المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : بوح



مأمون احمد مصطفى
01-06-2007, 11:49 PM
بَوْح

" 1 "


حين دعوت الليل ليستريح على صدري، ويلقي بظلمته الموغلة بالمجهول والغموض بأعماق ليل عمري وعتمة دربي، ضحك، بسخرية واستهزاء، واخرج من أمعائه المغطاة ببياض ناصع يذهل العين ويخطف البصر لسانا متقدا بفوهات بركانية تسيل من أحشائه إلى أحشائه، واندفع يشكل ملامح الساعات ببريق جهنمي الطلعة، وسالت منه روائح نار زكية، روائح حشائش دستها في طفولة عمر تقضى بين أحضان البيارات والجبال والسهول والربى.

قال لي:

صدرك صغير، غير مكتمل النمو، لا يتسع لفراش السهل، بل لا يتسع لبيت نمل في جبل، ولا يتسع لجذر نرجسة تسكن ربوة من ربى الأرض التي تعرفك ولا تعرفها، وأنا، طويل، ممتد، من حد الكون، إلى حد الكون، كبير، من حد الأرض، إلى حد السماوات، ثقيل، لا تسعني الأرض، ولا تسعني الشمس، والقمر أعلن عجزه منذ الأزل، وصدرك صغير صغير، تنحره حبة عتمة، وتذبحه حبة ظلمة.

قلت:

في صدري عوالم مفتوحة الآفاق والآماد، تترامى أطرافها إلى اللانهاية، وتمتد جذورها إلى أعماق لم تصلها عتمتك أبدا، ولم تغزوها ظلمتك، وعلى صدري جلد مغطى بشعر، غابة تغص بالغنى، تشعر بالبرد، تنتفض حرا، تتنسم رحيق النسيم المغادر ثرى الأرض لتؤصله بذاتها، في صدري تسكن حياة، تمور بها مياه الانفعال، وتتلاطم أمواج الحب، وتسجر بالغضب المشتعل، وتنساب جداول الرضى بين أروقة المجهول، وتزهر براعم عطف، تكبر، تنمو، تتحول دغلا متشابك الأغصان، كثيف الخضرة، ثخين الجذوع، تتفجر ينابيع الحنان، لتروي الدغل، لتمنحه البقاء، الثبات، الرسوخ، المتانة.

تفيض أبحر الكراهية، وتعلو أمواج الحقد، تتشكل اعاصيرا جارفة، تضرب جنبات النفس والصدر، يكبر شعر الصدر، ويعلو الجلد، يسمك، هذا بعض من عوالم تسكن صدري، بعض قليل، قلة ظلامك أمام وهج شمس دافئة.

قال:

مسكين أنت، تستحق شفقة الديدان، هل تعلم معنى الرهبة؟ معنى الوحشة؟ معنى المجهول؟ معنى العمى؟ معنى السواد؟ ومعان أخرى تتلفع بصفاتي؟ حين أخيم، يسدل الستار على الأشياء والأمكنة، على الآماد والآفاق، على الشواطىء والكثبان، على الصحارى والأنهار والجداول، كلها تضيع في عتمتي، تختفي في ظلامي، يصبح لها شكلا آخر، ومعنى آخر، فالصحراء التي تغتسل بحمام شمس، ليست هي الصحراء التي تنخرها برودة ظلامي، ليست هي التي يتجرؤ الإنسان عليها، حين أخيم، يظهر جبن الإنسان أمامي، يتجلى، دون خجل أو حياء، حين تسقط دموع تيهه على رملي الناعم، لتذوي، تتلاشى، في حين ينمو الرعب في جوفه كصبار وحشي الشوك، يخزه في قلبه، في روحه، فتراه يسقط مكوما على نفسه، عاجز عن الحركة، ثابت بالرعب مكانه، بين طيات عتمتي.

قلت:

ولكن حين تشرق الشمس، ويتنفس الصبح، تراه ينطلق محلقا بين الأغصان، وعلى قمم الجبال، كنسمة عشق، وروح شهيد، يناغي الأزهار، ويرفع الحجر عن الأعشاب المخضوضرة، كقصيدة شعر، ترن حروفها بأعماق أبي القاسم الشابي، الذي قاوم حمى المرض، ووجع الليل، بالغناء الرقيق للطبيعة والجبال، وكأن تونس الخضراء أصبحت حية فقط بكلماته، هل زرت تونس يوما، لو زرتها لعرفت أنها بديوان الشابي، أجمل منها بالحقيقة، لأنه استطاع أن يعيد بناء خضرتها من قلبه المُدَمًى وروحه المرهقة، لكنه نسيك أنت، وتجاوزك، كما يتجاوز العمر لحظات الظلام وهو يمسك بين أحداقه بشعاع شمس لا تطفأ.

هناك وفي الأرض الممتدة من نور الشمس الى نور الغناء والمرح، تكبر الأشياء وتتجلى المكونات، تنهار عوالم، وتنهض عوالم، تتلاشى آفاق وتنفتح آفاق، يصعد الدَوًريُ ليوازي الغراب، وتخرج الأفعى وهي تتلع برأسها، تنضنض بلسانها، تبحث عن فأر أو جرذ، تسخن الأرض وتغلي الدماء، يقع في روع الموت نهايات، ويبرز من قلب العدم بدايات.

قال لي:-

جاهل أنت، بل ومغرق بغرور الجهل، لأنك ما زلت تحبو على أربع، تماما كما يحبو الجنون بأعماق خلايا العقل المكسور، الكسيح، أنت والغباء صنوان متقابلان.

أتدري ما الفرق بين الإنسان المنتشر بالنور، وبين الإنسان المكور في الظلمة، هو نفس الفرق الكامن بين من يصول ويجول في لحظات الاستئناس بالوجود العارم للناس والأشياء المحيطة بذاته، وبين الإنسان المعرى أمام حقيقية ذاته وكينونته.

فالإنسان بين الناس، وتحت شعاع الشمس، وبين خيوط النور والضوء، وبين هدير الحياة والحركة، هو ليس الإنسان الذي تلفه طبقات الظلام والعتمة في جبل مهجور او صحراء خالية.

هناك تبدأ الغلالات بالتمزق والتكشف، قسرا وقهرا وجبرا، ليتهاوى قناع الذات ويتهتك، ولتخرج النفس بأبهى وأنقى صورها المتماسكة مع الحقيقة والجبن، هناك تسيل زوابع الأشياء التي تختفي في الصدور تحت ضوء الشمس ونورها.

انظر معي إلى ذاك الرجل المتروك على قمة جبل مهجور، وقد توغلت الظلمة فيه إلى حد الهوس واليقين، أتراه كيف يرتجف، خوفا ورعبا، هل تسمع دقات قلبه وهي ترج العظام وتخلخل الجمجمة، لو كنت مثلي تستطيع الانتشار بداخله، لعرفت كيف يمكن لصرخة مخفية في حنجرة يشلها الخوف، أن تمزق الكون وتفتت الوجود، انظر جيدا إلى شعر صدره الممتد كدغل متشابك، كيف ينتصب كالإبر والدبابيس، حتى يبدو وكأنه يود أن يخز الجبل فيؤلمه.

هل ترى الدموع المنهلة كمطر لا يرحم، وهل ترى النظرة الزائغة الحيرى، اعلم بأنك لا تستطيع أن تدرك ذلك، لا تستطيع أن تفهم ذلك، ولو كنت قادرا على مثل هذا، لما كانت عتمتي كابوسا يمس تلابيب دماغك، وتنسكب في رؤاك كسواد عقيم لا يحمل غير الرعب والجنون.

أنت الإنسان، ذات الإنسان، الذي ولد ليغذي ويتغذى بالغرور والجهل والغباء، بالتخفي أمام اشراقة الشمس، ليرى نفسه، وليقد نفسه للإنسان كما يحب ويشتهي، والحقيقة، كل الحقيقة، بان الدودة الراقدة في جسدك، والتي تنتظر هبوطك للقبر، لتسبح في كل مكوناتك داخل العتمة، تملك من الرؤى والبصيرة أضعاف أضعاف ما تملك أنت.


مأمون احمد مصطفى
فلسطين – مخيم طول كرم
النرويج – 1- 06- 2007

سحر الليالي
02-06-2007, 12:19 AM
أستاذي الفاضل "مأمون ":

تأخرت علينا كثيرا...!
وافتقدناك كثيرا..
ولكن كما دوما تعود ومعك الجمال كله
نص ممتلئ بالوجع...غارق بالالم والحزن...!

سلمت ودام نبضك البديع

تقبل خالص تقديري وباقةورد

مأمون احمد مصطفى
02-06-2007, 12:24 AM
الكريمة سحر الليالي:-

اقف احتراما واجلالا لكرم اخلاقك وسمو رهافة حسك.

مع كل المودة

د. نجلاء طمان
02-06-2007, 02:35 AM
الأديب الفذ: مأمون

بوح قصصى وجدانى

يُظهر فى إبداع

جدالية بوحية

بين جوانيات نفس تتوجح

وبين شبح ظلامها....

رحلة لانهائية من الإبداع المغلف بالوجع.



شذى الوردة لهذا الرقى



د. نجلاء طمان

جوتيار تمر
02-06-2007, 01:03 PM
العزيز مأمون..
لكل نص لك اقرأه اجدني اقف امام فكر واع ليس فقط بالذات الداخلية انما بمجريات الذات الاخر الخارجية..وفي خضم صراعها مع الاجتماع والواقع تنهل كلماتك علينا تبعثر اوراق وترتب اخرى لتضع في النهاية امامنا صورة واقع ملموس وحي.
هذه همسات راودتني فاسمح لي بها..

اريك فروم:الانسان المعاصر عاجز عن الحب وعن استخدام العقل واصدار القرارات،عاجز عن تقدير الحياة،وفقدت الدنيا وحدتها وعاد الانسان مرة اخرى يعبد اشياء متنوعة كما كان قديما مع استثناء واحد وهو ان هذه الاشياء باتت من صنع الانسان بعدما كانت جزءً من الطبيعة.
الكاتب عندما لا ينظم المه وضجره شعرا ، خاطرة، قصة ، نثرا. انما يحافظ على وضعية اخرى بريئة تماما،هي انه طفل،طفل كبير،رائع ولذا فالبدائية في الكتابة شأنها شأن البدائية في الفن ليست مجرد عودة الى النقاء الانساني الاصيل والغير ملوث،لا هي التملص من العدمية المتربصة لنا في الافق..افق الفرد..عبر توتر وارتداد حاد الى الحافة القصوى،اي النقطة الاولى في بدء الزمان الانساني.

كانت مجرد همسات

محبتي لك
جوتيار

وفاء شوكت خضر
02-06-2007, 10:32 PM
أخي مأمون ..

أراك تغوص غوصا عميقا في النفس البشرية ، وكأني بك تحاول إيقاظنا من غفلة طالت بهذا البوح الذي يصف حالة الإنسان اللاهي بأمور الحياة ، لا يرتجف قلبه لذكر الله ، ولا يتأمل لحظة واحدة هول ما سيلقاه حين يصير من دار إلى دار ، ومن حال إلى حال ..
حين يغفل الإنسان ، ولا يرى إلا نفسه فيبات جبارا متكبرا ، ويظن بنفسه الظنون ، ناسيا أنه أضعف ما يكون أمام هجمة بعوضة تؤرق ليلية وتسلبه دمه ، وتئز في أذنه ولا يستطيع منها فرارا ..
تعسا له من إنسان أظلم قلبه ، وتجاهل إشراقة الشمس بنورها ، ليبقى في ظلمة سرمدية ، قلبه غلفته القسوة ، فصار مظلما أسودا .

تعلم علشقي لحرفك ..
أنتظر القادم بشوق .


تحيتي أيها السامق .

مأمون احمد مصطفى
02-06-2007, 11:25 PM
د نجلاء طمان :-

اشكرك على هذا المديح، واتمنى ان اكون على مستواه، كرم منك ان تقفي لتعلني مفصل من مفاصل حروفي.

مأمون احمد مصطفى
02-06-2007, 11:28 PM
الكريم جوتيار:-

ليس ردا برد، وانما اعترافا مني بقدرتك على امتلاك التحليل لما اشير اليه وارمي من خلال كتاباتي، لك كل الود والاحترام.

مأمون احمد مصطفى
04-06-2007, 10:09 AM
الاخت الكريمة وفاء:

يبقى الانسان سرا مستغلقا، ليس امام الموت فقط، وانما امام نفسه والوجود، فهو مجموعة من التناقضات المريبة الموزعة بين الجهل والغرور.

عبدالله المحمدي
04-06-2007, 12:26 PM
شيء ما يلفني
يبعثرني
صوت قادم من بعيد ، ملامح بلا رحمة
إحساس مؤلم حد الموت ، بقاء بلا هوية
وأرض بلا تراب
شيء ما يدنيني من آخر رجل في العالم
شيء ما يضاجع الغربة في نفسي
شيء ما لا أعرفه لكنه يقسو عليّ في كل
زيارة
يالهذا الإنسان الذي أنهكه الانتظار
وشفه الضعف

مأمون مصطفى :

نتلمس بأقلامنا بعض وجعه .. ..
حينها سيبقى لبوح أقلامنا بعدا آخر ....

تحياتي لك ولقلمك

ناديه محمد الجابي
28-08-2016, 04:43 PM
أي بوح ـ وأي حوار ـ وأي فلسفة وفكرا راقيا يميزك
حوار أدبي مائز الحرف متقن الأداء ، ولغة شاعرية شفيفة
وبراعة تعبيرية بأسلوب تصويري جميل
ويبقى الأسى والوجع رفيق بوحك
دمت بكل خير. :001: