المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أبحاث المؤتمر السابع بديرب نجم "5" قصة أ"



علاء عيسى
10-03-2007, 09:51 PM
(1) "مجنون أحلام"
بين الحيز واليات السرد
قراءة في مجموعة د / حسين علي محمد
بقلم / محمو د الديدامونى
نحن أمام قاص متمرس ومتجدد وذو شخصية ، وأمام مجموعة قصصية دسمة ،ذلك الرسم الفني الذي لا يصدر إلا عن كاتب واع استطاع بمفردات حياتية أن يشكل عملا على قدر كبير من الاتصال لا كما يظن البعض من أن المجموعة عبارة عن مجموعة من القصص المنفصلة ، المجموعة منفصلة فى شكلها متصلة فى مضمونها وهذا ما يمكن أن نسميه بالحلقة القصصية .
فى الواقع لقد استمتعت كثيرا بهذه المجموعة (مجنون أحلام ) "1" ووجدت من الضروري الكتابة عنها والإشادة بها ومحاولة التعبير عن رؤية تجاهها . حيث وجدت خيطا رفيعا ..ربما يكون غير مقصود ، لكنه ظهر جليا عندما أمسكت بورقة وأخذت أدون ملاحظاتي .. تمثل هذا الخيط فى عدة نقاط
1-إشكالية الحيز
2- مستويات اللغة وآليات السرد
3 – القصص القصيرة جدا
أولا : إشكالية الحيز. إن القصة القصيرة لا يستقيم بناؤها إلا بتحقق طرفى الزمان والمكان ، وخاصة إذا ما كان النص واقعيا على وجه التحديد كما بين أيدينا فى مجموعة (مجنون أحلام ) . كما وأن رسم الشخصيات لا يكتمل ولا تتحدد معالمها بدون إطار يضمها "2" ولست أعنى بالمكان هنا الإطار الضيق له حيث تعدى الكاتب هذا المكان , ليشغل حيزا أكبر منه وهو ما يمكن أن نطلق عليه "الحيز " حيث يتصرف استعمال الحيز إلى النتوء والوزن والثقل ، والحجم ،والشكل ..على حين المكان لا يتعد حدوده الجغرافية .ولعل ما جعلنا نؤكد على إشكالية الحيز، تأكيد الكاتب عليها أيضا حيث لا يمكن ورود الحيز منفصلا عن الوصف وحتى وإن سلمنا بوروده خاليا من هذا الوصف فإنه .. حينئذ ، يكون عاريا..
فالوصف هو الذي يمكن للحيز فى التبنك والتبووء، فيتخذ مكانة إمتيازية من بين المشكلات السردية الأخر مثل اللغة ، والشخصية ، والزمان ..."3"
ولعل قصة "مجنون أحلام " يحدث فيها الامتزاج بين الوصف والمكان (صالوننا ) طائر فى البراري . سائقه معصوب الرأس ، مفتونا بغناء جميل، يتصاعد من إذاعة صنعاء .
فهنا نجد امتزاجا جميلا بينهما ويزداد الأمر حيوية عندما تحدث حركة أخرى داخل المكان ولكنها هنا حركة الشفتين ليتسع الحيز ..
ولعل ما دفع للتركيز على هذه المنطقة ذلك الإصرار لدى الكاتب على الإمساك به . حيث يبدو أن الحيز وليس المكان هو ما شغله فجاء فى أغلب من قصة" مجنون أحلام " في " السيارة " " صالوننا " كما جاء فضاء قصة "برق فى خريف "بالقطار ، كما أن قصة " اصطياد الوهم " جاء بالمقهى ...وقصة " اللهم أخزك يا شيطان " بالحديقة ، وقصة " شرخ آخر فى المرآة " كان أمام المرآة ، وقصة " أحزان نادية " أمام بائع الجرائد ،وقصة " الحافلة التى لم أحلم بها " بالأتوبيس وقصة " رحلة أخرى " بالملهى " 4 "
• المكان عابر عند الكاتب لكنه له دلالته التى يجب الوقوف عندها ، وليس هناك من شك فى أن الكاتب ناقد مبدع فى المقام الأول ،لديه الوعى بما يكتب - كما يجب التنويه أنه ليس كل ناقد مبدعا وكذلك العكس – الكاتب هنا لم يعمد إلى حيز مباشر ، وإنما الحيز وإنما الحيز عنده يتحدد من خلال دلالا ت لغوية غير تقليدية ، غير المكان تحديدا ، كالجبل والطريق والبحار ، وإنما كألفاظ دالة "كخرج ، سافر، دخل ،أبحر ،.....الخ.
