تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : لَمْ يَعُدْ أخْضَرًا !!



رقية علي الحارثية
07-03-2007, 08:29 PM
لـَمْ يَعُدْ أخْضَرًا !


يُحاوِلُ أنْ يُركِّبَ جُمْلةً واحِدةً دونَ تأتأةٍ فلا يَسْتطيعُ ، مُحمَّدُ يَتَفصَّدُ وَجَعًا كُلَّما راوَدَتْهُ الأفْكارُ اللَّعينةُ بِدُنوِّ الذِّكْرى الثانيةِ للرَّحيلِ المُرِّ ، لَمْ يَذُقْ طعْمَ الرُّقادِ مُنْذُ يَوْمينِ ، وَكُلَّما تذكَّرَ ذلكَ زَمَّ شَفتيْهِ وأغْمَضَ عيْنيْهِ وتَدثَّرَ بِشَرْشَفهِ الأزْرَقِ الدَّاكنِ مِنْ أخْمصِ قَدميْهِ حَتَّى طرفِ رأسِهِ حَتَّى يُلاقي الصَّباحَ وَهُوَ مُتَشنِّجُ الأعْصابِ وَفاترِ القُوى . كُلُّ شئٍ يبدو قاتِمًا ، حتَّى وَجْهُ أمِّهِ الذي تَعوَّدَ أنْ يَنْظرَ إليْهِ ليفْتحَ رَغْبتَهُ للعَالمْ لمْ يَعُدْ يُحْييهِ.حَدَّقَ ذاتَ مَساءٍ من مساءاتهِ الحُبْلى بالأرَقِ في الظَّلامِ الماثلِ أمامَهُ ، لمْ يُغْمضْ عينيهِ كالعادَةِ لأنَّهُ أرادَ أنْ يستعيدَ كُلَّ مَلمَحٍ جَميلٍ أبْصره في وَجْهِ مُنى ، كانَ يسترجعُ ذلكَ بغبطةٍ وأنْسٍ . يذكُرُ جَيِّدًا الكلمات الأولى التي أطلقتها حينَ مَرَّ عليْها في طريقهِ لبيْتِ خالِهِ : أهْلاً مُحَمَّد ، ما كَفّارَةُ غيابِكَ الطَّويلِ أيُّها المُشاكِس ؟؟ افتقدناكَ حَقًّا وكأنَّك قَضيْتَ عامكَ الأخير في المَريخْ ! . كانَتْ تُحادِثُهُ بِبَراءَةٍ ساذَجَةٍ ، تَضْحَكُ بنَشْوةٍ عارِمَةٍ ، وكأنَّ في جَوْفِها طِفْلةٌ شَقيَّةٌ لَمْ تَرْعوي بالعَصا يومَ كانَتْ تَسْحَبُ عُلبَ المَشروباتِ الغازيَّةِ بحَبْلٍ بَيْنَ منازلِ الحيِّ مُنْتصف الظَّهيرةِ القائِضَةْ ! ، كادَ مُحَمَّدٌ أنْ يَفلَّ جَهْرًا منْ أمامها مِنْ شِدَّةِ الإضْطرابِ والفَرَحِ ، أرادَ أنْ يَخْتلي بِنفْسِهِ في مكانٍ لا يراهُ فيهِ إلاَّ قلبُهُ كَي يَصْرُخَ بأعلى صَوْتِهِ : قاتَلَ اللهُ الحُبَّ وَصَبَّرَ المُحبينَ !
يَتَذكَّرُ مُحَمَّدٌ حينَ خَبَّأ نعالها ذاتَ يَومٍ أعْلى نَخْلةِ الخلاص ثُمَّ فرَّ هاربًِا وهو يَسمعها : مُحَمَّد،يا وَجْهَ البَطيخةِ الدُّبّْ ، إنْ لمْ تُرجعْ نعالي سأجْعلُ النَّملَ الأسْودَ يَغْزو ظَهْركَ اليَوم ، أتَسْمع ؟؟ لنْ أسامحَكَ أبَدًا . يَتذكَّرُ يَوْمَ كانَ يَسألها عَنْ مسائِلِ الجَبْرِ والإحْصاءِ ويستمعُ للشَّرحِ وَيَهزُّ رأسَهُ كالْمخبولِ إيجابًا كُلَّما كَرَّرتْ : فَهِمْتَ الآنَ يا سي مُحَمَّد ؟؟ .يَمْسَحُ مُحَمَّدٌ دَمعتينِ هاربتيْنِ مِنْ مِحْجَريَهِ وهو يسْتدعي هذه المواقف ، وَيَنْظرُ إلى يديهِ اللتيْنَ عَرضَ بهما قُوَّة البَطلِ الزّائِفَةِ أمامَها حينَ لاكَمَ حائِطَ منزلِ جارَتهم الحادَّةِ اللسانِ حَتَّى تَوَّرَّمَتْ وظلَّتْ تنزفُ أيامًا . اتكأ محَمَّدٌ بِثقلِ هَمِّهِ ووجَعِهِ عَلى بابِ غُرِفَتِهِ وَنَفَثَ أنفاسًا حَرَّى وأوْشَكَ أنْ يتهاوى ويسيلُ ذاتًا مَفْقوءةَ الحُلُمْ !!
لَيْلةُ الأرقِ العاشِرَةِ لِمُحَمَّدٍ كانَتِ الأعْنفَ ، وكأنَّ الليالي الماضيةَ كَدَّسَتْ كُلَّ الجُرْحِ بِقَضِّهِ وَقَضيضِهِ لتلكَ الليْلةِ ، بَكى مُحَمَّدٌ كَثيرًا ، بكَى وبَكى والحَنينُ بلغَ مبلغهُ وَبدأ يَصْرعُهُ من الدَّاخلِ وعزْمهُ يتآكلُ شيئًا فشيئًا . لَمْ يَشْعُرْ إلاَّ بِصُراخِ أخيهِ المَجنونِ يَملأ المَكانَ ، تَذكَّرَ أنَّهُ لمْ يُصلِّ الفَجْرَ . ذَهَبَ وتوضأ لَكنْ بِدموعهِ هذهِ المَرَّةْ !!
لَمْ تَكُنْ مُنى أجْملَ مِنْ بناتِ الحَيِّ ، لَكِنَّهُ تَوحَّدَ فيها لسببٍ لا يعلمُهُ، أصْبضحَ ممسوسًا بها ، وحينَ كانَتْ مُنى في سَنتها الجامعيّةِ الثَّالثَةِ كانَ هُو يَجوبُ شوارِعَ مَسْقَطَ وَيعبُّ عُلبةَ بيبسي كالتي كانَتْ مُنى تؤذي بها الجيرانِ . لثلاثِ سَنواتٍ لمْ يَلتقيا كما كانا وأثناء ذلكَ كانَ مُحَمَّدٌ يَكتبُ رَسائِلهُ إليْها ثَمَّ يُخبِؤها بإحْكامٍ في مَنْدوسِهِ الصَّغيرِ الذي أعْطتهُ إياهُ أمَّهُ حينَ عَزَمَ عَلى البَحثِ عَنْ عَمَلٍ . في مرَّاتٍ كَثيرةٍ كانَ يُعيدُ قراءَتها بِصوتٍ مُرِتفعٍ وهو في شُقَّتهِ المَزْدحِمَةِ بالأغْراضِ والأحْلامِ والغارقةِ في الأنْفاسِ المُتْعبَةِ منْ وَطأةِ الحنينِ . كانَ من المُفْترَضِ أنْ تصَلَ رسالتُهُ الوَحيدةُ إليْها كَي يَعْترفَ لها بِلواعَجَ قَلْبِهِ ، لكنَّ الَموْتَ التْهَمها في حادثِ سَيْرٍ مُروريِّ فالتَهَمَتْ حياتَه . كانَ يرى الحُبَّ أخْضَرًا في ظلالِ روْعَتها لكنَّهُ لَمْ يَعُدْ ولنْ يعودَ !!

حوراء آل بورنو
07-03-2007, 08:57 PM
مرحباً بالحارثية في منتدى القصة و أهلاً .

قصة جميلة ، و أراك اعتمدت فيها على السرد أكثر من الحوار . سيزروك القصاص و سيكون منهم ما يدفعك إلى الأمام .. و لا ريب أنت في الأمام .

استوقفتني بضع كلمات ؛ أفليس " أخضر " ممنوعاً من الصرف ؟
أصْبضحَ .. لم أفهم معنى هذه .

تقديري .

حسام القاضي
08-03-2007, 07:17 AM
الأخت الفاضلة الأديبة / رقية الحارثية
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أولاً مرحباً بك في منتدى القصة

أسلوب مشوق يدل على كاتبة متمكنة من أدواتها..
تجولت بنا في مناطق متعددة من قصتك معتمدة على أسلوب التقطيع بين الماضي والحاضر ، ونجحت في ذلك ، كما نجحت في نقل مشاعر بطلك الذي يسترجع ذكريات طفولته وأول شبابه معها .. وصلتنا تلك المشاعر بصدق عال يحسب لك..
أجبرتنا على المتابعة بأسلوبك المشوق حتى النهاية لنعرف كيف قضيت "منى"
عمل جيد أهنئك عليه.

فقط لي وجهة نظر في النهاية
كنت اتمنى ان تكون عند
" لكن الموت التهمها في حادث سير مروري "
أو ان تعيدي ترتيب جملتيك الاخيرتين :
"كان يرى الحب أخضراً في ظلال روعتها لكنه لم يعد ولم يعود ؛ فقد التهمها الموت في حادث مروري ".
وفي النهاية هي مجرد وجهة نظر .

تقبلي تقديري واحترامي .

سحر الليالي
08-03-2007, 01:16 PM
أيتها الغارقة في الروعة " رقية الحارثية":
قصة رائعة
قرأتها بشغف ...
جميلة جدا
سلمت ودام ابداعك الراق
لك خالص ودي وباقة ورد وفل:0014:

خليل حلاوجي
08-03-2007, 01:42 PM
انتظري مني قراءة فكرية .... ايتها الاديبة



بالغ تقديري

ربيحة الرفاعي
01-12-2011, 10:57 PM
لغة قوية وتمكن من أدوات القص امتعنا بنص راق سرديته جميلة وأسلوبه مشوق

تحيتي لروعة حضورك

دمت بخير

ياسر ميمو
01-12-2011, 11:08 PM
لَمْ تَكُنْ مُنى أجْملَ مِنْ بناتِ الحَيِّ ، لَكِنَّهُ تَوحَّدَ فيها لسببٍ لا يعلمُهُ



أحببت أن التقطت هذه القطعة الأنيقة من هذا النص الجميل


رأي بطل القصة في حبيبته هو من أكبر الأدلة على أن الجمال ليس هو إجابة القلب الوحيدة عن سبب حبه


هناك إجابات أخرى ربما تظل مبهمة وغير واضحة ولكن الأكيد أنها موجودة




نص أكثر من مميز




الأدبية الفاضلة رقية .........شكراً جزيلاً لك

نداء غريب صبري
04-12-2012, 07:49 PM
قصة جميلة
وسرد شوقنا بلغتنة امتعتنا

شكرا أختي
بوركت

محمد الشرادي
04-12-2012, 08:57 PM
عندما يكتب الشعراء القصة فإنها تاتي مائزة. لأنها تستفيد من من موهبة الشاعر...من سعة خياله و جميل مقاله.
مودتي

لانا عبد الستار
03-01-2013, 07:06 PM
السرد مشوق ورائع
واللغة قوية وسليمة
والموضوع جميل
اكتملت الروعة
أشكرك

رقية علي الحارثية
24-04-2013, 09:14 PM
اشتقتُ لروضةٍ كنتُ فيها من سنين !!!

د. سمير العمري
20-12-2013, 08:08 PM
يكفي هنا أن أشير إلى اللغة وأهميتها في صناعة نص أدبي فاخر.

نص مميز لغة وقصا وأسلوبا أشكره لك وأتمنى أن نسعد دوما بمثله.

دمت بخير وعافية!

تقديري

خلود محمد جمعة
22-12-2013, 08:50 PM
لغة جميلة
سرد ممتع
قصة مائزة
دمت متجددة
مودتي وتقديري

آمال المصري
06-04-2015, 12:14 PM
كانت اللغة ثرة والنص أنيق وسرد ماتع متين البيان والبنيان
ولكن كشف النقاب عن النهاية منذ بداية النص بقولك " مُحمَّدُ يَتَفصَّدُ وَجَعًا كُلَّما راوَدَتْهُ الأفْكارُ اللَّعينةُ بِدُنوِّ الذِّكْرى الثانيةِ للرَّحيلِ المُرِّ "
شكرا لك شاعرتنا على نص جميل استحوذ على الذائقة
وسعيدة بالقراءة لك
ومرحبا بك في واحتك
تحاياي

رويدة القحطاني
29-06-2015, 12:33 AM
أثار انتباهي في هذا النص المائز ما شاب العنوان من خطأ نحوي بصرف الممنوع
أما النص فجميل ومعبر
أشكرك

ناديه محمد الجابي
05-05-2016, 11:39 PM
قاصة باهرة ومبدعة
نصا جميلا صيغ بإقتدار من أديبة إمتلكت حرفا سامقا متميزا
أحي ريشتك الذهبية وحرفك الثر.
دمت بكل خير. :001: