عبد الواحد الأنصاري
20-01-2007, 01:40 PM
واقعة البول
1
جاءت الجارية بطست الماء ليغسل الموجودون أياديهم، كان الوقت أصيلا، لكنّ العادة جرت منذ زمن طويل بأن يأكل أهل البيت وجبتين في النهار.
الجارية (آس) وضعت الطست، لم تفتها النظرة الوخازة التي تشتعل في عيني ناصر الدين -جار مولاها- فلولا فهمها لها لما جاءت تميس هكذا.
كان مولاها يقول (على طريقة دخلات المسلسلات المرتجلة):
- أخيرا سكتت الحرب التي وقعت بين أهل السنة والشيعة ببغداد.
بان في وجه ناصر الدين بعض الامتعاض لاضطراره إلى تحويل النظر إليه، لكنه رد ببداهة:
- لم يحن الفرح بعد، التتار على أبواب العراق كما ترى، وقد سمعت بأذني هاتين اللتين سيملؤهما التراب أن الوزير العلقمي يكاتبهم.
فرغوا من غسل أيديهم ، وعادوا إلى السعفة المفروشة على ظل الجدار. وصاح مغيث بجاريته " علينا بالنبيذ " ثم التفت إلى جاره:
- لو كنت أحزن لشيء لحزنت لمصادرة بساتين النخل بالكرك.
- لا عليك ما دام ربك قد وسع عليك، ما تبقى فيه ذخر.
جيء بالنبيذ، وجلسا حتى رفع المؤذن أذان المغرب فانصرف ناصر الدين ودخل مغيث إلى كنيف داره ليبول.
**
في أصيل يوم من العام التالي (656هـ) كانت الدار خاوية. لم يبق في بغداد من الأسر من يمكن أن يكون لهم شأن، وطأتهم الخيول بحوافرها، ولأول مرة ميازيب البيوت سالت دون أن يكون ثمة سحاب، لكن المطر كان دما، وهطل بعد ذلك السحابُ السماوي فنشر النتن في النواحي، وكان كل شيء قد بدأ ينقشع، وشمس الأصيل تهبط على الواجهة الغربيّة وتقبّل حوافّ الأسطح، وكان اثنان من صعاليك بغداد يجلسان على دكة الدار تحت ظل الجدار، وهما اليوم يقطنان الدار بوضع اليد.
قال الأول "سمعت أن جارية صاحب هذا البيت هربت مع جاره قبل الاقتحام".
رد الثاني:
-وتردد أن صاحب الدار لم يمت بأيدي التتر، بل أصبح مقعدا مشلولا بمفاجأة هروب جاريته مع جاره، ما رأيك في هذه العبارة الجميلة: جاريتي وجاري، واغتاله ابنه الأكبر وهو نائم نومة العصر، وهرب بماله إلى الشام قبل الاقتحام أيضا.
- الأسوأ من ذلك أن الوزير ومن تبقى ممن معه من الجنود نزعوا سلاح الحي في الفترة السابقة للاقتحام زعما منهم أنهم في أشد حاجة إليه، لأن المتطوعين كالرمل عددا، لا ينقصهم سوى السلاح.
- لم يكن أحد في حاجة إلى حديدة واحدة، ولا حتى إلى هراوة، فالكل هربوا غربا إلى الشام ، أنا لو هربت لما أخذت إلا المال الأحمر أو الطعام، والآبار والمشارب غربا لا حصر لها، فقد عمرت منذ عهد لا أذكره وربما كان ابن الأثير نفسه لا يذكره.
قال الأول:
- كيف تهرب وقد سكرت في ليلة الاقتحام وضاجعت ثلاث نساء؟
- ما كنت وحدي في ذلك البيت الصغير، بل كانت معي جماعة خففت خوفي، ولم أكن أخشى سطوة الحسبة في ليلة كتلك، وقد كان سكرنا في تلك الليالي مهربا لنا من القتل كما رأيت، لم يكونوا يقتلون السكارى رغم قتلهم للأطفال والنساء الحاملين الألواح والمصاحف على جباههم، لا أدري كيف راق لهم حمل المصحف على جباههم المستسلمة، ولولا سقوطي على وجهي سكران لما سقطت أسناني الأمامية كما ترى، لن يدخل أحد من التتار نار ربّه بسببي.