• وهو فى ذلك ينتهج بما يمكن أن نسميه "المظهر الخلفى للحيز "...كما أسماه ( جيرار جينات ).....فالحيز يولد حيزا آخر مثله أو أكبر منه "5 "
• الكاتب فى مجموعته زاوج بين الأمرين وخلق معادلة بينهما فى إطار ممتع وشيق .
ففى قصة " تلك الليلة "فلنقرأ سويا الفقرة الأولى :الزعماء يغيرون الجغرافيا ،نلاحظ أن هناك حالة شد وجذب داخل الزمان والمكان على حد سواء. (هربت من السجن , حينما عبرت النفق الذى يمتد 14 مترا تحت الأسوار ..تخيلت صديقي الناصري صبري عبده , حينما يصحو ويكتشف هروبى , فيصرخ فى أقرب جار له فى السجن سيجيئون به من تحت الأرض ..ويعذبونه أتخيله يلحق بى ويصرخ : لماذا هربت من السجن؟
ويحاول أن يشدنى ليرجعنى إلى السجن .. لكنى على كل حال تركت الأسوار ورائى .. فلماذا أشغل نفسى به ؟ ) وهكذا يرسم الكاتب - من خلال المشهد السابق – الحيز النفسى والمكانى للشخصية , فى حالة من السرد الممتع .
ومن الجدير بالذكر الإشارة والإشادة أيضا بتأثر الحيز الذى عناه الكاتب بالزمان وحالة الحنين العاطفى المتعلق بالشخصية البطلة لدى الكاتب . كما فى قصص "شرخ آخر فى المرآة ، اللهم أخزك يا شيطان"
ففى القصة الأولى تلك التجاعيد <مكان > بفعل < الزمان > على وجه <الشخصية > كان لذلك مخرجاته <النفسية > . وفى القصة الثانية : الحديقة كفضاء < مكانى > مغر والغربة كفضاء < زمانى > أثر بالطبع على الشخصية ب< الحرمان > . والقصص مليئة بهذه القدرة الفائقة على مزج الأدوات بعضها مع بعض فيمكن أن نخرج من سطر واحد جماليات مكانية وزمنية ولغوية مؤثرة فى رسم الشخصية وفى إدارة حركة القصة عند القاص.
وهناك قصتان تدللان بقوة على تجريد الحيز عند الكاتب حيث ينتقل البطل من الحيز المكانى الضيق إلى الحيز الأشمل والأوسع . وهما "رحلة أخرى " و " ومضة الرحيل " ففى الأولى .. تنتقل صابرين من الملهى ،وتمسخ أصباغها بالمنشفة كأن الكاتب يريد أن ينهى علاقتها بكل ما يتعلق بالمكان من زيف .. ثم تغسل وجهها .. لتبدأ رحلة التطهر ...
(كانت مشغولة عنهم بما تراه رأى العين ،فاختها عبلة تفتح أحضانها الطاهرة لاستقبالها ، ووجه أبيها المبتسم يملأ المكان ..والجنة ..الجنة الحقيقية تناديها ) . "6 "
وهنا تتضح الرؤية بالمقارنة بين الجنتين <أحداهما مزيفة لكنها بالطبع ليست الأخيرة .
أما فى ومضة الرحيل يقول : (أشار الراعى بذراعه ،فانطلق الأطفال .. الذين لم يخطئوا أبدا .يقذفونهما بقطع الحجارة الصغيرة ،كان المشهد بعد صلاة المغرب ، ولكن الأفق لم يظلم – جملة اعتراضية هنا ، ما أروع الكاتب هنا " لكن الأفق لم يظلم " كانا يريان شموسا صغيرة تجتهد أن تضيء ..وكان زورق هند وفريد الهادر بالخطيئة .. بعد قلق ثلاثة أشهر وعواصف 14 يوما وضياع 9 ساعات وجحيم 45 دقيقة ... يرسو أخيرا بعد حكم القاضى .. على شطآن السكينة .. والإيمان . والموت الطاهر الذى يعنى الحياة ، وأومض السيف فرأيا عصافير صغيرة تحط فوق رأسيهما ..وسمعا صوت أناشيد بعيدة ترحب بالملكين الطاهرين . ) "7 "
هذه هى شاعرية الكتابة وعذوبة الكاتب ومهارته فى اصطياد المكان والزمان وعناقهما بالشخصيات فى إطار لغوى متدفق ومتوهج .
