سمير الفيل
20-03-2007, 11:05 PM
أسماء أخت مهجت
قصة : سمير الفيل
حارتنا لا عمل لها سوى سيرة الناس . فبعد أن ينطلق الرجال نحو أعمالهم تفتح الشبابيك وتتثاءب البلكونات ، وتخرج النسوة الألحفة والبطانيات والوسائد للتشميس . بعد عبارة "صباح الخير " تنطلق الأحاديث التي عادة ما تبدأ من صوت سـُـمع في الليل أو همسة تسربت من بين الشيش الموارب أو صرخة مكتومة مبهمة تسللت من بين الحوائط المشروخة ، ومن الحبة تصنع النسوة قبة ، وتحت القبة شيخ عليم ببواطن الأمور .
كانت تمام السادسة مساء والنور يتقلص كعادته في هذا الوقت من العام حين صعدت أسماء إلى بيتها فلم تجد يوسف كما أخبرها في الصباح . ولم يكن لديها وقت كي تبحث عن سبب غياب زوجها . سألت ياسمين ابنتها الكبرى المدللة فأخبرتها أن التليفون رن ، وهو لم يتأخر في إنهاء المكالمة والخروج من البيت بسرعة الصاروخ. سألتها الأم عن ملابسات الخروج ؛ فعلمت أنه قد تزين على سنجة عشرة ووضع عطرا لا يستخدمه عادة إلا في المناسبات السعيدة . الحقيقة أن الفأر لعب في عبها وبصعوبة خلعت ملابسها ، وقررت ألا تعود لمسألة العمل الإضافي الذي أنهكها تماما . صحيح أن قرشين فوق الراتب يوسعان المعيشة ، لكن هذا يأتي على حساب صحتها ، ويعطي وقتا طويلا للرجل كي يلعب بذيله.
للرجال عادة ذيول في أذهان النسوة اللائي يتشممن ملابس الأزواج ، ويبحثن عن كل سأمة ونأمة في تحركاتهم المريبة ، فما بالك ويوسف بالذات فيه عرق دساس يميل للنساء ويجعله يطيل معهن الكلام ، وفي الكلام غواية وبداية كل معنى ، ومع المعاني تتفتق المشاعر من كل لون وجنس.
تدعو أسماء أن تسبق رحمة ربنا غضبه وهو يرى البشر يخبون في خطاياهم . من الثلاجة أخرجت الطعام البائت وسخنته . أكلت مع ياسمين وصغيرها إبراهيم ، وتمددت كي تنال شيئا من الراحة .
في العاشرة سمعت الباب يطرق خلف زوجها دلف إلى حجرة السفرة ثم ما لبث أن أخرج منديلا مسح به آثاما خفية رأتها في النور الغافي الذي سقط على جسده الذي تعرف أبعاده . شعرت أنه قد قصر شبرين وداهمها خاطر غريب أنه قد عاد من إحدى غزواته النسائية فقد دخل إلى الحمام على الفور ، وأخذ فوطة الاستحمام معه ، وهذا الفعل زاد الموقف غموضا على توتر .
المسألة أنهما بعد تسع سنوات من الزواج قد انفصلا تماما .لم يعد يجمعهما سوى نوبة الفراش القاسية التي تشعر بعدها أنها قد أذنبت في حق نفسها ، أما هو فيشعل سيجارتين وينفث دخانهما في فضاء غرفة مغلقة على الأسرار والخبايا ومتاعب السنين .
يتشكل الدخان على هيئة أشباح تراها تروح وتجيء في الغرفة وتصطدم دون عمد بالحوائط الرأسية ، وبعد أن يتسلل الخدر إلى خلاياها تشعر بتلك الأشباح تخرج من الحوائط بطريقة غريبة ، وهنا يطفيء النور ويروح في نوم عميق يقطعه شخير متقطع يسحب روحها حتى سابع أرض ولاتعود إلى الدنيا إلا بعد أن تنتظم أنفاسه وتسمع دقات قلبه تدق دقا رتيبا تعرف فيه أن للكون إلها لا يغفل ولا ينام .
نامت ، ونام ، ونامت الدنيا عن خطايا البشر ، وفي الصباح كان عليها أن تغفر كل ذنوبه المؤجلة . سألته : متى تذهب للقاهرة ؟ أخبرها بأنه سيكون هناك الاثنين القادم لجلب ملفات من الإدارة العامة والعودة في اليوم نفسه ، ورحب بان يمر على مهجت في كلية البنات لو أرادت شقيقتها . ولما علم حموه الأستاذ عامر رئيس قسم الأرشيف الأسبق أرسل معه مالا وطعاما ، وقد غاب طول اليوم ، ولما عاد في الهزيع الأخير من الليل كانت زوجته مستغرقة في النوم فتغطى وراح في سابع نومة.
لا أحد يعرف بما جرى في هذه الزيارة ؛ فهو لم يفتح فمه في اليوم التالي سوى بعبارة وحيدة قالها وهو يرتدي ملابسه في عجالة : الأمانة وصلت.
لم يخبرهم بالطبع أنه انتهى من مشواره الأميري في ساعتين ، وفي تمام العاشرة كان يصحبها في سيارة أجرة ليزور الأهرامات معها فقد رأى أن تشاهد معالم الجيزة قبل أن تنهي سنتها الأخيرة . وفي ظلال الأهرام جلسا يحدقان في تمثال أبي الهول بنظرته الواثقة ، وبعفوية أخرجت منديلها السماوي المطرز وهو مد يده وسحب بطاقتها الجامعية وقرأ تخصصها النادر في اللغة العبرية ، وكان يعرف أنها فضلته عن الإنجليزية الشائعة واليابانية الصعبة ربما لفضول منها ، لكنه كان يدرك أن وراء الاختيار يكمن ذكاء المرابي . امتدت الجلسة ساعة إثر ساعة ومع ارتقاء الأحجار المتراصة حتى علو شاهق أسلمت له يدها . ضغط الضغطة الأولى فانسحب الدم من وجهها ، ومع الضغطة الثانية تضرج وجهها بحمرة مشتعلة ، وفيما كانت الضغطة الثالثة تسري كتيار كهربائي مارق شعرت أن عاطفة غامضة تجتاح روحها فتتشقق نفسها بارتياح غريب.
أسماء أخت مهجت . هذا شيء أساسي ومعروف ، وهي لم تسع لأن يكون بينهما أي شيء ، لكنها الزيارات المتتالية ،والفسح التي تعقبها ، وجلسات هنا وهناك في جو رومانسي حالم أشعرتها أن هناك مساحة للأحلام ، وقد كانت تلوم نفسها لمجرد أن تفكر في تجاوز ما لا يصح ، بل فكرت في الامتناع عن مقابلته ، لكنه كان يحضر بسيارته ويرسل لها من يأتي بها من مدرج المحاضرات أو " كافتيريا " الكلية ، وبيده بطاقته الزرقاء التي تفتح له أبواب كثيرة مغلقة.
لم تكن أسماء دميمة ، ولم يعرف عنها النكد غير أن الحياة بمتاعبها ومتطلبات الأولاد ، وغضب الزوج المتكرر من رائحة البصل في ثياب النوم ، ومنازعات كل يوم على المصروف أخفى الكثير من جمالها ورقتها التي شحبت مع الأيام ، وفي آخر زيارة لها لبيت العائلة وجدت أباها مسمرا أمام التلفزيون وهو يشاهد لقطات مثيرة من شنق رئيس دولة عربية فسألته عما يجري فقال بابتسامة مريرة : لهم الشنق ولنا الخازوق !
ترددت أن تسأله عن تفسير لما سمعت لكنه أغلق التلفزيون وسحب كتابا لابن إياس ، وكلمها عن عهود كان يساق فيها الناس للخازوق ليندس في أماكن حساسة من أجسادهم حتى يمكن للسلطان أن يأمن من دسائس الرعاع ومقالب الطامعين في العرش .
