المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أبي



مأمون احمد مصطفى
21-04-2007, 07:50 PM
أبي



كان أبي...

وهل على الأرض مثل أبي؟!

ذلك العجوز الرائع الرائق الوجه، الناصع البياض والنور والمحيا، المترقرقة بسماته بين حبات الندى كماس منثور داخل أشعة الشمس المشرقة على يوم خرج الكون فيه ليغتسل بحبات عرقه الساقطة من غرة الجبين كنهر من زمرد على خطوط الأيام والزمن.

كنت في غرفة السجن، سجن نابلس المركزي، أحاول نسج سبب لانقطاع الزيارة منذ أشهر، بخيوط من أمل متفائل، لكن العزلة، والنفي بين جدران لا تستطيع أن تهمس بخبر عن شارع قد لا يبعد عنك سوى أمتار، تلك الجدران المنتصبة كحائل زمني وارضي بيننا وبين الأمتار القليلة، نبهت في ذاتي هواجس الحزن، واستفزت توقعات السواد والمصيبة.

عاد زميلي من الزيارة، نظر الي وهو يرسم ابتسامة يقطر منها الأسى، وتندفع من ظلالها الحسرة، جلس بجانبي وهو يستدعي الفرحة لترتسم على حروف يستعد لنطقها.

قال...

ألف ألف مبروك يا صديقي، زوجتك وضعت غلاما، وزنه تجاوز الخمسة كيلو غرامات، رائع الجمال، مكتمل البناء والصحة، فيه روعة يتحدث المخيم بأسره عنها، وقد أسمته احمد.

سقطت السماء من مكانها دفعة واحدة، وانغلق قلبي الذي كان يستعد لدخول النشوة، تسرب الزقوم إلى روحي، وانهال الحنظل كنهر غاضب في حلقي، أحسست أعصابي تتقلص، تنكمش، وظننت بان التقلص والانكماش أصاب جسدي أيضا، هو التبخر من المكان والزمان، التلاشي في عوالم لم توجد بعد، لم تخلق، بل هي راسية في عمق الغيب الذي لا يعلم عن الغيب إلا قليل القليل.

ولماذا احمد؟!

أدار وجهه نحوي، وقد ذابت البسمة عنه واختفت الفرحة، تبدلت ملامحه تبدلا كاملا، حتى لمحت انتفاضة أرنبة انفه.

قفز عن البرش متجها نحو شاويش الغرفة، وبدأ يهمس بأذنه، وعينيه الناضحتين حيرة وانشداه، تنغرسان بعيني المذهولتين بحقيقة أراها ماثلة أمامي، ولكني أود أن أكذبها.

لا، لا يمكن أن يموت أبي.

مستحيل هو على الموت والفناء، بل فيه من العزيمة والقوة، وفيه من الحب والحنان، ما يفوق قدرة الموت على الاقتراب منه، هو أبي، نعم أبي أنا، أبي الذي لا يشبه الآباء، الرجل الذي لا يشبه الرجال، لا يمكن أن يكون الموت قادرا على النيل من قلبه الفياض بالحب والحنان والرقة.

نعم كل الأشياء ضرب من ضروب الهلوسة، وجودي في السجن، الناس المحيطة بي، العيون التي انكسفت بعد أن عرفت بالخبر، السجان، الزيارة، الدخينة التي لسعت أصابعي، الكون كله هاجس من ضرب كابوس أو هلوسة.

هو حلم جاء الي حين نمت منذ أشهر، نومة أصحاب الكهف، لكنهم ناموا دون أن يضربهم كابوس الشؤم، ودون أن يصلهم نعيق بوم أو غراب، حلم يدفعني نحو رجاء الصحو بالتقدم، ولكن دون أن يلامس مراكز الوعي والإدراك.

لماذا احمد؟

الاتفاق بيني وبين زوجتي أن يسمى منتصر، ليكون شقيقا للمعتصم، لكن الأمور سارت بطريقة أخرى.

انهارت كل الأشياء وكل المسميات، وتداعت كل الهموم والخواطر، وتردمت كل الأماني وكل الطموحات.

لمن سأخرج من هنا، بل كيف سأسير في الشوارع والطرقات، وكيف يمكنني قبول ضمة الناس لي حين يأتون مهنئين بمناسبة خروجي؟

لم يخطر ببالي من قبل، ولا بأي شكل من الأشكال، ولا بأي خاطر من خواطر الصحو أو النوم، ولا حتى بلمحة تصور عابرة، بان الشمس ستشرق على كون لا يوجد فيه جسد أبي الغارق بالعناء والتعب والألم والسهر، جسد أبي المرصوفة كل ذراته بألوان العذاب والوجع، من اجلنا، ومن اجل أبنائنا الذين ولدوا من حدقات عينيه المبللة بملح العرق الذي كان يزخ جلده طوال النهار من اجل أن يعود حاملا لهم بيدية حسنة اليوم.

أولادي الذين خرجوا من رحم فرحته وبريق عينيته، ولدوا بملامحه العربية المخضلة بالحنان والندى والرحمة.

ماذا سأقول لهم الآن؟

حين يقفون على باب البيت، وفي عيونهم لهفة الانتظار للحسنة، وللقبلة، للتعربش على أكتافه وصدره وظهره؟ ماذا سأقول لهم حين يجن الليل ويبحثوا عن فخذه، وسادتهم التي يتناوبون بالنوم عليها قبل أن ينقلهم إلى فرشاتهم وهو يبسمل ويقرأ السور القصار؟

إلى من سيلجئون منذ اليوم، إذا ما غضبت منهم؟ إلى أي صدر سيقفزون طالبين الحماية؟ بعد أن غاب ذاك الصدر الواسع الرحمة والصبر.

كان أبي؟1

جملة جديدة، دخلت قاموس حياتي، بكل ما فيها من وقاحة وصفاقة، بكل ما فيها من لؤم ومن كآبة، دخلت مرة واحدة، لتفجر في ذاتي شعورا ارفض العيش معه أو استقباله، لكنها دخلت، بكل ما فيها من قبح وقيح وصديد، لتحول صدري الواثق من خطوات الزمن والأيام، إلى مجموعة ركام متساقط تعلوه الغربان، ويتوجه الانكسار والهزيمة.

كان أبي؟!

وكانت الدنيا لنا جنات، وكان الكون لنا بساتينا، ومن قلبه كانت انهر تنبع، وأبحر تجري، عشقا وحنوا وحنينا، وكان البيت يعبق برائحة البريق المرسل من عينيه الخضراوتين، بروائح الياسمين والبحار، شوقا ولهفة لفيض محبته التي تنشر روائح الأبوة في كل زاوية من زوايا البيت، وفي كل جدار من جدرانه.

حتى الأواني والفراش، الأشياء واللحظات، الثواني والهنيهات، كلها تعرف طعم أبي، طعم بسمته، نكهة يديه المباركتين، الملتحفتين عناء الزمن والسنين، حتى الهواء المار من بين ثنايا الزمن، يعرف أبي، يعرف وجهه الطيب، ورأسه الأصلع الناصع بالبراءة البيضاء القادمة من قلبه العابق بالشفقة علينا.

كان يقول لي...

إذا مت قبل أمك، حاصروها بالحنان، بالرأفة، بالمحبة، بالشفقة، فهي وحيدة في هذا العالم، لا أخ ولا أخت، كلهم غابوا بعد النكبة، دخلوا دائرة الضياع، وظلت هي معي، وحيدة، تبكي وتندب، تنادي الأرض والمسافات والمدن، تستجدي الغيب والغموض، تنبش المستقبل بدموع لم تجف، وبقيت على ذلك، متناثرة بين الآلام والآمال، غير مدركة لحركة الأيام في جسدها المتضخم المتورم حسرة ولهفة على أهل حملهم الزمن والأيام إلى مكان ما، قد يكون قريب، ولكنه بقربه أو بعده، عذاب يتسلل إلى جسدها ليفرخ كل يوم ولحظة، عذابا جديدا.

هي وصيتي الوحيدة، لأنها كانت مذ عرفتها أملي وكياني، وفرحتي الوحيدة.

آه ... يا أبي

للفجر بوجودك معنى آخر، فيه لذة الصبح المصحوب بقرقعة إبريق الشاي، ورقرقة ماء الوضوء، وسكينة النفس بالدعاء، فيه عذوبة وقع خطواتك وأنت تغادر إلى صلاة الصبح وصوتك يصل إلى مسامعي، " أصبحنا وأصبح الملك لله" " يا رب يسر ولا تعسر "، لخشخشة المفتاح حين تعود، لتقبيلك جبهات أبنائي قبل أن تغادر إلى العمل، للفجر فيك علامة خاصة، محملة بأنفاسك، أنفاسك التي كانت تنتشر لتتوزع على محيط البيت كله.