ثانيا :مستويات اللغة وآليات السرد :
تتعدد مستويات اللغة عند الكاتب رغم فصاحتها إلا أن اللغة عنده أداة معبرة عن واقع اجتماعى وسياسى معين ،وفى نفس الآن تظهر البيئة من خلاله ظهورا طاغيا ، بعبارات فصيحة ـ عامية ...لاتختص إلا ببلدان معينة فى محيط وطننا العربى ..
فاللغة والأسلوب كما يقول ( رولان بارت ) من المعطيات المفروضة على المؤلف والتى لاقدرة له على تبديلها ،فاللغة موضوع اجتماعى بالإصطلاح لا بالإختيار . إنها مادة يستخدمها الكاتب للتعبير فى زمن معين وفى سياق محدد ،خلافا للإسلوب الذى له بعد فردى فى الأساس يتعلق بتاريخ الكاتب الشخصى . "8 "
وهذا ما جعلنا نقول سلفا أن المجموعة القصصية عبارة عن حلقة قصصية يغلب عليها طابع السيرة الذاتية إن جاز القول .
ففى قصة ( مجنون أحلام ) نجد مستويين للغة أولهما : عندما كان الحوار مع السائق : (سائق الصالون يسألنى : أنا كنت أقول أنها ستعجبك [فصيحة بلهجة عامية ] .
وثانيهما : عندما دار الحوار بين الطالب والأستاذ : ( قال الطالب متسائلا : مع من كنت تمشى وتتحدث يا شيخ وأنت عائد من بيت الأستاذ محمد الأهدل مساء أمس ؟
ـ لم أجب
أضاف كنت عائدا من بنى محمد فرأيتكما أمامى فى الطريق )
وهكذا يستمر الحوار مدللا على المستوى الثقافى والجتماعى لحوار متعلمين. تعددية استعمال الضمائر فى السرد :
وهى الآلية التى استخدمها الكاتب للتعبير عن مقصده .
فى البدء أود القول أن الكاتب له قدرة فائقة على السرد الشفاهى فلا تشعر معه بضجر أو قلق فهو دون مجاملة عذب الحديث ، رقيق المشاعر ،انعكس ذلك أيضا على كتاباته متنقلا بين الضمائر المختلفة برشاقة ما بين الأنا والأنت والهو ، مازجا بينهم فى كثير من الأحيان والحق أنه استطاع أن يحدث تداخلا اجرائيا مع الزمن ،من وجهة ومع الخطاب السردى من وجهة ثانية ، ومع الشخصية وبنائها وحركتها من وجهة فصل احدهما عن الاخر امر شديد الصعوبة ولعل الامر يدفعنا الي الحديث عن الزمن وكذلك الشخصية . والذي لايتسع الوقت لادراكها خلال هذه القراءة البسيطة والتي اتمنى ان يفرد فيما بعد لهذين البعدين اللامعين بين طيات هذه المجموعة الثرية بفنيا تها ومعطياتها .ففي قصة "برق في خريف " يلمع ضمير القائد الذى يعتبر سيد الضمائر السردية واكثرها تداولا وايسرها استقبالا وادناها الي الفهم لدى القراء استطاع الكاتب ان ينثر لنا ليمرر لنا لحظة من لحظات العمر القارفة دون ان يتدخل في حركة الحدث او اتجاهات الشخصية .وبهذاالضمير كتب قصص " اصطياد الوهم ،اللهم اخزيك يا شيطان ،شرخ اخرفي المراة،اخر ان نادية ،رحلة اخرى ....وغيرها.
ضمير الأنا : ان الأنا معادل ،من بعض الوجوه ،لتعرية النفس ولكشف النوايا امام القارئ مما يجعله بها اشد تعلقا وإليها أبعد تشوقا "9 ".
حيث من خلال هذا الضمير يستطيع الكاتب إزالة الفوارق الزمنية والسردية بين السارد والشخصية ، والزمن جميعا . فربما يصبح السارد نفسه الشخصية المحورية للقصة ، ظهر ذلك جليا فى قصص (مجنون أحلام ، وسره الباتع ، وعكرمة يرفع السلاح ، والحافلة التى أحلم بها، و فى المدى قنديل يضىء . ...وغيرها) .
