عبد القادر رابحي
03-05-2007, 03:08 PM
اعتذر لزملائي عن الابتعاد الاضطراري عن الواحةن و اهدي لهم هذا الفصل من عمل سابق
و هو الفصل الأول من الجزء الأول من كتاب "النص و التقعيد، إيديولوجية النص الشعري"
فمعذرة للجميع و تحية خالصة
النص و التقعيد:
لم تولد خليلية الشعر مع الخليل. بل ولدت مع الشاعر في أقدمية تواجده الزماني و المكاني. و لم يولد الخليل مع القاعدة. بل ظهر مرافقا للشاعر و مستودِعا لأسراره. فهو المفتاح الذي به ينطلق في ممارسته النصية، و القاعدة التي بها يتجلى في تجدده و بقائه.
و خليلية الشعر العربي، على غرار خليلية الشعر الإنساني، أسسها الشاعر كساردٍ أولٍ للنص و " موضوعِ وحيدِ للإخبار "(1) منذ أن قال: " يا خليليَّ "(*).
و لم يكن الخليل إلا الواسطة التي يصفي بها حساباته الوجودية مع الشاعر، أي مع ذاته المتجلية في النص و المحتكرة له، على اعتبار أن النص هو بقاؤه و صيرورته عندما يختفي. كما لم يكن الخليل إلا الدافع ( Le Mobile) أو طاقية الإخفاء التي يتحرك تحتها هذا الدافع في رغبته و إلحاحه في " توصيل الأحداث الجديدة للعالم المادي و النفسي "(2).
فالخليل كمأسور شكلي في بنية القصيدة العربية هو ميدان لـ "خليلية" الأسر و التحرير التي يمارسها الشاعر ضد نفسه المتجلية في النص كلما ضاق النص بالخليل، أو كلما هرم، أو بلي، أو تعب.
إن معركة الشاعر مع التجديد هي في واقع الأمر معركة الشاعر ضد نفسه المتجلية في النص، و التي لا يمكن أن يحدّثها إلا من خلال خليلية المرآة العاكسة لمطلق الشاعر المتجدد عبر الأقنعة النصية. فالشاعر هو الذي يبدع الأقنعة و يستبدلها بأقنعة يبدعها بصورة يصبح فيها النص زخرفة قابلة للامتداد إلى ما لانهاية (3). و ليس ثمة قناع دائم بالنظر إلى مطلقية وجه الشاعر الحاضر المتجدد. و ليس ثمة غياب للشاعر، و بناء عليه، فليس ثمة غياب للقاعدة التي يكشف بها عن لانهائية الاحتمال النصي في بحثه عن الإدهاش و الامتياز. و "امتيازه في أنه يسبق القاعدة "(4)، كالرعد يسبق العاصفة يؤسسها و يمهد لها.
إن خليلية القاعدة متولدة من الخليلية المتجددة للشعر كامتياز سابق. و لا يمكن أن تعبر القاعدة عن مطلقية النص إلا في تعدديتها، أي في مجمل ما يتيحه الشاعر من احتمالات لَبوسية تعكس و تضمن في إجماليتها صيرورة النص، و من ثمة صيرورة الشاعر.
و من هنا كان الناقد كخليل متجدد باحثا عن القاعدة و في القاعدة و ضد القاعدة. يكتشف و يحتفي، يسهر و يختصم، و يبحث عن مطلق للقاعدة كوحدة بنائية من خلال التنظير لها. و يعتقد أن التنظير للقاعدة هو التنظير للنص، في حين أن النص يؤسس بنفسه لمنطلقاته النظرية،و التي بموجبها يصبح قديما أو حديثا في نظر الناقد. و من ثمة فإن الناقد لا يقوم في نهاية الأمر إلا بـ "الاكتشاف الخليلي" من خلال اتخاذه للنص أداة و مفازة للبحث عن فهم أمــثل لنص قديم متجدد في تواصله. لذلك فهو يحاول أن يحتل حيّزية المكان الناشئ كل مرة في النص و المتولد منه، من خلال إعادة قراءة مكانية النص المتحولة عبر الزمن، و المتخذة أشكالا و أقنعة مختلفة.
و إذا كان الشاعر خاضعا في تجدده لمطلقية الخليلية المتولدة معه و هو يبحث عن مكانية النص المستقبلي على اعتبار أن " تــاريخ الشعر هو في مستـقبله "(5)، فإن الناقد خاضع لمحدودية القاعدة. و لذلك يبدو كل تغيير تحديثا، و كل قاعدة مطلقا في نظر الناقد. كما تبدو كل إعادة ترتيب للبيت " الشعري" ثورةً على مطلقيةٍ شكليةٍ و استبدالها بمطلقيةٍ شكلية جديدة.
إن تغيير قواعد اللعبة ليس تغييرا للعبة في حد ذاتها، لأن اللعبة دائمة و القواعد متجددة. و لذلك يبدو للناقد " الخليل" أن الشاعر " استبدل المطلق القديم (وحدة البيت ) بمطلق جديد هو وحدة التفعيلة "(6).
إن وحدة البيت كبناء معدود في تفعيلاته و محكوم في تقفيته، يقدم صورة إيهامية عن اكتمال البنية في شكلها العمودي، و من ثمة اكتمالها في جمالية الطرح الذي تُخبر به هذه البنية في القصيدة العمودية. لكنه ينبئ و يوهم كذلك- منذ أن تبناه الشاعر كصورة تبدو للقارئ مكتملة- ، عن كمون لانهائيةِ الاحتمال (داخل البيت ) التي يضمن بــها الشاعر صيرورته في النص و تجدده عبر مكانيته و زمانيته، من خلال الانتقال من وحدة أكبر التي هي البيت، إلى وحــدة أصغر، و التي هي التفعيلة. " إن أكبر الرياضيين قد تجاوز المفهوم العددي و المهيكل [..] بإدخاله للانهائي ضمن المعدود [..] عندما وضع الحساب التفاضلي "(7).
و من هنا كانت صعوبة الخروج عن المعدود البيتي المنتظم داخل عروض القصيدة العمودية في مخيلة الناقد و القارئ، و صعوبة تبني شعر التفعيلة كاحتمال جديد داخلٍ ضمن المعدود، من طرف الذوق العام الذي لم يألف " الوزن الحديث الذي قام بتوليده السياب و الملائكة "(8)، على الرغم من أنه " تلبية للإحساس الجماعي بتغير إيقاع الحياة بعد دخول التقنية الغربية إلى حياتنا "( 9). و لذلك بدا للناقد الذي يبحث في محدودية القاعدة، و كأن الوزن الحديث "يفتقد إلى ضابط (Norm )يقيس إيقاعه عليه "(10).
و مـن هنا، كانت كتابة قصيدة التفعيلة ( الملائكة، السياب) ثورة على البيت، و كتابة قصيدة النثر ( رواد مجلة شعر ) ثورة على التفعيلة. و كان الشاعر في ممارسته النصية، من خلال تفجير القاعدة، سبّاقا في التأسيس لسلفوية القاعدة و تقدميتها بوصفها حكما يتخصص الناقد في إطلاقه على الشاعر من خلال اتخاذ الشكل ميدانا لقراءة الذات الجمعية في رجعيتها و تقدميتها، في جمودها و تحررها. و لم تكن هذه القراءة في واقع الأمر إلا تعبيرا عن محدودية القاعدة و تغيُّرها في الممارسة النصية.
و لعل البحث في محدودية القاعدة سيصبح نقطة التثبيت ( Point de fixation) الجوهرية التي يحاول الناقد أن يأسر من خلالها جمالية النص المعبرة عن لانهائية الاحتمال الظاهر في الشكل، و التي جعلت رولان بارت يعتقد ،في نهاية المطاف، بأن " النص لا يوفِّر للقارئ بنية، بل عملية تنظيم و بناء ( Structuration ). أي عملية يقنع القارئ نفسه -خطأ بلا شك- بأن العمل الأدبي بنية و نظام "(11). و لذلك يبدو النص "الشعري" بأنه مُتعِبٌ و غير ذي جدوى، لا في قاعدته فحسب، و لكن في البحث عن آليات قاعدته المتغيرة كذلك. لأنه لا يعبر عن محدودية الذات من خلال محدودية القاعدة التي يتلبسـها النص في صـيرورته و تجدده، و إنما يعبر عن " الفردية الاستثنائية، الغنية و القوية [...] القادرة على أن تعيش رؤيةً للكون حتى في منتهى عواقبها "(12).
إن الشاعر يزعجه استتباب النظام و سكونية القاعدة. و لذلك فهو في كل تغيير للنظام ينضح بروح عصره. و من ثمة، فهو يفضح و يعرِّي مرحلية العصر في تاريخيتها. و لذلك كان دائما "الأساس الذي يسند التاريخ "(13) في شموليته، حسب تعبير هيدجر. و من هنا، كانت بنية البيت التقليدية،لا دخولا إلى ظلام القاعدة و انغلاقها (داخل البيت)، و إنما خروج إلى رحابة التجريب و حــرية المغامرة الإبداعية التي تلخـــص القاعدة من خلال تجزئتها، و تخلصها من استاطيقية التصور الذي يريد الناقد أن يأسرها فيه. و من هنا كانت الزحافات و العلل هي التعبير المادي عن محدودية القاعدة التي اكتشف الخليل (الناقد)، في بحثه عن مطلقيتها، أن الشاعر يجوِّز لنفسه ما لا يجوِّزه لغيره.
إن ما يحرّك الشاعر كسارد أول، ليس عمودية الشعر، أو بيتية القصيدة، أو تفعيلية البيت، أو إطلاقية (14) التفعيلة، أو وتدية القول الشعري، أو سببيته.
إن ما يحرك الشاعر في اقتراحه للانهائية الاحتمال الكامن في هذه الأقنعة التقعيدية التي يضمن بها صيرورته من خلال الممارسة النصية، هو تصاغر هذه الاحتمالات و فناؤها في ثنائية الساكن و المتحرك،لا كحركية شكلية عرَضية (عروضية )، و إنما كثنائية فلسفية وجودية تطرح المساءلة الأساسية للحياة في تواصلها عبر الأقنعة المتجددة. و يبدو النص و كأن لا جدلية أخرى تتجاذبه غير جدلية الساكن و المتحرك. لهذا كان الشعر اختصاراً للعالم، و نبوءةُ الشاعر هي في إرجاعِهِ هذا العالمَ إلى حيث ابتدائيته التكوينية التي جعلت سقراط يعتقد بأن " الشعر واحد " (15) في جَرَميَّتِه المُختصِرة للكون.
و من هنا، كان سؤال الحداثة من خلال النص، متجاوِزاً و متجاوَزًا في آنية طرحه، إلى ما بعد الحداثة. و كانت حداثية النص همًّا آخر ينضاف على عاتق الخليل ، في حين أن الشاعر لا يعمل أكثر من تغيير الأقنعة .
مرجعية الشكل و النص/ الظاهرة:
إذا كان التجديد في النص ينطلق من البحث عن الإدهاش، فإن البحث في التجديد ينطلق من الغرابة التي يولّدها الإدهاش. و ثمة فرق بين علاقة الشاعر بالنص و علاقة غيره بالفكرة التي يحملها عن النص. فالأول علاقته "صُريّة"، عاشقة و نرجسية، بينما علاقة الثاني عائلية، حاسدة و غيريّة. و بقدر ما يخبر النص في شكله عن نوايا الشاعر، بقدر ما يُحيل الشاعر إلى لنص لكي يجيب عنه. و لذلك يبدو النص مسؤولا أمام الشاعر، و الشاعر مسؤولا عن النص (16). و أن أي مساءلة للنص، إنما غايتُها البحث عن الشاعر الساكن في النص، و المبثوث عبر الإشارات التي يضعها فيه، و التي ينمّي من خلالها "القارئُ و الجمهورُ طاقة ذاتيةُ تسهم في صياغة التاريخ و صنعه "(17).
هل كانت نازك الملائكة و معها بدر شاكر السياب حدّا فاصلا ، و معلما زمنيا لثورة النص على نفسه ؟ أم كانت مجرد حلقة من حلقات التواصل الزمني للنص في تجدده عبر الأزمنة ؟ و لماذا انتشرت عدوى "الكوليرا " بسـرعة كبيرة و أصابت معظم الشعراء في حين كانت " المقاومة "عنيدة من قِبَلِ النقاد ؟ و هل كانت فجائية التغيير أم فجائية الشكل سببا في عناد المقاومة ؟
إن القاموس اللغوي المستعمل في وصف حركة التجديد الشعري ( الشعر الحرّ (18)، التحرر(19)، التغيير(20)، الثورة (21)، الرفض (22)..) لا يستمد مصداقيته الاصطلاحية من النص بقدر ما يستمدها من تاريخية المرحلة التي ظهر فيها النص (**)، وشكلت هامشه النقدي الذي يبحث له عن سند تقعيديٍّ انطلاقا من معاينة المتغيرات الظاهرة في النص، و البحث عما يبرّر أسباب ظهورها من خارج النص، أي من واقع تاريخية المرحلة التي أفرزته، خاصةً في جانبها السياسي و الاجتماعي. و ستعيد بنية النص الجديدة صورة الذات الجمعية للناقد/ القارئ الرافض لتغيـُّرِهِ المكبوت على المستوى النظري، و المتمظهر واقعياً في عدم تمثّل الموقف النقدي ( و الفكري بصفة عامة) لتاريخية المرحلة التي ظهر فيها النص بكل متغيراتها السياسية و الاجتماعية و الثقافية.
و لعل الإدهاش الذي حمله النص الجديد، في شكله أولا، هو الذي سيجبر الناقد على إعادة تشكيل المساءلة المتعلقة أساسا بالذات الجمعية العربية في علاقتها ( و علاقاتها ) مع النص. و هي مساءلات لا ترتبط فقط ببنية الخطاب الإبداعي، و إنما بمجمل الأطروحات الفكرية و الإيديولوجية و السياسية التي حملها الخطاب النهضوي.
إن هذه المساءلات كانت تبحث، في جوانبها المتعلقة بالخطاب الإبداعي- و كذلك في جوانبها المتقاطعة معه-، عن إجابة يقدمها النص في تغـيّـره الشكليّ "المفاجئ " الذي سيؤسس - بالنظر إلى المعطى الثابت الذي كانت تتنافس داخله التيارات النقدية التقليدية للبحث عن جديد اللفظ و جديد الموضوع - لـ"ثورية النص"على مستوى التصور النقدي، و من ثمة، على مستوى الممارسة النقدية لدى النقاد الذين اتسمت محاولاتهم الأولى بـ "التوجه التصنيفي [..]و نزعة تبسيطية تقوم على انتقاء جملة من القضايا و دراستها في إطار، هو في الحقيقة، هامش النص و ليس النص ذاته" (23).
و سينمو هذا الهامش نموا تصارعيا (Conflictuel ) برّانيا بين المعارضين للنص للشعري في شكله الجديد و بين المؤيدين له، من خلال مقاربتين هما المقارنة البصرية من جهة، و اعتمادُ عناصر خارجة عن النص من أجل قراءته و البحث عن مبررات تغيره من جهة ثانية.
و سنحاول أن نتعرض لهاتين المقاربتين من خلال التركيز على الظاهر الشكلي للنص و الدور الذي أداه في إعادة بناء المتخيل الشعري الجديد ، و التأسيس لرؤية نقدية تتعامل مع هذا الظاهر الشكلي تعاملا مختلفا:
1- المقارنة البصرية (Comparaison visuelle ):
لعل النقطة الأكثر أهمية في تعامل النقاد مع الظاهرة الشعرية الحديثة، تكمن في بروز موقف نقدي يحدد من خلاله الناقد جدة النص الشعري أو قدمه، حداثته أو تقليديته، من خلال معطى شكلي بحت يؤدي فيه العنصر البصري دورا مُهمًّا في التفريق بين فجائية الشكل الظاهر في النص الجديد و بين ما رسخ في ذهن الناقد و القارئ معًا من تصورٍ للبناء الشعريّ القديم في صورته الاستاطيقية الدائمة الحضور.
و إذ تستقي هذه الصورة الثابتة مرجعيتها من تدوين النص الشعري، و كتابته في إطار بناء ذي شطرين متوازيين، فإن أصولها إنما ترجع إلى إحدى الركائز الأساسية المكوِّنة للثقافة العربية و هي الشفوية (Oralité ) التي انبنى عليها الذوق العربي المرتبط أصلا بالسـماع الذي يتجاذبه عنصرا الإلقاء و التلقي بوصفهما ثنائية ثابتة رسّخت "الصورة السمعية" للنص ودعّمت قدسيةَ بنائه الشكلي.
و قد لعب الإيقاع بمجمل أدواته (الوزن، القافية، العروض، الموسيقى) (24) دورا أساسيا في تشكيل صورةٍ صوتيةٍ أسست لحميمية العلاقة بين الشاعر و السامع ( الملقي و المتلقي ) في بنيتها التقليدية، و وطّدت أركان الجسر الإيقاعي الذي يمرّان عبره من" مربدية النص" إلى " عكاظيته" ، من خلال حداثات (25) تطالُ عمر النص، و تصوُّرٍ واحدٍ لبناءٍ سابقٍ لنفسه في ظاهره المدون، و كأنه " الوحيد الذي يؤمِّـن استمرار العمل "(26).
فلم يكن عنصرَا الجدة و القدم يتحددان من خلال الشكل في عروضيته التقليدية، و لكن من خلال عناصر التجديد المتعلقة بالبلاغة الكلاسيكية التي بقيت مقياسا للحكم النقدي لا على شعر رواد الحركة الرومانسية (27) المعاصرة لظهور لحركة التجديد فقط، و إنما على مجمل الإرث الشعري العربي. و ذلك على الرغم من التطور الذي مسّ هذه النصوص من الناحية العروضية داخل البحور الشعرية التقليدية. و قد شهد النص الشعري في بنيته العروضية التقليدية تطورا أدى به إلى الخروج من تواتر البيت في تساوي شطريه و تواتر قافيته إلى أنواع عروضية أخرى كالمسمط و المخمس التي انتشرت في عصور متأخرة. " و قد عرف الدارسون هذه الأنواع بما يجعلها أساسا وحدات صوتية، أو بالأحرى توزيعا موسيقيا جديدا داخل القصيدة " (28).
و قد بقي الشكل العمودي ذي الشطرين المتساويين مرتبطا في تواتر بنائيته و تكرارها، بهذه الصورة الراسخة في ذهن المتلقي وحاميا لها من أي نشوزٍ صوتي و موسيقي من خلال ممارسة القاعدة العروضية لسلطتها على النص، مُحصيةً "عيوبه و ثغراته، حارسةً لكل امتداد دلالي لنفسية الكلمة بزحافةِ وقصٍ (29)، أو علّةِ حذٍّ (30)، و معاقبةً "فيضَ النص" بتهمة الخروج عن قدسية نظام الشطرين المتساويين الذين ينتظم داخلهما القول الشعري.
و أصبح الشكل ( شكل القصيدة ) - في هذه الحالة - معطىً جاهزًا يحيل بطريقة آلية، إلى بصريةٍ ثابتةٍ تكفّلت الأذن الموسيقية بترسيخها في المخيال الشعري العربي بدرجة أصبح فيها الإغراقُ في التركيز على " ثبوتية الشكل"(31) و ترسُّخه في الصورة السمعية للمتلقي، مؤديًا " إلى تفكك القصيدة، أي إلى وجود الإيقاع بشكل مستقل عن الصور و الأفكار، و إلى أن يكوِّن وظيفةً مستقلةً عن وظيفة القصيدة "(32).
إن توزيع النص توزيعا مغايرا و مختلفا (33) هو الذي سيُدخل عنصرًا مُهمًّا في الانعطاف الإبداعي للنص، و يؤسس لـ"ثوريته " من خلال المـــقارنة بين ما كان عليه النص في شكله القديم، و ما آل إليه في صورته الجديدة، و ذلك من خلال إعادة تشكيل بصرية النص في ذهن المتلقي.
و لعل هذا العنصر البصري (L’élément visuel ) هو الذي سيكتشف من خلاله الناقد/القارئ توزيـعا جديدا للنص، لا من خلال الرؤية العينـية الواقعية المرتبطة بقراءة النـص مرسوما (34) على بـياض التدوين فقط، و إنما من خـلال ما يقترحه "البصري" ( Le visuel ) من قيم إيحائية " بحيث يصبح المعوَّل في تلقي القصيدة على ترتيب الأحرف، و أحجامها ،و مسافات الفراغ بينها، مما يستوجب قراءتها قراءة أوركسترالية تعتمد على النظرة الكلية التي تشمل النص أفقيا و عموديا "(35).
و لعل ثنائية الشكل و المضمون التي انبنى عليها المتن النقدي في تعامله التقليدي مع النصوص الشعرية ستنـزاحُ بانزياح البعد العروضي للشكل الشعري،" الذي وصل عند البعض، نتيجة التكرار و استخدام الكلمات آليا، إلى حالة من الثبات صار معها نظاما "(36) ، و تترك المكان لمقاربة نقدية أكثر التصاقا بالنص في البحث عن جوهر المساءلة التي أدت إلى تغـيُّره، و تعيد قراءة قدسية العمود الخليلي من خلال ثورة النص التي أصبح بموجبها الشكل الجديد، لا محيلا إلى المضمون و مسكونا به، و إنما دالاًّ على النص و مُخبرا - في ذاتيته اللغوية - عمّا " تتسم به الأشكال من صفة معنوية "(37) .
و لئن ارتبطت مقاربات النقاد في تعاملهم مع النص الجديد بالبنية العروضية و الموسيقية من جهة، و ببنية المضامين ( الموضوعات، التوجهات، الأفكار ) من جهة ثانية، فإن إعادة تشكيل النص من الناحيتين الموسيقية و البلاغية ، و إعادة توزيعه و تدوينه وفق بصرية مختلفة، ستفرض على القارئ/الناقد إعادة تشكيل تلقِّيهِ للنص من الناحية السمعية، و من ثمة إعادة تشكيل أذن موسيقية مخالفةٍ هي الأخرى. و لعل هذا ما يفسر "عناد المقاومة " التي رفعت شعار التنبؤ بـ"موت النص"، و راهنت على استحالة مستقبليته. و هي في واقع الأمر مناداة بموت إيديولوجي للشاعر بوصفه حاملا لمشروع حداثة تتبنى جمالية مختلفةً، و مُزعجةً للجمالية التقليدية.
و لعل هذا الموقف يُنبئ عن خوفٍ من موت النص التقليدي أكثر مما يُنبئ عن خوفٍ من ديمومة النص الحديث. كما يُنبئ عن صعوبة إعادة صياغة التلقي وفق منظور يرفضونه أصلاً. و سيرسم النص "الرافض المرفوض" خريطة التموقع في معركة الحداثة عن طريق توجهين يسعى أحــدهما إلى البحث عن حداثةٍ مُقاومةٍ داخل البناء الشكلي القديم (38)، و يسعى الآخر"الرافضة المرفوضة "(39) إلى توطيد الشكل الجديد في المخيال عبر شرح آليات ميلاده من زاوية عروضية بحتة. و لعل هذا ما جعل كثيرا من الشعراء المحدثين و من بينهم نازك الملائكة يبحثون عن تبرير عروضي بحت لإقناع الأذن الموسيقية التقليدية بجدوى التغيير و ضروريته.
2-القراءة من خارج النص( Lecture extratextuelle):
لقد شكل النقد، "باعتباره قراءة احترافية "(40) عاملا حاسما في التهييء للعلاقة التي ستربط النص بالقارئ، و التأسيس لها، سواء أكان هذا القارئ مدافعا عن النص الشعري الحديث أو رافضا له ، و ذلك وفق أدوات يمتلكها هذا القارئ باختلاف استعداداته ونظرته التوافقية أو التنافرية. و هي أدوات حاول من خلالها الناقد البحث عن أسباب و مبررات "التغيير المفاجئ" الذي مسّ المتن الشعري العربي. و تتجلى أشكال المقاربة التي سيعوّل عليها لمساءلة النص في إلغاء التعامل معه مُحيلا إلى نفسه، و الاعتماد على مرجعياتٍ و آليات خارجةٍ عنه و"حائمةٍ حوله "(41) و ذلك بـ:
أ- محاولة قراءة النص الشعري عن طريق نص آخر، و هو النص الغربي من خلال المقارنة بين بنيتيهما الشكليتين، و البحث عن معادلٍ موضوعيٍّ ينفذ عبره الناقد، لا إلى عوالم حداثة النص العربي فقط، و إنما إلى عوالم الحداثة الشعرية الغربية كطرح آنيٍّ - ضمن أطروحات الحداثة الغربية ككل- مصاحبٍ لتغيـُّر النص، و محفِّزٍ لمٌساءلةِ التحولات الجوهرية التي حدثت على الذات الجمعية.
و ستؤدي المقارنة البصرية بين الشكلين القديم و الحديث، إلى افتقادٍ للعلامة المرجعية في النص، والتي تُمكِّن الناقدَ من تصنيفه ضمن دائرةٍ موثّقة في شكليةِ الموروث، و تُؤمِّن مكانيتَهُ في حاضرِ المتخيل. و بدا النص في شكله، و في خصوصية جماليته، و موضوعاته، أقربَ إلى الموروث الشـعري الغربي منه إلى الموروث الشعري العربي. و لعل غياب هذه المرجعية هو الذي سيؤدي إلى المقارنة بين "النص الضال"و بين النصوص الشعرية الغربية.
و قد أدت أوجه المقارنة الأولية إلى الحديث عن "وجهةٍ أخرى للنص هي وجهة الشعر الغربي "(42) و الاعتراف بحضور هذا الأخير في حنايا الشعر الحر خاصةً في النماذج التي يمثلها ت.س. إليوت و عزرا باوند (43).
ب- محاولة قراءة النص الشعري عن طريق الشاعر متلبسا بظرفه التاريخي و الاجتماعي، و ذلك من خلال التركيز على السيرة الذاتية للشاعر في أبعادها الشخصية و الاجتماعية و الإيديولوجية و السياسية، كمطية لفهم الشاعر الذي يمتلك مفاتيح النص. و لعل تركيز النقد العربي على السياب (44) ، و الاستفاضة في شرح الجوانب المظلمة و المضيئة من حياته الخاصة و العامة بكل أبعادها، يدخل في هذا الإطار الذي أصبحت من خلاله حياة السياب الخاصة أنموذجاً لفهم نصِّه الشعري و نقطةَ تبئيرٍ( Focalisation) لفهم النص الحديث و تفسيرهِ بصفة عامة .
و قد أدى هذا التعامل مع النص - في تغيره المفاجئ من خلال سيرة الشاعر و حياته-، إلى ربط الموقف السياسي أو الإيديولوجي للشاعر بشكل النص الذي يبدعه. و أصبح النص بموجب هذا التقسيم يرزح تحت وطأة التمييز الإيديولوجي بين سلفوية الشاعر المُنتجة لـ "سلفوية الشكل"، و ثورية الشاعر المُنتجة هي الأخرى لـ "ثورية الشكل "(45) وفقا لمنظوراتٍ حَداثيةٍ متناقضةٍ تتخذ من الشكل ميداناً لمعركةٍ تتنافس داخله تيارات حاملة لمـشاريع سياسية و إيديـولوجية متعددة المشارب. و لعل في هذا التعامل مفارقةً ظاهرةً أدت بالعديد من النقاد فيما بعد، إلى الفصل بين "ثورية النص" في شكله الظاهر، و موقف الشاعر الذي أبدعه، من خلال تفهم أكثر عمقاُ للآليات الإبداعية المُولِّدة للشكل الشعري، و إشكاليات ظهورها. و تبينَ فيما بعد " أن الشكل الجديد ليس تقدميا بالضرورة. فهناك أشكال جديدة يبدعها المثاليون "(46).
ج- محاولة فهم المشروع الإبــداعي الـذي يخبر عنه النص في شكله الجديد عن طريق مشروع إبداعي غربي. و سيتكفل الناقد/ القارئ بمتابعة الخيط الرابط بين النص الجديد و " أبوَّته الغربية " عن طريق إعادة صياغة أسئلة الخطاب النهضوي العربي صياغة إبداعية أدبية اعتمدت على إفرازات هذا الخطاب الأولية المتعاملة مع الواقع العربي و اصطدامه بواقع آخر و حقيقة أخرى مغايرتين و هما: واقع و حقيقة الغرب اللذان فتح الإنسان العربي عينيه عليهما في بدايات القرن الماضي. ولم يكن من الممكن أن تكون هذه الصياغة صياغة تثاقفية تناصية. بل كانت صياغة تصارعية تصادمية مرتبطة بالشرط الاستعماري و استيلاء الغرب من خلالها على الجغرافية المكانية و الزمانية إنْ على مستوى الواقع أو على مستوى المخيال.
و كان من البديهي أن تتبلور الإشكاليات التي طرحها عصر النهضة في البحث عن مفهوم جديد للإبداع في مجالاته المختلفة، و تتحدد بالنظر إلى آنية الواقع و علاقته بما سبقه و بما هو لاحق به. و بصورة أخرى: كيف يمكن للإنسان العربي أن يحدد ذاته بالنظر إلى زمنين يتجاذبان حاضره: زمن ماضٍ (حاضر في غيابه) فيه لمعان و بريق، و زمن يكاد يكون المستقبل (غائب في حضوره ) فيه لمعان و بريق و لكنه ليس له. و كيف يمكن أن يجد خلاصه ؟ هل في الإتباع أم في الإبداع ؟ في الماضي أم في الحاضر ؟ في الأصالة أم في المعاصرة ؟ في القديم أم في الجديد ؟
و قد كان لهذه الأسئلة التي توضّحت من خلالها تقريبيةُ المصطلحات وقعٌ ثقيلٌ على الأدباء الشعراء و النقاد، و هم يحاولون تحديد مواقفهم من التراث العربي، و من ألوان الإبداع المغايرة التي يطرحها الغرب في أشكالها و مضامينها. و ربما تحمّل النص في تمظهره الخارجي - باعتباره مُشعلا للفتنة-، وزرَ هذه الأسئلة الجوهرية، لا باعتباره نصّا مُنتجا لكيانِه الخاص، صائغاً لهذه الأسئلة مُستبطناً لإجاباتها، و إنما باعتباره منتوجا إيديولوجياً يتحمل الشاعر بموقفه الإيديولوجي مسؤولية أشكاله ، و بالتالي مسؤولية انتمائه لأحد طرفي الصراع .
فتنة النص و مسؤولية الشاعر:
يُنبئ النص، من خلال ميلاده و "اشتعاله" بين هزيمتين (***)، عن ضرورة الميلاد و حتمية "الاشتعال". و من هنا كان مُنذرا بضياع الكيان، و مُحذّرا من وقوع الهزيمة، سابقاً في تصوّره لحداثِه و حداثة ما يجب أن تكونَ عليه مقروئيةُ جماليته المغيـّبة من طرف الناقد/ القارئ. و من هنا كان النص يحمل في حنايا فاعليته الإبداعية شرْطيةَ الفعل التاريخي المـُطالبة بحتمية التغيير، و الهاربة من أسْرِ الواقع العمودي المراوح مكانه، و المبهوت باهتزاز أرضياته ، و تفكك بناه التقليدية إلى فضاءات تبحث في حقيقة الواقع عن أرضياتٍ و بنىً أشدَّ تماسكاً بمحاولة فهمها "فهما شعريا و اعتماد الطرق الشعرية لإدراكها "(47).
و إذا كان للنص حرية كتابة نفسه و اختيار شكله و هويته (48)، فلم يكن له حريةُ اختيار مقروئيته. بل كان عليه واجبُ تأسيس وجودها، و تشكيل جغرافيتها في مخيال القارئ. فميلاد النص اقتضى ميلاد القارئ. إذ ليس هناك نص بدون قارئ. و لم يكن ممكنا أن يكون الميلاد غير " كوليرا " تصيبُه سرعةُ انتشار عدواها، و غير "أنشودة مطر" تحمل غيث تجدده و أمل بقائه. و لذلك كان النص انتصارا بين هزيمتن و "بيانا سرياليا "(49) فاتنا و" واقعية خارقة "(50) في رسم صورته الشكلية، و داعيا القارئ إلى إعادة النظر في بصَريَّته التي بها يرى.
إن حتمية الظرف التاريخي التي استطاع الشاعر أن يبدع في أحضانها نصاًّ شعريا جديدا، لم تكن لتستوجب إقناع ذاته الخاصة بحتمية التغيير فحسب، بل إقناع ذاتٍ جمعية متفردة في حرصها على ما تبقى لها من تصورٍ للبنية الذوقية و الجمالية الماضوية من جهة، و متفردةٍ كذلك في طرح المساءلات الحضارية الجوهرية التي أفرزتها حتمية هذا الظرف بكل متغيراته السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية و انعكاساتها على الحياة اليومية للإنسان العربي.
و لعل انتصار النص يكمن في تمثل مبدعه لهذا الظرف وتحـيُّنِه لفرصةِ إحداثِ التغيير، ليس فقط في البنيات الشكلية و الجمالية المترسبة، و إنما في وعي حركة التجديد بأهمية تجسيد التغيير الجمالي و الشكلي تجسيدا لا يخرج عن جمالية التطور الطبيعي للشعر العربي(51).
إن مسار القصيدة العربية في حركيتها الشكلية - من حيث كونها تمظهرا ظاهريا للتغيير- كانت تعكس مسار هذا التطور من خلال إتاحة فرص التجديد الكامنة في البنيات الداخلية للقصيدة العربية كوحدة كبرى و مكرِّرة للوحدة الأساسية التي هي البيت الشعري.
إن أهمية التجديد الشعري لا تكمن في اكتشاف الشاعر المعاصر لإمكانية كتابة شعر حرٍّ بتفعيلة واحدة، و التخلص من المحطات الإكراهية التي بُني عليها هيكلُ القصيدة العمودية كتـساوي الشطرين و القافية باعتبارهما أداتين إلزاميتين لإيقاعٍ خليليٍّ متجانسٍ و مشتبهٍ، و ذلك لأن الشاعر العربي قد عكس مسارَ هذه الحركية في ظاهر النص الشعري من خلال كتابته لشعر التفعيلة الواحدة داخل " البنية البيتية " من خلال ما يسميه العروضيون بالبحور الصافية (52). و لم تكن القافية موقفا اضطراريا في مجمل نصوص الشعر العربي بكل مراحله التاريخية، بل كانت في بعض هذه المراحل، موقفاً اختيارياً عرف الشاعر العربي كيف يتعامل معه فنيا و جماليا وفقا لتطور الذوق السائد في هذا العصر أو ذاك. و ذلك لأن " شعر التفعيلة يمثل الحلقة الأخيرة من سلسلة حركات التجديد في الإطار الشعري، و هي سلسلة تتصل جذورها بسائر الحلقات السابقة من بدايتها إلى نهايتها " (53).
و من هنا فإن التخلص من العنصرين الأساسيين في البنية البيتية الظاهرة في القصيدة العمودية و هما: الإلزامية العددية لتفعيلة البيت الشعري، و الإلزامية الترصيعية (القافية) التي تكتمل من خلالها بناء البيت في تصوره الإيقاعي، لم يكن وليدَاستبدالِ ظاهرٍ بظاهرٍ أو ثوبٍ بثوبٍ، بقدر ما كان وليد حتمية تاريخية اقتضتها حركية التغيير التي شملت مجمل البنيات السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية التي شهدها المجتمع العربي في ظرف تاريخي مركز و متسارع كان على الشاعر العربي أن ينتقل، من خلال تمثل آلياته، من حتمية الإيقاع الموسيقي و الجمالي للبيت الشعري، إلى رحابةٍ موسيقيةٍ و جماليةٍ اقتضتهما إمكانية التجريب و حرية لبناء من داخل المعدود البيتي للقصيدة الكلاسيكية، و من ثمة التأسيس على عدم الالتزام بإلزامية هذين العنصرين.
و لعل هذا ما يفسر سرعة انتشار حركية هذا التغيير، و سهولة استيعابه و تبنيه بدرجات متفاوتة من طرف العديد من الشعراء في مجمل الخريطة الشعرية العربية و من ضمنهم الشعراء الجزائريين كـ أبي القاسم سعد الله و الحبيب عبد السلام و محمد صالح باويه.
غير أن هذا الانتقال النوعي، في شكلية البناء الشعري، كان يحمل في هوية النص بيانَ المجازفة الخطيرة المتجاوزة للبناء البيتي كاحتمال موسيقي و إيقاعي كامن في البيت الشعري العربي لتطرح بالضرورة إشكالية الخروج من البيت، و التأسيس لما سيسمى بالقصيدة كـ "شكل إيقاعي واحد أو كثير، ضمن بناء واحد "(54)، و المنتقلةِ بالمخيلة الشعرية من مفهوم البيت كما ينظر له الجرجاني و بن طباطبا و المرزوقي في إطار نظرية عمود الشعر، و يقعد له الخليل بن أحمد و سائر العروضيين من الوجهة الشكلية، إلى التأسيس لمفهوم جديد للشعر ينطلق من قناعة داخلية تبرر و تدعم الصورة التي سيظهر بها الشعر الجديد لدى المتلقي الذي لم يألف في الشعر العربي من الشكل إلا عموديته و من اللفظ إلا جناسه و طباقه.
و لعل هذا التطور الطبيعي للشعر العربي في بنيته الشكلية هو الذي سيؤسس لانتقال المخيال الشعري العربي من البناء العمودي إلى التفعيلة، و من البيت إلى القصيدة، و من القصيدة إلى النص. و من هنا، كان لا بد من البحث عن جماليات جديدة لا تمحو بالضرورة الجماليات الكلاسيكية التي لم يكن من السهل أن يتخلص المتلقي من استمرارية أحاديتها في تكوينه الثقافي و تذوقه الجمالي للشعر.
و إذا كانت التنويعات الإيقاعية في البيت الشعري هي التي تتحكم في القصيدة عروضيا بطريقة تكرارية تكون فيها القصيدة جزءا إيقاعيا كامناً في البيت الشعري، تسكنه شكليا و نغميا، فإن أهمية حركة التجديد، بخروجها عن إلزامية عدد التفعيلات و إلزامية التقفية، إنما أخرجت القصيدة - كمعطى عروضي - من البيت ليصبح البيت جزءا من القصيدة، خاصة في بحوره الخليلية الصافية، و من ثمة البحث عن احتمالٍ موسيقيٍّ حاضرٍ في البناء الشكلي، و لكنه غير مستغلٍ، يتيح " القضاء على قوالب نظمية فرضت نفسها لأكثر من ألف وخمسمائة سنة "(55) و إعادة قراءة خليلية القصيدة العربية قراءة اقتضتها حتمية التصور الجديد للفن عامة و للشعر بصفة خاصة، إذ "ليس امتياز الشعر في أنه يخضع لقاعدة ثابتة [..] بل امتيازه في أنه يسبق القاعدة " (56).
و لم يكن القضاء على هذه القوالب العروضية الراسخة في مسيرة التصور الحضاري للشعر كديوان وحيد للعرب مجرّد " موجة عابرة أو طفرة فردية " (57). كما لم يكن " نزوة، و لا مزاجا، و لا قرارا فرديا " (58)، بل كانت اقتراحا تنظيريا لما يجب أن يكون عليه الشعر من خلال ممارسةٍ جديدةٍ للكتابة من داخل النص الشعري الجديد. و من ثمة فتح العوالم الأساسية لتصورٍ نقديٍّ يرصد " المواقع التي تحرك منها ،و الثوابت التي تغير عنها " (59).
و من هنا كذلك، فإن اختراق الشاعر للبنية المغلقة ( Structure hermétique) للقصيدة الخليلية، هو اختراقٌ (من الداخل ) لخليلية التصوّر البلاغي المترسب في المتخيل اللآواعي للمبدع و المتلقي معا، و التأسيس لبلاغة جديدةٍ و لباطنٍ نصيٍّ ينسجمُ مع الظاهر الشكلي، من خلال استلهام روح العصر، و البحث عن تناصٍّ حضاريٍ مع الآخر الحاضر في صراعنا مع النفس، من أجل مثاقفةٍ واعيةٍ بأبعادِ العملية الإبداعية.
يتبع.../....
و هو الفصل الأول من الجزء الأول من كتاب "النص و التقعيد، إيديولوجية النص الشعري"
فمعذرة للجميع و تحية خالصة
النص و التقعيد:
لم تولد خليلية الشعر مع الخليل. بل ولدت مع الشاعر في أقدمية تواجده الزماني و المكاني. و لم يولد الخليل مع القاعدة. بل ظهر مرافقا للشاعر و مستودِعا لأسراره. فهو المفتاح الذي به ينطلق في ممارسته النصية، و القاعدة التي بها يتجلى في تجدده و بقائه.
و خليلية الشعر العربي، على غرار خليلية الشعر الإنساني، أسسها الشاعر كساردٍ أولٍ للنص و " موضوعِ وحيدِ للإخبار "(1) منذ أن قال: " يا خليليَّ "(*).
و لم يكن الخليل إلا الواسطة التي يصفي بها حساباته الوجودية مع الشاعر، أي مع ذاته المتجلية في النص و المحتكرة له، على اعتبار أن النص هو بقاؤه و صيرورته عندما يختفي. كما لم يكن الخليل إلا الدافع ( Le Mobile) أو طاقية الإخفاء التي يتحرك تحتها هذا الدافع في رغبته و إلحاحه في " توصيل الأحداث الجديدة للعالم المادي و النفسي "(2).
فالخليل كمأسور شكلي في بنية القصيدة العربية هو ميدان لـ "خليلية" الأسر و التحرير التي يمارسها الشاعر ضد نفسه المتجلية في النص كلما ضاق النص بالخليل، أو كلما هرم، أو بلي، أو تعب.
إن معركة الشاعر مع التجديد هي في واقع الأمر معركة الشاعر ضد نفسه المتجلية في النص، و التي لا يمكن أن يحدّثها إلا من خلال خليلية المرآة العاكسة لمطلق الشاعر المتجدد عبر الأقنعة النصية. فالشاعر هو الذي يبدع الأقنعة و يستبدلها بأقنعة يبدعها بصورة يصبح فيها النص زخرفة قابلة للامتداد إلى ما لانهاية (3). و ليس ثمة قناع دائم بالنظر إلى مطلقية وجه الشاعر الحاضر المتجدد. و ليس ثمة غياب للشاعر، و بناء عليه، فليس ثمة غياب للقاعدة التي يكشف بها عن لانهائية الاحتمال النصي في بحثه عن الإدهاش و الامتياز. و "امتيازه في أنه يسبق القاعدة "(4)، كالرعد يسبق العاصفة يؤسسها و يمهد لها.
إن خليلية القاعدة متولدة من الخليلية المتجددة للشعر كامتياز سابق. و لا يمكن أن تعبر القاعدة عن مطلقية النص إلا في تعدديتها، أي في مجمل ما يتيحه الشاعر من احتمالات لَبوسية تعكس و تضمن في إجماليتها صيرورة النص، و من ثمة صيرورة الشاعر.
و من هنا كان الناقد كخليل متجدد باحثا عن القاعدة و في القاعدة و ضد القاعدة. يكتشف و يحتفي، يسهر و يختصم، و يبحث عن مطلق للقاعدة كوحدة بنائية من خلال التنظير لها. و يعتقد أن التنظير للقاعدة هو التنظير للنص، في حين أن النص يؤسس بنفسه لمنطلقاته النظرية،و التي بموجبها يصبح قديما أو حديثا في نظر الناقد. و من ثمة فإن الناقد لا يقوم في نهاية الأمر إلا بـ "الاكتشاف الخليلي" من خلال اتخاذه للنص أداة و مفازة للبحث عن فهم أمــثل لنص قديم متجدد في تواصله. لذلك فهو يحاول أن يحتل حيّزية المكان الناشئ كل مرة في النص و المتولد منه، من خلال إعادة قراءة مكانية النص المتحولة عبر الزمن، و المتخذة أشكالا و أقنعة مختلفة.
و إذا كان الشاعر خاضعا في تجدده لمطلقية الخليلية المتولدة معه و هو يبحث عن مكانية النص المستقبلي على اعتبار أن " تــاريخ الشعر هو في مستـقبله "(5)، فإن الناقد خاضع لمحدودية القاعدة. و لذلك يبدو كل تغيير تحديثا، و كل قاعدة مطلقا في نظر الناقد. كما تبدو كل إعادة ترتيب للبيت " الشعري" ثورةً على مطلقيةٍ شكليةٍ و استبدالها بمطلقيةٍ شكلية جديدة.
إن تغيير قواعد اللعبة ليس تغييرا للعبة في حد ذاتها، لأن اللعبة دائمة و القواعد متجددة. و لذلك يبدو للناقد " الخليل" أن الشاعر " استبدل المطلق القديم (وحدة البيت ) بمطلق جديد هو وحدة التفعيلة "(6).
إن وحدة البيت كبناء معدود في تفعيلاته و محكوم في تقفيته، يقدم صورة إيهامية عن اكتمال البنية في شكلها العمودي، و من ثمة اكتمالها في جمالية الطرح الذي تُخبر به هذه البنية في القصيدة العمودية. لكنه ينبئ و يوهم كذلك- منذ أن تبناه الشاعر كصورة تبدو للقارئ مكتملة- ، عن كمون لانهائيةِ الاحتمال (داخل البيت ) التي يضمن بــها الشاعر صيرورته في النص و تجدده عبر مكانيته و زمانيته، من خلال الانتقال من وحدة أكبر التي هي البيت، إلى وحــدة أصغر، و التي هي التفعيلة. " إن أكبر الرياضيين قد تجاوز المفهوم العددي و المهيكل [..] بإدخاله للانهائي ضمن المعدود [..] عندما وضع الحساب التفاضلي "(7).
و من هنا كانت صعوبة الخروج عن المعدود البيتي المنتظم داخل عروض القصيدة العمودية في مخيلة الناقد و القارئ، و صعوبة تبني شعر التفعيلة كاحتمال جديد داخلٍ ضمن المعدود، من طرف الذوق العام الذي لم يألف " الوزن الحديث الذي قام بتوليده السياب و الملائكة "(8)، على الرغم من أنه " تلبية للإحساس الجماعي بتغير إيقاع الحياة بعد دخول التقنية الغربية إلى حياتنا "( 9). و لذلك بدا للناقد الذي يبحث في محدودية القاعدة، و كأن الوزن الحديث "يفتقد إلى ضابط (Norm )يقيس إيقاعه عليه "(10).
و مـن هنا، كانت كتابة قصيدة التفعيلة ( الملائكة، السياب) ثورة على البيت، و كتابة قصيدة النثر ( رواد مجلة شعر ) ثورة على التفعيلة. و كان الشاعر في ممارسته النصية، من خلال تفجير القاعدة، سبّاقا في التأسيس لسلفوية القاعدة و تقدميتها بوصفها حكما يتخصص الناقد في إطلاقه على الشاعر من خلال اتخاذ الشكل ميدانا لقراءة الذات الجمعية في رجعيتها و تقدميتها، في جمودها و تحررها. و لم تكن هذه القراءة في واقع الأمر إلا تعبيرا عن محدودية القاعدة و تغيُّرها في الممارسة النصية.
و لعل البحث في محدودية القاعدة سيصبح نقطة التثبيت ( Point de fixation) الجوهرية التي يحاول الناقد أن يأسر من خلالها جمالية النص المعبرة عن لانهائية الاحتمال الظاهر في الشكل، و التي جعلت رولان بارت يعتقد ،في نهاية المطاف، بأن " النص لا يوفِّر للقارئ بنية، بل عملية تنظيم و بناء ( Structuration ). أي عملية يقنع القارئ نفسه -خطأ بلا شك- بأن العمل الأدبي بنية و نظام "(11). و لذلك يبدو النص "الشعري" بأنه مُتعِبٌ و غير ذي جدوى، لا في قاعدته فحسب، و لكن في البحث عن آليات قاعدته المتغيرة كذلك. لأنه لا يعبر عن محدودية الذات من خلال محدودية القاعدة التي يتلبسـها النص في صـيرورته و تجدده، و إنما يعبر عن " الفردية الاستثنائية، الغنية و القوية [...] القادرة على أن تعيش رؤيةً للكون حتى في منتهى عواقبها "(12).
إن الشاعر يزعجه استتباب النظام و سكونية القاعدة. و لذلك فهو في كل تغيير للنظام ينضح بروح عصره. و من ثمة، فهو يفضح و يعرِّي مرحلية العصر في تاريخيتها. و لذلك كان دائما "الأساس الذي يسند التاريخ "(13) في شموليته، حسب تعبير هيدجر. و من هنا، كانت بنية البيت التقليدية،لا دخولا إلى ظلام القاعدة و انغلاقها (داخل البيت)، و إنما خروج إلى رحابة التجريب و حــرية المغامرة الإبداعية التي تلخـــص القاعدة من خلال تجزئتها، و تخلصها من استاطيقية التصور الذي يريد الناقد أن يأسرها فيه. و من هنا كانت الزحافات و العلل هي التعبير المادي عن محدودية القاعدة التي اكتشف الخليل (الناقد)، في بحثه عن مطلقيتها، أن الشاعر يجوِّز لنفسه ما لا يجوِّزه لغيره.
إن ما يحرّك الشاعر كسارد أول، ليس عمودية الشعر، أو بيتية القصيدة، أو تفعيلية البيت، أو إطلاقية (14) التفعيلة، أو وتدية القول الشعري، أو سببيته.
إن ما يحرك الشاعر في اقتراحه للانهائية الاحتمال الكامن في هذه الأقنعة التقعيدية التي يضمن بها صيرورته من خلال الممارسة النصية، هو تصاغر هذه الاحتمالات و فناؤها في ثنائية الساكن و المتحرك،لا كحركية شكلية عرَضية (عروضية )، و إنما كثنائية فلسفية وجودية تطرح المساءلة الأساسية للحياة في تواصلها عبر الأقنعة المتجددة. و يبدو النص و كأن لا جدلية أخرى تتجاذبه غير جدلية الساكن و المتحرك. لهذا كان الشعر اختصاراً للعالم، و نبوءةُ الشاعر هي في إرجاعِهِ هذا العالمَ إلى حيث ابتدائيته التكوينية التي جعلت سقراط يعتقد بأن " الشعر واحد " (15) في جَرَميَّتِه المُختصِرة للكون.
و من هنا، كان سؤال الحداثة من خلال النص، متجاوِزاً و متجاوَزًا في آنية طرحه، إلى ما بعد الحداثة. و كانت حداثية النص همًّا آخر ينضاف على عاتق الخليل ، في حين أن الشاعر لا يعمل أكثر من تغيير الأقنعة .
مرجعية الشكل و النص/ الظاهرة:
إذا كان التجديد في النص ينطلق من البحث عن الإدهاش، فإن البحث في التجديد ينطلق من الغرابة التي يولّدها الإدهاش. و ثمة فرق بين علاقة الشاعر بالنص و علاقة غيره بالفكرة التي يحملها عن النص. فالأول علاقته "صُريّة"، عاشقة و نرجسية، بينما علاقة الثاني عائلية، حاسدة و غيريّة. و بقدر ما يخبر النص في شكله عن نوايا الشاعر، بقدر ما يُحيل الشاعر إلى لنص لكي يجيب عنه. و لذلك يبدو النص مسؤولا أمام الشاعر، و الشاعر مسؤولا عن النص (16). و أن أي مساءلة للنص، إنما غايتُها البحث عن الشاعر الساكن في النص، و المبثوث عبر الإشارات التي يضعها فيه، و التي ينمّي من خلالها "القارئُ و الجمهورُ طاقة ذاتيةُ تسهم في صياغة التاريخ و صنعه "(17).
هل كانت نازك الملائكة و معها بدر شاكر السياب حدّا فاصلا ، و معلما زمنيا لثورة النص على نفسه ؟ أم كانت مجرد حلقة من حلقات التواصل الزمني للنص في تجدده عبر الأزمنة ؟ و لماذا انتشرت عدوى "الكوليرا " بسـرعة كبيرة و أصابت معظم الشعراء في حين كانت " المقاومة "عنيدة من قِبَلِ النقاد ؟ و هل كانت فجائية التغيير أم فجائية الشكل سببا في عناد المقاومة ؟
إن القاموس اللغوي المستعمل في وصف حركة التجديد الشعري ( الشعر الحرّ (18)، التحرر(19)، التغيير(20)، الثورة (21)، الرفض (22)..) لا يستمد مصداقيته الاصطلاحية من النص بقدر ما يستمدها من تاريخية المرحلة التي ظهر فيها النص (**)، وشكلت هامشه النقدي الذي يبحث له عن سند تقعيديٍّ انطلاقا من معاينة المتغيرات الظاهرة في النص، و البحث عما يبرّر أسباب ظهورها من خارج النص، أي من واقع تاريخية المرحلة التي أفرزته، خاصةً في جانبها السياسي و الاجتماعي. و ستعيد بنية النص الجديدة صورة الذات الجمعية للناقد/ القارئ الرافض لتغيـُّرِهِ المكبوت على المستوى النظري، و المتمظهر واقعياً في عدم تمثّل الموقف النقدي ( و الفكري بصفة عامة) لتاريخية المرحلة التي ظهر فيها النص بكل متغيراتها السياسية و الاجتماعية و الثقافية.
و لعل الإدهاش الذي حمله النص الجديد، في شكله أولا، هو الذي سيجبر الناقد على إعادة تشكيل المساءلة المتعلقة أساسا بالذات الجمعية العربية في علاقتها ( و علاقاتها ) مع النص. و هي مساءلات لا ترتبط فقط ببنية الخطاب الإبداعي، و إنما بمجمل الأطروحات الفكرية و الإيديولوجية و السياسية التي حملها الخطاب النهضوي.
إن هذه المساءلات كانت تبحث، في جوانبها المتعلقة بالخطاب الإبداعي- و كذلك في جوانبها المتقاطعة معه-، عن إجابة يقدمها النص في تغـيّـره الشكليّ "المفاجئ " الذي سيؤسس - بالنظر إلى المعطى الثابت الذي كانت تتنافس داخله التيارات النقدية التقليدية للبحث عن جديد اللفظ و جديد الموضوع - لـ"ثورية النص"على مستوى التصور النقدي، و من ثمة، على مستوى الممارسة النقدية لدى النقاد الذين اتسمت محاولاتهم الأولى بـ "التوجه التصنيفي [..]و نزعة تبسيطية تقوم على انتقاء جملة من القضايا و دراستها في إطار، هو في الحقيقة، هامش النص و ليس النص ذاته" (23).
و سينمو هذا الهامش نموا تصارعيا (Conflictuel ) برّانيا بين المعارضين للنص للشعري في شكله الجديد و بين المؤيدين له، من خلال مقاربتين هما المقارنة البصرية من جهة، و اعتمادُ عناصر خارجة عن النص من أجل قراءته و البحث عن مبررات تغيره من جهة ثانية.
و سنحاول أن نتعرض لهاتين المقاربتين من خلال التركيز على الظاهر الشكلي للنص و الدور الذي أداه في إعادة بناء المتخيل الشعري الجديد ، و التأسيس لرؤية نقدية تتعامل مع هذا الظاهر الشكلي تعاملا مختلفا:
1- المقارنة البصرية (Comparaison visuelle ):
لعل النقطة الأكثر أهمية في تعامل النقاد مع الظاهرة الشعرية الحديثة، تكمن في بروز موقف نقدي يحدد من خلاله الناقد جدة النص الشعري أو قدمه، حداثته أو تقليديته، من خلال معطى شكلي بحت يؤدي فيه العنصر البصري دورا مُهمًّا في التفريق بين فجائية الشكل الظاهر في النص الجديد و بين ما رسخ في ذهن الناقد و القارئ معًا من تصورٍ للبناء الشعريّ القديم في صورته الاستاطيقية الدائمة الحضور.
و إذ تستقي هذه الصورة الثابتة مرجعيتها من تدوين النص الشعري، و كتابته في إطار بناء ذي شطرين متوازيين، فإن أصولها إنما ترجع إلى إحدى الركائز الأساسية المكوِّنة للثقافة العربية و هي الشفوية (Oralité ) التي انبنى عليها الذوق العربي المرتبط أصلا بالسـماع الذي يتجاذبه عنصرا الإلقاء و التلقي بوصفهما ثنائية ثابتة رسّخت "الصورة السمعية" للنص ودعّمت قدسيةَ بنائه الشكلي.
و قد لعب الإيقاع بمجمل أدواته (الوزن، القافية، العروض، الموسيقى) (24) دورا أساسيا في تشكيل صورةٍ صوتيةٍ أسست لحميمية العلاقة بين الشاعر و السامع ( الملقي و المتلقي ) في بنيتها التقليدية، و وطّدت أركان الجسر الإيقاعي الذي يمرّان عبره من" مربدية النص" إلى " عكاظيته" ، من خلال حداثات (25) تطالُ عمر النص، و تصوُّرٍ واحدٍ لبناءٍ سابقٍ لنفسه في ظاهره المدون، و كأنه " الوحيد الذي يؤمِّـن استمرار العمل "(26).
فلم يكن عنصرَا الجدة و القدم يتحددان من خلال الشكل في عروضيته التقليدية، و لكن من خلال عناصر التجديد المتعلقة بالبلاغة الكلاسيكية التي بقيت مقياسا للحكم النقدي لا على شعر رواد الحركة الرومانسية (27) المعاصرة لظهور لحركة التجديد فقط، و إنما على مجمل الإرث الشعري العربي. و ذلك على الرغم من التطور الذي مسّ هذه النصوص من الناحية العروضية داخل البحور الشعرية التقليدية. و قد شهد النص الشعري في بنيته العروضية التقليدية تطورا أدى به إلى الخروج من تواتر البيت في تساوي شطريه و تواتر قافيته إلى أنواع عروضية أخرى كالمسمط و المخمس التي انتشرت في عصور متأخرة. " و قد عرف الدارسون هذه الأنواع بما يجعلها أساسا وحدات صوتية، أو بالأحرى توزيعا موسيقيا جديدا داخل القصيدة " (28).
و قد بقي الشكل العمودي ذي الشطرين المتساويين مرتبطا في تواتر بنائيته و تكرارها، بهذه الصورة الراسخة في ذهن المتلقي وحاميا لها من أي نشوزٍ صوتي و موسيقي من خلال ممارسة القاعدة العروضية لسلطتها على النص، مُحصيةً "عيوبه و ثغراته، حارسةً لكل امتداد دلالي لنفسية الكلمة بزحافةِ وقصٍ (29)، أو علّةِ حذٍّ (30)، و معاقبةً "فيضَ النص" بتهمة الخروج عن قدسية نظام الشطرين المتساويين الذين ينتظم داخلهما القول الشعري.
و أصبح الشكل ( شكل القصيدة ) - في هذه الحالة - معطىً جاهزًا يحيل بطريقة آلية، إلى بصريةٍ ثابتةٍ تكفّلت الأذن الموسيقية بترسيخها في المخيال الشعري العربي بدرجة أصبح فيها الإغراقُ في التركيز على " ثبوتية الشكل"(31) و ترسُّخه في الصورة السمعية للمتلقي، مؤديًا " إلى تفكك القصيدة، أي إلى وجود الإيقاع بشكل مستقل عن الصور و الأفكار، و إلى أن يكوِّن وظيفةً مستقلةً عن وظيفة القصيدة "(32).
إن توزيع النص توزيعا مغايرا و مختلفا (33) هو الذي سيُدخل عنصرًا مُهمًّا في الانعطاف الإبداعي للنص، و يؤسس لـ"ثوريته " من خلال المـــقارنة بين ما كان عليه النص في شكله القديم، و ما آل إليه في صورته الجديدة، و ذلك من خلال إعادة تشكيل بصرية النص في ذهن المتلقي.