قال الأول:
- أنا أفضّل أن يقتلني التتار على أن تسقط أسناني وترفض حتى العجائز تقبيلي.
قال الثاني:
- إنني عطشان.
أجابه الأول:
-وأنا أريد أن أبول.
غابت الشمس، نهض الثاني ليؤذن أذانا مكسرا لا تظهر من خلاله مخارج الحروف من بين أسنانه المحطمة ؛ في حين أدار الأول وجهه إلى الجدار وقضى حاجته في نفس المكان الذي بسطت فيه السعفة قبل ما يقدر بعام واحد من هذا اليوم.
**
2
استغرقت الجارية آس وقتا كافيا لتقلّب في ذهنها خياراتها المتعددة، ثم ردّت على سهام ناصر الدين الغازية بسهامها المذعنة؛ وبدأت التدابير للهرب. وإذا كانت المواكبة تعني للبعض أكثر من مجرد التوافق الزمني، فإنّ بضع أيام مضت بعد ذلك، وسقطت جارية الخليفة بسهم جاء من خارج سور القصر، تماما كما سقطت جارية مغيث في براثن الجار القريب، لكن السهم حقيقي هذه المرة وتتاري أيضا.
فزع الخليفة وجزع، وتقاطرت المحظيّات على صديقتهن المحظوظة بهذا الاهتمام، وبالموت قبل أوان الاقتحام. ومن المؤكد أنّ حظ الجارية القتيلة كان أوفر من نصيب الجارية آس، إذ تضخّم بطنها في خلال أربعة أشهر -من ماء سيّدها القديم بالطبع- حتى ضاهى امتداده طول شبرين من أشبار ناصر الدين، وأثناء الزحف الوئيد في أرياف الشام تركها زاعما أنّه سيجيء بجذوة من نار، متقمّصا دور النبيّ موسى، بفرق جلي، أنه لم يعد، فعادت أدراجها لتستقرّ في قرية شاميّة شرقيّة، على أمل أن تضع الوليد ذات ليلة شديدة الظلام، لتفرّ عائدة إلى بغداد، لعلها تقع في براثن جيرة جديدة.
**
كان هذا يجري في الفترة التي استولى فيها الرجلان على البيت بوضع اليد، ولكن بالرجوع سنة إلى الوراء يسجّل الحيّ واقعة غريبة، وهي بقاء هذه الدار سالمة بدون أن تطأها أقدام الدمار، ذلك أنّ المشاة المقتحمين كانوا منشغلين بأصوات تصدر من دار قريبة، لشاعر ينشد قصيدته في هجاء الغزاة، والشاعر المذكور لم تتشرف دواوين التأريخ بذكر اسمه، لأنه كان شاعرا ناشئا، يدبّج قصائد بذيئة ورديئة في شتم الخليفة الغارق في ملاهيه، وبقدرة قادر تحوّلت قوافيه إلى هجاء الغزاة الجدد. وأصابت الحيرة أولئك الجند الذين اقتحموا الدار، عندما رأوا أن شقوق جدرانها الطينيّة مسدودة بأوراق مكرمشة لقصائد لم تتم، أو لأبيات منظومة بطريقة غير مرضية لقائلها، مما دفعه إلى لم أوراقها ودسها في شقوق الجدران، كمنفعة أخيرة يؤديها الورق الذي لا يساوي ما كتب عليه ثمنه، كانت أحشاء الشاعر تسيل على الأرض وفي عينيه بقايا من نظرة خيبة، لأنه لم يستطع إكمال إلقائه لخطبة الهجاء التي نظمها في قصيدته التي لم تتم، ونظرا للأوامر الصارمة التي تلقاها الجنود بشأن ما هو مكتوب على الأوراق، أحرقت الدار بما فيها من ورق، وغادروا هذا المنسرب من الحيّ تاركين البيت الخلفيّ الذي جرت فيه وقائع البول المخزية في العام الماضي، ليعيش واقعة البول المعقولة لهذا العام، على يد ساكنيه الجديديْن، فيما تتهيأ الجارية آس تلك اللحظة لوضع جنينها في القرية المذكورة غربا، لتجرّب حظها في تغريبة جديدة.
**
1
جاءت الجارية بطست الماء ليغسل الموجودون أياديهم، كان الوقت أصيلا، لكنّ العادة جرت منذ زمن طويل بأن يأكل أهل البيت وجبتين في النهار.
الجارية (آس) وضعت الطست، لم تفتها النظرة الوخازة التي تشتعل في عيني ناصر الدين -جار مولاها- فلولا فهمها لها لما جاءت تميس هكذا.
كان مولاها يقول (على طريقة دخلات المسلسلات المرتجلة):
- أخيرا سكتت الحرب التي وقعت بين أهل السنة والشيعة ببغداد.
بان في وجه ناصر الدين بعض الامتعاض لاضطراره إلى تحويل النظر إليه، لكنه رد ببداهة:
- لم يحن الفرح بعد، التتار على أبواب العراق كما ترى، وقد سمعت بأذني هاتين اللتين سيملؤهما التراب أن الوزير العلقمي يكاتبهم.
فرغوا من غسل أيديهم ، وعادوا إلى السعفة المفروشة على ظل الجدار. وصاح مغيث بجاريته " علينا بالنبيذ " ثم التفت إلى جاره:
- لو كنت أحزن لشيء لحزنت لمصادرة بساتين النخل بالكرك.
- لا عليك ما دام ربك قد وسع عليك، ما تبقى فيه ذخر.
جيء بالنبيذ، وجلسا حتى رفع المؤذن أذان المغرب فانصرف ناصر الدين ودخل مغيث إلى كنيف داره ليبول.
**
في أصيل يوم من العام التالي (656هـ) كانت الدار خاوية. لم يبق في بغداد من الأسر من يمكن أن يكون لهم شأن، وطأتهم الخيول بحوافرها، ولأول مرة ميازيب البيوت سالت دون أن يكون ثمة سحاب، لكن المطر كان دما، وهطل بعد ذلك السحابُ السماوي فنشر النتن في النواحي، وكان كل شيء قد بدأ ينقشع، وشمس الأصيل تهبط على الواجهة الغربيّة وتقبّل حوافّ الأسطح، وكان اثنان من صعاليك بغداد يجلسان على دكة الدار تحت ظل الجدار، وهما اليوم يقطنان الدار بوضع اليد.
قال الأول "سمعت أن جارية صاحب هذا البيت هربت مع جاره قبل الاقتحام".
رد الثاني:
-وتردد أن صاحب الدار لم يمت بأيدي التتر، بل أصبح مقعدا مشلولا بمفاجأة هروب جاريته مع جاره، ما رأيك في هذه العبارة الجميلة: جاريتي وجاري، واغتاله ابنه الأكبر وهو نائم نومة العصر، وهرب بماله إلى الشام قبل الاقتحام أيضا.
- الأسوأ من ذلك أن الوزير ومن تبقى ممن معه من الجنود نزعوا سلاح الحي في الفترة السابقة للاقتحام زعما منهم أنهم في أشد حاجة إليه، لأن المتطوعين كالرمل عددا، لا ينقصهم سوى السلاح.
- لم يكن أحد في حاجة إلى حديدة واحدة، ولا حتى إلى هراوة، فالكل هربوا غربا إلى الشام ، أنا لو هربت لما أخذت إلا المال الأحمر أو الطعام، والآبار والمشارب غربا لا حصر لها، فقد عمرت منذ عهد لا أذكره وربما كان ابن الأثير نفسه لا يذكره.
قال الأول:
- كيف تهرب وقد سكرت في ليلة الاقتحام وضاجعت ثلاث نساء؟
- ما كنت وحدي في ذلك البيت الصغير، بل كانت معي جماعة خففت خوفي، ولم أكن أخشى سطوة الحسبة في ليلة كتلك، وقد كان سكرنا في تلك الليالي مهربا لنا من القتل كما رأيت، لم يكونوا يقتلون السكارى رغم قتلهم للأطفال والنساء الحاملين الألواح والمصاحف على جباههم، لا أدري كيف راق لهم حمل المصحف على جباههم المستسلمة، ولولا سقوطي على وجهي سكران لما سقطت أسناني الأمامية كما ترى، لن يدخل أحد من التتار نار ربّه بسببي.