يوسف وسيم بعض الشيء ، لكن ليس لدرجة أن تقطع النسوة أيديهن بالسكاكين كلما دخل أو خرج ، وفي يوم معلوم فكرت أسماء أن تفتش في أوراق زوجها الخباص ربما كان يخفي شيئا يعكر عليها صفو حياتهما في قابل الأيام فوجدت صور " الأهرامات " فأدركت أن وراء الأكمة ما وراءها ، وبعثت ياسمين لتخبر أختها التي كانت في إجازة نصف الفصل الدراسي أنها بحاجة إليها يوم الثلاثاء فسوف تسافر في مهمة خارج البلدة ، وهي تخشى أن تغيب على الأولاد والزوج فيحضر جائعا فيقلب البيت رأسا على عقب . وأن عليها أن تطهو الطعام في هذا اليوم بالذات لأنها لن تحضر من السفر سوى في العاشرة مساء وسوف يكون عليها إن أرادت أن تكمل جميلها أن تغسل ثياب الأسرة وتنشرها . وافقت مهجت وفيما هي تحدثها وجدتها تنظر في مرآة الصالة وتصلح تسريحة شعرها.
يوسف لم يعترض على سفر الزوجة ، ولا هو لامها أن تترك البيت من أجل مهمة يقوم بها الرجال عادة لكنه اعترض على فكرة طهي الدجاج ورأى أن يكون اللحم البتلو ، ومن الأفضل أن يكون القلقاس بدلا من الكوسة هو الخضار المناسب.
تزينت أسماء في الصباح أكثر من كل مرة ، وحملت حقيبة سفرها المعتادة ، وقام يوسف من سابع نومة وودعها بفتور ، ورشف رشفتين من كوب الشاي الذي أعدته على عجل .
في الواحدة ظهرا جاءت مهجت ، وخلعت ملابس الخروج ، وارتدت ثوبا خفيفا وفوقه وضعت فوطة المطبخ. نقت الأرز بعناية ، ومع البصل والزيت وتقطيع القلقاس وتشويح اللحم وتجهيز السفرة قضت يومها .
كانت ياسمين أول من عادت من مدرستها ، وتبعها إبراهيم الذي بدا متبرما من واجب الحساب وصفحات العربي ، وقد قرر أن يقطع الصفحة التي سجلت فيها المعلمة بالقلم الأحمر عنوان الصفحة التي ستكتب 40 مرة ، وجدول الضرب الذي سينسخ 33 مرة ، وسوف يغيب بسبب وجع بطنه الذي تكرر كثيرا في الأيام الأخيرة دون أن يفطن الطبيب للسبب وراء المرض ، فكل ما فعله أن وصف له دواء لقتل الطفيليات في معدته .
عاد يوسف فوجد مهجت مشغولة بتجهيز السفرة ، وسألها أن يعاونها في شيء فبدت ضجرة وهزت رأسها في عدم اهتمام : أبدا . استرح أنت .
خلع البدلة وتمدد في غرفته . أشعل أول سيجارة ، ونظر في ساعته فوجد أن موعد الغذاء فد فات وقته ، وأحس ببطنه تزوم . كانت تبدو في قمة انهماكها ، تئن من عمل تصورته بسيطا. بالطبع تأخرت ، وشاط الأرز ، وامتنعت حبتا القلقاس عن التناغم مع صلصة الطماطم فبدت بنفس صلابتها قبل السلق، ومع حركة الذهاب والإياب بردت الشوربة ، لكن أكبر مشكلة واجهتها كانت كيف تقسم اللحم على زوج أختها والأولاد ، وهل تترك للزوجة الغائبة قطعة واحدة أم اثنتين ؟
جلست على السفرة معهم تضرب أخماسا في أسداس ، ونطت لتلحق اللبن قبل أن يفور ويطف فقد نست أنها وضعته ليغلي قبل أن تجلس ، ولما كان همها أن تبدو ماهرة في شئون البيت فقد أعدت " كيكا " احترق في الفرن وصعد الدخان وهي تتحدث عن مهارة المرأة في إعداد حلوى اليوم.
تسحبت على أطراف أصابعها وأنقذت الصينية من الاسوداد التام .رفعتها بعد أن اطفأت الفرن . لامست أصابعها الدوران الصلب المحترق فغطى أصابعها السناج . عدلت شعرها فتحول وجهها إلى خليط من خيوط سوداء ومساحات رائقة من الحمرة الخفيفة.
