المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الحكومة و السباك



عمر علوي
24-02-2007, 02:56 PM
قصــة قصيرة:

الحكومة و السباك

عمر علــوي

منذ صغري و أنا أطمح أن أصل إلى منصب رئيس الحكومة ، و الطموح ليس بدعة ، و عملت من أجله الكثير، في التفكير و في السهر على بلورة أفكاري، و في المحاضرات و الندوات و مجالس العلم من أجل الترويج لمشروعي الحضاري الذي أردت أن أجعله قابلا للتجربة على أرض الواقع ، و كان علي أن أرسمه على شكل مشروع سياسي حتى يأخذ طريقه نحو التجسيد، و كان لابد علي أيضا، بعد ذلك أن أوضح للجماهير الواسعة أفكاري الجديدة التي تضع على أسس سليمة و متينة ، قواعد عادلة لبناء مستقبل زاهر ظل إلى يومنا هذا، يفلت من بين أصابعنا كسمكة في الماء، و لذلك، أسست جمعية انضم إليها الأصدقاء و المعارف الذين اعتنقوا البرنامج، و سعينا بلا بخل أو شح لتمهيد الأرضية، و نحن كلنا أمل بأحقيته في الحظوة بالفرصة، و كلنا إيمان بنجاحه، لم لا؟ فأنا لم يراودني الشك يوما ، في صحة أفكاري و نجاعتها، في إخراج البلاد من مأزق التردّي الذي تقوقعت فيه منذ عشرات السنين، كأنما وجودها هنالك كان مقصودا، إذ لم نجد من عمل أو يعمل بجدية كافية، لأجل تدارك الوضع الخطير الذي كان يسير إلى التعفن بل صار، فكل ما تمّ، لم يخرج عن كونه مسكّنات هي أشبه ما تكون بالمسكنات التي يصفها الطبيب العاجز عن تشخيص ما يعانيه المريض، سرعان ما يزول مفعولها، بل أكاد أجزم بأن الإبقاء على المريض في حالة "اللاشفاء" هو الوضع المراد، حتى يظل طيلة بقائه على قيد الحياة، يجري لاهثا وراء صاحب "دعوته"، طمعا في جرعة المسكّن المحبوب .
و عندما بلغني خبر تعييني رئيسا للحكومة، استغرب كثيرون، بينما تعثرت الدهشة عند قدميّ، إذ وجدت ذلك أمرا طبيعيا جدا، لأنه يخضع لطبيعة الأشياء المنطقية، التي ترضى الانتصار للدوام و المثابرة، لهذا، لم أعر كبير اهتمام للتعليقات التي كانت تقاوم أو تهاجم مشروعي، بل كنت أعتبرها علامات صحة ، و شحنات إضافية لمواصلة المسير. سؤال واحد فقط، طرحته على نفسي بفضول بريء، يتعلّق بجدية الرئيس في تعييني على رأس حكومة عرجاء راكدة ، بعد انتشار خبر خطير ، حول نيّة الرئيس في استيراد طاقم حكومي كامل من مشاتل الغرب، لإرساء دعائم الديمقراطية في بلادنا ، و لما لم يكن لي من ذكاء الرئيس ما يسمح لي بإيجاد الجواب على السؤال، اكتفيت بقبول المهمة و العمل على إنجاح المشروع .
و هذا اليوم، هو أول يوم لي في الحكم، و أنا الآن في أول اجتماع - بعد جلسة التعيين مع رئيس الدولة- بالطاقم الحكومي المخضرم.
عندما بدأ الوزراء يغشون القاعة مثنى و ثلاث و رباع، كنت قد سبقتهم ، فلما رأوني واقفا في صدر القاعة ، تفاجأوا، فلم يعرفوا كيف ينهون أحاديثهم المقهقهة التي راحت تتبخر في غيوم من الأدخنة التي خلّفتها سجائرهم ، و هي تنفث روائح تمتزج فيها نكهات شرقية و غربية لم يستسغها أنفي الأبي الذي ينفر من الروائح غير الطبيعية، لم يعرفوا كيف ينهون أحاديثهم سوى بالجلوس في أماكنهم المألوفة بصفة غريزية آلية ، و علامات التعجب تتستر تحت نظراتهم السائمة، التي تفضح سرها الذي أقرأه بوضوح، فمنها ما يتجشأ شرارات الحقد و الغيرة، و منها ما يتجشأ الاحتقار و الاستهزاء، و رأيت هنالك أيضا، من كان يبدو كجلمود صخر حطه السيل من عل، ينتظر بكل هدوء الحكماء و رزانتهم، ينتظر "خرجة" هذا "الوصولي"، الجديد ، لقياس مدى مقاومتها، فجلستهم المريحة لا تدل إلا على ثقة من أن الرياح التي حطتني هنا ،سوف تأخذني بنفس السرعة التي جاءت بي، فاعتماد ظهورهم على جياد أرائكهم ،لا يمكن أن يعبّر على غير ذلك، هي حالة من الترقب تشبه اللحظة التي تسبق تناطح الجيوش في ساحة الوغى، هي فعلا حالة حرب، أو ذلك هو الإحساس الذي مرّ علي في تلك اللحظات المتشنّجة، و قلت لهم بعد ذلك بلغة بسيطة مباشرة :"إخوتي! ــ لم يكن هناك أخوات، لم يلتحقن بعد ــ، أقول إخوتي دون نعت ، لا أعزّاء و لا كرام، لن أطلق نعتا على أحد حتى يسعى له، و اعتبروا أنفسكم من الآن...
امتنعت الحركات و خيم على القاعة سكون القبور، ثم واصلت :
"... اعتبروا أنفسكم متمرنين..في ورشة السباكة...
التشنّج لبس الوجوه ، الشفاه تحجّرت،و العيون زاغت، كنت أنتظر لحظة الانفجار بين ثانية و أخرى، و لكن لم يبد على أحد أنه فهم من كلامي شيئا يذكر ، رغم وضوح الكلمات و بساطتها، قلت في نفسي :"لعله الوضوح ، أليس يقال بأن الوضوح يعمي؟ و كان لزاما علي و الحال هذه،إزاحة الغشاوة عن أعينهم فقلت لهم:" عندما تعودون إلى مرابعكم، البسوا المآزر الزرقاء، و احملوا معكم أدوات التنظيف، و مواد التطهير، و ابحثوا في كل مكان عن مصدر الروائح الكريهة التي لوثت المحيط، و ابدأوا.. من الطوابق العليا ، ...
اهتزت القاعة غضبا، في الوقت الذي أحسست فيه بجسمي يرتج ، كانت يد ابني على كتفي تهزني هزا عنيفا، و صوته المتوسل يطرق أذني:
ــ أبي..أبي! انهض..انهض..السبّاك وصل.. السبّاك وصل..
كانت مواسير المطبخ مسدودة منذ أيام، و الروائح الكريهة الغازية لم تكن لتثير أنفي الذي لم يعد يفرّق بين الخبيث و الطيّب، و ربة البيت متمسكة بمبدأ الاختصاص. :hat:

