د. حسين علي محمد
30-04-2007, 11:39 AM
حكاية ورقة نقدية
قصة قصيرة، بقلم: حسني سيد لبيب
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــ
أخرجني الصرّاف من إحدى الرزم، ورقة خضراء لامعة، تسر الناظرين. أخذ يعدّ الأوراق. وكنت في ذاكرته مجرد ورقة تعد مع أوراق أخرى لينقد الموظف راتبه الشهري.
عدّ الموظف ما استلم من أوراق. كنت مما شمله العد. اطمأن إلى راتبه ووضعه في جيب سترته. تضايقت من الجيب المظلم، أشبه بقبو ساخن. كدت أختنق. تراكم غبار السنين وتجمّع في أنسجة القماش. لم يُفرج عني إلا عند وصوله إلى البيت. زوجته أملت عليه طلبات البيت. علّق بكلمات موجزة:
ـ الطلبات لا تنتهي ..
اكتأب. شرد قليـلا. الراتب موضوع على النضد. كنت واحدة من الأوراق القليلة. أحمل رقماً. تريّثت. ماذا أنت فاعل بي يا أنور أفندي؟ ـ وهذا اسمه، ناداه به الصرّاف ـ أما أنا فلا اسم لي، وحتى رقمي المطبوع لا أحد يحفل به.
بدت عليه الحيرة حين أمسك ورقة وقلماً. يبدو أننا غير قادرين على نجدة أنور أفندي، وإنقاذه من محنته. أحصى بنود الصرف فوجدها عديدة، لا يتحمّلها راتبه الصغير. تململ في جلسته، أحس بتعب. لا أدري لماذا انتقاني من بين الأوراق واحتجزني في مكان أمين؟ حدّث نفسه كأنّه يُخاطبني:
ـ وأنتِ أيتها الورقة الجديدة. ابقي في هذه العلبة لأيام العسر في آخر الشهر.
كان مزهوا بي، ورقة خضراء من فئة العشرين جنيهاً. لكني تضايقت من الوسيلة التي عبّر بها عن إعجابه. فقد سجنني في علبة صغيرة، ظللت حبيسة في قُمقم إلى أن أفرج عني أخيراً، في اليوم العاشر من الشهر. لم يصبر طويلاً.
أعطاني لزوجته، لتشتري بي كيلو لحم، وتحرص على الباقي لا تُبدّده. ناولها القصّاب لفافة اللحم وأخذني منها. شممت رائحة الدم في يده، ووضعني في درج خشبي صغير، وسط أوراق مبعثرة قديمة وجديدة.
فقدت أهميتي عند القصّاب، لم يحرص عليّ حرص الموظف الغلبان، وفي آخر النهار رتّب أوراقه المالية بسرعة عجيبة، ودس كومة الأوراق في جيب جلبابه الأبيض، وعاد إلى بيته منفوشاً كالطاووس. أمسك بنا ـ نحن الأوراق المالية ـ وألقانا بغير اكتراث أعلى التليفزيون. غيّر ملابسه، واغتسل، وتناول طعامه، ثم تهيّأ للذهاب إلى فرح صديقه. عرفت ذلك حين قال لزوجته:
ـ المعلم حسب الله، تاجر القماش، فرح ابنته الليلة.
جلس في الصوان مع أصدقائه، يشربون البيرة ويُكركرون بالنرجيلة. وتبارى التجار المعلمون في إعطاء النقود للراقصة، وأصرّ صاحبي القصّاب على الرقص عشرة بلدي، مع الراقصة ممتلئة الجسم، ترجرجتُ في جيبه، أحسست بهزّات متتالية، وإذا به يُخرجنا من جيبه، وينتقي ورقة، مدّ يده إلى ورقة العشرة جنيهات، لكنه أعادها إلى مكانها، وأخذني بدلاً منها، ودسّني في صدر الراقصة المتصبب عرقاً. ابتللتُ من عرقها. رقَصَتْ بنشوة وانسجام. واضح أنها سعيدة بالمال المدسوس بصدرها. ووجدتُ أني لستُ الورقة الوحيدة المحشورة في النهر الفاصل بين ثدييها. هناك أوراق أخرى تكرمشت أو تكوّرت.
تعبت من رجرجة الثديين، وحزنت لما آل إليه حالي، فقد تكرمشت قليلا، ورائحة العرق انتقلت من بشرتها البيضاء إليّ وإلى الأوراق الأخرى.
ولما انتهى الفرح، جُمعت الأوراق التي مع الراقصة وزميلها المطرب، ومذيع الحفل، ووُزِّعت على أفراد الفرقة، كنت أنا من نصيب الراقصة، ومعي أوراق أخرى، وضعتني في حقيبتها الجلدية البيضاء، وعادت إلى بيتها قرب الفجر، منهوكة القوى، فأغفت دون أن تُبدِّل ثيابها، وظللت داخل الحقيبة المغلقة.
وفي الصباح، اختارتني ـ من بين الأوراق الأخرى ـ وحملتني إلى صاحبة البيت تُسدِّد إيجار الشهر. وصاحبة البيت العجوز ناولتني بدورها إلى ابنها فهمي، الطالب الجامعي ليشتري كتاباً.
لكنّه لم يشتر الكتاب، سهر مع أصدقائه، تناولوا زجاجات البيرة والمزة، وأكلات كباب وكبدة وفواتح شهية. استأذن فهمي بإشارة فطنوا لمعناها، فابتسموا له، وفي غرفة مجاورة كانت امرأة في انتظاره، قضى وطره معها، وأعطاها إياي، وكنتُ الورقة الوحيدة التي بجيبه، لتعطيه عشرة جنيهات. لكنها طمعت فيّ. لم يعترض، وإنّما علّق باسماً:
ـ لقد أخذتِ ثمن الكتاب كله.
تأوّهت، وعانقته قائلة:
ـ ألست أنا كتاباً مفتوحاً؟ علّمتك أشياء لم تكن تعرفها.
أهاجه صوتها، فأكمل كوب البيرة دفعة واحدة، وأخذ يتحسس مفاتنها. راقبت كل ذلك، وأنا ملقاة على نضد منخفضة. احتقرت فهمي. كذب على أمه. ما علينا، فأنا الآن أسيرة بين يدي هذه المرأة، هنا قدري، والأمر لله ..
صباحاً حملتني المرأة في كيس صغير. مشت بخطوات عصبية. تأفّفتُ من وجهها الملطخ بأصباغ وألوان لا تناسق فيها ولا جمال. حمدت الله على أنني حُبست في الكيس فلا أرى شيئاً، لكن الكيس لم يكن محكم الغلق. انتهزتها فرصة لأتنفّس الصعداء. ساعدتني حركتها العصبية وعدم اتزانها مع هبوب النسيم لأسقط من الكيس على الأرض. سعدت لأني هربت من هذه المرأة.
انحنى رجل عجوز معدم والتقطني من على الأرض، جرى في أثرها منادياً عليها:
ـ ست .. يا ست ..
وأشار إليّ. ابتسمت ابتسامة باهتة، وأخذني وأعادني إلى الكيس، أحكمت غلقه، وحرصت عليه. وعجبت لهذا المعدم الذي لم يحررني، مع أني كنت سأفك عنه ضائقة مالية.
دفعتني للصيدلي وأخذت دواء. عدت إلى درج الخزينة الضيق. وإن كنت سعيدة لتخلصي من هذه المرأة المقرفة، أو هي التي تخلصت مني لحاجتها إلى الدواء. ربنا يشفيها مما يشقيها.