ذهب الذي كان يأتيه الليل باكيا شاكيا وحزينا، ذهب الذي كان يعطيه من نور عينيه ضوء القمر ونور الشمس، ومن قلبه كان يمنحه سحرا مبينا.

ذهب الذي كانت تطلع من بين ثناياه غابات الحور ورياض الغار، ومن بسمته كانت تولد أحلام المسك وأحلام العنبر، وحقول من عبق وروائح من ياسمين.

ذهب من كانت على أنامله كنوز الأرض تحيا، وعلى أهدابه تنام ملائكة وعنادلا وحساسينا.

ذهب الذي كان يشقى بحبنا تعبا وألما ووجعا سنينا وسنينا، ذهب الذي يغسله حبنا عرقا كاويا وبراكينا.

ذهب أبي...

هل تصدقون أن يذهب من كان لنا موئلا وعرينا؟؟!!!

أبناؤنا... أولادنا...

من سيأتي لهم حاملا بيديه عرائس السكر والبراد؟ من سيجلس على مصطبة البيت مقشرا لهم أكواز الصبر والتفاح؟ من سيشوي لهم حب الكستناء؟ من سيعصر لهم رمانا وبرتقالا وليمونا؟

من سيشيلهم فوق كتفيه؟ وبهم يدور ويدور؟ من لهم غير الذي كان ركنا وركينا؟

من سيعطيهم بعد الذي ذهب بريق عينيه؟ من سيهديهم
غير الذي ذهب ماء الشرايينا؟

والهفي ولهف نفسي عليك يا أبي.

ها أنا بين جدران السجن، أتلقى خبر رحيلك عن الدنيا، عن أولادي، صغاري الذين رأوا بحضنك الدافئ اللامع ملاذا يعوضهم غيابي، عن الحارة والطرقات التي كانت تسامرني ليلا وهي تحدثني عن وقع خطواتك فوقها، خطواتك التي منحتها العفوية والبساطة، وشكلت فيها ملامح المكان والزمان، وجمعت في ذراتها علاقة الخطوة بالأرض الممتدة إلى اللانهاية.

لا، أنت لم تمت، أنا لم أشاهد الموت وهو يستل روحك، ولم أشاهد الناس وهم يزفوك إلى المسجد، ولم اسمع دعاءهم داخل الجنازة، ولم أشاهد الحفرة التي استأثرت بجسدك الملوح بعذاب الأيام والسنين، ولم أشاهد ما يسميه الناس بالقبر.

سأخرج من هنا، إلى البيت، إلى الشوارع التي تعودت احتضان خطواتك، لمصطبة المسجد المنتصبة على بابه، حين كان جسدك يستريح هناك، سأخرج لأولادي، لأطفالي، العابقة أجسادهم برائحة عرقك وطعم ملحك، نعم، وسأجلس كل صباح انتظر خشخشة المفتاح في باب البيت، لأني على يقين مطلق بأنك ستأتي لتدير المفتاح وتخرج أحزاني وعذاباتي إلى صدرك، كما كنت سابقا تفعل.

أبي...

يا أجمل وجه عرفته روحي، وتعود عليه قلبي، مذ خلقت وحتى اليوم...

أنا هنا بانتظار خشخشة مفتاحك بالباب.

فلا تطل الرحلة، ولا تستعذب المشوار.


مأمون احمد مصطفى
فلسطين- مخيم طول كرم
النرويج- 19-10-2006

مادلين يوحنا
22-04-2007, 05:43 PM
رائع اخي ما كتبته هنا

سلمت يداك
مودتي

أحمد عبدالرحمن الحكيم
22-04-2007, 07:33 PM
أخي مأمون
نصُكَ أبكاني هل تعلم لماذا ؟

لن أستطيع القول

ولكن هنيئاً لك بأنه كان لك أب هكذا

جوتيار تمر
22-04-2007, 09:59 PM
مأمون..
لااعلم ماذا عساني اكتب واسطر هنا، فهذه المشاعر وهذه الرؤية الابوية الرائعة والتي تتسم بالصدق والاخرص والتفاني جعلت مني اعجز عن مواصلة الكتابة لا لاني لااعرفها ..لا..انما لاني كنت اخشى ولم ازل ان اسطر هنا حرفا لايليق بهذا الصدق المنثور هنا عبقا ورونقا، نعم ايها العزيز صدقت، انه الاب، الذي ونحن نعيش بين يديه نرى اننا عاجزون عن فعل شيء بدونه لا لاننا خاضعون وهو يفرض علينا نفسه، انما لاننا نعلم يقينا تلك الروح التي تسكنه والتي بها عاش وعشنا لانه كان ولم يزل يمدنا منها وبها لنستمر على الطريق السليم والقويم، فما بال من فقد، والفقد هنا ليس اجتراع السم لانه فقد يعني نهاية عالم ومجيئ برزخ جديد ليس لنا منه الا كلمة نرددها في آوان حاجتنا لها، كان ابي، قال ابي، فعل ابي، مر من هنا ابي، ووو...سيل من الذكريات التي تعصر القلب والواقع معا، ولننظر الى هذه الترنيمة التي عزفتها انت خلف قضبان السجن حيث البعد والغربة عن الاهل، حيث الامور لاتتوقف هناك لكنها فيك لك وعندك متوقفة منذ امد طويل.
لتغمد السماء تلك الروح الطيبة برحمتها وليعيش لك منتصر واحمد ولتعيش انت لهما ابا يمد لهما يد العون والنصح والمحبة في الوجود.
دمت بخير
محبتي لك
جوتيار

مأمون احمد مصطفى
23-04-2007, 09:51 AM
الكريمة مادلين:


لطف منك هذا المديح.

مع كل المودة

مأمون احمد مصطفى
23-04-2007, 09:53 AM
اخي احمد:

الهبني السطر الذي كتبت، وشعرت تماما بما تود ان تقول.

للزمن اشياء واشياء، وللقلوب اسرار واسرار

مع كل المودة

حنان الاغا
23-04-2007, 10:32 AM
الأخ مأمون
غلبني الألم ، وغلب القلم أيضا .
سأعود بإذن الله

وفاء شوكت خضر
23-04-2007, 10:40 AM
أخي مأمون ..

زرعت الألم في بيادر صفحاتك ، وحصدناه طوعا ..
نثرت كلماتك في قلوبنا بذار ألم ، لتنبت سنابل غربة .

تحيتي ..

سحر الليالي
23-06-2007, 12:25 AM
أخي الفاضل " مأمون":

صافحت قلبكــ هنا بدمــ ع و بغصــة ألمــ..!

لا شيء يقال هنا..!

سلمتـ
ودمتـ بـرعاية المولى دوما
تقبل خالص إحترامي وتقديري وباق ةورد

نور سمحان
23-06-2007, 12:36 AM
نصك رائع رغم الألم الذي يكتنف سطوره
والحزن الذي يبطن حروفه
واللوعة التي تسكن كلماته
أبكتني صدقا
دمت رائعا

مروة عبدالله
24-06-2007, 02:53 PM
ها هي الحروف تلبس وشاحها المعتق
وتلون ما في الصفحات بالسواد
لـتعزف موسيقي الموت
ويرسمها وجع القلب الغائر
بـ خطاً ملون بـ دم
لـيتمزق القلب بين الضلوع ألماً
ويتشتت الفكر بين حروف الانتحار

الرائع .. مأمون أحمد مصطفي

كم هو مؤلم نزفك لحد الوجع
تلاشى قلمي تحت وطأة صفحاتك
فقط كُن بخير

مأمون احمد مصطفى
24-06-2007, 07:49 PM
الاخت حنان:

وحين يغلب الالم يكون الانسان


مع كل المودة

مأمون احمد مصطفى
24-06-2007, 07:53 PM
الاخت الكريمة وفاء:-

هل ساكون صادقا لو قلت بان الالم المخزون بالقلب اكبر من ان تغطيه مساحات العمر؟ نعم اعرف باني صادق في اقول، فالحياة بين انياب المخيم - بكل ما فيه مآسي ووجع - تحمله الاف الاف القلوب، اكبر حتى من مساحة الزمن الذي لانعلم له بداية.

مع كل المودة

ناديه محمد الجابي
23-07-2019, 06:08 PM
مات الرسل وهم أشرف الخلق عليهم الصلاة والسلام، فلو سلم أحد من الموت لسلموا
، قال الله سبحانه: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ
عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ}[1]،

الراحلون وإن طال الغياب بهم
باقون في القلب ماغابوا ولا رحلوا

هزتني نثريتك بقوة مشاعرك وروحك المحبة البارة لوالدك
نسجت من خيوط الحزن عباءة مجدولة بلوعة الفقد في لغة راقية ومشاعر صادقة
نص حرقتني دمعته، ونطق فيه الحزن فكانت الكلمات باكية
ما أجمل ما نثرت من فريد اللفظ وحلو المعنى وعميق الشعور
نثرا مدهشا ـ جمال حرف وعمق حس.
دمت بكل خير.
:009::009: