المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حتى أنت يا...!



عبد الواحد الأنصاري
28-02-2007, 12:07 AM
حتى أنت يا...!

إذا ترحّلتَ عن قومٍ وقد قدروا
ألاّ تفارقهمْ، فالراحلون همُ
المتنبي
_________

- حتى أنتَ يا...
لقد نسيت، إنما لا شكّ أن شكسبير بلغ قمة شاعريّته وهو يدوّن هذه العبارة:
- حتى أنت يا...
من المتحدث؟ الإمبراطور إسكندر عندما سممه جنوده؟ الفيلسوف سنيكا عندما طعنه بيرون؟ أم إخناتون قالها لأخيه توت عنخ آمون؟
لا أذكر، إنما كانت تلك روعة شكسبير في جمالها الأقصى، وهو يرسم في الضوء الكليل، تحت أنواء كانون الأول القارسة، مرتجفا في غرفته القصيّة...
- حتى أنت يا...
يا جانيوس؟ أم جالينوس؟ كاسكا، أم كافكا، كازياس، أم زيوس؟ الآلهة كثر، الملوك كثر، الفلاسفة كثر، الحرس كثر، وقليلا ما تمتلك الذاكرة زمام أمرها، فكيف وأنا أخترق هذه السبيل المظلمة، وليس معي إلا هو، صديقي الذي شغلني بالتفكر فيه عن كل شيء!
ليس المهمّ أن تبقى هذه العبارة في الذهن أو تنطوي في غيابات الوعي، ولا أنّ غيري يعرفها الآن وأنا أجهلها، ليس من المحتّم إطلاقا أن أبحث في ثنايا الوعيِ عن الياء ثم الواو ثم السين، أو أقف على أطلال الأوليمب أو روما المحترقة، على يد بيرون، يوليوس، جنكيز خان، شارل، فرناندو، المهمّ أن تبقى معي يا صديقي ولو قليلاً، وأن أرى في عينيك بادرة العرفان حين يحين افتراقنا...
- حتى أنت يا...
أمشي بجواره، وتزاحمني كلمات كليلة مزعجة، أحاول أن أصطاد متى قيلت ولمن قيلت؟ وعندما أفشل في استجماع نفسي والاستقلال بها، أعود فأحاول أن أستلهم الإجابة من حفيف الشعر فوق منكبيه، صديقي الوسيم، الذي ما رأيته أول مرّة حتى تعلقت به نظراتي، وكأنما كانت تجمعني به -في عالم موازٍ آخر- ذكريات السهر والجدل، عن سبينوزا، وتصفّح كتب خضراء، وليالٍ لا نهاية لطولها، ضحك فيها العود وبكينا، وكأنني كنت أعرفه منذ عهد سحيق...
رأيته مترددا أمام المنفذ المؤدي إلى الغيابات القاتمة، يقف ويخطو، حتى في تردده يبدو أخّاذا، ومن ذا الذي يستطيع أن يجد في الجمال المتردد مرتعا للتنقّص؟ لأن تردده يضفي على فتنته سحرا، فتحف به فراشات ملوّنة ويحلق الربيع في عينيه...
أزمعنا اقتحام السرداب الطويل، بجيوب مفرغة إلا من بضع شموع، وكسر من البسكويت، وأخرى من اللوز المقشّر، نخطو وئيدا، أو نتوقف حذراً، نتسارّ قليلا حول ماضينا، أقول:
- من أين أتيتَ؟
فيجيبني: من حيث الأكاليل تصنع من الريحان، ويرضع الصغار عزة النفس والوفاء من سفوح الجبال، ومن حيث ينبت الشعر على رؤوس الأحرار كما تحس به الآن على منكبي، اقتربْ، شمّ.
ويقترب مني ليعترف لي بحبّ مؤرّق، ويبوح بسر العبور:
أنه يتوق إلى الوصول إلى حبّ مرتقب، ينتظره عند أول بارقة ضوء وراء النفق، وأسأله:
- من تكون محبوبتك؟
فيقول:
- ستراها حين نصل.
وتحتجب شفتاه المزمومات قبل أن تنساب بين أحضانهما أذني المتلهّفة...
- حتى أنت يا...
وأمام المدخل الذي تودّع فيه الخلايا كلّ ما له علاقة بالنور، وتخترق الروح بظنونها حجب القتام، هناك، في قنطرة الروح المريعة تلك، حدثته وحدثني أننا في حاجة إلى رفيق، إنسان حقيقي يصلح أن يكون أنيسا وقت العبور، وصديقا إلى يوم الدين، قال:
- لقد نبهوني إلى طول المسيرة، وحذروني من الأشباح المنطوية في الثنايا الغائرة، ومن جماجم قد تخترق بأسنانها أقدامنا فتدميها ونحن نتخبط ونسبح في العمى.
كان يرتعش خوفا، وكلما ازداد خوفه بدا سحر جماله أكثر قتلاً وفتكاً، قال:
- يروون أنها جماجمُ لأصدقاء غدر بهم أصدقاؤهم، قتلوهم على حين غرّة، وتركوهم في ظلمتهم أبد الآبدين، لا يتلقّون إلا صرخات العابرين الواجفة حين تطؤهم أقدامهم.
زعمت له أن تلك أكاذيب، وأنني أعرف السرداب خطوة خطوة، وبأنّ عليه أن يكتفي بي دليلا له...
أيقنت أنه صدّقني، إذ اغرورقت في عينيه الواحتين جنتان من الاعتراف بالجميل، فاكتفيتُ بذلك ضمانة لي للوصول بأمان، وبأنه لا خوف علي من بشر يفيض بهذه الرقّة...
حزمنا حقائبنا، واقتحمنا...
- حتى أنت يا...
تعاظم في صدري لحن هو مزيج من الشجا والسرور، ورحت أغني مغتبطا:
- اكتفى بي واكتفيتُ به...
المسرب متعرج مهول أسود كحنجرة الغول، صخريّ تتحدر من سقفه الوطيء قطرات ثقيلة، والجدار من الجانبين حجارة بارزة كالرماح، متعرقة بطحالبها اللزجة، وحركة الخشاش ما بين ذلك خفيضة منزوية، ولا تجرؤ اليد أن تلمس شيئا، فقد تتعثر في عنكبون، أو جمّة شعر، أو أي شيء...
لزمنا المنتصف، ومشينا حتى اعتدنا على حياتنا الجديدة، وهدأت حواسنا المتوثبة، ولم يلبث القلق أن خفّ، وصار كلّ منّا يكمل محيطه المفقود بالاقتراب من رفيقه، كنت أتعرف على بعده أو اقترابه من رائحة شعره وأنفاسه الناضحة بالخزامى، ونبض خلاياه المتوهّجة فرحاً، وكأنه وحي يوقظ بشميمه موات الخياشيم؛ وكأنه أحس بالأجواء التي أحلق فيها، وتبعث في مسامي الجرأة على السير المبتهج، وكأن عينين ثاقبتين نبتتا في ناصيتي فأصبحت بهما دليلا حقيقيّا؛ عندئذ سمعتُ انسحابا في جيب حقيبته، أخرجها في الظلمة المتنفسة بشذاه، فبزغ وجهه بدرا في الشمعة وبزغت الشمعة جرحاً في خده، واقترب مني، وأمامها اعترف لي باسم الحبِّ الذي ينتظره عند منفذ النفق، وسألني -بصدق هذه المرّة- إن كنتُ حقا كما أزعم:
- أحقا ما تقول إنك تعرف هذا السرداب كراحة يدك؟
فأجبته -بصدق أيضا هذه المرة-:
الحق أنني لا أعرف عنه شيئا، ولا أدري حتى إن كان له منفذ وحيد، أم منافذ متعددة.
لم يجزع ولم يسخط، بل انتابته معجزة من رضا، تابعتُ آخر آياتها الباهرة وهي تختفي مع خفوت آخر قطرة تسيل من شمعته...
لم ننظر إلى ما تحت أقدامنا أو إلى ما خلفنا، كنت مشغولا بالتأمل في شخصه الآسر، وسماحته المجنونة، وأفكر في أشياء عابرة تبدي الدفين، وأخرى تستر العلن، في قداسة التعرف على الجمال واصطحابه إلى غايته، في براءة المشي خطوة بخطوة، مع رفيق وحيد، عبر المسرب المخيف كالأبد...