جلست في نفس المقعد الذي كانت تجلس عليه أسماء حين كانت تزورها نصف متعبة . شم يوسف رائحة البصل نفاذة نتنبعث من ثيابها ، فقام للحظة وفتح شباك المنور.
في الثالثة رفعت الأطباق وبدت ياسمين قلقة لأن الطعام لم يكن شهيا ، أما إبراهيم فقد وجد سببا إضافيا لعدم الذهاب في الغد إلى المدرسة التي يكرهها ولا يطيق سيرتها.
في الخامسة كانت قد انتهت من غسل الأواني والحلل والأطباق . أحست أن ظهرها قد انقسم . نسيت أن تولع له على الشاي ، وهو أكتفى بإرسال ابراهيم كي يذكرها ، فرفعت صوتها بغضب : هل أنا شغالة عند أبيك ؟
سمعها ، وهي لم تأبه لذلك ، وطرقت الباب أو هو الذي انطرق بقوة ريح آتية من شباك الصالة فقد كانت شبه غاضبة ، ورأته قبلها في لمحة بالفانلة الحمالات فشعرت أنه إنسان آخر غير الذي لاعبها عند سفح الأهرامات.
إغفاءة طالت بعض الشيء ، صحت فلم تجد ليوسف أثرا ، بل وجدت كوب الشاي وعقبين سيجارة مطفئين بأصابع بدت قاسية .
حين عادت أختها في تمام العاشرة طرقت بأصابعها باب الشقة طرقات خفيفة ، وقبل أن تشكرها على حسن صنيعها لمحت شرودا مبهما وإرهاقا يلوح في قسمات وجه شقيقتها . قالت مهجت في شبه اعتذار : سامحيني . نسيت أن أرتب البيت .
تنهدت أسماء بعمق ، وزفرت هواء ثقيلا ، وهي تضع حقيبتها على مقعد في الصالة : سوف أعيد ترتيب كل شيء !
دمياط 21/ 3/2007 .
قصة : سمير الفيل
حارتنا لا عمل لها سوى سيرة الناس . فبعد أن ينطلق الرجال نحو أعمالهم تفتح الشبابيك وتتثاءب البلكونات ، وتخرج النسوة الألحفة والبطانيات والوسائد للتشميس . بعد عبارة "صباح الخير " تنطلق الأحاديث التي عادة ما تبدأ من صوت سـُـمع في الليل أو همسة تسربت من بين الشيش الموارب أو صرخة مكتومة مبهمة تسللت من بين الحوائط المشروخة ، ومن الحبة تصنع النسوة قبة ، وتحت القبة شيخ عليم ببواطن الأمور .
كانت تمام السادسة مساء والنور يتقلص كعادته في هذا الوقت من العام حين صعدت أسماء إلى بيتها فلم تجد يوسف كما أخبرها في الصباح . ولم يكن لديها وقت كي تبحث عن سبب غياب زوجها . سألت ياسمين ابنتها الكبرى المدللة فأخبرتها أن التليفون رن ، وهو لم يتأخر في إنهاء المكالمة والخروج من البيت بسرعة الصاروخ. سألتها الأم عن ملابسات الخروج ؛ فعلمت أنه قد تزين على سنجة عشرة ووضع عطرا لا يستخدمه عادة إلا في المناسبات السعيدة . الحقيقة أن الفأر لعب في عبها وبصعوبة خلعت ملابسها ، وقررت ألا تعود لمسألة العمل الإضافي الذي أنهكها تماما . صحيح أن قرشين فوق الراتب يوسعان المعيشة ، لكن هذا يأتي على حساب صحتها ، ويعطي وقتا طويلا للرجل كي يلعب بذيله.
للرجال عادة ذيول في أذهان النسوة اللائي يتشممن ملابس الأزواج ، ويبحثن عن كل سأمة ونأمة في تحركاتهم المريبة ، فما بالك ويوسف بالذات فيه عرق دساس يميل للنساء ويجعله يطيل معهن الكلام ، وفي الكلام غواية وبداية كل معنى ، ومع المعاني تتفتق المشاعر من كل لون وجنس.
تدعو أسماء أن تسبق رحمة ربنا غضبه وهو يرى البشر يخبون في خطاياهم . من الثلاجة أخرجت الطعام البائت وسخنته . أكلت مع ياسمين وصغيرها إبراهيم ، وتمددت كي تنال شيئا من الراحة .
في العاشرة سمعت الباب يطرق خلف زوجها دلف إلى حجرة السفرة ثم ما لبث أن أخرج منديلا مسح به آثاما خفية رأتها في النور الغافي الذي سقط على جسده الذي تعرف أبعاده . شعرت أنه قد قصر شبرين وداهمها خاطر غريب أنه قد عاد من إحدى غزواته النسائية فقد دخل إلى الحمام على الفور ، وأخذ فوطة الاستحمام معه ، وهذا الفعل زاد الموقف غموضا على توتر .
المسألة أنهما بعد تسع سنوات من الزواج قد انفصلا تماما .لم يعد يجمعهما سوى نوبة الفراش القاسية التي تشعر بعدها أنها قد أذنبت في حق نفسها ، أما هو فيشعل سيجارتين وينفث دخانهما في فضاء غرفة مغلقة على الأسرار والخبايا ومتاعب السنين .
يتشكل الدخان على هيئة أشباح تراها تروح وتجيء في الغرفة وتصطدم دون عمد بالحوائط الرأسية ، وبعد أن يتسلل الخدر إلى خلاياها تشعر بتلك الأشباح تخرج من الحوائط بطريقة غريبة ، وهنا يطفيء النور ويروح في نوم عميق يقطعه شخير متقطع يسحب روحها حتى سابع أرض ولاتعود إلى الدنيا إلا بعد أن تنتظم أنفاسه وتسمع دقات قلبه تدق دقا رتيبا تعرف فيه أن للكون إلها لا يغفل ولا ينام .
نامت ، ونام ، ونامت الدنيا عن خطايا البشر ، وفي الصباح كان عليها أن تغفر كل ذنوبه المؤجلة . سألته : متى تذهب للقاهرة ؟ أخبرها بأنه سيكون هناك الاثنين القادم لجلب ملفات من الإدارة العامة والعودة في اليوم نفسه ، ورحب بان يمر على مهجت في كلية البنات لو أرادت شقيقتها . ولما علم حموه الأستاذ عامر رئيس قسم الأرشيف الأسبق أرسل معه مالا وطعاما ، وقد غاب طول اليوم ، ولما عاد في الهزيع الأخير من الليل كانت زوجته مستغرقة في النوم فتغطى وراح في سابع نومة.
لا أحد يعرف بما جرى في هذه الزيارة ؛ فهو لم يفتح فمه في اليوم التالي سوى بعبارة وحيدة قالها وهو يرتدي ملابسه في عجالة : الأمانة وصلت.
لم يخبرهم بالطبع أنه انتهى من مشواره الأميري في ساعتين ، وفي تمام العاشرة كان يصحبها في سيارة أجرة ليزور الأهرامات معها فقد رأى أن تشاهد معالم الجيزة قبل أن تنهي سنتها الأخيرة . وفي ظلال الأهرام جلسا يحدقان في تمثال أبي الهول بنظرته الواثقة ، وبعفوية أخرجت منديلها السماوي المطرز وهو مد يده وسحب بطاقتها الجامعية وقرأ تخصصها النادر في اللغة العبرية ، وكان يعرف أنها فضلته عن الإنجليزية الشائعة واليابانية الصعبة ربما لفضول منها ، لكنه كان يدرك أن وراء الاختيار يكمن ذكاء المرابي . امتدت الجلسة ساعة إثر ساعة ومع ارتقاء الأحجار المتراصة حتى علو شاهق أسلمت له يدها . ضغط الضغطة الأولى فانسحب الدم من وجهها ، ومع الضغطة الثانية تضرج وجهها بحمرة مشتعلة ، وفيما كانت الضغطة الثالثة تسري كتيار كهربائي مارق شعرت أن عاطفة غامضة تجتاح روحها فتتشقق نفسها بارتياح غريب.
أسماء أخت مهجت . هذا شيء أساسي ومعروف ، وهي لم تسع لأن يكون بينهما أي شيء ، لكنها الزيارات المتتالية ،والفسح التي تعقبها ، وجلسات هنا وهناك في جو رومانسي حالم أشعرتها أن هناك مساحة للأحلام ، وقد كانت تلوم نفسها لمجرد أن تفكر في تجاوز ما لا يصح ، بل فكرت في الامتناع عن مقابلته ، لكنه كان يحضر بسيارته ويرسل لها من يأتي بها من مدرج المحاضرات أو " كافتيريا " الكلية ، وبيده بطاقته الزرقاء التي تفتح له أبواب كثيرة مغلقة.
لم تكن أسماء دميمة ، ولم يعرف عنها النكد غير أن الحياة بمتاعبها ومتطلبات الأولاد ، وغضب الزوج المتكرر من رائحة البصل في ثياب النوم ، ومنازعات كل يوم على المصروف أخفى الكثير من جمالها ورقتها التي شحبت مع الأيام ، وفي آخر زيارة لها لبيت العائلة وجدت أباها مسمرا أمام التلفزيون وهو يشاهد لقطات مثيرة من شنق رئيس دولة عربية فسألته عما يجري فقال بابتسامة مريرة : لهم الشنق ولنا الخازوق !
ترددت أن تسأله عن تفسير لما سمعت لكنه أغلق التلفزيون وسحب كتابا لابن إياس ، وكلمها عن عهود كان يساق فيها الناس للخازوق ليندس في أماكن حساسة من أجسادهم حتى يمكن للسلطان أن يأمن من دسائس الرعاع ومقالب الطامعين في العرش .
يوسف وسيم بعض الشيء ، لكن ليس لدرجة أن تقطع النسوة أيديهن بالسكاكين كلما دخل أو خرج ، وفي يوم معلوم فكرت أسماء أن تفتش في أوراق زوجها الخباص ربما كان يخفي شيئا يعكر عليها صفو حياتهما في قابل الأيام فوجدت صور " الأهرامات " فأدركت أن وراء الأكمة ما وراءها ، وبعثت ياسمين لتخبر أختها التي كانت في إجازة نصف الفصل الدراسي أنها بحاجة إليها يوم الثلاثاء فسوف تسافر في مهمة خارج البلدة ، وهي تخشى أن تغيب على الأولاد والزوج فيحضر جائعا فيقلب البيت رأسا على عقب . وأن عليها أن تطهو الطعام في هذا اليوم بالذات لأنها لن تحضر من السفر سوى في العاشرة مساء وسوف يكون عليها إن أرادت أن تكمل جميلها أن تغسل ثياب الأسرة وتنشرها . وافقت مهجت وفيما هي تحدثها وجدتها تنظر في مرآة الصالة وتصلح تسريحة شعرها.
يوسف لم يعترض على سفر الزوجة ، ولا هو لامها أن تترك البيت من أجل مهمة يقوم بها الرجال عادة لكنه اعترض على فكرة طهي الدجاج ورأى أن يكون اللحم البتلو ، ومن الأفضل أن يكون القلقاس بدلا من الكوسة هو الخضار المناسب.
تزينت أسماء في الصباح أكثر من كل مرة ، وحملت حقيبة سفرها المعتادة ، وقام يوسف من سابع نومة وودعها بفتور ، ورشف رشفتين من كوب الشاي الذي أعدته على عجل .
في الواحدة ظهرا جاءت مهجت ، وخلعت ملابس الخروج ، وارتدت ثوبا خفيفا وفوقه وضعت فوطة المطبخ. نقت الأرز بعناية ، ومع البصل والزيت وتقطيع القلقاس وتشويح اللحم وتجهيز السفرة قضت يومها .
كانت ياسمين أول من عادت من مدرستها ، وتبعها إبراهيم الذي بدا متبرما من واجب الحساب وصفحات العربي ، وقد قرر أن يقطع الصفحة التي سجلت فيها المعلمة بالقلم الأحمر عنوان الصفحة التي ستكتب 40 مرة ، وجدول الضرب الذي سينسخ 33 مرة ، وسوف يغيب بسبب وجع بطنه الذي تكرر كثيرا في الأيام الأخيرة دون أن يفطن الطبيب للسبب وراء المرض ، فكل ما فعله أن وصف له دواء لقتل الطفيليات في معدته .
عاد يوسف فوجد مهجت مشغولة بتجهيز السفرة ، وسألها أن يعاونها في شيء فبدت ضجرة وهزت رأسها في عدم اهتمام : أبدا . استرح أنت .
خلع البدلة وتمدد في غرفته . أشعل أول سيجارة ، ونظر في ساعته فوجد أن موعد الغذاء فد فات وقته ، وأحس ببطنه تزوم . كانت تبدو في قمة انهماكها ، تئن من عمل تصورته بسيطا. بالطبع تأخرت ، وشاط الأرز ، وامتنعت حبتا القلقاس عن التناغم مع صلصة الطماطم فبدت بنفس صلابتها قبل السلق، ومع حركة الذهاب والإياب بردت الشوربة ، لكن أكبر مشكلة واجهتها كانت كيف تقسم اللحم على زوج أختها والأولاد ، وهل تترك للزوجة الغائبة قطعة واحدة أم اثنتين ؟
جلست على السفرة معهم تضرب أخماسا في أسداس ، ونطت لتلحق اللبن قبل أن يفور ويطف فقد نست أنها وضعته ليغلي قبل أن تجلس ، ولما كان همها أن تبدو ماهرة في شئون البيت فقد أعدت " كيكا " احترق في الفرن وصعد الدخان وهي تتحدث عن مهارة المرأة في إعداد حلوى اليوم.
تسحبت على أطراف أصابعها وأنقذت الصينية من الاسوداد التام .رفعتها بعد أن اطفأت الفرن . لامست أصابعها الدوران الصلب المحترق فغطى أصابعها السناج . عدلت شعرها فتحول وجهها إلى خليط من خيوط سوداء ومساحات رائقة من الحمرة الخفيفة.
جلست في نفس المقعد الذي كانت تجلس عليه أسماء حين كانت تزورها نصف متعبة . شم يوسف رائحة البصل نفاذة نتنبعث من ثيابها ، فقام للحظة وفتح شباك المنور.
في الثالثة رفعت الأطباق وبدت ياسمين قلقة لأن الطعام لم يكن شهيا ، أما إبراهيم فقد وجد سببا إضافيا لعدم الذهاب في الغد إلى المدرسة التي يكرهها ولا يطيق سيرتها.
في الخامسة كانت قد انتهت من غسل الأواني والحلل والأطباق . أحست أن ظهرها قد انقسم . نسيت أن تولع له على الشاي ، وهو أكتفى بإرسال ابراهيم كي يذكرها ، فرفعت صوتها بغضب : هل أنا شغالة عند أبيك ؟
سمعها ، وهي لم تأبه لذلك ، وطرقت الباب أو هو الذي انطرق بقوة ريح آتية من شباك الصالة فقد كانت شبه غاضبة ، ورأته قبلها في لمحة بالفانلة الحمالات فشعرت أنه إنسان آخر غير الذي لاعبها عند سفح الأهرامات.
إغفاءة طالت بعض الشيء ، صحت فلم تجد ليوسف أثرا ، بل وجدت كوب الشاي وعقبين سيجارة مطفئين بأصابع بدت قاسية .
حين عادت أختها في تمام العاشرة طرقت بأصابعها باب الشقة طرقات خفيفة ، وقبل أن تشكرها على حسن صنيعها لمحت شرودا مبهما وإرهاقا يلوح في قسمات وجه شقيقتها . قالت مهجت في شبه اعتذار : سامحيني . نسيت أن أرتب البيت .
تنهدت أسماء بعمق ، وزفرت هواء ثقيلا ، وهي تضع حقيبتها على مقعد في الصالة : سوف أعيد ترتيب كل شيء !
دمياط 21/ 3/2007 .