أصابني البلى، لم أعد ذات بريق كسابق عهدي، بفعل الأيدي التي تداولتني ولم تحرص عليّ. هكذا حالنا وقدرنا نحن الأوراق المالية. شردت قليلا. نسيت أن أكتب شيئا مهما. فنحن أصل الشقاء الإنساني. بسببنا تُرتكب الجرائم، وتشن الحروب .. يتقاتل البشر بسبب الطمع والجشع، ورغم ذلك قلّما يهتم أحد بمشوار العناء الذي نقطعه في خدمة الإنسان. ما علينا من كل هذا، فقد اختنقت في الدرج الخشبي، وتراكمت فوقي الأوراق. كدت أختنق بفعل فتاة الخزينة. ومن حين لآخر تعد الفتاة أوراق العشرين، والأوراق الأصغر، وتطمئن على صحة الحسابات. أخيراً أمسك صاحب الصيدلية برزم الأوراق وتوجّه إلى بيته. لم أبت في شقته المرتبة الأنيقة سوى ليلة واحدة، ثم حملني مع صويحباتي إلى البنك ليُضيفنا إلى حسابه، واحتفظ في بيته بأوراق قليلة من فئة العشرة جنيهات.
أخيراً، استقرّ بي المقام في دار المال، مع ناس يعرفون قيمتنا، ويستضيفوننا عندهم في خزائن حديدية. الصرّاف الذي استضافني مشغول بصرف شيكات جديدة .. وفي دقائق قليلة ألفيت الصراف الأنيق يمسكني ويرصني ضمن (الباكو) ويلفني بشريط ورقي مصمغ يكتب عليه (ألفيْ جنيه). وهكذا يفعل مع باقي الأوراق. وبعد فترة أتى ثري وأعطاه شيكاً، تسلّم به (خمسة بكوات)، وهكذا غادرت البنك في صحبة الثري. لم أمكث طويلاً بقصره .. أثاث فاخر، وعطور طيبة، وملابس أنيقة .. كل شيء مرتب وفخم. انتابني إحساس بأن مظهري البالي لا يُناسب المقام هنا. وددت لو هربتُ من بين الأوراق وطرت في الهواء. ولكن ليست لي أجنحة أطير بها. ومكثت مختنقة لا يسمع أنيني أحد.
لم يطل مقامي في القصر، ففي المساء ارتدى الثري ثيابه، وفك (الباكو) الذي وُضِعت بداخله. ووضع الأوراق في المحفظة، وخرج سريعاً يستقل عربته، متجهاً إلى فندق سياحي .. اعترض طريقه شحاذ دعا له بطول العمر، أخرج ورقة صغيرة من فئة الربع جنيه وأعطاه إياها. وددت لو مدّ يده إليَّ، كي أعين هذا المسكين، أو أصير طليقة في مهب الريح، أطير مع غيري من الأوراق، فتمتد إلينا الأيدي المحتاجة، أو يطير كل منا حيث يقيم الشقي والفقير والمريض. نعرف نحن الوجوه الصفراء حائلة اللون التي لم تذق طعاماً، أو تكاد تموت كمداً بفعل الهم والشقاء. ما علينا من كل هذا. إنها أحلام عصافير. مازلتُ قابعةً في محفظة الثري، ولا أملك سوى الحلم. لحظة الحلم جميلة حين أتخيّل ابتسامةً ما مرتسمة في وجه بائس.
في ركن حالم جلس ينتظر عشيقته، أتت متأخّرة. قبّل يدها وأجلسها في مواجهته. دار بينهما حوار ناعم رقيق. أخرجت علبة الدخان من حقيبتها السوداء الأنيقة. تناولت لُفافة. همّت بإشعالها بالولاّعة. تناول الثري محفظته سريعاً، وسحب ورقة دون أن ينظر إليها، فإذا بي بين أصابعه ـ مُصادفةً ـ ولفّني سريعاً كقرطاس صغير ضيق. نفخ بفمه لهب الولاّعة، وقرّبني من لهب الشمعدان الموضوع على النضد، وأحرقني. اشتعلت النار فيَّ .. آي .. آي .. إني إحترق. وألفيته يُقرِّبني من اللفافة، يُشعلها، وهي تبتسم في رقة وعذوبة. رماني في المنفضة، رمى البقية الباقية. النار مازالت مشتعلة فيّ، وحديث العشق موصول بينهما .. بينما أنا أتلاشى، أتحول إلى رماد .. آي آي آي ..آه ..
*مجموعة قصص: "كلمات حب في الدفتر"، ط1، اتحاد الكتاب العرب بدمشق 1993م، ص ص47 / 55.
قصة قصيرة، بقلم: حسني سيد لبيب
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــ
أخرجني الصرّاف من إحدى الرزم، ورقة خضراء لامعة، تسر الناظرين. أخذ يعدّ الأوراق. وكنت في ذاكرته مجرد ورقة تعد مع أوراق أخرى لينقد الموظف راتبه الشهري.
عدّ الموظف ما استلم من أوراق. كنت مما شمله العد. اطمأن إلى راتبه ووضعه في جيب سترته. تضايقت من الجيب المظلم، أشبه بقبو ساخن. كدت أختنق. تراكم غبار السنين وتجمّع في أنسجة القماش. لم يُفرج عني إلا عند وصوله إلى البيت. زوجته أملت عليه طلبات البيت. علّق بكلمات موجزة:
ـ الطلبات لا تنتهي ..
اكتأب. شرد قليـلا. الراتب موضوع على النضد. كنت واحدة من الأوراق القليلة. أحمل رقماً. تريّثت. ماذا أنت فاعل بي يا أنور أفندي؟ ـ وهذا اسمه، ناداه به الصرّاف ـ أما أنا فلا اسم لي، وحتى رقمي المطبوع لا أحد يحفل به.
بدت عليه الحيرة حين أمسك ورقة وقلماً. يبدو أننا غير قادرين على نجدة أنور أفندي، وإنقاذه من محنته. أحصى بنود الصرف فوجدها عديدة، لا يتحمّلها راتبه الصغير. تململ في جلسته، أحس بتعب. لا أدري لماذا انتقاني من بين الأوراق واحتجزني في مكان أمين؟ حدّث نفسه كأنّه يُخاطبني:
ـ وأنتِ أيتها الورقة الجديدة. ابقي في هذه العلبة لأيام العسر في آخر الشهر.
كان مزهوا بي، ورقة خضراء من فئة العشرين جنيهاً. لكني تضايقت من الوسيلة التي عبّر بها عن إعجابه. فقد سجنني في علبة صغيرة، ظللت حبيسة في قُمقم إلى أن أفرج عني أخيراً، في اليوم العاشر من الشهر. لم يصبر طويلاً.
أعطاني لزوجته، لتشتري بي كيلو لحم، وتحرص على الباقي لا تُبدّده. ناولها القصّاب لفافة اللحم وأخذني منها. شممت رائحة الدم في يده، ووضعني في درج خشبي صغير، وسط أوراق مبعثرة قديمة وجديدة.
فقدت أهميتي عند القصّاب، لم يحرص عليّ حرص الموظف الغلبان، وفي آخر النهار رتّب أوراقه المالية بسرعة عجيبة، ودس كومة الأوراق في جيب جلبابه الأبيض، وعاد إلى بيته منفوشاً كالطاووس. أمسك بنا ـ نحن الأوراق المالية ـ وألقانا بغير اكتراث أعلى التليفزيون. غيّر ملابسه، واغتسل، وتناول طعامه، ثم تهيّأ للذهاب إلى فرح صديقه. عرفت ذلك حين قال لزوجته:
ـ المعلم حسب الله، تاجر القماش، فرح ابنته الليلة.
جلس في الصوان مع أصدقائه، يشربون البيرة ويُكركرون بالنرجيلة. وتبارى التجار المعلمون في إعطاء النقود للراقصة، وأصرّ صاحبي القصّاب على الرقص عشرة بلدي، مع الراقصة ممتلئة الجسم، ترجرجتُ في جيبه، أحسست بهزّات متتالية، وإذا به يُخرجنا من جيبه، وينتقي ورقة، مدّ يده إلى ورقة العشرة جنيهات، لكنه أعادها إلى مكانها، وأخذني بدلاً منها، ودسّني في صدر الراقصة المتصبب عرقاً. ابتللتُ من عرقها. رقَصَتْ بنشوة وانسجام. واضح أنها سعيدة بالمال المدسوس بصدرها. ووجدتُ أني لستُ الورقة الوحيدة المحشورة في النهر الفاصل بين ثدييها. هناك أوراق أخرى تكرمشت أو تكوّرت.
تعبت من رجرجة الثديين، وحزنت لما آل إليه حالي، فقد تكرمشت قليلا، ورائحة العرق انتقلت من بشرتها البيضاء إليّ وإلى الأوراق الأخرى.
ولما انتهى الفرح، جُمعت الأوراق التي مع الراقصة وزميلها المطرب، ومذيع الحفل، ووُزِّعت على أفراد الفرقة، كنت أنا من نصيب الراقصة، ومعي أوراق أخرى، وضعتني في حقيبتها الجلدية البيضاء، وعادت إلى بيتها قرب الفجر، منهوكة القوى، فأغفت دون أن تُبدِّل ثيابها، وظللت داخل الحقيبة المغلقة.
وفي الصباح، اختارتني ـ من بين الأوراق الأخرى ـ وحملتني إلى صاحبة البيت تُسدِّد إيجار الشهر. وصاحبة البيت العجوز ناولتني بدورها إلى ابنها فهمي، الطالب الجامعي ليشتري كتاباً.
لكنّه لم يشتر الكتاب، سهر مع أصدقائه، تناولوا زجاجات البيرة والمزة، وأكلات كباب وكبدة وفواتح شهية. استأذن فهمي بإشارة فطنوا لمعناها، فابتسموا له، وفي غرفة مجاورة كانت امرأة في انتظاره، قضى وطره معها، وأعطاها إياي، وكنتُ الورقة الوحيدة التي بجيبه، لتعطيه عشرة جنيهات. لكنها طمعت فيّ. لم يعترض، وإنّما علّق باسماً:
ـ لقد أخذتِ ثمن الكتاب كله.
تأوّهت، وعانقته قائلة:
ـ ألست أنا كتاباً مفتوحاً؟ علّمتك أشياء لم تكن تعرفها.
أهاجه صوتها، فأكمل كوب البيرة دفعة واحدة، وأخذ يتحسس مفاتنها. راقبت كل ذلك، وأنا ملقاة على نضد منخفضة. احتقرت فهمي. كذب على أمه. ما علينا، فأنا الآن أسيرة بين يدي هذه المرأة، هنا قدري، والأمر لله ..
صباحاً حملتني المرأة في كيس صغير. مشت بخطوات عصبية. تأفّفتُ من وجهها الملطخ بأصباغ وألوان لا تناسق فيها ولا جمال. حمدت الله على أنني حُبست في الكيس فلا أرى شيئاً، لكن الكيس لم يكن محكم الغلق. انتهزتها فرصة لأتنفّس الصعداء. ساعدتني حركتها العصبية وعدم اتزانها مع هبوب النسيم لأسقط من الكيس على الأرض. سعدت لأني هربت من هذه المرأة.
انحنى رجل عجوز معدم والتقطني من على الأرض، جرى في أثرها منادياً عليها:
ـ ست .. يا ست ..
وأشار إليّ. ابتسمت ابتسامة باهتة، وأخذني وأعادني إلى الكيس، أحكمت غلقه، وحرصت عليه. وعجبت لهذا المعدم الذي لم يحررني، مع أني كنت سأفك عنه ضائقة مالية.
دفعتني للصيدلي وأخذت دواء. عدت إلى درج الخزينة الضيق. وإن كنت سعيدة لتخلصي من هذه المرأة المقرفة، أو هي التي تخلصت مني لحاجتها إلى الدواء. ربنا يشفيها مما يشقيها.
أصابني البلى، لم أعد ذات بريق كسابق عهدي، بفعل الأيدي التي تداولتني ولم تحرص عليّ. هكذا حالنا وقدرنا نحن الأوراق المالية. شردت قليلا. نسيت أن أكتب شيئا مهما. فنحن أصل الشقاء الإنساني. بسببنا تُرتكب الجرائم، وتشن الحروب .. يتقاتل البشر بسبب الطمع والجشع، ورغم ذلك قلّما يهتم أحد بمشوار العناء الذي نقطعه في خدمة الإنسان. ما علينا من كل هذا، فقد اختنقت في الدرج الخشبي، وتراكمت فوقي الأوراق. كدت أختنق بفعل فتاة الخزينة. ومن حين لآخر تعد الفتاة أوراق العشرين، والأوراق الأصغر، وتطمئن على صحة الحسابات. أخيراً أمسك صاحب الصيدلية برزم الأوراق وتوجّه إلى بيته. لم أبت في شقته المرتبة الأنيقة سوى ليلة واحدة، ثم حملني مع صويحباتي إلى البنك ليُضيفنا إلى حسابه، واحتفظ في بيته بأوراق قليلة من فئة العشرة جنيهات.
أخيراً، استقرّ بي المقام في دار المال، مع ناس يعرفون قيمتنا، ويستضيفوننا عندهم في خزائن حديدية. الصرّاف الذي استضافني مشغول بصرف شيكات جديدة .. وفي دقائق قليلة ألفيت الصراف الأنيق يمسكني ويرصني ضمن (الباكو) ويلفني بشريط ورقي مصمغ يكتب عليه (ألفيْ جنيه). وهكذا يفعل مع باقي الأوراق. وبعد فترة أتى ثري وأعطاه شيكاً، تسلّم به (خمسة بكوات)، وهكذا غادرت البنك في صحبة الثري. لم أمكث طويلاً بقصره .. أثاث فاخر، وعطور طيبة، وملابس أنيقة .. كل شيء مرتب وفخم. انتابني إحساس بأن مظهري البالي لا يُناسب المقام هنا. وددت لو هربتُ من بين الأوراق وطرت في الهواء. ولكن ليست لي أجنحة أطير بها. ومكثت مختنقة لا يسمع أنيني أحد.
لم يطل مقامي في القصر، ففي المساء ارتدى الثري ثيابه، وفك (الباكو) الذي وُضِعت بداخله. ووضع الأوراق في المحفظة، وخرج سريعاً يستقل عربته، متجهاً إلى فندق سياحي .. اعترض طريقه شحاذ دعا له بطول العمر، أخرج ورقة صغيرة من فئة الربع جنيه وأعطاه إياها. وددت لو مدّ يده إليَّ، كي أعين هذا المسكين، أو أصير طليقة في مهب الريح، أطير مع غيري من الأوراق، فتمتد إلينا الأيدي المحتاجة، أو يطير كل منا حيث يقيم الشقي والفقير والمريض. نعرف نحن الوجوه الصفراء حائلة اللون التي لم تذق طعاماً، أو تكاد تموت كمداً بفعل الهم والشقاء. ما علينا من كل هذا. إنها أحلام عصافير. مازلتُ قابعةً في محفظة الثري، ولا أملك سوى الحلم. لحظة الحلم جميلة حين أتخيّل ابتسامةً ما مرتسمة في وجه بائس.
في ركن حالم جلس ينتظر عشيقته، أتت متأخّرة. قبّل يدها وأجلسها في مواجهته. دار بينهما حوار ناعم رقيق. أخرجت علبة الدخان من حقيبتها السوداء الأنيقة. تناولت لُفافة. همّت بإشعالها بالولاّعة. تناول الثري محفظته سريعاً، وسحب ورقة دون أن ينظر إليها، فإذا بي بين أصابعه ـ مُصادفةً ـ ولفّني سريعاً كقرطاس صغير ضيق. نفخ بفمه لهب الولاّعة، وقرّبني من لهب الشمعدان الموضوع على النضد، وأحرقني. اشتعلت النار فيَّ .. آي .. آي .. إني إحترق. وألفيته يُقرِّبني من اللفافة، يُشعلها، وهي تبتسم في رقة وعذوبة. رماني في المنفضة، رمى البقية الباقية. النار مازالت مشتعلة فيّ، وحديث العشق موصول بينهما .. بينما أنا أتلاشى، أتحول إلى رماد .. آي آي آي ..آه ..
*مجموعة قصص: "كلمات حب في الدفتر"، ط1، اتحاد الكتاب العرب بدمشق 1993م، ص ص47 / 55.