قال الأول:
- أنا أفضّل أن يقتلني التتار على أن تسقط أسناني وترفض حتى العجائز تقبيلي.
قال الثاني:
- إنني عطشان.
أجابه الأول:
-وأنا أريد أن أبول.
غابت الشمس، نهض الثاني ليؤذن أذانا مكسرا لا تظهر من خلاله مخارج الحروف من بين أسنانه المحطمة ؛ في حين أدار الأول وجهه إلى الجدار وقضى حاجته في نفس المكان الذي بسطت فيه السعفة قبل ما يقدر بعام واحد من هذا اليوم.
**
2
استغرقت الجارية آس وقتا كافيا لتقلّب في ذهنها خياراتها المتعددة، ثم ردّت على سهام ناصر الدين الغازية بسهامها المذعنة؛ وبدأت التدابير للهرب. وإذا كانت المواكبة تعني للبعض أكثر من مجرد التوافق الزمني، فإنّ بضع أيام مضت بعد ذلك، وسقطت جارية الخليفة بسهم جاء من خارج سور القصر، تماما كما سقطت جارية مغيث في براثن الجار القريب، لكن السهم حقيقي هذه المرة وتتاري أيضا.
فزع الخليفة وجزع، وتقاطرت المحظيّات على صديقتهن المحظوظة بهذا الاهتمام، وبالموت قبل أوان الاقتحام. ومن المؤكد أنّ حظ الجارية القتيلة كان أوفر من نصيب الجارية آس، إذ تضخّم بطنها في خلال أربعة أشهر -من ماء سيّدها القديم بالطبع- حتى ضاهى امتداده طول شبرين من أشبار ناصر الدين، وأثناء الزحف الوئيد في أرياف الشام تركها زاعما أنّه سيجيء بجذوة من نار، متقمّصا دور النبيّ موسى، بفرق جلي، أنه لم يعد، فعادت أدراجها لتستقرّ في قرية شاميّة شرقيّة، على أمل أن تضع الوليد ذات ليلة شديدة الظلام، لتفرّ عائدة إلى بغداد، لعلها تقع في براثن جيرة جديدة.
**
كان هذا يجري في الفترة التي استولى فيها الرجلان على البيت بوضع اليد، ولكن بالرجوع سنة إلى الوراء يسجّل الحيّ واقعة غريبة، وهي بقاء هذه الدار سالمة بدون أن تطأها أقدام الدمار، ذلك أنّ المشاة المقتحمين كانوا منشغلين بأصوات تصدر من دار قريبة، لشاعر ينشد قصيدته في هجاء الغزاة، والشاعر المذكور لم تتشرف دواوين التأريخ بذكر اسمه، لأنه كان شاعرا ناشئا، يدبّج قصائد بذيئة ورديئة في شتم الخليفة الغارق في ملاهيه، وبقدرة قادر تحوّلت قوافيه إلى هجاء الغزاة الجدد. وأصابت الحيرة أولئك الجند الذين اقتحموا الدار، عندما رأوا أن شقوق جدرانها الطينيّة مسدودة بأوراق مكرمشة لقصائد لم تتم، أو لأبيات منظومة بطريقة غير مرضية لقائلها، مما دفعه إلى لم أوراقها ودسها في شقوق الجدران، كمنفعة أخيرة يؤديها الورق الذي لا يساوي ما كتب عليه ثمنه، كانت أحشاء الشاعر تسيل على الأرض وفي عينيه بقايا من نظرة خيبة، لأنه لم يستطع إكمال إلقائه لخطبة الهجاء التي نظمها في قصيدته التي لم تتم، ونظرا للأوامر الصارمة التي تلقاها الجنود بشأن ما هو مكتوب على الأوراق، أحرقت الدار بما فيها من ورق، وغادروا هذا المنسرب من الحيّ تاركين البيت الخلفيّ الذي جرت فيه وقائع البول المخزية في العام الماضي، ليعيش واقعة البول المعقولة لهذا العام، على يد ساكنيه الجديديْن، فيما تتهيأ الجارية آس تلك اللحظة لوضع جنينها في القرية المذكورة غربا، لتجرّب حظها في تغريبة جديدة.
**