مجذوب العيد المشراوي
24-02-2007, 03:59 PM
ههههههههههههههههه.

نص لا غبار عليه أحييك ..

عمر علوي
24-02-2007, 04:31 PM
ذكرتني بصديق، كلما قرأ نصا من نصوصي إلا و أتبعه بقهقهة
تحياتي الخالصة لكم أخي الفاضل
سعيد بمروركم
أخوكم عمر علوي

جوتيار تمر
24-02-2007, 09:56 PM
العلوي..

لاانكر ان اعجبت بهذه الصياغة اللبقة لموضوع لايمكن عده موضوع يسمح بتجاهله...الطموح..شيء لايقتل في الانسان الا عندما يجد الانسان ذاته قد فارقت وجوده الفعلي لكنها متشبثة ببضع بقايا الانسان فيه لحين وصول رسول السماء لقطفها..والطموح هذا اذا وجد له الدعم والمشروع السياسي الفريد والمنقذ لجملة الازمات التي تحدث يمكن ان يمرر الى الاعلى..لكن هناك مما لاشك فيه سيتوقف..وسيرسل بضع الالوف لصاحب الطموح لاسكاته وسيعلن القابعون في العلى عن مشورعهم الجديد الذي سهروا الليالي من اجل اعداده..هذا امر واراد.
القصة مع كونها تطرح موضوعا في غاية الحساسية الانها لم تستوفي الحدث لنهايته..لان النهاية كانت متوقعة بعدما جاء امر التعيين...لكن لو كنت انحرفت بها الى ما ذكرته انفا لكان هذا العمل موجزا ورائعا ومشروعا قصصيا لايمكن جمع الواقع بهذه الطريقة النادرة الا فيه..ومع ذلك فانك في خطابك العفوي هذا قد وضعت اليد على الجرح..واظهرت بحنكة ساسي متمرس اين يكمن الخلل..ومن اين يجب ان يعاد البناء..والتطهير..وازالة الروائح الكريهة... ولو كان كل راعي سباكا في شؤون رعيته لصلحت الامة ولعاش الناس بهدوء ونعيم.