- حتى أنت يا...
سألتني نفسي سؤالا خبيثاً:
- إنكَ سألته عمّا جاء به إلى هذه المخاطرة، وأجابك، لكنه لم يسألك!
ثم أردفتْ بخبث أشد:
- ربما أغرته ظنونه بأنكَ جئتَ فقط لتمشي في ظل إنسان مثله.
أجبتها بخبث يفوق مستواها:
- الظل لا يبدو في الظلام.
تراجعتْ، وسحبتْ مع أذيالها أفكاري المرهقة وهي تهتف بصوت مختنق:
- حتى أنت يا ...
ولا أدري أقالت: لوتس؟ أم فينوس؟ لكنني تعلقت بأهداب مسرحية مؤلمة لشكسبير، رائعة، كنت أقرؤها وأتفكر، كيف يمكن للألم أن يخلق كل هذه المتعة؟ في قراءتي تلك أخذت أهيم في خيالي بحثا عن شيء أبرر به إنكاري المتعسّف لسادية الذوق الأدبيّ وماشوسيّته...
تبعته وأنا أفكّر: من قالها؟ من؟
- حتى أنت يا...
انحدرت الأرض قبيل مخرج النفق، واعترضتنا أوحال وحراشف نباتيّة مريعة، تقدّمتُ بحذر إلى سوادِها، أما هو فخاض فيها بلهفة انتحارية جعلته يخرج بثياب ممزقة، وساقين نازفتين، وخرج مندفعا لا ينظر وراءه، وكأنه نسيني، وأمام المنفذ غشينا الضوء، وكان أول ما التقطته عيناي شيئين: سحباً مبعثرة كالقطن، وفتاته التي تنتظره كما قال...
أما أنا فلم ينتظرني أحد، ولم يستقبلني إلا جفاف الأرض المنبسطة، فرحت من أجله وحزنت من أجلي، واستراح بصري على حصباء تمتدّ بلا انتهاء حتى تختفي وراء التل الشمالي، وقد أقعتْ الشمس في الجهة الأخرى لتغرب، فتحت ابتسامتي أخذاً بواجب الصداقة، ورضيت بقسمتي: أن أنتظر حتى يأتي إلي من يأخذني...
وبسطت راحتي لوداعه، لكنه لم يمد يده، كان قد أخذ بيدها واستدبرني، ومضى بها صوب الشمال البعيد، صعدا التلّة المشغولة بنقوش الحصباء، وفتاته المفتونة لا تنفك مأخوذة به وكأنّ جيدها قد تصلّب، منبهرة حدّ العبادة المطلقة:
بوجهه اليوسفيّ الذي تضحك فيه شفتان من الكرز الواثق، بانسياب الهواء إلى خصلاته المخمليّة، وبعينيه اللتين تذكران بكل أنهار الجنان، وبأنفاس الخزامى التي تطير له الفراشات من حوله...
وارتفع الصوت الحبيس الذي كتمته في داخلي:
- حتى أنت يا...
باخت نفسي، واحتقرتُ الهدف الذي أتيتُ من أجله، فتنازلتُ عنه، أقعيتُ برهة أنتظر مَنْ وعدني أن يكون في انتظاري عندما أعبر إليه، ثم شعرت بي أمد خطاي عائدا أدراجي صوب النفق، كما لو أنني جئت بلا هدف غير العودة، ووجدتني أنتظر عند المنفذ، وأفكّر:
- هل أنتظر هنا حتى يأتي صديق لا يبذل صداقته إلا من أجل العبور؟ أم أسأل من يطلب مني الصحبة عن حقيقة صحبته؟ أم أمضي وحدي؟
كان السؤال متشعبا، وبدا معه المدخل الوحيد مثل متاهة شرسة ذات تسعة وتسعين بابا، عندئذ تكشّفت لي ذكريات ساطعة في احتضار الغروب الكابي، ونطقت لي بأنباء الغيب المستتر، بدأت أصدق حقّاً زعمَ صديقي الوسيم بأنّ في النفق جماجم لأصدقاء قتلهم أصدقاؤهم، وتركوهم للظلمة أبد الآبدين، وتذكرت العبارة وقائلها ولمن قيلت، وفي أي من مسرحيات شكسبير أذاقتني الأمرّين والمتعة معا:
- حتى أنت يا بروتس؟

سحر الليالي
28-02-2007, 12:30 PM
الاديب عبدالاله الأنصاري:
ابداعك رائع ...
أعجبت به كثيرا
سلم قلمك
وتقببل خالص تقديري

عبد الواحد الأنصاري
28-02-2007, 01:09 PM
الاضل عبدالاله الأنصاري:
ابداعك رائع ...
أعجبت به كثيرا
سلم قلمك
وتقببل خالص تقديري

أشكرك أخت سحر، غير أني عبد الواحد، وعبد الإله من أصدقائي وأحبّائي أيضا:)

جوتيار تمر
28-02-2007, 09:57 PM
الانصاري..
استغرقتني قرأتي القصة هذه وقتا وفكرا..فمن استحضارات وثنية..من الالهة..ومن ثم المفكرين والفلاسفة..والادباء..ومن ثم رسم جميل للوحة تظهر مكنونات الذات الانسانية وما يخالجها من امور باطنة غير ظاهرة الا من خلال الوقوع في الموقف..ومن ثم طبيعة النفس ذاتها..وطبيعة الانسان الذي يريد الوصول باي ثمن لمبتغاه..ومع هذا وذاك..الاخر الذي يقدم ما يملكه دون حتى السؤال كيف ولماذا ولمن..ومن ثم الارتداد البطيئ المتاخر للنفس الى ما فعلته وما جدوى ما تفعله..انها معا امور تشكل هنا لوحة ادبية فائقة الروعة.

محبتي وتقديري
جوتيار

د. سمير العمري
26-04-2010, 12:03 AM
نص قصصي من نوع السرد الذاتي يتمحور حول مقولة ساقها لا ريب واقعة سيطرت على ذهن الكاتب حتى كاد أن يتقوقع في أحرفها ، وما زال يرددها حتى ظننا أنها لن يتوقف وي كأنه يريد أن ينوح بها شكواه وأن ينقشها في ذهن المتلقي نقشا.

الحقيقة أنه نص من المستوى الثقيل لغة وفلسفة وأسلوبا ، وحرفه الباذخ يشي بصاحبه ، وإيحاءات المعاني ودلالات الألفاظ أوصلت المقصود.

دعني أشكر هذا النص وأثني على تفوقك الأدبي في كل مجالاتك خصوصا وعيك المبهر باللغة وفقهاا وتوظيف الألفاظ ودلالاتها.

دمت في ألق دائم!

وأهلا ومرحبا بك دوما في أفياء واحة الخير.


تحياتي

عبد الواحد الأنصاري
26-04-2010, 04:25 PM
الأستاذ سمير والرائعة تمر:

أشكركما على عنايتكما بنصوصي المتواضعة.

لا عدمتكما.

ربيحة الرفاعي
20-02-2014, 12:22 AM
قصّ إبداعي موفق، بأداء مكين وفلسفة عميقة عرف القاص كيف يحملها على سطور حرفه لتصل بفكرتها ورسالتها ثقيلة قويّة كاملة التأثير
اللغة كانت متينة والمهارة السردية بيّنة

دمت والألق

تحاياي

خلود محمد جمعة
23-02-2014, 09:59 AM
فلسفة عميقة بسرد مائز ولغة متمكنة
اسجل اعجابي
دمت بخير
مودتي وتقديري

نداء غريب صبري
02-05-2014, 08:51 PM
أسلوبك في كتابة القصة جميل ومشوق أخي
وفكرك فلسفي عميق
وفي قصتك حوار حول هذا التساؤل الحزين مؤثر جدا

شكرا لك

بوركت