هذا ولم يبزغ بالمجموعة طيف ضمير المخاطب الذى يعتبره بعض النقاد ضميرا وسطيا بين ضميرى الغائب والمتكلم .. فإذن هو لا يحيل على خارج قطعا .. ولا هو يحيل على داخل حتما ،لكنه يقع بين بين ... يتنازعه الغياب المجسد فى ضمير الغياب ويتجاذبه الحضور الشهودى الماثل فى ضمير المتكلم (10).
شاعرية اللغة وتعدى النص :
بصفته شاعرا أمتعنا الكاتب بشاعريته ومستفيدا من عوالم الأدب الأخرى دافعا بشعره أو لنصوص شعراء آخرين . بما يخدم النص الأدبى .
رغم صعوبة ذلك فى القصة القصيرة ، حيث يمكن ذلك فى الرواية ،أقصد تعدى النص . الأمر هنا يحتاج إلى قدرة ومهارة .
ففى قصة ( مجنون أحلام ) :
يا ريِِِم وادى ثقيف لطيف جسمك لطيف ما شفت أنا لك وصيف فى الناس شكلك ظريف وفى قصة (برق فى خريف ) نجد مقطعا من قصيدة للشاعر / محمد الجيار وفى قصة ( عكرمة ..يرفع السلاح ) يقول : أيها المستجير من الرمضاء بالنار لا تترك السيف /لا تخلع الدرع / أنت فى قيامتك الكبرى /رايتك مرفوعة للريح والغريب مدجج بالخراب.
وهكذا يستمر الكاتب فى مزج الشعربالسرد معبرا عن قضية قومية كبرى وكأنه عنى ذلك تماما ليدلل على أن الدفاع عن الحرية والهوية والحق ، بكل آلية تمتلكها اللغة العربية متمازجة بعضها مع بعض الشعر والسرد على حد سواء .
ولست هنا بصدد حركة الأفكار والمقاصد ن فقد يجد قارىء آخر الفرصة لمعرفة المقصد من وراء النص .
لقد عنيت هنا بمجموعة من آليات النقد التى استغرقتنى المجموعة للخوض فيها أما شا عرية النص فتجلت فى قصة (ومضة الرحيل ) وكذلك قصة ( بيت خالتى ) حين يقول : أعبر أصص الزهر مصحوبة بكواكب معتمة فى الأفق أمشى نحو بساتين خضزاء معلقة على الحائط ..
فى لوحة فاتنة ..
كذلك أقصوصة ( الباذنجانة الصغيرة ) . ثالثا : القصص القصيرة جدا :
قناعة الكاتب بهذا الفن هى التى تدفعنا للولوج معه إلى هذا العالم من خلال دراسة أعدها عن القصة القصيرة جدا .
وهذه القصص القصيرة جدا ثرية عنده ذات دلالات وقراءات متعددة أى أنه ذات مستويات قرائية عدة إرجع إلى المجموعة ( مجنون أحلام )
الهوامش
1ـ مجنون احلام مجموعة قصصية د / حسين على محمد
2ـ المكان فى القصص وظيفيا مقال نقدى بمؤتمر دمياط إبراهيم جادالله .
3- فى نظرية الرواية د / عبد الملك مرتاض عالم المعرفة
4ـ المجموعة
5ـ فى نظرية الرواية سابق ذكره
6ـ المجموعة
7 ـ السابق
8 ـ قضايا أدبية عامة ـ آفاق جديدة فى نظرية الأدب تأليف إيمانويل فريس وبرنار موراليس ـ ترجمة د / لطيف زيتونى ـ عالم المعرفة
9 ـ السابق
10 ـ القصة القصيرة جدا قراءة فى التشكيل والرؤية ـ دراسة بمؤتمر ٍديرب نجم الأدبى ـ د . حسين على محمد
(2) فتحى سلامة ..
مع الذين أحبهم والذين أحبوه
بقلم / بهي الدين عوض
تمهيد :
ولد الأدب من رحم الأرض منذ أن وجد الإنسان عليها وتحرك مع ثورة الحياة فى هذا الكون , وقد صاغ هذه الحياة وجسد كل ما فيها , واستشر ق ملامحها وسماتها . والأديب الذى أنعم الله عليه بنعمة القلم أتاه هذا القلم مصبوبا من ذاته , أحباره هى فيض من دمه ودموعه وعرقه وعصارة قلبه وزناد فكره . من هنا أدرك الأديب أنه قد عرف رسالته ولما أدركها كان عليه أن يبدأ رحلته مع الشمس فى شروقها حال أن تمتص من البحار رحيق الفيض فيصير الفيض بوحا يسرى على الأوراق بما حوى : أفراحه وأحلامه وآلامه وأوجاعه وكل من رآهم ببصره واستلهم ما فيهم ببصيرتهم وحسه ووجدانه وكل ما فى كونه وكون الآخرين لهذا كان الأدب هو الحياة بأسرها .
وإذا كان هذا هو رأيي كمبدع يكتب الأدب ، فهناك أيضاً كبار النقاد والأدباء الذين يقولون فى الأدب أقوالاً كثيرة وبمنهجية مدروسة وأسس قننتها أقلامهم ومدارسهم المتعددة . يقول الدكتور لويس عوض / إن الأعمال الجادة فى الفن الإنسانى لا تكتفي بمخاطبة الإنسان على مستوى واحد هو الحياة الواقعية الفردية فقط وإنما هناك ثلاث مستويات أخرى : هى الحرف الذى يخاطب الحواس ، والمعنى الذى يخاطب العقل ، والمغزى الذى يخاطب ما فى الإنسان من روحانية تتصل بجوهر الوجود متخطية حواجز الحواس والإدراك العقلى . (1) بينما يرى عباس العقاد : " أن الأديب هو صورة من نفس صاحبه وتاريخ حياته الروحية فعلى الأديب أن يستخرج صورته النفسية من هذا الأدب أما الدكتور محمد مندور فيخالف هذا الرأى فالأدب عنده شيء قائم بذاته ، له منهجه الخاص والأدب فن جميل ووعاء لقيم إنسانية واجتماعية إنه أدب الالتزام والدكتور ذكى نجيب يدعو إلى الأدب الهادف والفن القائد لأن الأديب هو الذى يقدر مسئوليته إزاء قضايا الإنسان وقضايا المجتمع (2) .
أما الأنواع الأدبية من وجهة نظر الدكتورة سيزا قاسم فتتطور عبر العصور مع احتفاظها فى نفس الوقت بسمات ثابتة فهناك الثوابت والمتغيرات فالثوابت يجب على الباحث أن يلفت إليها أما المتغيرات فتخضع للظروف الزمانية والمكانية (3) ويرى الدكتور صابر عبد الدايم بعالمية الأدب "فالأدب له مساحته العالمية من نظرة التأثر والتأثير المتبادل بين الأدباء وهذا دليل على النشاط والحيوية والابتكار والنضج إذ أن الأدب يفتح الطريق أمام الشعوب لمناقشة التجارب الجديدة برؤية متطورة تصدر عن فكر واع ورائد"(4)
أولا : السمات التى تنفرد بها المجموعة القصصية "هؤلاء علمونى الحب" للكاتب الكبير :فتحى سلامة
رأينا أن نبدأ بهذا التمهيد لندخل به إلى عالم فتحى سلامة الإبداعي الأكثر رحابة . فهو الكاتب الكبير والأديب المبدع والصحفى المتألق إنه موسوعى فى مؤلفاته له : ثلاث عشرة رواية , ثمان مجموعات قصصية ، وثمان مسرحيات , وسبعة عشر مؤلفا دراسيا . هذا بالإضافة إلى أنشطته المتواصلة فى أروقة الثقافة والإذاعة والتلفاز . إذن نحن أمام هامة عملاقة . وعندما قرأنا مجموعته القصصية "وهؤلاء علمونى الحب" بينت لنا هذه الحقيقة لأن المجموعة تشى بذلك أما المميزات التى تنفرد بها هذه المجموعة فنوجزها تجريديا دون الدخول فى التفاصيل وهى على النحو التالى :
أ- جسد الكاتب الكبير فى هذه المجموعة قضايا العالم المعاصر محليا وقوميا وعالميا برؤية ثاقبة كاشفة وبأسلوب شيق رشيق سهل ممتنع وفى إيقاع درامى يتوائم مع إيقاع هذا العالم الغريب المدهش الذى يموج بالمفاجآت والمتناقضات والمفارقات بعد أن اختل ميزان الحق وغيبت الحقيقة وتاهت مسارات خطاها .
ب- صاغ هذه المجموعة بآليات متعددة . منها :
تناول الحدث الدرامى فى إطار تشكيلى فنى مفصلا لجزئيات الحدث . ومنها تناول الحدث فى مضمون تجريدى يهتم بالكليات دون التوقف عند الجزئيات (5).
جـ- يهتم الكاتب المبدع بالكلمة الأولى فى النص فهى المفتاح السرى وبها ينطلق إما فى انسياب رشيق هادئ يتوازى مع الموقف الدرامى وإما فى صخب يموج بالحركة ليتوازى مع طبيعة الحال الذى هو عليه .
د- للأديب المبدع قدرة فائقة فى صياغة عنصر التشويق , فهو يشد القارئ شدا إلى مسارات الحدث حتى يوصله إلى لحظة التنوير .
هـ- نهايات قصصية فى معظمها يغلب عليها عنصر المفارقة أى النهايات غير المتوقعة . وذلك يتم عن عبقرية القلم الذى يكتب .
و- يأخذ المتلقى إلى التفكير فيما يكتب وذلك منذ الوهلة الأولى للعمل وحتى نهايتة فهناك براعة فى طرح القضايا ومناقشاتها مع القارئ المتلقى .
ثانيا : الطرح الابداعى الذى طرحته هذه المجموعة :
صدرت هذه المجموعة عن دار الإسلام للطباعة والنشر وتقع فى سبع عشرة قصة قصيرة , وكما وضحنا من قبل بأن هذه المجموعة كانت مرآة عاكسة صادقة لقضايا عالمنا المعاصر وكل ما فيها يخاطب ضمير إنسان هذا اليوم . وهذا يعكس ما قاله المفكر الفرنسى الكبير جارودى : إن الفن عبارة عن خلق إبداعى يتجلى فيه الواقع من خلال الوجود الإنسانى الذى يجعله لا ينفصل عن عالمنا الواقعى بل يكون معه وحدة واحدة لأن الواقع يشمل ما يكون عليه إنسان اليوم وما سيكون عليه إنسان المستقبل (6) .
وهذا الأمر يدعونا أن نصنف هذه المجموعة لنتعرف على ما طرحته من أطر إبداعية ويمكن أن نجملها فى ثلاث محاور وهى : البعد الإنسانى , وقصص لها إسقاطات وإشارات دالة وموحية , والثالثة : المجموعة التى يتناول فيها المؤلف هموم الناس وقضاياهم .
أ )البعد الإنسانى فى هذه المجموعة :
من القصص التى تميزت ببعدها الإنسانى الدافئ وخصوصيتها المصربة الصادقة قصته : "هؤلاء علمونى الحب" التى سميت بها المجموعة (صـ4 : 21) وهذه القصة عبارة عن ثلاث لوحات تشكيلية رسمها فنان بارع بالفرشاة والقلم :
اللوحة الأولى عن هذا الجد الذى يجمع أطفاله فى ليالى الشتاء ويحكى لهم حكايات الزمان المصرى ثم الجدة التى لا تكون ذلك وإنما هى تأمر وعلى الأحفاد أن ينفذوا التعليمات فيرفض الأطفال ولكن الجد الذى يعرف كيف يحاور أحفاده أستطاع بالحجة والمناقشة أن يقنعهم بما قالته جدتهم بمعنى أن الإنسان ما يتعلمه فى الصغر يشب عليه فى الكبر.
اللوحة الثانية عن شخلول المجذوب فى قريته وهى شخصية مصرية يعرفها أهل الريف , وهذا المجذوب تعود أن يعطى لأطفال قريته قطع الحلوى وحبات النعناع ولكن الأطفال يقابلون ذلك بقذفه بالحجارة . فيضيق زرعا، فيذهب إلى سلواه وراحة نفسه إلى النهر وقططه ويرسم المؤلف صورة إنسانية رائعة لشخلول وهو يمسك بقط صغير يطعمه فتات الخبز من فمه والقط يلعق شفتى شخلول بتلذذ حتى يشبع ثم يأتى زغلول بالقط الآخر واللوحة الثالثة عن المرأة أو الزوجة المصرية الصادقة المخلصة التى تحب وتخزن مخزون حبها فى أعماقها والزوج الذى لم يفطن لذلك فانحرف وظن أن امرأته لا تعلم وينتهى الموقف بدلالة عظيمة بأن امرأته سكتت لتعلمه كيف يكون السكوت القاتل . وتنتهى هذه المقاطع الثلاث بالنهايات الفارقة غير المتوقعة .