و لعل هذا العنصر البصري (L’élément visuel ) هو الذي سيكتشف من خلاله الناقد/القارئ توزيـعا جديدا للنص، لا من خلال الرؤية العينـية الواقعية المرتبطة بقراءة النـص مرسوما (34) على بـياض التدوين فقط، و إنما من خـلال ما يقترحه "البصري" ( Le visuel ) من قيم إيحائية " بحيث يصبح المعوَّل في تلقي القصيدة على ترتيب الأحرف، و أحجامها ،و مسافات الفراغ بينها، مما يستوجب قراءتها قراءة أوركسترالية تعتمد على النظرة الكلية التي تشمل النص أفقيا و عموديا "(35).
و لعل ثنائية الشكل و المضمون التي انبنى عليها المتن النقدي في تعامله التقليدي مع النصوص الشعرية ستنـزاحُ بانزياح البعد العروضي للشكل الشعري،" الذي وصل عند البعض، نتيجة التكرار و استخدام الكلمات آليا، إلى حالة من الثبات صار معها نظاما "(36) ، و تترك المكان لمقاربة نقدية أكثر التصاقا بالنص في البحث عن جوهر المساءلة التي أدت إلى تغـيُّره، و تعيد قراءة قدسية العمود الخليلي من خلال ثورة النص التي أصبح بموجبها الشكل الجديد، لا محيلا إلى المضمون و مسكونا به، و إنما دالاًّ على النص و مُخبرا - في ذاتيته اللغوية - عمّا " تتسم به الأشكال من صفة معنوية "(37) .
و لئن ارتبطت مقاربات النقاد في تعاملهم مع النص الجديد بالبنية العروضية و الموسيقية من جهة، و ببنية المضامين ( الموضوعات، التوجهات، الأفكار ) من جهة ثانية، فإن إعادة تشكيل النص من الناحيتين الموسيقية و البلاغية ، و إعادة توزيعه و تدوينه وفق بصرية مختلفة، ستفرض على القارئ/الناقد إعادة تشكيل تلقِّيهِ للنص من الناحية السمعية، و من ثمة إعادة تشكيل أذن موسيقية مخالفةٍ هي الأخرى. و لعل هذا ما يفسر "عناد المقاومة " التي رفعت شعار التنبؤ بـ"موت النص"، و راهنت على استحالة مستقبليته. و هي في واقع الأمر مناداة بموت إيديولوجي للشاعر بوصفه حاملا لمشروع حداثة تتبنى جمالية مختلفةً، و مُزعجةً للجمالية التقليدية.
و لعل هذا الموقف يُنبئ عن خوفٍ من موت النص التقليدي أكثر مما يُنبئ عن خوفٍ من ديمومة النص الحديث. كما يُنبئ عن صعوبة إعادة صياغة التلقي وفق منظور يرفضونه أصلاً. و سيرسم النص "الرافض المرفوض" خريطة التموقع في معركة الحداثة عن طريق توجهين يسعى أحــدهما إلى البحث عن حداثةٍ مُقاومةٍ داخل البناء الشكلي القديم (38)، و يسعى الآخر"الرافضة المرفوضة "(39) إلى توطيد الشكل الجديد في المخيال عبر شرح آليات ميلاده من زاوية عروضية بحتة. و لعل هذا ما جعل كثيرا من الشعراء المحدثين و من بينهم نازك الملائكة يبحثون عن تبرير عروضي بحت لإقناع الأذن الموسيقية التقليدية بجدوى التغيير و ضروريته.
2-القراءة من خارج النص( Lecture extratextuelle):
لقد شكل النقد، "باعتباره قراءة احترافية "(40) عاملا حاسما في التهييء للعلاقة التي ستربط النص بالقارئ، و التأسيس لها، سواء أكان هذا القارئ مدافعا عن النص الشعري الحديث أو رافضا له ، و ذلك وفق أدوات يمتلكها هذا القارئ باختلاف استعداداته ونظرته التوافقية أو التنافرية. و هي أدوات حاول من خلالها الناقد البحث عن أسباب و مبررات "التغيير المفاجئ" الذي مسّ المتن الشعري العربي. و تتجلى أشكال المقاربة التي سيعوّل عليها لمساءلة النص في إلغاء التعامل معه مُحيلا إلى نفسه، و الاعتماد على مرجعياتٍ و آليات خارجةٍ عنه و"حائمةٍ حوله "(41) و ذلك بـ:
أ- محاولة قراءة النص الشعري عن طريق نص آخر، و هو النص الغربي من خلال المقارنة بين بنيتيهما الشكليتين، و البحث عن معادلٍ موضوعيٍّ ينفذ عبره الناقد، لا إلى عوالم حداثة النص العربي فقط، و إنما إلى عوالم الحداثة الشعرية الغربية كطرح آنيٍّ - ضمن أطروحات الحداثة الغربية ككل- مصاحبٍ لتغيـُّر النص، و محفِّزٍ لمٌساءلةِ التحولات الجوهرية التي حدثت على الذات الجمعية.
و ستؤدي المقارنة البصرية بين الشكلين القديم و الحديث، إلى افتقادٍ للعلامة المرجعية في النص، والتي تُمكِّن الناقدَ من تصنيفه ضمن دائرةٍ موثّقة في شكليةِ الموروث، و تُؤمِّن مكانيتَهُ في حاضرِ المتخيل. و بدا النص في شكله، و في خصوصية جماليته، و موضوعاته، أقربَ إلى الموروث الشـعري الغربي منه إلى الموروث الشعري العربي. و لعل غياب هذه المرجعية هو الذي سيؤدي إلى المقارنة بين "النص الضال"و بين النصوص الشعرية الغربية.
و قد أدت أوجه المقارنة الأولية إلى الحديث عن "وجهةٍ أخرى للنص هي وجهة الشعر الغربي "(42) و الاعتراف بحضور هذا الأخير في حنايا الشعر الحر خاصةً في النماذج التي يمثلها ت.س. إليوت و عزرا باوند (43).
ب- محاولة قراءة النص الشعري عن طريق الشاعر متلبسا بظرفه التاريخي و الاجتماعي، و ذلك من خلال التركيز على السيرة الذاتية للشاعر في أبعادها الشخصية و الاجتماعية و الإيديولوجية و السياسية، كمطية لفهم الشاعر الذي يمتلك مفاتيح النص. و لعل تركيز النقد العربي على السياب (44) ، و الاستفاضة في شرح الجوانب المظلمة و المضيئة من حياته الخاصة و العامة بكل أبعادها، يدخل في هذا الإطار الذي أصبحت من خلاله حياة السياب الخاصة أنموذجاً لفهم نصِّه الشعري و نقطةَ تبئيرٍ( Focalisation) لفهم النص الحديث و تفسيرهِ بصفة عامة .
و قد أدى هذا التعامل مع النص - في تغيره المفاجئ من خلال سيرة الشاعر و حياته-، إلى ربط الموقف السياسي أو الإيديولوجي للشاعر بشكل النص الذي يبدعه. و أصبح النص بموجب هذا التقسيم يرزح تحت وطأة التمييز الإيديولوجي بين سلفوية الشاعر المُنتجة لـ "سلفوية الشكل"، و ثورية الشاعر المُنتجة هي الأخرى لـ "ثورية الشكل "(45) وفقا لمنظوراتٍ حَداثيةٍ متناقضةٍ تتخذ من الشكل ميداناً لمعركةٍ تتنافس داخله تيارات حاملة لمـشاريع سياسية و إيديـولوجية متعددة المشارب. و لعل في هذا التعامل مفارقةً ظاهرةً أدت بالعديد من النقاد فيما بعد، إلى الفصل بين "ثورية النص" في شكله الظاهر، و موقف الشاعر الذي أبدعه، من خلال تفهم أكثر عمقاُ للآليات الإبداعية المُولِّدة للشكل الشعري، و إشكاليات ظهورها. و تبينَ فيما بعد " أن الشكل الجديد ليس تقدميا بالضرورة. فهناك أشكال جديدة يبدعها المثاليون "(46).
ج- محاولة فهم المشروع الإبــداعي الـذي يخبر عنه النص في شكله الجديد عن طريق مشروع إبداعي غربي. و سيتكفل الناقد/ القارئ بمتابعة الخيط الرابط بين النص الجديد و " أبوَّته الغربية " عن طريق إعادة صياغة أسئلة الخطاب النهضوي العربي صياغة إبداعية أدبية اعتمدت على إفرازات هذا الخطاب الأولية المتعاملة مع الواقع العربي و اصطدامه بواقع آخر و حقيقة أخرى مغايرتين و هما: واقع و حقيقة الغرب اللذان فتح الإنسان العربي عينيه عليهما في بدايات القرن الماضي. ولم يكن من الممكن أن تكون هذه الصياغة صياغة تثاقفية تناصية. بل كانت صياغة تصارعية تصادمية مرتبطة بالشرط الاستعماري و استيلاء الغرب من خلالها على الجغرافية المكانية و الزمانية إنْ على مستوى الواقع أو على مستوى المخيال.
و كان من البديهي أن تتبلور الإشكاليات التي طرحها عصر النهضة في البحث عن مفهوم جديد للإبداع في مجالاته المختلفة، و تتحدد بالنظر إلى آنية الواقع و علاقته بما سبقه و بما هو لاحق به. و بصورة أخرى: كيف يمكن للإنسان العربي أن يحدد ذاته بالنظر إلى زمنين يتجاذبان حاضره: زمن ماضٍ (حاضر في غيابه) فيه لمعان و بريق، و زمن يكاد يكون المستقبل (غائب في حضوره ) فيه لمعان و بريق و لكنه ليس له. و كيف يمكن أن يجد خلاصه ؟ هل في الإتباع أم في الإبداع ؟ في الماضي أم في الحاضر ؟ في الأصالة أم في المعاصرة ؟ في القديم أم في الجديد ؟
و قد كان لهذه الأسئلة التي توضّحت من خلالها تقريبيةُ المصطلحات وقعٌ ثقيلٌ على الأدباء الشعراء و النقاد، و هم يحاولون تحديد مواقفهم من التراث العربي، و من ألوان الإبداع المغايرة التي يطرحها الغرب في أشكالها و مضامينها. و ربما تحمّل النص في تمظهره الخارجي - باعتباره مُشعلا للفتنة-، وزرَ هذه الأسئلة الجوهرية، لا باعتباره نصّا مُنتجا لكيانِه الخاص، صائغاً لهذه الأسئلة مُستبطناً لإجاباتها، و إنما باعتباره منتوجا إيديولوجياً يتحمل الشاعر بموقفه الإيديولوجي مسؤولية أشكاله ، و بالتالي مسؤولية انتمائه لأحد طرفي الصراع .
فتنة النص و مسؤولية الشاعر:
يُنبئ النص، من خلال ميلاده و "اشتعاله" بين هزيمتين (***)، عن ضرورة الميلاد و حتمية "الاشتعال". و من هنا كان مُنذرا بضياع الكيان، و مُحذّرا من وقوع الهزيمة، سابقاً في تصوّره لحداثِه و حداثة ما يجب أن تكونَ عليه مقروئيةُ جماليته المغيـّبة من طرف الناقد/ القارئ. و من هنا كان النص يحمل في حنايا فاعليته الإبداعية شرْطيةَ الفعل التاريخي المـُطالبة بحتمية التغيير، و الهاربة من أسْرِ الواقع العمودي المراوح مكانه، و المبهوت باهتزاز أرضياته ، و تفكك بناه التقليدية إلى فضاءات تبحث في حقيقة الواقع عن أرضياتٍ و بنىً أشدَّ تماسكاً بمحاولة فهمها "فهما شعريا و اعتماد الطرق الشعرية لإدراكها "(47).
و إذا كان للنص حرية كتابة نفسه و اختيار شكله و هويته (48)، فلم يكن له حريةُ اختيار مقروئيته. بل كان عليه واجبُ تأسيس وجودها، و تشكيل جغرافيتها في مخيال القارئ. فميلاد النص اقتضى ميلاد القارئ. إذ ليس هناك نص بدون قارئ. و لم يكن ممكنا أن يكون الميلاد غير " كوليرا " تصيبُه سرعةُ انتشار عدواها، و غير "أنشودة مطر" تحمل غيث تجدده و أمل بقائه. و لذلك كان النص انتصارا بين هزيمتن و "بيانا سرياليا "(49) فاتنا و" واقعية خارقة "(50) في رسم صورته الشكلية، و داعيا القارئ إلى إعادة النظر في بصَريَّته التي بها يرى.
إن حتمية الظرف التاريخي التي استطاع الشاعر أن يبدع في أحضانها نصاًّ شعريا جديدا، لم تكن لتستوجب إقناع ذاته الخاصة بحتمية التغيير فحسب، بل إقناع ذاتٍ جمعية متفردة في حرصها على ما تبقى لها من تصورٍ للبنية الذوقية و الجمالية الماضوية من جهة، و متفردةٍ كذلك في طرح المساءلات الحضارية الجوهرية التي أفرزتها حتمية هذا الظرف بكل متغيراته السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية و انعكاساتها على الحياة اليومية للإنسان العربي.
و لعل انتصار النص يكمن في تمثل مبدعه لهذا الظرف وتحـيُّنِه لفرصةِ إحداثِ التغيير، ليس فقط في البنيات الشكلية و الجمالية المترسبة، و إنما في وعي حركة التجديد بأهمية تجسيد التغيير الجمالي و الشكلي تجسيدا لا يخرج عن جمالية التطور الطبيعي للشعر العربي(51).
إن مسار القصيدة العربية في حركيتها الشكلية - من حيث كونها تمظهرا ظاهريا للتغيير- كانت تعكس مسار هذا التطور من خلال إتاحة فرص التجديد الكامنة في البنيات الداخلية للقصيدة العربية كوحدة كبرى و مكرِّرة للوحدة الأساسية التي هي البيت الشعري.
إن أهمية التجديد الشعري لا تكمن في اكتشاف الشاعر المعاصر لإمكانية كتابة شعر حرٍّ بتفعيلة واحدة، و التخلص من المحطات الإكراهية التي بُني عليها هيكلُ القصيدة العمودية كتـساوي الشطرين و القافية باعتبارهما أداتين إلزاميتين لإيقاعٍ خليليٍّ متجانسٍ و مشتبهٍ، و ذلك لأن الشاعر العربي قد عكس مسارَ هذه الحركية في ظاهر النص الشعري من خلال كتابته لشعر التفعيلة الواحدة داخل " البنية البيتية " من خلال ما يسميه العروضيون بالبحور الصافية (52). و لم تكن القافية موقفا اضطراريا في مجمل نصوص الشعر العربي بكل مراحله التاريخية، بل كانت في بعض هذه المراحل، موقفاً اختيارياً عرف الشاعر العربي كيف يتعامل معه فنيا و جماليا وفقا لتطور الذوق السائد في هذا العصر أو ذاك. و ذلك لأن " شعر التفعيلة يمثل الحلقة الأخيرة من سلسلة حركات التجديد في الإطار الشعري، و هي سلسلة تتصل جذورها بسائر الحلقات السابقة من بدايتها إلى نهايتها " (53).
و من هنا فإن التخلص من العنصرين الأساسيين في البنية البيتية الظاهرة في القصيدة العمودية و هما: الإلزامية العددية لتفعيلة البيت الشعري، و الإلزامية الترصيعية (القافية) التي تكتمل من خلالها بناء البيت في تصوره الإيقاعي، لم يكن وليدَاستبدالِ ظاهرٍ بظاهرٍ أو ثوبٍ بثوبٍ، بقدر ما كان وليد حتمية تاريخية اقتضتها حركية التغيير التي شملت مجمل البنيات السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية التي شهدها المجتمع العربي في ظرف تاريخي مركز و متسارع كان على الشاعر العربي أن ينتقل، من خلال تمثل آلياته، من حتمية الإيقاع الموسيقي و الجمالي للبيت الشعري، إلى رحابةٍ موسيقيةٍ و جماليةٍ اقتضتهما إمكانية التجريب و حرية لبناء من داخل المعدود البيتي للقصيدة الكلاسيكية، و من ثمة التأسيس على عدم الالتزام بإلزامية هذين العنصرين.
و لعل هذا ما يفسر سرعة انتشار حركية هذا التغيير، و سهولة استيعابه و تبنيه بدرجات متفاوتة من طرف العديد من الشعراء في مجمل الخريطة الشعرية العربية و من ضمنهم الشعراء الجزائريين كـ أبي القاسم سعد الله و الحبيب عبد السلام و محمد صالح باويه.
غير أن هذا الانتقال النوعي، في شكلية البناء الشعري، كان يحمل في هوية النص بيانَ المجازفة الخطيرة المتجاوزة للبناء البيتي كاحتمال موسيقي و إيقاعي كامن في البيت الشعري العربي لتطرح بالضرورة إشكالية الخروج من البيت، و التأسيس لما سيسمى بالقصيدة كـ "شكل إيقاعي واحد أو كثير، ضمن بناء واحد "(54)، و المنتقلةِ بالمخيلة الشعرية من مفهوم البيت كما ينظر له الجرجاني و بن طباطبا و المرزوقي في إطار نظرية عمود الشعر، و يقعد له الخليل بن أحمد و سائر العروضيين من الوجهة الشكلية، إلى التأسيس لمفهوم جديد للشعر ينطلق من قناعة داخلية تبرر و تدعم الصورة التي سيظهر بها الشعر الجديد لدى المتلقي الذي لم يألف في الشعر العربي من الشكل إلا عموديته و من اللفظ إلا جناسه و طباقه.
و لعل هذا التطور الطبيعي للشعر العربي في بنيته الشكلية هو الذي سيؤسس لانتقال المخيال الشعري العربي من البناء العمودي إلى التفعيلة، و من البيت إلى القصيدة، و من القصيدة إلى النص. و من هنا، كان لا بد من البحث عن جماليات جديدة لا تمحو بالضرورة الجماليات الكلاسيكية التي لم يكن من السهل أن يتخلص المتلقي من استمرارية أحاديتها في تكوينه الثقافي و تذوقه الجمالي للشعر.
و إذا كانت التنويعات الإيقاعية في البيت الشعري هي التي تتحكم في القصيدة عروضيا بطريقة تكرارية تكون فيها القصيدة جزءا إيقاعيا كامناً في البيت الشعري، تسكنه شكليا و نغميا، فإن أهمية حركة التجديد، بخروجها عن إلزامية عدد التفعيلات و إلزامية التقفية، إنما أخرجت القصيدة - كمعطى عروضي - من البيت ليصبح البيت جزءا من القصيدة، خاصة في بحوره الخليلية الصافية، و من ثمة البحث عن احتمالٍ موسيقيٍّ حاضرٍ في البناء الشكلي، و لكنه غير مستغلٍ، يتيح " القضاء على قوالب نظمية فرضت نفسها لأكثر من ألف وخمسمائة سنة "(55) و إعادة قراءة خليلية القصيدة العربية قراءة اقتضتها حتمية التصور الجديد للفن عامة و للشعر بصفة خاصة، إذ "ليس امتياز الشعر في أنه يخضع لقاعدة ثابتة [..] بل امتيازه في أنه يسبق القاعدة " (56).
و لم يكن القضاء على هذه القوالب العروضية الراسخة في مسيرة التصور الحضاري للشعر كديوان وحيد للعرب مجرّد " موجة عابرة أو طفرة فردية " (57). كما لم يكن " نزوة، و لا مزاجا، و لا قرارا فرديا " (58)، بل كانت اقتراحا تنظيريا لما يجب أن يكون عليه الشعر من خلال ممارسةٍ جديدةٍ للكتابة من داخل النص الشعري الجديد. و من ثمة فتح العوالم الأساسية لتصورٍ نقديٍّ يرصد " المواقع التي تحرك منها ،و الثوابت التي تغير عنها " (59).
و من هنا كذلك، فإن اختراق الشاعر للبنية المغلقة ( Structure hermétique) للقصيدة الخليلية، هو اختراقٌ (من الداخل ) لخليلية التصوّر البلاغي المترسب في المتخيل اللآواعي للمبدع و المتلقي معا، و التأسيس لبلاغة جديدةٍ و لباطنٍ نصيٍّ ينسجمُ مع الظاهر الشكلي، من خلال استلهام روح العصر، و البحث عن تناصٍّ حضاريٍ مع الآخر الحاضر في صراعنا مع النفس، من أجل مثاقفةٍ واعيةٍ بأبعادِ العملية الإبداعية.
يتبع.../....