ والتنظيف ، وكأنها بين كفيه تستشفي من أدوائها ، ".
لنجد أنفسنا امام مفارقة ذكية بين الرومانسية الحاضرة ، والواقعية التي ماتزال في الخلفية
وتأمل معي اختيار الكاتب الفعل "أوت" الدال على رغبة يدها في الالتجاء إلى ملجأ آمن من عناء الحياة !
" وتستجم على بحيرة زهرية تهفو على ضفافها فراشات ألوانها ضيائية الملامح ترقب تلك اليد وقد تمددت ملقية كل خلاياها تستحم بومضات الشوق المنبعث من قبة اليد العليا إلى فضاءات اليد السفلى"
ثم انظر كيف جسد اليد كائنا حيا من خلال هذه الإشارة المجازية التي تنمو أمامنا نموا هائلا حتى تصير عالما ذا فضاء بل عوالم ذات فضاءات إيذانا بانتقال المشهد إلى مستوى السرد الشاعري الشفيف إلى مستوى آخر موغل في المجازية. تمهيدا لدخول شخوص جديدة ، مثل:
هذه الورقاء المهددة
وهذا الصياد يطاردها طالبا إياها بل وطالبا أيضا اليد الساكنة في راحتيه.
وهي كناية عن طلبها كلها، أليست اليد مجازا لصاحبتها
فلم تملك إلا الارتعاد في راحتيه ارتعادة .
وتنهي لغة الأيدي حوارها لتبدأ العيون حوارا آخر
وإذا كانت مفردات لغة الأيدي السكينة والحنو ، فإن للغة العيون مفردات أخرى هي التحدي والمقاومة، والبحث عن عالم أفضل ، وأمل جديد
وهكذا نرى حوار الأيدي الحانية وحوار العيون الناطقة ، والأشجار الهامسة وحدها الشفاه كانت صامتة
"تبادلا الآراء في صمت الشفاه ونطق العيون ... توترت اللحاظ كلما حف الحفيف ، أو تهامست الأشجار"
وهاهي ذي الأشجار تتحول "أحياء ترقب وتمدح وتهجو "
في عبارة شاعرية مشحونة بالتصوير والإيحاء
ترقب حالهما
وتمدح حبهما وتحديهما
وتهجو الصياد وقسوة الحياة
ولكن السارد يحذف هذه المفاعيل حرصا على التكثيف وإمداد القارئ بانتقال القصة إلى الإيغال في المجاز الذي نتفهم من خلاله أفعالهما التالية وهما يرفعان رأسيهما
الرغبة المستحيلة في الهروب داخل الجذع
التوحد والتجرد والتعري من غبار الزيف وأتربة الشوارع القاسية، والمقسو عليها
ولكن القاص لا ينسى وهما في غمرة هذا التوحد أن ينتقل بنا إلى صور من الحياة التي من قسوتها هربا وما يزالان :
"تذكرت أن جيب أبيها لا يختلف عن جيبه أو جيب أبيه ، فالزوار ممنوعون من الإقامة فيه ، وتذكر أن طبخ أمها لا يختلف عن طبخ أمه ، وتذكرا كم فرقهما الزحام ... كم وأدت المشكلات أحلامهما ... وتذكرا ألف مقصلة ... الأسوار ... أسوار نارية ... وأسوار وردية ...وتذكرا ...".
إنه ليس هروبا رومانسيا حالما ساذجا ، بل هروب احتجاج إيجابي يتخذ أشكالا متعددة من أشكال المقاومة فهما يفران بحبهما ليحافظا عليه ، وما أجله من فرار!
وها هما في رحلة الفرار المجازية من قسوة الواقع ينشدان الروْح والأمان ، يقعان في قسوة الرمز والمجاز، ولعل الكاتب هنا يريد أن يبين أن حتى الطبيعة الحانية التي كانت ملاذا للمتحابين في القصص الرومانسية القديمة ، أصابتها القسوة أيضا.،
فيبنما نهيئ أنفسنا لنبارك فرحتهما بالنجاة في قلب الأشجار المتعانقة والنسائم العليلة والأرض الطيبة، وقد استحالا بذرتين نضيرتين نفاجأ معهما برطوبة الأرض ، وتنخلع قلوبنا ونحن نرى هبوط الغرابين الأسحمين ليس لإيحائهما الشهير بالبين والفراق فحسب، بل وتضاحكهما وتفريقهما المتعمد بقسوة دون تأثر بصراخ البذرتين في نهاية حزينة حيث لا أمل في التلاقي !
ويبقى سؤال:
ما صلة العنوان "هذيان كل يوم" بهذه الأحداث الشجية
هل يريد كاتبنا القدير الإشارة إلى إلحاح هذه القضية على جيل شبابٍ رازح تحت وطأة معاناة خانقة ، فرضت في قلوبهم وعقولهما مثل هذا الهذيان المتجدد كل يوم؟
مبدعنا القدير الأستاذ مأمون
تقبل تحياتي لهذه القصة العبقرية المذهلة تعبيرا وتصويرا
ودمت بكل الخير والسعادة والإبداع
محبك: مصطفى
مأمون المغازي
31-01-2007, 11:55 PM
الأخت الأديبة / بنور عائشة
أشكر لكِ مرورك العطر وكلماتك الرقيقة
تحياتي وتقديري
مأمون المغازي
مأمون المغازي
21-02-2007, 01:23 PM
أستاذنا الكبير الدكتور / محمد حسن السمان
إليك آيات التبجيل والتقدير تتلى في محراب علمكم الفواح إذ نجلس القرفصاء عند منبركم متعلمين .
أستاذنا .
في كل مرة يحظى عمل من أعمالي برائع تحليلكم أجدني أعود إليه ناصحًا ألا يجتاحه الغرور وأنثني عنه إلى غيره مما لم ينشر مهذبًا إياه وناصحًا أحرفه أن نستكن الرحم من جديد لتولد بما يناسب صفحة سيقرأها ناقد أديب ومعلم لنا شرف التلقي عليه .
مرة ومرات يا سيدي
لك الشكر والتقدير
مأمون المغازي
حسام القاضي
22-02-2007, 09:56 PM
أخي الفاضل الأديب / مامون المغازي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ليس بمقدوري إضافة شيء يذكر بعد القراءات الوافية الجميلة لمن سبقوني ؛ فقد جئت متاخراً ..
ولكن اود ان أشير إلى لمحات ميزت عملك الجميل هذا..
بدا الأمر وكأنك تصور بريشتك لوحات فنية للحبيبين ؛ بدات بلوحة طبيعية لهما في أحضان الطبيعة ، حيث الحب متأججاً ، ولكن عشقهما يصطدم بالفقر والقهر والحرمان ، وهنا تلجأ إلى لون آخر من الفن التصويري فتبدع لوحة تجريدية ؛حيث ابتعدت التفاصيل تدريجياً عندما قرر الحبيبان التجرد من كل شيء .. التعري من كل ما يحيط بهما لعلهما يهربان من مشاكلهما ؛ فتجردا ولكن تجردهما لم يكن تجرداً عادياً ؛ فهما قد تعريامن الحصار المحدق بهما .. حصار المدنية اللاهث الخانق ، ولكن حتى هذا لم يشفع لهما ولم يجد نفعاً ؛ فالواقع الأليم مازال محاصراً لهم خانقاً لأحلامهما :
"تذكرت ان جيب أبيها لا يختلف عن جيب أبيه ، فالزوار ممنوعون من الإقامة فيه ........."
وهنا تلجأ إلى الرمز .. إلى الاختزال فيتحولا إلى بذرتين ؛ فما أبسط حاجة البذور !
" فالبذور تتحول أزهاراً ، الأزهار تتلاحق ما شاءت ، تهمس ما شاءت ، أشواكه تحميها ......"
ولكنهما حتى في هذا الهروب الرمزي لا يفلحا في إنقاذ عشقهما وحمايته حيث:
" هبط غرابان أسحمان .. حمل كل منهما بذرة في منقاره .. صرخا .. تضاحك الغرابان .. طار كل منهما إلى حيث طار."
الغرابان هنا وما يمثلان من نظرة تشاؤمية سوداوية مردودها إلى الواقع القاسي ، والقدر المحتوم ؛ فلا أحد يستطيع ان يعاند القدر.
هي إذاً دوائر حصار متتالية لا فكاك منها.. دوائر زمانية ومكانية في آن .
بناء متين وأسلوب مميز ثري.
نجحت في رسم لوحاتك التشكيلية الثلاث ، وكذا في الخاتمة التي جاءت قوية ورائعة .
تقبل وجهة نظري المتواضعة تلك مع فائق احترامي وتقديري .
خليل حلاوجي
23-02-2007, 10:16 AM
وتفتش في حناياها عن عالم غير العالم وقانون بلا صياد ولا مقصلة صنعت من الفقر والقهر والحرمان تقص رقاب الآمال
\
لازال السؤال قائما ً
هل نحن من يصنع الحلم .... ام الحلم هو من يصنعنا ؟
انا احلم .... اذن .... انا موجود
القصة خالفت مانحن مقتنعين بثبوته ... الجيوب الفارغة والغراب الذي ابتسم
لكنها اليوم ... قصة مفجعة
انهم جعلوا الحلم ... يحتضر ... في فوضى خلاقة بزعمهم
واصبح
الانسان مهدد في اغتيال سمو انسانيته
ماتراه عيني فوق ارصفة الفزع ... جعلني أقر بانتهاء صلاحية كل احلامنا
سأكف عن الهذيان
وازور قبر ابي هابيل ... أكمل عنه تعلم الحكمة
\
تقبل بالغ تقدير خليلك ... حبيبنا ماموننا
مأمون المغازي
25-02-2007, 02:02 PM
أردت أن أعدد ما يمكن أن يفيك حقك من الصفات فلم أستطع حصرها
فاختزلتها لأقول :
الحبيب الدكتور / ممصطفى عراقي
قرأت تعليقكم الرائع الذي أشرق شمسًا في فضاءاتي تنير الدرب فلم أكن أتوقع أن تنال قصتي هذه الدراسة الراقية وهذا النقد البناء الذي إذا مزجته بقراءة ونقد العظيم الدكتور / السمان لكان منهلاً يفيض العلم الذي إذا تمثله فكري ووجداني لبعثني من جديد ، وإني لمن الشاربين بإذن الله .
أعرف أني تأخرت في ردي يا سيدي ولكنني كنت بين حروفكم وبينها وبين نصي أتعلم من جديد فنشب العراك مع نصي إذ سألته : هل أنت اللائق بما خط هنا فما كان منه إلا أن إحالني إليكم قائلاً : سلهم : هل أنت الأجدر بهم ؟
أيها الرائع لقد جاء تحليلك من روعتك فكلي شكر وطمع
أما الشكر فلما أوليتمونا من اهتمامكم
وأما الطمع ففي ألا تحرمونا من توجيهاتكم فلم يزل الدرب طويلاً تشعبت طرقه
أرجو أن تتقبل آيات الاحترام في محراب علمكم
مأمون المغازي
صابرين الصباغ
25-02-2007, 02:47 PM
مأمون
راق لي هذيانك فأراه يمشي متوازيا مع هذياني
وكأنه توامه
تلك اللغة العالية في الوصف وكأن عينيك ترتشف الاماكن
وتسكبها في اكوابنا
وهذه حاسة يمنحها الله للأديب ولا تُعلم
مأمون
قرأت كل الردود وتعلمت من الأساتذة الأفاضل
دكتور السمان
دكتور العراقي
والاستاذ القاضي
برؤيتهم النقدية العالية
أما عن مداخلتي أنا وأنا التلميذة بدنيا القصة القصيرة
هناك برغم الاسوار والاسيجة والمقاصل والزحام ........
وهذا الجو الخانق الذي يفتت بين اناملة الحب كورقة خريف جافة
هناك جملة اعتبرها اكثر من رائعة ومرت على الجميع ووالله لوحدها دون كل هذا الاختناق
تكفي لان يتحولا لا إلى بذور بل لهواء هذه هى ..........
تذكرت أن جيب أبيها لا يختلف عن جيبه أو جيب أبيه ، فالزوار ممنوعون من الإقامة فيه ، وتذكر أن طبخ أمها لا يختلف عن طبخ أمه ، وتذكرا كم فرقهما الزحام ... كم وأدت المشكلات أحلامهما ..
فهنا داخل حياتهما غابت ملامح المودة والسكن والرحمة ، جيب ابيها وقلة ذات اليد التي تغتال مشاعر الحب ، وطبخ الام المعتاد وهذا الملل القاسي الذي يضرب نوافذ حياتهما ..
مأمون
النهاية اكثر من رائعة ، فحتى وهما بذرتان لم ينجيا بعشقهما
مأأأأأأمون
تدفق حزنا نبيلا فأنا والله أعشق ما بين اتكاءات الحروف..
أرجو ان لا يتوقف هذا الفيض السلس الجميل...!
مجذوب العيد المشراوي
25-02-2007, 06:56 PM
هناك جمال جد طبيعي وممدود بالزوائد التي لو قللت منها شكرا
محمد سامي البوهي
26-02-2007, 09:46 AM
هذيان كل يوم
بين الأشجار المتكاثفة الأغصان وعلى الحشائش المتعطشة كان مجلسهما حيث يسترقان من الزمن هنيهة يهدهد القلبان بعضهما بعيدًا عن المدينة التي يلتهم زحامها المشاعر حين تتشعب الطرق المزدحمة بالمشاة الذين ربما لا تهتدي خطواتهم إلى أهدافها ، وتلك البنايات التي تحوي في جنباتها الآلام ولا تبوح شرفاتها إلا بالأقنعة المخفية وراءها أسرار الحياة الصعبة في الأحياء البائسة التيهي بذاتها تحلم أن تسير كالجبال يوم القيامة لتزور تلك الأحياء التي فاح عبقها ورقصها وموسيقاها وطربها بشجنه ومجونه . حتى البنايات تطمع في تلمس الانفلات من حالها
تحت أعطاف الخميلة مالا بعطفيهما ... احتضنت راحتاه يدها التي أوت إلى فراشها الوثير واستراحت من عناءات الأيام التي عانقتها الريح وأدوات الطبخ والتنظيف ، وكأنها بين كفيه تستشفي من أدوائها ، وتستجم على بحيرة زهرية تهفو على ضفافها فراشات ألوانها ضيائية الملامح ترقب تلك اليد وقد تمددت ملقية كل خلاياها تستحم بومضات الشوق المنبعث من قبة اليد العليا إلى فضاءات اليد السفلى وبينهما هذه الورقاء التي انتبهت أنها هنا شاكية مما هدد العالم أنه ذابحها لا محالة ، فقد طلبها الصياد وصوب وهو الآن يسدد البارود طالبًا هذه اليد التي ترى أنها ملك لحاضنها .
ارتعدت في راحتيه ارتعادة المحموم الذي كان قد غفى هروبًا من الجحيم المتقد في خلاياه ... رفعت يدها الأخرى التي كانت قد عبثت بالحشائش ما عبثت ، واقتلعت منها ما اقتلعت وأطبقتها على يده ، وكأن العشق كله انحدر إلى الأيدي ... مال وكأنه النسيم مقبلاً يدها كأنه يتنفس آخر الأنفاس ... رفع رأسه لتلتقي العيون تحمل التحدي المقاوم لكل الانكسارات ... غاصت كل عين بعين تحتضنها حينًا ، وتفتش في حناياها عن عالم غير العالم وقانون بلا صياد ولا مقصلة صنعت من الفقر والقهر والحرمان تقص رقاب الآمال .
تبادلا الآراء في صمت الشفاه ونطق العيون ... توترت اللحاظ كلما حف الحفيف ، أو تهامست الأشجار ... لم يدركا أن الأشجار أحياء ترقب وتمدح وتهجو ... رفعا رأسيهما حين هوت وريقات من غصن مال يسترق السمع ، أو أنه أراد أن يكون بينهما في لحظة البوح ، أو أن الشجرة أرادت أن تضربهما لما بدى من ضعف و انهيار ... ودا لو أن الجزع ينفتح ليهربا داخله ليبدأ التاريخ من جديد ... ضمها وضمته في اتحادية التوحد ... وقفا ... تجردا من ثيابهما ... مازالت العيون تحكي أسرارها ... تجردا ... بديا عاريين ...تعريا وتعريا وتعريا ... من الثياب ... من الغبار وأتربة الشوارع التي حملت رائحة العرق المتساقط عليها من اجساد الكادحين وخلت من بقايا الطعام الذي لم يكن يتبقى منه شيء ... من المقصلة ... من الزحام ... من الهواجس والظنون .
تعريا ... إلا من عفة هي ما أبقت لهما السنون .
تذكرت أن جيب أبيها لا يختلف عن جيبه أو جيب أبيه ، فالزوار ممنوعون من الإقامة فيه ، وتذكر أن طبخ أمها لا يختلف عن طبخ أمه ، وتذكرا كم فرقهما الزحام ... كم وأدت المشكلات أحلامهما ... وتذكرا ألف مقصلة ... الأسوار ... أسوار نارية ... وأسوار وردية ...وتذكرا ...
قررا أن يتحولا إلى بذرتين فالبذور تتحول أزهارًا ، الأزهار تتلاقح ما شاءت ، تهمس ما شاءت ، أشواكها تحميها ..... وتحنو ما شاءت ...تصبح أشجارًا تتعانق في فضاء الغابة وبين نسائمها ، ودفئها ورعودها .
انحنيا ... ركعا ... استقبلتهما الأرض ... تضاءلا ... تحولا ...ارتجفا لرطوبة الأرض ... هبط غرابان أسحمان ... حمل كل منهما بذرة في منقاره ... صرخا ... تضاحك الغرابان ... طار كل منهما إلى حيث طار .
مأمون المغازي
الأربعاء 8 / 11 /2006
السلام عليكم ورحمة الله
أخي الحبيب
الأديب الأستاذ / مأمون .
أعدت قراءتي لرائعتك ، فشعرت أنني أقرؤها لأول مرة ، لما بها من متعة ، وسمو نفسي يسحبنا معه لفضاءات رحبة .
(1)
هذيان كل يوم
جاء العنوان ببدايته بمعاهدة صدق بين الكاتب ، والقارىء ، لينبىء عن مرحلة هذيان قادمة ، لكن الهذيان هذه المرة مختلفلاً عن الهذيان المتعارف عليه ، سواء كان هذياناً مسبوقاً برغبة في النوم المؤقت ، ما قبيل الموت الأزلى ، هو هذيان للحقيقة نفسها ، الحقيقة التي نعيشها كل يوم ، كل ساعة ، وكل لحظة ، لا تفارقنا ولا نفارقها ، حتى وإن لم نشعر بها ، لكنها ساكنة داخلنا ، هذا الهذيان الذي سيخلف لنا عصارة نقية من أنسجة متلبكة بأوبار الواقع ، جاء النص بدور المصفاة التي ستنقي لنا هذه العصارة ، لنرتشفها إرتشافاً دون الشعور بغصة في حلقنا ، أو إصابتنا بنوبة من السعال المتلاحق ..
(2)
اللعبة المكانية
بين الأشجار المتكاثفة الأغصان وعلى الحشائش المتعطشة كان مجلسهما حيث يسترقان من الزمن هنيهة يهدهد القلبان بعضهما بعيدًا عن المدينة التي يلتهم زحامها المشاعر حين تتشعب الطرق المزدحمة بالمشاة الذين ربما لا تهتدي خطواتهم إلى أهدافها ، وتلك البنايات التي تحوي في جنباتها الآلام ولا تبوح شرفاتها إلا بالأقنعة المخفية وراءها أسرار الحياة الصعبة في الأحياء البائسة التيهي بذاتها تحلم أن تسير كالجبال يوم القيامة لتزور تلك الأحياء التي فاح عبقها ورقصها وموسيقاها وطربها بشجنه ومجونه . حتى البنايات تطمع في تلمس الانفلات من حالها.
تحت أعطاف الخميلة مالا بعطفيهما ... احتضنت راحتاه يدها التي أوت إلى فراشها الوثير واستراحت من عناءات الأيام التي عانقتها الريح وأدوات الطبخ والتنظيف ، وكأنها بين كفيه تستشفي من أدوائها ، وتستجم على بحيرة زهرية تهفو على ضفافها فراشات ألوانها ضيائية الملامح ترقب تلك اليد وقد تمددت ملقية كل خلاياها تستحم بومضات الشوق المنبعث من قبة اليد العليا إلى فضاءات اليد السفلى وبينهما هذه الورقاء التي انتبهت أنها هنا شاكية مما هدد العالم أنه ذابحها لا محالة ، فقد طلبها الصياد وصوب وهو الآن يسدد البارود طالبًا هذه اليد التي ترى أنها ملك لحاضنها .
هنا روعة في تطويع العنصر المكاني ليسجد أما م الزمان ، جاءت البداية لتلقي بنا من طائرة العنوان ، أمام دائرة الحقيقية المنتظرة ، لنقف امام حدودها المكانية ، تمهيداً للدخول في الآلة الزمنية التي ستعيدنا إلى الأزمنة البعيدة ، أزمنة إرساء القيم ، والنقاء ، وصناعة القلوب النظيفة ، فجاءت الأحداث تصاعدياً ، لتبدأ بنا من النهاية الواقعة ، وهي الحال الراهن ، المحفوف بفوضى الواقع بين الأبنية الشاهقة ، وبين الشرفات ، والأحياء ، وعناءات الايام بين العمل المنزلي .
(3)
بداية التحول
ارتعدت في راحتيه ارتعادة المحموم الذي كان قد غفى هروبًا من الجحيم المتقد في خلاياه ... رفعت يدها الأخرى التي كانت قد عبثت بالحشائش ما عبثت ، واقتلعت منها ما اقتلعت وأطبقتها على يده ، وكأن العشق كله انحدر إلى الأيدي ... مال وكأنه النسيم مقبلاً يدها كأنه يتنفس آخر الأنفاس ... رفع رأسه لتلتقي العيون تحمل التحدي المقاوم لكل الانكسارات ... غاصت كل عين بعين تحتضنها حينًا ، وتفتش في حناياها عن عالم غير العالم وقانون بلا صياد ولا مقصلة صنعت من الفقر والقهر والحرمان تقص رقاب الآمال .
قد بدأ التحرك ، بعد أن هشمنا الحدود الخارجية لدائرة الحقيقة المطلوبة ، سعيا للوصول للمركز ، ليكون من هنا بداية الإنفصال ، عن مجرة الأرض ، صعوداً إلى السفينة التي ستهبط بنا في عمق الأرض ، وصولاً إلى نواة التكوين ، فجاءت هذه المرحلة ، كعملية تعقيم ، وتطهير ، وتنظيف ، للدخول إلى المرحلة الأخرى ، وهي كامل التحول ، وهذه المرحلة ، هي بين بين ، بين الواقع ، والفضاء السفلي ، تمهيداً للوصول لمنطقة الذوبان ، والأنصهار ، والهذيان .
(4)
التخلص من الواقع
تبادلا الآراء في صمت الشفاه ونطق العيون ... توترت اللحاظ كلما حف الحفيف ، أو تهامست الأشجار ... لم يدركا أن الأشجار أحياء ترقب وتمدح وتهجو ... رفعا رأسيهما حين هوت وريقات من غصن مال يسترق السمع ، أو أنه أراد أن يكون بينهما في لحظة البوح ، أو أن الشجرة أرادت أن تضربهما لما بدى من ضعف و انهيار ... ودا لو أن الجزع ينفتح ليهربا داخله ليبدأ التاريخ من جديد ... ضمها وضمته في اتحادية التوحد ... وقفا ... تجردا من ثيابهما ... مازالت العيون تحكي أسرارها ... تجردا ... بديا عاريين ...تعريا وتعريا وتعريا ... من الثياب ... من الغبار وأتربة الشوارع التي حملت رائحة العرق المتساقط عليها من اجساد الكادحين وخلت من بقايا الطعام الذي لم يكن يتبقى منه شيء ... من المقصلة ... من الزحام ... من الهواجس والظنون .
تعريا ... إلا من عفة هي ما أبقت لهما السنون .
هنا بدأ الإنتقال إلى مرحلة أخرى من مراحل التحول ، الدخول إلى السفينة نفسها ، بعد إتمام مرحلة التعقيم السابقة ، وفي هذه المرحلة يبدا تشغيل المحركات ، والتاكد من الضغط ، و سلامة الأجهزة ، دخولاً في المرحلة الفعلية التي ستسبق المرحلة الأخيرة ، وهنا يبن لنا الكاتب الإمكانية التي يسير بها الاندماج ، والضغط ، والالتحام ، والتخلص من علامات الواقع الملتصقة بهم ، وبأجسادهم ، فكانت مرحلة للتعري التام ، والكامل ..
(5)
اللقاء المستحيل
تذكرت أن جيب أبيها لا يختلف عن جيبه أو جيب أبيه ، فالزوار ممنوعون من الإقامة فيه ، وتذكر أن طبخ أمها لا يختلف عن طبخ أمه ، وتذكرا كم فرقهما الزحام ... كم وأدت المشكلات أحلامهما ... وتذكرا ألف مقصلة ... الأسوار ... أسوار نارية ... وأسوار وردية ...وتذكرا ...
قررا أن يتحولا إلى بذرتين فالبذور تتحول أزهارًا ، الأزهار تتلاقح ما شاءت ، تهمس ما شاءت ، أشواكها تحميها ..... وتحنو ما شاءت ...تصبح أشجارًا تتعانق في فضاء الغابة وبين نسائمها ، ودفئها ورعودها .
انحنيا ... ركعا ... استقبلتهما الأرض ... تضاءلا ... تحولا ...ارتجفا لرطوبة الأرض ... هبط غرابان أسحمان ... حمل كل منهما بذرة في منقاره ... صرخا ... تضاحك الغرابان ... طار كل منهما إلى حيث طار.
بعد أن تمت عملية التجرد ، والتخلص من سحب الواقع ، جاء بنا الكاتب الي مرححلة التحول الأخيرة ، والتي هي عبارة عن عدة مراحل في حد ذاتها ، بداية من التطابق ، العقلي الزماني ، إلى أن أدخلنا الي المرحلة النهائية ، وهي التحول الي بذرتين ، تلك البذرتان هما بمثابة المفتاح للحقيقة ، ولتمتد بهم جذورهم إلى النواة الأرضية ، لكن حدث عطب اعترض الرحلة ، فقد هبط غرابان ... حمل كل منهما بذرة في منقاره ... صرخا ... تضاحك الغرابان ... طار كل منهما إلى حيث طار
، ومن المؤسف أن الغرابين طارا كل منهما في اتجاه مختلف عن الآخر ، أي أنه يستحيل اللقاء مرة الأخرى ، للوصول إلى مرحلة النضج التحولي .
هنا أستطيع ان أقول أن القاص المبدع / مأمون المغازي .
استحال التحول في نصه ، ونجح نجاحاً تاماً في تحولنا نحن ، وانبات الحقيقة في أنفسنا ، وفي قلوبنا ، لا في الفضاء الرحب خارجنا .
مودتي .
مأمون المغازي
27-02-2007, 11:35 AM
أستاذنا الأديب القاص صاحب النظرات الشمولية / حسام القاضي
أشكرك كثيرًا لهذا التعليق الثري .
أعجبتني جدًا لمحة الدوائر المتداخلة
وجودك أستاذنا دائمًا له عبقه ولمحاتك لها من الروعة ما يجعلها مرجعية بالنسبة لنا .
دمت لنا مبدعًا ومعلمًا .
تقبل فائق احترامي وتقديري
مأمون المغازي
مأمون المغازي
مأمون المغازي
27-02-2007, 11:54 AM
الأستاذ والمفكر الكبير / خليل حلاوجي
أشكرك سيدي لمتابعتك الناقدة وهذا الربط الرائع بين القصة والواقع العام وإطلاقها من حدود المجتمع الجزئي إلى المجتمع العربي الكبير .
أستاذنا :
الأحلام ثمار من شجرة تنبت في منطقة المعقول واللامعقول وللقدرة أن تقطفها فإن قطفتها غضة فقدت إمكانية العطاء ، أما إذا أينعت على فروع أمها الشجرة احتاجت النقل من اللامعقول إلى حيز المعقول ، لتعود القدرة لتلعب دورها كمعيد للصياغة بما يتفق والحاجة ؛ فإن كانت الحاجة مجرد هاجس أو تحولت من كونها ضرورة إلى رغبة ، أو تفتتت بفعل أصحابها ؛ صار الحلم مشنقة في عنق أصحابه؛ لأن منهم من يتمسك بقشرته، ومنهم من يطمع في لبه ،ومنهم من يكتفي بأن يغنم منه، ومنهم من يكتفي بأن يحلم كسيحًا .
هكذا أرى الحلم يا سيدي
كما أرى أن الأمة لم تعد تعرف الأحلام لفقدها الشجرة ، منطلقين إلى أخرى .
أأخبرك بها أستاذي ؟
إنها شجرة خبيثة تنبت في قاع الجحيم وتثمر في خرائب يدعونها عقولاً ؛ إنها شجرة الهواجس ...لا يسكنها إلا الغربان ، ولا تثمر إلا توجسًا وخيفة .
أستاذنا الكريم
لك الشكر والاحترام .
مأمون المغازي
مأمون المغازي
28-02-2007, 05:54 PM
الأديبة، القاصة : صابرين الصباغ
لكم أسعد كلما أزهر حرفك في صفحاتي بما لكِ من رؤية مميزة وحرف راقٍ .
أديبتنا . جميل ما كتبتِ هنا ، وجميلٌ إبحارك في تعليقات أساتذتنا ، التي أعتبرها مرجعية لي ، ورائع تحليلكِ ووقفاتك التي تنم عن استشعار الحالة التي اشتملتها القصة ، فالملمح لاذي أشرتِ إليه ملمح ذكي أضاف إلى التحليلات بعدًا جديدًا .
أشكركِ أديبتنا بقدر ألقكِ
تحباتي واحترامي
مأمون المغازي
مأمون المغازي
01-03-2007, 12:36 PM
الأديب الشاعر / مجذوب العيد المشراوي
أشكر لكم مروركم الكريم .
تقبل احترامي وتقديري
مأمون المغازي
مأمون المغازي
03-03-2007, 07:28 PM
الأستاذ القاص / محمد سامي البوهي
فرحنا وفرحت القصة بتحليلكم الرائع المنظم ، وأنت كما أنت رائع أستاذي الكريم .
أحببت منك هذا التقسيم الجميل ، وهذه الرحلة التي أبدعتها في روح النص ، فقراءتك لها من الأثر فينا ما يجعلنا نعيد القراءة مرات ومرات .
تقبل التقدير والاحترام
مأمون المغازي
منى الخالدي
22-03-2007, 01:08 AM
مرحباً بالأديب المبدع
مأمون المغازي
في كلّ مرةٍ كنت أقرأ هذه القصة الجميلة أجدني غادرتها دون أن أكتب ردّاً عليها
قد يكون خجلاً أو احتراماً لكلّ حرفٍ قد صيغَ هنا..!
تلك المفردات والرموز التي بعثرت بها أفكارنا وزاوجت ما بين وجداننا وقصتك الرائعة
لم تأتِ من فراغ..حيث كان الإبداع الفكري مسيطرٌ على كلّ سطورها..
لكنني أعاتبك على تلك النهاية الحزينة حيث لم ترأف بهما الأقدار حتى بالتحول من جنس
البشر إلى زهورٍ تحملُ عطر الوفاء..فأيّ قسوةٍ تلك التي تبادرت إلى نفوسٍ حتى اغتالت
حلم الأبرياء..
أقول..
كنت مدهشاً
تحيتي لك مع باقة وردٍ معطرة ..
مأمون المغازي
22-03-2007, 11:11 PM
أديبتنا : منى الخالدي
مأ أسعدني بمروركِ أيتها الأديبة الرقيقة
هذه هي الحياة وهذا هو الواقع يا عزيزتي ، ولقد بلغ التعب بالإنسان مبلغًا جعله يحلم وهو متوجس من عواقب حلمه ، حتى أن التحول من جنس إلى جنس محفوف بالمخاطر ، ربما أوردت هذه النهاية لأقول : ليس التحول والهروب هو الطريق الأمثل لأن نكون ، فالتحول له شروط ، ولا يمكن أن نتخلص من جنسنا البشري لنحقق الآمال ، لابد أن نحققها ونحن في صورتنا البشرية ، لأن الغربان أصناف ولكي نتغلب عليها لابد أن نرصدها .
أديبتنا الكبيرة
أشكركِ لمروركِ ولتعليقكِ الراقي ، وعتب الأصدقاء محمود
محبتي واحترامي
مأمون
ريمة الخاني
24-03-2007, 06:11 AM
نعم انه هذيان كل يوم...
اعشق الفن الرمزي
تقديري استاذي
د. سلطان الحريري
24-03-2007, 11:56 PM
ماذا أقول أيها الحبيب وقد أتيت متأخرا كعادتي ،ولكنني بالتأكيد لن آتي بجديد ، فلن آتي بما لم تستطعه الآوائل ، فقد عشت القصة بتفاصيلها ، وعشت القراءات الرائعة التي سبقتني ولم تترك لي مجالا لمزيد..
ولكنني أؤكد ما جاء في قراءات الأحبة الذين سبقوني أننا أما القصة التمثيلية ، التي تكون فيه القصة نسيجا محكما سداه الحوادث ولحمته الشخصيات ، والتي تنيخ الحوادث بكلكلها على الشخصيات ، وتساعد على تطويرها وإنمائها .
ولعل ما ميز قصتك هذه تلك المتعة والتشويق في تتبع أحداثها ، إلى جانب تعاطفنا مع الشخصيتين ، في الفعل الواقعي الذي نراه بداية إلى أن يأتي الختام ليكشف لنا اللثام عن رمزيتها ، والتي بدورها ستحيلنا لقراءة ثانية ، فيما أدعوه بالنص الدائري الذي ينتهي ليبدأ .
ولعلي قد انتشيت سرورا عندما رأيت الشخصيتين تعيدان تمثيل دورهما من جديد الذي تمثل على مسرح القصة ، بعد أن أعطاهما الكاتب مشاعر إنسانية ، وكانت المفاجأة مصحوبة بالأسباب الخفية لأبعاد الفكرة ، فقد كشف لنا في نهايتها عن أبعاد جديدة، بل أبعاد غير متناهية ، يحلق فيها القارئ الحاذق في دلالات لا تحد.
ولعل الملامح السابقة التي أشرت إليها جعلت قصتك من القصص المبدعة ؛ لأن فيها من النعومة والتحايل والرشاقة والسحر الشيئ الكثير ، إلى جانب الفكر العميق ، حيث يشعر مثلي أنه أمام مفكر عميق التفكير ، فضلا عن أنه قصصي بارع ، ولذا فإنه بعد أن ينتهي من قراءتها فإنه بحاجة إلى قسط من التركيز ؛ لأنها تعكس لنا ملامح تفكيره العميق .
بل إن من أجمل الملامح التي رأيتها ذلك الاشتراك بين عناصر الطبيعة ، فيما أدعوه بالمعادل الموضوعي الموفق منه بدءا بالأشجار وأوراقها ، وانتهاء بالسر الذي انكشف في النهاية.
مأمون - أيها الحبيب - كنت متفوقا حتى على نفسك فيها.
فاطمة أولاد حمو يشو
25-03-2007, 12:14 AM
هذيان كل يوم
بين الأشجار المتكاثفة الأغصان وعلى الحشائش المتعطشة كان مجلسهما حيث يسترقان من الزمن هنيهة يهدهد القلبان بعضهما بعيدًا عن المدينة التي يلتهم زحامها المشاعر حين تتشعب الطرق المزدحمة بالمشاة الذين ربما لا تهتدي خطواتهم إلى أهدافها ، وتلك البنايات التي تحوي في جنباتها الآلام ولا تبوح شرفاتها إلا بالأقنعة المخفية وراءها أسرار الحياة الصعبة في الأحياء البائسة التيهي بذاتها تحلم أن تسير كالجبال يوم القيامة لتزور تلك الأحياء التي فاح عبقها ورقصها وموسيقاها وطربها بشجنه ومجونه . حتى البنايات تطمع في تلمس الانفلات من حالها
تحت أعطاف الخميلة مالا بعطفيهما ... احتضنت راحتاه يدها التي أوت إلى فراشها الوثير واستراحت من عناءات الأيام التي عانقتها الريح وأدوات الطبخ والتنظيف ، وكأنها بين كفيه تستشفي من أدوائها ، وتستجم على بحيرة زهرية تهفو على ضفافها فراشات ألوانها ضيائية الملامح ترقب تلك اليد وقد تمددت ملقية كل خلاياها تستحم بومضات الشوق المنبعث من قبة اليد العليا إلى فضاءات اليد السفلى وبينهما هذه الورقاء التي انتبهت أنها هنا شاكية مما هدد العالم أنه ذابحها لا محالة ، فقد طلبها الصياد وصوب وهو الآن يسدد البارود طالبًا هذه اليد التي ترى أنها ملك لحاضنها .
ارتعدت في راحتيه ارتعادة المحموم الذي كان قد غفى هروبًا من الجحيم المتقد في خلاياه ... رفعت يدها الأخرى التي كانت قد عبثت بالحشائش ما عبثت ، واقتلعت منها ما اقتلعت وأطبقتها على يده ، وكأن العشق كله انحدر إلى الأيدي ... مال وكأنه النسيم مقبلاً يدها كأنه يتنفس آخر الأنفاس ... رفع رأسه لتلتقي العيون تحمل التحدي المقاوم لكل الانكسارات ... غاصت كل عين بعين تحتضنها حينًا ، وتفتش في حناياها عن عالم غير العالم وقانون بلا صياد ولا مقصلة صنعت من الفقر والقهر والحرمان تقص رقاب الآمال .
تبادلا الآراء في صمت الشفاه ونطق العيون ... توترت اللحاظ كلما حف الحفيف ، أو تهامست الأشجار ... لم يدركا أن الأشجار أحياء ترقب وتمدح وتهجو ... رفعا رأسيهما حين هوت وريقات من غصن مال يسترق السمع ، أو أنه أراد أن يكون بينهما في لحظة البوح ، أو أن الشجرة أرادت أن تضربهما لما بدى من ضعف و انهيار ... ودا لو أن الجزع ينفتح ليهربا داخله ليبدأ التاريخ من جديد ... ضمها وضمته في اتحادية التوحد ... وقفا ... تجردا من ثيابهما ... مازالت العيون تحكي أسرارها ... تجردا ... بديا عاريين ...تعريا وتعريا وتعريا ... من الثياب ... من الغبار وأتربة الشوارع التي حملت رائحة العرق المتساقط عليها من اجساد الكادحين وخلت من بقايا الطعام الذي لم يكن يتبقى منه شيء ... من المقصلة ... من الزحام ... من الهواجس والظنون .
تعريا ... إلا من عفة هي ما أبقت لهما السنون .
تذكرت أن جيب أبيها لا يختلف عن جيبه أو جيب أبيه ، فالزوار ممنوعون من الإقامة فيه ، وتذكر أن طبخ أمها لا يختلف عن طبخ أمه ، وتذكرا كم فرقهما الزحام ... كم وأدت المشكلات أحلامهما ... وتذكرا ألف مقصلة ... الأسوار ... أسوار نارية ... وأسوار وردية ...وتذكرا ...
قررا أن يتحولا إلى بذرتين فالبذور تتحول أزهارًا ، الأزهار تتلاقح ما شاءت ، تهمس ما شاءت ، أشواكها تحميها ..... وتحنو ما شاءت ...تصبح أشجارًا تتعانق في فضاء الغابة وبين نسائمها ، ودفئها ورعودها .
انحنيا ... ركعا ... استقبلتهما الأرض ... تضاءلا ... تحولا ...ارتجفا لرطوبة الأرض ... هبط غرابان أسحمان ... حمل كل منهما بذرة في منقاره ... صرخا ... تضاحك الغرابان ... طار كل منهما إلى حيث طار .
مأمون المغازي
الأربعاء 8 / 11 /2006
ألذ ما في النص، الصدق الذي حول اللغة إلى صور فنية قد تغتني مع مر ضربات التجارب الموجعة..
مأمون المغازي
25-03-2007, 12:00 PM
الأستاذة الأديبة : ريمة الخاني
أشكر لكِ مروركِ الجميل
نعم هو الهذيان ، وهو الحلم ، وهو الانعتاق ، وفي ذات الوقت هو العشق ، والقيد ، والفقر ، وقانون القبيلة . وهو الانفلات ، والانحلال ، والقمع ، والردة ، وقانون الغربان السود .
إنه الهذيان .
محبتي واحترامي
حنان الاغا
26-03-2007, 09:45 PM
ذكرني هذا الهذيان المتناهي مع الوجود بهذيانات لفنانين من أصحاب النزعة البريئة.حيث تتحول كل الماديات اليومية إلى صور روحية أثيرية تفيض منها البراءة والنقاء والطهارة، وتتوحد العناصر الاإنسانية بمكملات لها من مظاهر الطبيعة والكون وعناصره.
تعود القارىء أن يقرأ أن الإنسان ثابت والأشياءحوله متحولة ، إلا أن هذا النص الجريء البريء قلب الصورة بسيريالية لواقع في صورة حلم أو ربما لحلم في صورة واقع.
مأمون المغازي
لست ناقدة بالطبع وإنما أطلب منك أن تسمح لي بالقول أن الصياغة جاءت جزءا من الصور المتتابعة ، ولم تكن مجرد جمل جميلة سبكت بحرفية ناقد أديب ، لقد سارت مع الصورة صعودا وهبوطا ، وتأملا وحزنا وفرحا ودفئا.
نص بديع وهذيان ليس ككل هذيان
مأمون المغازي
27-03-2007, 09:52 PM
ماذا أقول أيها الحبيب وقد أتيت متأخرا كعادتي ،ولكنني بالتأكيد لن آتي بجديد ، فلن آتي بما لم تستطعه الآوائل ، فقد عشت القصة بتفاصيلها ، وعشت القراءات الرائعة التي سبقتني ولم تترك لي مجالا لمزيد..
ولكنني أؤكد ما جاء في قراءات الأحبة الذين سبقوني أننا أما القصة التمثيلية ، التي تكون فيه القصة نسيجا محكما سداه الحوادث ولحمته الشخصيات ، والتي تنيخ الحوادث بكلكلها على الشخصيات ، وتساعد على تطويرها وإنمائها .
ولعل ما ميز قصتك هذه تلك المتعة والتشويق في تتبع أحداثها ، إلى جانب تعاطفنا مع الشخصيتين ، في الفعل الواقعي الذي نراه بداية إلى أن يأتي الختام ليكشف لنا اللثام عن رمزيتها ، والتي بدورها ستحيلنا لقراءة ثانية ، فيما أدعوه بالنص الدائري الذي ينتهي ليبدأ .
ولعلي قد انتشيت سرورا عندما رأيت الشخصيتين تعيدان تمثيل دورهما من جديد الذي تمثل على مسرح القصة ، بعد أن أعطاهما الكاتب مشاعر إنسانية ، وكانت المفاجأة مصحوبة بالأسباب الخفية لأبعاد الفكرة ، فقد كشف لنا في نهايتها عن أبعاد جديدة، بل أبعاد غير متناهية ، يحلق فيها القارئ الحاذق في دلالات لا تحد.
ولعل الملامح السابقة التي أشرت إليها جعلت قصتك من القصص المبدعة ؛ لأن فيها من النعومة والتحايل والرشاقة والسحر الشيئ الكثير ، إلى جانب الفكر العميق ، حيث يشعر مثلي أنه أمام مفكر عميق التفكير ، فضلا عن أنه قصصي بارع ، ولذا فإنه بعد أن ينتهي من قراءتها فإنه بحاجة إلى قسط من التركيز ؛ لأنها تعكس لنا ملامح تفكيره العميق .
بل إن من أجمل الملامح التي رأيتها ذلك الاشتراك بين عناصر الطبيعة ، فيما أدعوه بالمعادل الموضوعي الموفق منه بدءا بالأشجار وأوراقها ، وانتهاء بالسر الذي انكشف في النهاية.
مأمون - أيها الحبيب - كنت متفوقا حتى على نفسك فيها.
أستاذي الدكتور : سلطان الحريري
يا قلبًا يسكن القلب
أشكر لكم هذا المرور العاطر ، وهذه القراءة الجميلة لقصتي التي أحبها يومًا بعد يوم كلما مر عليها عالم من أساتذتي فقرأها لي لأتعلم الجديد من قراءته ، وعندما يمر عليها السلطان ، أقف أمامها مرات ومرات وأحبها أكثر لأنه أحبها .
أستاذي الكريم
كلي شكر وحب واحترام
مأمون
مأمون المغازي
03-04-2007, 03:51 PM
ألذ ما في النص، الصدق الذي حول اللغة إلى صور فنية قد تغتني مع مر ضربات التجارب الموجعة..
ربما و قد
سنستفيد من مقولتكِ حتمًا ،
ريمة الخاني
04-04-2007, 08:34 AM
اشكر اهتمامك بالرد استاذي
مأمون المغازي
04-04-2007, 03:57 PM
ذكرني هذا الهذيان المتناهي مع الوجود بهذيانات لفنانين من أصحاب النزعة البريئة.حيث تتحول كل الماديات اليومية إلى صور روحية أثيرية تفيض منها البراءة والنقاء والطهارة، وتتوحد العناصر الاإنسانية بمكملات لها من مظاهر الطبيعة والكون وعناصره.
تعود القارىء أن يقرأ أن الإنسان ثابت والأشياءحوله متحولة ، إلا أن هذا النص الجريء البريء قلب الصورة بسيريالية لواقع في صورة حلم أو ربما لحلم في صورة واقع.
مأمون المغازي
لست ناقدة بالطبع وإنما أطلب منك أن تسمح لي بالقول أن الصياغة جاءت جزءا من الصور المتتابعة ، ولم تكن مجرد جمل جميلة سبكت بحرفية ناقد أديب ، لقد سارت مع الصورة صعودا وهبوطا ، وتأملا وحزنا وفرحا ودفئا.
نص بديع وهذيان ليس ككل هذيان
أديبتنا الرائعة ، المفتنة الراقية
ما أسعدني بهذا التعليق الراقي ، الذي ينبع من روح مدركة لأبعاد الفن . لم يعد التشكيل قاصرًا على الخطوط والظلال والألوان ، وإنما تمتلك الكلمة ، ويمتلك التتركيب اللغوي من التشكيل ما يجعله قادرًا على رسم العالم بالكلمات ، وهذا الأمر ليس بجديد ؛ فالعمل الأدبي الفني يمثل لوحة ، والقص لوحة لا متناهيةالأبعاد ، هذا إذا أردنا لها أن تبقى عبر الزمن ، اللون الأصلي لا يبهت ، والكلمة طاقة وبها طاقات كامنة لولم تتجدد لأضرت .
نعم سيدتي ، ردك الرائع الراقي يبعث فكرًا وفكرًا محفزة إلى التعلم والتدبر ، وأن نكتب أنفسنا والعالم دون تراجع ولا تكاسل .
أيتها النقية
لكِ المحبة والاحترام
مأمون
مأمون المغازي
15-04-2007, 03:33 AM
اشكر اهتمامك بالرد استاذي
الأستاذة : ريمة الخاني
أشكر مروركِ ومتابعتكِ ،
دومي بكل الود
لكِ المحبة والاحترام
مأمون
عطاف سالم
11-05-2007, 05:40 AM
عذرا إن أتيت أحمل قلمي هنا متأخرا .. بدأ وكأنه يبحث عن نص ٍ كهذا
نص قصصي شفيف يحكي قصة توحد الاحساس بين الطبيعة والأنسان..
بل يحكي استنطاق الكون واستجدائه الهامس في الحاح لقلبين فضلا احتواء الشجر وحفيفه وهبات النسيم ليستسلما لذلك الاستنطاق وذلك الاستجداء الآخذ منهما كل لهفة وهما في انشراح فاضح في العينين وفيما حولهما من ربيع واخضرار ومطر..
لاأدري أين كان هذا النص مختبئا
الأديب الفنان / مأمون المغازي
أهنئك على هذا النص الطبعي العفوي الشاعري الطلق ورغم مافيه من رموز إلا أنه بدا يتلألأ برموزه التي تكشفت لكل بصير في لباس شفيف براق آسر..
وكم كنا نود أن يمتد بك القلم أو الفكر أو الخيال لتبسط لنا هذا البساط القصصي الأنيق فنستريح عليه أكثر....
توقفت عند قولك :
تبادلا الآراء في صمت الشفاه ونطق العيون ... توترت اللحاظ كلما حف الحفيف ، أو تهامست الأشجار ... لم يدركا أن الأشجار أحياء ترقب وتمدح وتهجو ... رفعا رأسيهما حين هوت وريقات من غصن مال يسترق السمع ، أو أنه أراد أن يكون بينهما في لحظة البوح ، أو أن الشجرة أرادت أن تضربهما لما بدى من ضعف و انهيار ...
وهذا هو ماأقصده من التوحد بين الطبيعة والانسان توحد في الاحساس والشعور والتدفق والاندفاع والانشراح والحبور............ وأحيانا العتب والغضب
دام قلمك بهذا البوح وهذا البهاء وهذا العطاء ...
تقبل تحيتي وتقديري
مأمون المغازي
12-05-2007, 02:05 PM
الأديبة : عطاف السماوي
عطرك حل بالصفحة سيدتي ، وقد لا نوفيكِ حقكِ في ردنا عليكِ
أديبتنا ، هو الحب ، لكنه الحب الذي يصدمه الواقع كلما أفاق ، إنه الواقع المرير عندما تتكاتف الأوجاع ، إنه العالم ، والقيود ، والقبيلة ، والفكرة القديمة ، و ... و .... و ....
لقد لامستِ سيدتي ما أسعدني ، وحضوركِ في حد ذاته إسعاد .
محبتي واحترامي
مأمون
د. نجلاء طمان
14-05-2007, 01:31 AM
هذيان يتأرجح بين كف الحلم ومقصلة الواقع
للأديب العبقرى الفذ: مأمون المغازي
"بين الأشجار المتكاثفة الأغصان وعلى الحشائش المتعطشة كان مجلسهما حيث يسترقان من الزمن هنيهة يهدهد القلبان بعضهما بعيدًا "
فى تصوير ابداعى يمهد الكاتب هنا المتلقى الى لقاء هادىء حميمى بين عاشقين , بقلبين متعطشين للحب والحلم والجمال توازيهما فى تعطشهما الحشائش التى يفترشانها.
"عن المدينة التي يلتهم زحامها المشاعر حين تتشعب الطرق المزدحمة بالمشاة الذين ربما لا تهتدي خطواتهم إلى أهدافها ، وتلك البنايات التي تحوي في جنباتها الآلام ولا تبوح شرفاتها إلا بالأقنعة المخفية وراءها أسرار الحياة الصعبة في الأحياء البائسة التيهي بذاتها تحلم أن تسير كالجبال يوم القيامة لتزور تلك الأحياء التي فاح عبقها ورقصها وموسيقاها وطربها بشجنه ومجونه . حتى البنايات تطمع في تلمس الانفلات من حالها"
فى فجائية يدخل الكاتب المتلقى فورًا فى كابوسية هذيانية- يدخله فى متاهات واقع أليم يطفح فى أرجائه نزف للقيم والأخلاقيات . وقد وجدت هنا أنا الكاتب قد طال فى سرد ووصف واقعه المؤلم لكن هذه الاطالة كانت مناسبة ومتناسبة مع الجو النفسى اليائس الذى يسود فكر الكاتب. من هنا كانت تلك الفقرة هى اللبنة الأساسية التى بنى عليها المغازي قلعة هذيانه .
"تحت أعطاف الخميلة مالا بعطفيهما ... احتضنت راحتاه يدها التي أوت إلى فراشها الوثير واستراحت من عناءات الأيام التي عانقتها الريح وأدوات الطبخ والتنظيف ، وكأنها بين كفيه تستشفي من أدوائها ، وتستجم على بحيرة زهرية تهفو على ضفافها فراشات ألوانها ضيائية الملامح ترقب تلك اليد وقد تمددت ملقية كل خلاياها تستحم بومضات الشوق المنبعث من قبة اليد العليا إلى فضاءات اليد السفلى وبينهما هذه الورقاء التي انتبهت أنها هنا شاكية مما هدد العالم أنه ذابحها لا محالة ، فقد طلبها الصياد وصوب وهو الآن يسدد البارود طالبًا هذه اليد التي ترى أنها ملك لحاضنها ".
يعود الكاتب بالمتلقى مرة أخرى بعدما زرع فيه يأسه- يعود به ثانية لوصف لحظات حب وأمل أشبه بومضات سحرية متألقة تسحر لب المتلقى تماما فتنسيه صدمة الكاتب السابقة وتجعله يسبح في بحر ضوء من العشق الحالم . وبالرغم من كون الفقرة سبحت فى كون سرمدى شفاف يعيشه الكاتب إلا أن الكاتب فى عبقرية لا مثيل لها لم ينس أن يتخللها ببعض العبارات المؤلمة التى تشير الى الواقع فى لمحة تمهيدية له لما سيحدث بعد ذلك.
"ارتعدت في راحتيه ارتعادة المحموم الذي كان قد غفى هروبًا من الجحيم المتقد في خلاياه ... رفعت يدها الأخرى التي كانت قد عبثت بالحشائش ما عبثت ، واقتلعت منها ما اقتلعت وأطبقتها على يده ، وكأن العشق كله انحدر إلى الأيدي ... مال وكأنه النسيم مقبلاً يدها كأنه يتنفس آخر الأنفاس ... رفع رأسه لتلتقي العيون تحمل التحدي المقاوم لكل الانكسارات ... غاصت كل عين بعين تحتضنها حينًا ، وتفتش في حناياها عن عالم غير العالم وقانون بلا صياد ولا مقصلة صنعت من الفقر والقهر والحرمان تقص رقاب الآمال ."
بدأ الكاتب فقرته بلفظة "ارتعدت" الناتجة عن الخوف الناتج عن الصدمة القاسية بجدار الواقع المؤلم وليست " ارتعشت" الناتجة عن لحظة الحب الجميلة..مدخلا معه المتلقى فى التجاوب مع احساسه الهذيانى ومعايشة واقعه المرير. وقد لمست فى تلك الفقرة صراعًا مريرًا مرئيًا بين هذيان المغازي فى الحلم وهذيانه فى الواقع. استخدم الكاتب هنا فى شهقة ابداعية كل تراكيبه الممزوجه بوجدانه ليرسم لنا لوحة صحرائه المتشققة المتعطشة لمياه الحب النقية التى لم تلوثها بقايا جثث واقعه.
"تبادلا الآراء في صمت الشفاه ونطق العيون ... توترت اللحاظ كلما حف الحفيف ، أو تهامست الأشجار ... لم يدركا أن الأشجار أحياء ترقب وتمدح وتهجو ... رفعا رأسيهما حين هوت وريقات من غصن مال يسترق السمع ، أو أنه أراد أن يكون بينهما في لحظة البوح ، أو أن الشجرة أرادت أن تضربهما لما بدى من ضعف و انهيار ... ودا لو أن الجزع ينفتح ليهربا داخله ليبدأ التاريخ من جديد ... ضمها وضمته في اتحادية التوحد ... وقفا ... تجردا من ثيابهما ... مازالت العيون تحكي أسرارها ... تجردا ... بديا عاريين ...تعريا وتعريا وتعريا ... من الثياب ... من الغبار وأتربة الشوارع التي حملت رائحة العرق المتساقط عليها من اجساد الكادحين وخلت من بقايا الطعام الذي لم يكن يتبقى منه شيء ... من المقصلة ... من الزحام ... من الهواجس والظنون ..تعريا ... إلا من عفة هي ما أبقت لهما السنون ."
هنا رائعة من روائع المغازي التى يبدأ فيها وصف إحساس العاشقين بإبداع منقطع النظير..محولاً كل أدواته وإمكانياته الأدبية والفكرية والشعورية الى لقطة حية مجسمة شاهدت فيها بعينى تلك الجلسة الرهيفة لتستحيل بذاتها قصة قصيرة . يتدرج الكاتب هنا من صمت الشفاه ونطق العيون بالهيام الصارخ الذى بث التوتر ليس فقط فى اللحظات التى تحيطهما وانما أيضا فى وجه الطبيعة الناظر اليهما بكل أبجدياته .. وتمنيهما الهروب الى داخل جذع الشجرة التى شهدت لحظتهما الخاصة ...إلى الضم والتوحد والتعرى حتى الاصطدام بالواقع الجاثم ـ رغمًا عنهما ـ فوق صدورهما. بالرغم من أنك تقرأ هنا تعبيرًا تجريديًا مغازيًا بحتًا "... ضمها وضمته في اتحادية التوحد ... وقفا ... تجردا من ثيابهما ... مازالت العيون تحكي أسرارها ... تجردا ... بديا عاريين ...تعريا وتعريا وتعريا ... من الثياب ... من الغبار" الا أن النفس لا تعاف التصوير أبدا لأن التعرى الذى يقصده الكاتب هنا ليس العرى الإباحى وإنما التقشر والانسلاخ من شرنقة الأيام السوداوية.
" تذكرت أن جيب أبيها لا يختلف عن جيبه أو جيب أبيه ، فالزوار ممنوعون من الإقامة فيه ، وتذكر أن طبخ أمها لا يختلف عن طبخ أمه ، وتذكرا كم فرقهما الزحام ... كم وأدت المشكلات أحلامهما ... وتذكرا ألف مقصلة ... الأسوار ... أسوار نارية ... وأسوار وردية ...وتذكرا ...
قررا أن يتحولا إلى بذرتين فالبذور تتحول أزهارًا ، الأزهار تتلاقح ما شاءت ، تهمس ما شاءت ، أشواكها تحميها ..... وتحنو ما شاءت ...تصبح أشجارًا تتعانق في فضاء الغابة وبين نسائمها ، ودفئها ورعودها ."
يغوص الكاتب مرة أخرى بالمتلقى فى واقعه الممزق المتمثل فى فقرهما ونقود قليلة متشابهة فى كل الجيوب، وطعام متواضع فى كل البيوت... الى الزحام والأسوار و... و ... و... الى تمنى لحظة هروب من كل هذا ...لتأتى هنا صورة مغازية غاية فى الإبداع فلحظة الهروب التى تمناها العاشقان لم تكن لحظة تهمس بحب الذات بقدر ما كانت لحظة تنطق بحب الوجود ..فقد تمنيا أن يتحولا الى بذرتين – مخزون الخير الكونى- لتصل المرحلة الانباتية لنهايتها المتمثلة فى ( أزهارا تتلاقح ) لتعيد الدورة الإنباتية من جديد. هنا بوجه خاص وفى العمل بشكل عام تلاحظ التأرجح فى مشاعر الكاتب بين الواقع والهذيان الذى يتمثل فى الهروب من الواقع وكأن هناك خيطًا مرنًا مطاطيًا يرتخى فيجذب الكاتب فينشد معه ، ثم يتمدد فيتركه يرتد عنه ... فنتج هذيان مغازى يتأرجح بين كف الحلم ومشنقة الواقع.
"انحنيا ... ركعا ... استقبلتهما الأرض ... تضاءلا ... تحولا ...ارتجفا لرطوبة الأرض ... هبط غرابان أسحمان ... حمل كل منهما بذرة في منقاره ... صرخا ... تضاحك الغرابان ... طار كل منهما إلى حيث طار ."
هنا شهقة ابداعية لم ولن تتكرر ...هنا قصة قصيرة جدًا متكاملة الأبعاد بحد ذاتها ...هنا التحام وامتزاج فى الحركة والصوت والتصوير والتعبير والإحساس والحلم والواقع ..هنا الحبكة الهذيانية المغازية تنطق بلوحة تعبيرية متفردة. يبدأ الكاتب هنا بوصف نهاية وقمة الالتحام العاطفى والوجدانى للعاشقين ثم استقبال الأرض – رحم إنبات البذور- لوجودهما المادى ثم ارتجافهما لملامسة رطوبتها – وهى أول مؤثر تنبيهى للاصطدام بالواقع فى الفقرة..يليها هبوط الغرابين الشديدي السواد -المعروفين كرمز للتشاؤم والانقباض النفسى- يهبطان فجأة ليخطفا البذرتين ... يزعقان زعيقهما المشئوم ، فيصرخ العاشقان – فى لحظة إفاقة من الحلم باصطدام رهيب مؤكد مع الواقع- وضحك الأيام السوداء- الغرابان – على العاشقين. لاحظ هنا أن البذرتين نوه عنهما الكاتب فى الفقرة السابقة بأنهما نتاج تحويلى تخيلى للعاشقين فى لحظة هروبهما من واقعهما . ليعود هنا ويؤكد على مقصلة إعدام الأيام السوداء التى تأبى عليهما حتى الحلم فتمزقهما وتمزقه على شفرتها القاسية مبعثرة لنا هذيانا إبداعيًا مغازيًا يبعثرنا هو الآخر فى أنفسنا فلا يلملمنا ثانية.
التعقيب:
تعد الهذيان المغازية نتاجًا حياً لما يحس به الأديب من صدام بينه وبين الواقع كما هو قائم في العالم الموضوعي ، والواقع كما يرتئيه الأديب داخله ، و بين الحلم الذي يسمو على كلا الواقعين ولا يخضع للزمان ، وقد يكون الهذيان الذي يحياه الأديب واقعا حدث في الماضي ، لكنه ينبض بالحياة كأقوى ما يكون النبض في عقل ووجدان الأديب .
ولاشك أن الأديب ليس مجرد آلة تصوير أو شريط تسجيل لالتقاط الواقع ثم سرده كما هو ، بل يعد الأساس في تلقي الواقع لديه هو ما يمكن أن نعبر عنه بهزة الشعور أو انثلام الوجدان ونزف جراحه على السطور ، وحتى بالنسبة لحالة الفرح التي تهز مشاعر الأديب أحيانا في السرد إلا إنها كانت في الأساس- من وجهة نظري- رد فعل لحزن سابق أو لانثلام وجداني قديم ، ومعنى هذا أن ما يختزنه الأديب من أحزان ومن انثلام للمشاعر يشكل الركيزة التي بنى عليها ما أحس به من هزة فرح ونشوة سرور في المواقف التي يستشعر فيها الفرح أو السرور، فالأصل في إبداع المغازى الهذيانى هنا هو الحزن وليس الفرح.-وهذا ما يفسر شيوع اليأس في المتن الحكائى- فكان مصدرا للطاقة الإبداعية في لغة التسامي والسرد.
من هنا يكمن موطن تحليلي في البعد الدرامي في لغة الوحدة الفردية التي يغالبها الحرمان ، فتغدو في سوداوية مطلقة وجمود جسدي وأرق متصاعد حتى الموت في نفس الكاتب ، وهي التي يسلط العمل برمزيته على أبعادها المتماهية ، إذ تغدو في قانون جذب مأساوي لنكبات الحياة ، فإن كان لها النجاة من مقصلة الإعدام البشرية - التي تكمن في سطوة اللاأخلاقيات مثل الحقد والنفاق والخيانة والضغينة والفساد و ... و ... و ... و- بالنزول في لحظات حلم هذيانية ؛ إلا أنه لابد أن تجتذبها الأيام السوداء – التي تتمثل في رمز الغربان- واللحظات الدامية في لغة الناموس الكوني ، لتودي بها إلى تلك النهاية المؤلمة وهى الرجوع والصدام مع الواقع الذي هرب منه الكاتب في لحظة هذيانه.
ويبعثر سرد أو هذيان المغازى – يبعثر الذات إلى مقاطع على مسرح مشنقة الواقع في كل تماهياتها ابتداءً من لغة آدمية البشر التي تدمر الأيام والحلم , ولغة الفرد وقد جثم على قلبها سطوة استبدادية أحالتها إلى مسرح النزع الأخير حيث الذكريات في تحنانها المنكسر إلى لحظة الصراخ المتمثلة في زعيق الغرابين ، فهنا ينشكف وجه الواقع في سواده وتنتقل الروح من لحظة حلم لأرواحٍ مسافرة بعيدًا عن مأزق الحياة وجور آدميتها ..إلى عالم الفناء وصحراء حرمان متشققة متعطشة للحب.. تصرخ احتياجا في قلب الكاتب , وهنا تنقطع سبل النجاة بكل معانيها الروحية والمادية في إصلاح الفساد ونشر الحب والجمال في واقع الحياة أو في الأمل في إيجاد الحب الروحاني الباحث عنه الكاتب في الاشعور .
سيدي المغازي :
قرأت هذيانك هنا وقد اتبعت فيه نفس منهجك النقدي المعروف والمتميز في الدخول والإدخال للقصة معتمدًا على التسلل والمصاحبة والهجوم... ليخرج لنا هذيانك تحفة مبدعة تكاملت فيها كل الأركان , من صوت وحركة ولغة وتعبير وتراكيب وصور ، لتسجل نفسها تحفة متفردة في متحف الإبداع الأدبي.
دمت للواحة قلبا ينبض ...فتنبض بنبضه , وتحيى بحياته ...تنهل من فيض إبداع وريده .
شذى الوردة
د. نجلاء طمان
د. نجلاء طمان
19-05-2007, 05:33 PM
هذيان يتأرجح بين كف الحلم ومقصلة الواقع
للأديب العبقرى الفذ: مأمون المغازي
"بين الأشجار المتكاثفة الأغصان وعلى الحشائش المتعطشة كان مجلسهما حيث يسترقان من الزمن هنيهة يهدهد القلبان بعضهما بعيدًا "
فى تصوير ابداعى يمهد الكاتب هنا المتلقى الى لقاء هادىء حميمى بين عاشقين , بقلبين متعطشين للحب والحلم والجمال توازيهما فى تعطشهما الحشائش التى يفترشانها.
"عن المدينة التي يلتهم زحامها المشاعر حين تتشعب الطرق المزدحمة بالمشاة الذين ربما لا تهتدي خطواتهم إلى أهدافها ، وتلك البنايات التي تحوي في جنباتها الآلام ولا تبوح شرفاتها إلا بالأقنعة المخفية وراءها أسرار الحياة الصعبة في الأحياء البائسة التيهي بذاتها تحلم أن تسير كالجبال يوم القيامة لتزور تلك الأحياء التي فاح عبقها ورقصها وموسيقاها وطربها بشجنه ومجونه . حتى البنايات تطمع في تلمس الانفلات من حالها"
فى فجائية يدخل الكاتب المتلقى فورًا فى كابوسية هذيانية- يدخله فى متاهات واقع أليم يطفح فى أرجائه نزف للقيم والأخلاقيات . وقد وجدت هنا أنا الكاتب قد طال فى سرد ووصف واقعه المؤلم لكن هذه الاطالة كانت مناسبة ومتناسبة مع الجو النفسى اليائس الذى يسود فكر الكاتب. من هنا كانت تلك الفقرة هى اللبنة الأساسية التى بنى عليها المغازي قلعة هذيانه .
"تحت أعطاف الخميلة مالا بعطفيهما ... احتضنت راحتاه يدها التي أوت إلى فراشها الوثير واستراحت من عناءات الأيام التي عانقتها الريح وأدوات الطبخ والتنظيف ، وكأنها بين كفيه تستشفي من أدوائها ، وتستجم على بحيرة زهرية تهفو على ضفافها فراشات ألوانها ضيائية الملامح ترقب تلك اليد وقد تمددت ملقية كل خلاياها تستحم بومضات الشوق المنبعث من قبة اليد العليا إلى فضاءات اليد السفلى وبينهما هذه الورقاء التي انتبهت أنها هنا شاكية مما هدد العالم أنه ذابحها لا محالة ، فقد طلبها الصياد وصوب وهو الآن يسدد البارود طالبًا هذه اليد التي ترى أنها ملك لحاضنها ".
يعود الكاتب بالمتلقى مرة أخرى بعدما زرع فيه يأسه- يعود به ثانية لوصف لحظات حب وأمل أشبه بومضات سحرية متألقة تسحر لب المتلقى تماما فتنسيه صدمة الكاتب السابقة وتجعله يسبح في بحر ضوء من العشق الحالم . وبالرغم من كون الفقرة سبحت فى كون سرمدى شفاف يعيشه الكاتب إلا أن الكاتب فى عبقرية لا مثيل لها لم ينس أن يتخللها ببعض العبارات المؤلمة التى تشير الى الواقع فى لمحة تمهيدية له لما سيحدث بعد ذلك.
"ارتعدت في راحتيه ارتعادة المحموم الذي كان قد غفى هروبًا من الجحيم المتقد في خلاياه ... رفعت يدها الأخرى التي كانت قد عبثت بالحشائش ما عبثت ، واقتلعت منها ما اقتلعت وأطبقتها على يده ، وكأن العشق كله انحدر إلى الأيدي ... مال وكأنه النسيم مقبلاً يدها كأنه يتنفس آخر الأنفاس ... رفع رأسه لتلتقي العيون تحمل التحدي المقاوم لكل الانكسارات ... غاصت كل عين بعين تحتضنها حينًا ، وتفتش في حناياها عن عالم غير العالم وقانون بلا صياد ولا مقصلة صنعت من الفقر والقهر والحرمان تقص رقاب الآمال ."
بدأ الكاتب فقرته بلفظة "ارتعدت" الناتجة عن الخوف الناتج عن الصدمة القاسية بجدار الواقع المؤلم وليست " ارتعشت" الناتجة عن لحظة الحب الجميلة..مدخلا معه المتلقى فى التجاوب مع احساسه الهذيانى ومعايشة واقعه المرير. وقد لمست فى تلك الفقرة صراعًا مريرًا مرئيًا بين هذيان المغازي فى الحلم وهذيانه فى الواقع. استخدم الكاتب هنا فى شهقة ابداعية كل تراكيبه الممزوجه بوجدانه ليرسم لنا لوحة صحرائه المتشققة المتعطشة لمياه الحب النقية التى لم تلوثها بقايا جثث واقعه.
"تبادلا الآراء في صمت الشفاه ونطق العيون ... توترت اللحاظ كلما حف الحفيف ، أو تهامست الأشجار ... لم يدركا أن الأشجار أحياء ترقب وتمدح وتهجو ... رفعا رأسيهما حين هوت وريقات من غصن مال يسترق السمع ، أو أنه أراد أن يكون بينهما في لحظة البوح ، أو أن الشجرة أرادت أن تضربهما لما بدى من ضعف و انهيار ... ودا لو أن الجزع ينفتح ليهربا داخله ليبدأ التاريخ من جديد ... ضمها وضمته في اتحادية التوحد ... وقفا ... تجردا من ثيابهما ... مازالت العيون تحكي أسرارها ... تجردا ... بديا عاريين ...تعريا وتعريا وتعريا ... من الثياب ... من الغبار وأتربة الشوارع التي حملت رائحة العرق المتساقط عليها من اجساد الكادحين وخلت من بقايا الطعام الذي لم يكن يتبقى منه شيء ... من المقصلة ... من الزحام ... من الهواجس والظنون ..تعريا ... إلا من عفة هي ما أبقت لهما السنون ."
هنا رائعة من روائع المغازي التى يبدأ فيها وصف إحساس العاشقين بإبداع منقطع النظير..محولاً كل أدواته وإمكانياته الأدبية والفكرية والشعورية الى لقطة حية مجسمة شاهدت فيها بعينى تلك الجلسة الرهيفة لتستحيل بذاتها قصة قصيرة . يتدرج الكاتب هنا من صمت الشفاه ونطق العيون بالهيام الصارخ الذى بث التوتر ليس فقط فى اللحظات التى تحيطهما وانما أيضا فى وجه الطبيعة الناظر اليهما بكل أبجدياته .. وتمنيهما الهروب الى داخل جذع الشجرة التى شهدت لحظتهما الخاصة ...إلى الضم والتوحد والتعرى حتى الاصطدام بالواقع الجاثم ـ رغمًا عنهما ـ فوق صدورهما. بالرغم من أنك تقرأ هنا تعبيرًا تجريديًا مغازيًا بحتًا "... ضمها وضمته في اتحادية التوحد ... وقفا ... تجردا من ثيابهما ... مازالت العيون تحكي أسرارها ... تجردا ... بديا عاريين ...تعريا وتعريا وتعريا ... من الثياب ... من الغبار" الا أن النفس لا تعاف التصوير أبدا لأن التعرى الذى يقصده الكاتب هنا ليس العرى الإباحى وإنما التقشر والانسلاخ من شرنقة الأيام السوداوية.
" تذكرت أن جيب أبيها لا يختلف عن جيبه أو جيب أبيه ، فالزوار ممنوعون من الإقامة فيه ، وتذكر أن طبخ أمها لا يختلف عن طبخ أمه ، وتذكرا كم فرقهما الزحام ... كم وأدت المشكلات أحلامهما ... وتذكرا ألف مقصلة ... الأسوار ... أسوار نارية ... وأسوار وردية ...وتذكرا ...
قررا أن يتحولا إلى بذرتين فالبذور تتحول أزهارًا ، الأزهار تتلاقح ما شاءت ، تهمس ما شاءت ، أشواكها تحميها ..... وتحنو ما شاءت ...تصبح أشجارًا تتعانق في فضاء الغابة وبين نسائمها ، ودفئها ورعودها ."
يغوص الكاتب مرة أخرى بالمتلقى فى واقعه الممزق المتمثل فى فقرهما ونقود قليلة متشابهة فى كل الجيوب، وطعام متواضع فى كل البيوت... الى الزحام والأسوار و... و ... و... الى تمنى لحظة هروب من كل هذا ...لتأتى هنا صورة مغازية غاية فى الإبداع فلحظة الهروب التى تمناها العاشقان لم تكن لحظة تهمس بحب الذات بقدر ما كانت لحظة تنطق بحب الوجود ..فقد تمنيا أن يتحولا الى بذرتين – مخزون الخير الكونى- لتصل المرحلة الانباتية لنهايتها المتمثلة فى ( أزهارا تتلاقح ) لتعيد الدورة الإنباتية من جديد. هنا بوجه خاص وفى العمل بشكل عام تلاحظ التأرجح فى مشاعر الكاتب بين الواقع والهذيان الذى يتمثل فى الهروب من الواقع وكأن هناك خيطًا مرنًا مطاطيًا يرتخى فيجذب الكاتب فينشد معه ، ثم يتمدد فيتركه يرتد عنه ... فنتج هذيان مغازى يتأرجح بين كف الحلم ومشنقة الواقع.
"انحنيا ... ركعا ... استقبلتهما الأرض ... تضاءلا ... تحولا ...ارتجفا لرطوبة الأرض ... هبط غرابان أسحمان ... حمل كل منهما بذرة في منقاره ... صرخا ... تضاحك الغرابان ... طار كل منهما إلى حيث طار ."
هنا شهقة ابداعية لم ولن تتكرر ...هنا قصة قصيرة جدًا متكاملة الأبعاد بحد ذاتها ...هنا التحام وامتزاج فى الحركة والصوت والتصوير والتعبير والإحساس والحلم والواقع ..هنا الحبكة الهذيانية المغازية تنطق بلوحة تعبيرية متفردة. يبدأ الكاتب هنا بوصف نهاية وقمة الالتحام العاطفى والوجدانى للعاشقين ثم استقبال الأرض – رحم إنبات البذور- لوجودهما المادى ثم ارتجافهما لملامسة رطوبتها – وهى أول مؤثر تنبيهى للاصطدام بالواقع فى الفقرة..يليها هبوط الغرابين الشديدي السواد -المعروفين كرمز للتشاؤم والانقباض النفسى- يهبطان فجأة ليخطفا البذرتين ... يزعقان زعيقهما المشئوم ، فيصرخ العاشقان – فى لحظة إفاقة من الحلم باصطدام رهيب مؤكد مع الواقع- وضحك الأيام السوداء- الغرابان – على العاشقين. لاحظ هنا أن البذرتين نوه عنهما الكاتب فى الفقرة السابقة بأنهما نتاج تحويلى تخيلى للعاشقين فى لحظة هروبهما من واقعهما . ليعود هنا ويؤكد على مقصلة إعدام الأيام السوداء التى تأبى عليهما حتى الحلم فتمزقهما وتمزقه على شفرتها القاسية مبعثرة لنا هذيانا إبداعيًا مغازيًا يبعثرنا هو الآخر فى أنفسنا فلا يلملمنا ثانية.
التعقيب:
تعد الهذيان المغازية نتاجًا حياً لما يحس به الأديب من صدام بينه وبين الواقع كما هو قائم في العالم الموضوعي ، والواقع كما يرتئيه الأديب داخله ، و بين الحلم الذي يسمو على كلا الواقعين ولا يخضع للزمان ، وقد يكون الهذيان الذي يحياه الأديب واقعا حدث في الماضي ، لكنه ينبض بالحياة كأقوى ما يكون النبض في عقل ووجدان الأديب .
ولاشك أن الأديب ليس مجرد آلة تصوير أو شريط تسجيل لالتقاط الواقع ثم سرده كما هو ، بل يعد الأساس في تلقي الواقع لديه هو ما يمكن أن نعبر عنه بهزة الشعور أو انثلام الوجدان ونزف جراحه على السطور ، وحتى بالنسبة لحالة الفرح التي تهز مشاعر الأديب أحيانا في السرد إلا إنها كانت في الأساس- من وجهة نظري- رد فعل لحزن سابق أو لانثلام وجداني قديم ، ومعنى هذا أن ما يختزنه الأديب من أحزان ومن انثلام للمشاعر يشكل الركيزة التي بنى عليها ما أحس به من هزة فرح ونشوة سرور في المواقف التي يستشعر فيها الفرح أو السرور، فالأصل في إبداع المغازى الهذيانى هنا هو الحزن وليس الفرح.-وهذا ما يفسر شيوع اليأس في المتن الحكائى- فكان مصدرا للطاقة الإبداعية في لغة التسامي والسرد.
من هنا يكمن موطن تحليلي في البعد الدرامي في لغة الوحدة الفردية التي يغالبها الحرمان ، فتغدو في سوداوية مطلقة وجمود جسدي وأرق متصاعد حتى الموت في نفس الكاتب ، وهي التي يسلط العمل برمزيته على أبعادها المتماهية ، إذ تغدو في قانون جذب مأساوي لنكبات الحياة ، فإن كان لها النجاة من مقصلة الإعدام البشرية - التي تكمن في سطوة اللاأخلاقيات مثل الحقد والنفاق والخيانة والضغينة والفساد و ... و ... و ... و- بالنزول في لحظات حلم هذيانية ؛ إلا أنه لابد أن تجتذبها الأيام السوداء – التي تتمثل في رمز الغربان- واللحظات الدامية في لغة الناموس الكوني ، لتودي بها إلى تلك النهاية المؤلمة وهى الرجوع والصدام مع الواقع الذي هرب منه الكاتب في لحظة هذيانه.
ويبعثر سرد أو هذيان المغازى – يبعثر الذات إلى مقاطع على مسرح مشنقة الواقع في كل تماهياتها ابتداءً من لغة آدمية البشر التي تدمر الأيام والحلم , ولغة الفرد وقد جثم على قلبها سطوة استبدادية أحالتها إلى مسرح النزع الأخير حيث الذكريات في تحنانها المنكسر إلى لحظة الصراخ المتمثلة في زعيق الغرابين ، فهنا ينشكف وجه الواقع في سواده وتنتقل الروح من لحظة حلم لأرواحٍ مسافرة بعيدًا عن مأزق الحياة وجور آدميتها ..إلى عالم الفناء وصحراء حرمان متشققة متعطشة للحب.. تصرخ احتياجا في قلب الكاتب , وهنا تنقطع سبل النجاة بكل معانيها الروحية والمادية في إصلاح الفساد ونشر الحب والجمال في واقع الحياة أو في الأمل في إيجاد الحب الروحاني الباحث عنه الكاتب في الاشعور .
سيدي المغازي :
قرأت هذيانك هنا وقد اتبعت فيه نفس منهجك النقدي المعروف والمتميز في الدخول والإدخال للقصة معتمدًا على التسلل والمصاحبة والهجوم... ليخرج لنا هذيانك تحفة مبدعة تكاملت فيها كل الأركان , من صوت وحركة ولغة وتعبير وتراكيب وصور ، لتسجل نفسها تحفة متفردة في متحف الإبداع الأدبي.
دمت للواحة قلبا ينبض ...فتنبض بنبضه , وتحيى بحياته ...تنهل من فيض إبداع وريده .
شذى الوردة
د. نجلاء طمان
سؤال إلى المسؤلين عن واحة الإبداع وقسم القصة.
أتساءل لا بصفتي ناقدة ولا محللة ولكن بصفتي قارئة تحب هذا الفن وتغار عليه :
لماذا لم تثبت تلك التحفة حتى الآن ؟
شذى الوردة لهذا الصرح المتوهج من قلب الشمس.
أفخر بوجودي بينكم.
د. نجلاء طمان
د. سلطان الحريري
19-05-2007, 10:49 PM
أشكر للأخت الفاضلة الدكتورة نجلاء رأيها في القصة وقراءتها ، وأود أن اشير إلى الخطاب في ردك الأخير للإدارة بضرورة تثبيت هذه القصة .
نحن لا ننكر أن هذه القصة مـتألقة في أدواتها الفنية وفكرتها ، ولكن موعد تثبيتها قد فات ، والعمل الأدبي يثبت في بداية الاشتراك به ، أو لأسباب تراها الإدارة مهمة ، وهذا لا ينطبق على هذا العمل الراقي ، فقد أخذ حقه من الردود ، ونحن لا نصادر رأيك في طلب التثبيت ، ويبقى أن للإدارة رؤى قد تختلف وقد توافق ، وبين الاختلاف والموافقة مساحة من الود لا تنتهي.
لك أختنا خالص الود والتقدير
مأمون المغازي
21-07-2007, 01:33 AM
الأديبة والناقدة الدكتورة : نجلاء طمان
أسجل هنا إعجابي الشديد بما تخطين إبداعًا ونقدًا وهذا من وجهة نظري كأحد القراء .
أما كصاحب نص ، فلا تكفيكِ عبارات الثناء ، وبخصوص طلبك أيتها الغالية ، فقد أوضح أستاذنا الدكتور : سلطان الحريري رأي الإدارة والذي أتفق معه فيه وأنا أحد إداريي الملتقى .
يبقى أن رأيكِ معتبر دائمًا ومأخوذ به وفق ما يتفق ومنهجية الواحة ، وأؤكد على أن رأيك مقدم لما لكِ من مكانة كناقدة كبيرة نحترم رأيها ونتعلم من أسلوبها النقدي .
أديبتنا الكبيرة ، لهذا العمل أن يحتفل بما أسبغتِ عليه من روعة هنا وفي قاعة النقد وعلوم اللغة ، فلكِ طريقتكِ ومنهجكِ النقدي الذي يروق لنا كثيرًا ونتفق معكِ في الكثير منه .
https://www.rabitat-alwaha.net/showthread.php?t=24071
لكِ المحبة والاحترام والتقدير .
مأمون
Powered by vBulletin® Version 4.2.5 Copyright © 2025 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved, TranZ by Almuhajir