والقصة الثانية من هذه المجموعة : "أودعكم وأنا أبتسم " (صـ36 : 41) وهذه القصة هى حالة من البوح الجميل ورغم ما فى هذا البوح من عذاب وشجن فالبطل يغوص بفكرة فى أعماق ذاته فى منولوج إنسانى رائع يناقش ويحاور قضيته رغم ما فى ذلك من مفارقات عديدة هى الظاهر والباطن بل هى أوجاع ومأساة الإنسان المعاصر ومن هذه المجموعة أيضا قصته : "عين السمكة" (صـ60-65) هى عن الجدة التى مات زوجها وهى مازالت رغم السنين الطوال مختزنة حبها فى ذاتها تبوح به فى تشكيلات عديدة لأطفالها ولنفسها . إنه الوفاء وإنه الإخلاص وإنه أيضاً الحاضر الذى يعانق الماضى بالاثنين يكون المستقبل إنها منظومة تتلاحم مع بعضها البعض فى بعد إنسانى وقصة " الخروج من الدائرة " ( صـ106 -111 ) هى تشكيل درامى فنى وحوارى فى لوحات ولكل لوحة نسيجها وشكلها ومضمونها واللوحات كلها تتسق وتترابط مع بعضها البعض فى جو إنسانى مفعم بالمشاعر والأحاسيس وتنتهى لحظة التنوير بأنه ما سبعد الضيق إلا الفرج وما بعد العسر إلا اليسر .
ب ) قصص لها إسقاطات وإشارات دالة وموحية :
يقول الناقد الأدبى فؤاد دوارة : " القاص ليس متفرجاً يقدم للناس كل ما يراه وإنما هو فنان يختار من المواقف ومن الشخصيات ما يصور لنا موقفه من الحياة وليس معنى ذلك أن يتدخل بصورة تقريرية مباشرة وإنما عليه أن يكشف لنا الموقف عن طريق الإيحاءات والإشارات الفنية واللمسة المضيئة على ما صنع كبار كتاب القصة (7) والكاتب المبدع بين لنا فى هذه المجموعة ما يفيد هذا المعنى وقصته " اللافتة " (صـ11 -15 ) تتحدث عن رجل يبحث عن لافتته التى ضاعت منه فراح يبحث عنها فى أماكن كثيرة مستخدماً فى ذلك إيحاءاته وإشاراته والقصة فى معناها تبحث عن الذات وعن الجذورعن الهوية التى افتقدناها أو عن الإنسان الذى فقد ذاته وأصبحت حياته لامعنى لها . وتشى قصة : ثلاثة رؤوس من صـ17-27 تشى بدلالات خطيرة إنها تتكلم عن البترول السلعة الاستراتيجية التى صنعت من العرب وذلك من خلال شخصية المواردى صاحب محطة البنزين التى كانت تدر عليه أموالاً طائلة فوقع فى شباك امرأة جميلة لها كلب غريب لصيق بها وقدرته بربع مليون دولار ومن يجده عليه أن يأخذ المبلغ وأتاه آخرون يبحثون عن ذات الكلب وقدروه بالمبالغ فترك محطته وزبائنه ومحطة بتروله وصار يعانى المرض والعجز وهكذا تضيع ثروات العرب .
وتقترب قصته "فلوس العجمى " من صـ99-104 فى إيحاءاتها وإشاراتها من قصة قارون موسى فى القرآن الكريم وهى التى تبدأ : بأن يقول ثرى العجمى للناس :لو وضعت فلوسى فوق بعضها البعض لصعدت إلى القمر . ثم كانت النهاية أن ضاعت أمواله ومرض وارتجف ومات وكانت حكايته عبرة إنها فتنة المال من الأزل وفى ذلك يقول الله تعالى : إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما أن مفاتيحه لتنوء بالعصبة أولى القوة : إذ قال له قومه لاتفرح إن الله لا يحب الفرحين ... آية 76 " قال إنما أوتيته على علم عندى " آية 77 فخسفنا به وبداره الأرض وما كان من المنتصرين آية 81 من سورة القصص (8) ويقول الإمام ابن كثير فى قصص الأنبياء : إن قارون كان من قوم موسى وكثرت كنوزه وعظمت حتى أن مفاتيحه لا يستطيع على حملها الرجال الأشداء فبغى الرجل وتجبر فخسف الله به وبماله الأرض (9) .
ج ) قصص تتناول هموم الناس وقضاياهم :
يرى الناقد الأدبى فؤاد دوارة أن المضمون الاجتماعى ينبغى أن يذوب فى المضمون الاجتماعى ذوبانا كاملا دون عرضه بصورة تقريرية(10) والقصص التى تعرضت لمثل هذه القضايا فى هذه المجموعة أنسابت إنسيابا هادئا وكأنها فى صلب الحدث ذاته . وذلك مثل قصته "لماذا لا يتكلم الرجل الآخر" صـ28 – 33 فهى تتكلم عن المتهم البرئ والبرئ المتهم فقط كلمة الجلاد هى الصواب بغض النظر عن أى شئ . أما قصته "حكاية امرأة الجيران" تتناول المرأة التى فقدت وجودها الأدمى كإنسانة لها حقوقها وكلما توالى الزمن كلما اشتدت محنتها وذلك من خلال سياق سردى معبر ومفردات لفظية مجسدة للمحنة مثل : امرأة , رجل عجوز , رجل ثرى , رجل أشيب , رجل أصلع وكلها تجسد حجم المحنة وذروة مأساتها . وتصور قصة "نوى المشمش" صـ 68 – 75 موقفا حادا بين زوجة وزوج أو بين المرأة والرجل فى السياق العام ويبدأ الصدام بالتصرفات البسيطة اليسيرة ثم تتلاحق الأحداث مع توالد الموقف بالغضب ثم يتصاعد الموقف بعد أن يفرغ كل من الآخر ما فى داخله من تراكمات ثم إلى قمة المأساة وهى تنعكس على المرأة التى ترى أنها قد فقدت وجودها وذاتيتها . وبعد أن ضاعت مفردات ورموز بيتها الذى هو سر وجودها فهو مملكتها الخاصة وقد وظفت إشارات لهذا الصراع ممثلة فى مفردات البيت المنزلية التى لها دلالات خاصة ،الطبق الوردى والفازة , والستارة ذات المقابض المعدنية وعندما تتمزق الستارة وتضيع مقابضها المعدنية وينكشف داخل المنزل على خارجه ويدخل خارجه إلى الداخل تكون قمة الصراع ونهايته المدوية أى أن الباطن قد كشف ظاهره وظاهره قد توارى أمام باطنه . ونقف كثيرا أمام قصته "كان" صـ 78 – 80 إنه الماضى إنه العبق الجميل والسحر الأخاذ المسكون فى كل نفس بشرية مهما كان فيه من جراح لأنه الجذور الممتدة فى عمر الزمن . وقصة "عندما يصبح الحلم أملا" صـ 92 – 93 إنها الحياة ويكفى أن يعيش الإنسان متطلعا إلى أمال وأحلام وحتى وإن لم يتحقق لأن الأمل هو وقود المستقبل وهو الذى يحرك الإنسان بزاد معنوى ليعطى الإنسان قوة الدفع إلى الأمام
إستمتعنا وتجولنا فى عالم فتحى سلامة الإبداعي السحرى .
الهوامش :
1- د / لويس عوض : الثورة والأدب – دار الكاتب العربى للنشر 1967 .
2- جلال العشرى : ثقافتنا بين الأصالة والمعاصرة .
3- د . سيزا قاسم : بناء الرواية – مكتبة الأسرة – 2004 .
4- د . صابر عبد الدام : الأدب المقارن بين التراث والمعاصرة – المتحدون للطباعة – 2003 .
5- هؤلاء علمونى الحب : م . قصصية فتحى سلامة , دار الإسلام للطباعة والنشر – 2006 .
6- عبد الرحمن أبو عوف : البحث عن طريق جديد للقصة القصيرة .
7- فؤاد دوارة : فى القصة القصيرة – سلسلة ألف كتاب .
8- القرآن الكريم .
9- الإمام ابن كثير : قصص الأنبياء .
10- فؤاد دوارة : فى القصة القصيرة .