دمت بخير
محبتي لك
جوتيار

عمر علوي
25-02-2007, 03:00 PM
مشكورة الأخت الفاضلة جوتيار على مرورك و ملاحظتك
أما بخصوص الانحراف عن مسار القصة قليلا لتكون مقبولة من الناحية الفنية، فلا أملك من رد سوى الآتي:
أنا أكتب الفكرة كما تحضرني، و ما أكتبه هو نقد اجتماعي في قالب ساخر إلى حد ما، و ليس دراما تعتمد على المقلب في النهاية أو ما يسمى باللغة الفرنسية/coup de theatre

خالص تحياتي لك .

سعيد أبو نعسة
25-02-2007, 07:16 PM
أخي الكريم عمر علوي
حلم جميل ومؤلم يضج بالواقعية المزرية
أسلوب متماسك و لغة متينة تعبر عن طول باعك في السرد
دمت مبدعا

خليل حلاوجي
01-03-2007, 02:36 PM
الامام العادل ... حلمنا


ويكفي من عقم الحلم .... عادل امام

\

نص جميل

عمر علوي
02-03-2007, 09:10 PM
أجدني أحيانا حائرا، لا أعرف جوابا صحيحا لسؤال يطفو علي من حين لآخر،
أيهما يستحق الشكر، الكاتب أم القارئ، أو كلاهما؟
فالشكر لابد منه، فشكرا على كل حال، لأنني أجدني سعيدا كلما قرأ أحد ما كتبته ، وأجدني أسعد عندما يذيل القارئ قراءته بتعليق أو نقد أو انتقاد، فذلك يحسسني بحياة النص و جدواه،
شكرا مرة أخرى سيدي الفاضل خليل

أخوكم عمر علوي

د. سمير العمري
18-03-2009, 07:04 PM
نص فيه اللمحة الإبداعية والتميز السردي وعنصر المفاجأة والإدهاش أوص الفكرة بشكل عملي من خلال حلم.

رائع ما قرأت لك هنا أيها الأديب المميز؟


أهلا ومرحبا بك دوما في أفياء واحة الخير.



تحياتي

بابيه أمال
12-11-2011, 12:35 AM
الأخ عمر..
احتاج أمر الحكم الراسخ بجميع مناصبه وفروعه في أيامنا هذه إلى إعادة الهيكلة بعد أن تعفن كل إصلاح مؤقت.. وسيحتاج كل إصلاح بعد اليوم إلى سباكة يومية تقينا شر الروائح ما ظهر منها وما بطن.. تلك التي أودت بالكثيرين وما زالت تودي في زمن تعددت فيه المظالم والذنوب واحدة..

شكرا لقصة حملت الكثير من التوقعات المؤكدة..

آمال المصري
14-04-2013, 08:27 PM
نص رائع أوصل الفكرة من خلال حلم يتمنى تحقيقه الجميع
قدرة فائقة على السرد الماتع والقفلة المباغتة وأسلوب أنيق يؤكد تمكنك من القص وأدواتها كاملة
بوركت أديبنا الفاضل واليراع
ومرحبا بك في واحتك
تحاياي

ربيحة الرفاعي
05-07-2013, 09:49 PM
قص موفق السرد حقق الإدهاش ومتعة القراءة والفائدة معا

دمت بخير أديبنا

تحاياي

نداء غريب صبري
31-07-2013, 12:39 AM
فكرة جميلة وسرد ممتع وأسلوب ساخر ومميز
أمتعتني قراءتها

شكرا لك اخي

بوركت