عصام عبد الحميد
06-06-2007, 11:27 AM
قبل يوم النصر بخمسة أيام
كانت الروح المعنوية لزملائى فى الوحدة عالية جدا بعد أن رأينا قائدنا المظفر فى لقاءه مع قيادته وجنوده على شاشة التلفاز واثقا قادرا على أى شئ , كل شئ ألم يمرغ أنف الاستعمار فى التراب ألم يدحر جيوش ثلاث دول دفعة واحدة وخرج منتصرا كنا نشعر دائما من خطب الزعيم الخالد أننا سندخل فى نزهة لا حرب وكان لنا زميل يحلم دائما بأن يسبى امرأة من جيش العدو فقد رأى فى الجريدة صورة لكتيبة من النساء فى جيش العدو وكان يحتفظ بها فى طيات ملابسة كان يتأمل واحدة منهن يتمنى أن يأسرها لم يعكر صفو هذه الروح المعنوية سوى أن التعيين جاء اليوم عبارة عن رغيف وبصلة صغيرة وحبة طماطم فقط .
أربعة أيام قبل الملحمة الكبرى
لم تنخفض روحنا المعنوية أبدا برغم أن التعيين لليوم التالى كان كما هو فقد كان صوت الزعيم يخترق جوانحنا وكأنه وحى من السماء كنا نشعر أحيانا كثيرة بأننا لو دخلنا الحرب فقط بصوته لكان كفيلا بدحر العدو الجبان , تأخرت عربة الماء اليوم وجاءت بالقليل من الماء مما جعل المزاج العام للجنود متقلب وخصوصا أن شهور الصيف قد بدأت والحرارة شديدة للغاية.
ثلاثة أيام قبل افتراس العدو
مازال صوت الزعيم يزأر والأغاني الوطنية تمجد بهدية الزمان لنا وللتاريخ وللعالم ونحن معه نحلق فى السحاب لم يحدث جديد سوى أن زميل لنا أخذ يبكى بشدة لأن حبة الطماطم سرقت من تعينه وأخذ يرجو سارقها أن يعيدها فإنه فى جوع شديد منذ ثلاثة أيام له ولما لم يجبه أحد منا أخذ يسبنا ويسب البلد وحضرة الصول وكأن صمتنا يحفزه ويستثيره أكثر فأخذ يسب الزعيم الملهم هكذا بدون خوف وفزعنا بشدة من كلامه لخوفنا من العواقب وأخذنا نهدئه وتطوع بعضنا بإعطائه بعض القطع من الطماطم المتبقية رجاء أن يسكت , وفى الصباح لم نجده ولم يسأل عليه أحد وجاء التعيين اليوم بدون حبة الطماطم.
يومان قبل إلقاء العدو فى البحر
المعسكر هذا اليوم فى حالة نشاط غير عادى , قائد الوحدة وقف فى طابور الصباح يتمم بنفسه على عتاد الجنود والأسلحة الخفيفة والثقيلة ثم ألقى على مسامعنا خطبة قوية دارت كلها حول قوة الزعيم وقدرته وحكمته وبلغنا تحية القائد والزعيم لنا و أنه كان يتمنى أن يكون معنا فى هذه اللحظات الحاسمة فى تاريخنا المجيد غير أن ظروف هذه الأيام الصعبة تحول بينه وبين تحقيق هذه الأمنية , صفقنا بشدة ولم يسكتنا إلا إشارة من قائد الوحدة إيذانا بالانصراف احتضنت بندقيتى الآلية وتأملت فى نفسى ملامح الزعيم أستلهم منها القوة والعزم.
لم يحدث جديد سوى أن عربة الماء لم تأت فحافظ كل فرد منا على جرعة الماء التى يمتلكها وكذلك على لسانه ,وسهرنا هذه الليلة وسهر الوطن كله على صوت الست تتغنى ( للصبر حدود ) .
يوم واحد وندوس بنعالنا رأس المحتل الغاصب
على عكس الأيام السابقة كانت قلة الماء سبب فى تجاوز الجميع حدودهم مع القيادات الوسطى من الشاويشية والصولات ولم يخرج علينا قائد الوحدة ولا أى من الضباط , أسر لى أحد الصولات بأنهم خائفين جدا من تذمر الجنود وأن أمرا سيصدر بعد قليل بسحب السلاح من الجنود لم أصدقه فهو معروف بنشر الإشاعات والكذب .
كان المعسكر هذه الليلة ساكن سكون العاصفة قبل هبوبها , لم يأت الماء وسحبوا السلاح خوفا من حالة تذمر بين لحظة وأخرى يمكن أن تحدث بين جنود أضناهم العطش والحر , فتحت الراديو الصغير وخفضت صوته ووضعته على أذنى لعلى أسمع شيئا من الزعيم لم يكن هناك سوى الأغانى الوطنية ومقابلات مع مسئولين راحوا يبثوا الطمأنينة فى قلوب المواطنين ويتكلموا عن قدرات قواتنا المسلحة القتالية وأننا قادرون على سحق العدو وأن الحرب بالنسبة لنا نزهة صغيرة سيعرف العالم بعدها أننا نمتلك أقوى سلاح وهو إيماننا بقائدنا وبقدرته وأن وجوده فقط فى صفوف الجماهير هو النصر لا محالة.
اليوم الأول من معركة المصير
استيقظ الجميع متحفزين لمشكلة قلة الماء وتجمع الجنود فى أرض الطابور بغير نظام وبعد لحظات خرج علينا قائد الوحدة مع الضباط وسط حراسة مشددة وأخذ يطمئن الجنود أن عربة الماء قادمة بعد قليل وأخذ يتكلم عن البلد وأمنها وحمايتها وأن العدو المتربص بنا يريد أن تنهار روحنا المعنوية وتكلم وأفاض وأطال الحديث عن الزعيم الملهم وبدأ الجنود يتململون من طول الوقوف والحر وفى لحظة خاطفة كان أزيز أسراب كثيرة من الطائرات يدوى فى السماء وقبل أن نسأل هذه طائراتنا أم طائرات العدو كانت الإجابات تنهال على رءوسنا وجرى كل واحد فى الكتيبة فى أى اتجاه بأقصى سرعة , ظللت أجرى وأجرى والطائرات لاتنتهى ولا تتوقف عن القصف ,لا أدرى كم من الساعات مر وأنا أعدو إلى أن تعثرت فى شئ .. يا للهول كان هناك عدد هائل من الجثث وقفت للحظة لاهثا مذهولا من هول المشهد , كان من السهل تماما التعرف على أن هذا الكم من القتلى وهذه الأسلحة المدمرة من جيشنا لم أحتمل فسقطت مغشيا على.
أفقت على أصوات قريبة منى هممت بأن أقف لأستنجد بهم غير أن الدماء تجمدت فى عروقى كانوا كتيبة من العدو يأخذون الأسلحة الخفيفة الملقاة بجوار القتلى ويضربون كل قتيل بعيار نارى ليتأكدوا من موته قلت فلتكن موتة شريفة ما على سوى أن أسحب أجزاء سلاحى وأقتل منهم ما أستطيع غير أنى لم أفعل فلم يكن معى سلاحى فقد سحبوه بالأمس وانتظرت الموت على هذه الحالة وتذكرت أمى وأبى وإخوتى الصغار حتى كدت أن أصرخ راجيا منهم أن يتركونى ولكنى لم أستطع الحركة ووصل أحد الجنود إلى وصوب مسدسه إلى رأسى وضغط على زناده فلم تخرج الطلقة فقد كانت آخر طلقة فى مسدسه ساكنة فى رأس الجثة التى بجوارى.
عندما حل الليل بدأت أتحرك وسط الجثث وتحت وطأة العطش اضطررت لأن أسلب القتلى زمزميات الماء وشربت وجلست بعيدا أفكر كيف أتصرف وجدت نفسى بلا شئ تقريبا بحثت فى جيوبى فعثرت على الراديو الصغير فوضعته على أذنى وأدرت مؤشر فإذا بصوت المذيع يعلن عن تقدم لقواتنا إلى ما وراء تحصينات العدو وأن مجموع ما أسقطناه من طائرات العدو بلغ أربعمائة طيارة فى اليوم الأول من الحرب , ظللت ساكنا لا أعرف كيف أفكر هل نحن منتصرون أم مهزومون ربما نكون مهزومون هنا ومنتصرون هناك ... هناك ... أين هناك هذه ؟
اليوم الثانى من الانتصار الكاسح
قابلت فى الصباح الباكر عددا من الجنود من كتيبتى وأخبرونى أن جميع من فى الكتيبة قد قتلوا وأن الأسلحة الثقيلة دمرت تماما , أخذتهم إلى كتيبة القتلى وعثرنا على كميات وفيرة من الطعام والماء والسجائر قال أحدهم أن هناك سيارة كبيرة صالحة للاستعمال وأنه يعرف الطريق إلى العودة فرحنا وحدانا الأمل فى النجاة .
كانت السيارة مسرعة غير عابئة بالجنود المحملين فوقها وكذلك كنا سعداء بهذه السرعة التى ستوصلنا الى مرادنا وجاءت كذلك طائرات العدو بأسرع مما نتخيل وصبت علينا وابلا من النيران بدد منا من بدد وقتل من قتل.
وفى الليل وضعت الراديو على اذنى مستمعا للبيانات العسكرية التى تصف قوات العدو بالجبن والهلع أمام تقدم قواتنا الباسلة وأن العدو يطلب الاستسلام ولكننا لن نقف حتى نحرر آخر شبر من أرضنا السليبة وأن عدد الطائرات التى أسقطناها تجاوز الألف , لا أدرى لماذا يذكرون أرقام الطائرات التى أسقطناها بالذات؟
اليوم الثالث من أيام النصر
عثرت على ستة أفراد من باقى كتيبتى الممزقة فوق السيارة واتفقنا أن نكمن بالنهار ونسير بالليل وفى الليل سرنا بغير هدى تائهين فى صحراء لا نهاية لها ولا بداية مزدحمة بالجثث والأشلاء الممزقة وفجأة وجدنا أنفسنا محاصرين بأضواء رهيبة من عدة سيارات حولنا وأمرا صادرا من مكبر للصوت بالتوقف فورا أسرع خمسة منا بالهرب تحت جنح الظلام وقفز السادس للاختباء داخل نباتات طويلة العيدان أما أنا فوقفت رافعا يدى لأعلى مستسلما , أخذنى الجنود إلى قائدهم فأوقفنى بجانبه مبتسما ابتسامة ساخرة وفى لحظات كانوا قد أتوا بالخمسة الهاربين وجعلوهم يخلعون ملابسهم كاملة وأمروهم بسب الزعيم فسبوه بلا تردد فانهالت عليهم الطلقات من كل جانب تمزقهم فصرخت فزعا فصفعنى القائد على وجهى صفعة أسقطتنى على الأرض ثم أمرنى بالوقوف فوقفت وأنا أنتفض من الخوف فقال لى أدع زميلك المختبئ فى الزرع فناديت عليه عدة مرات فلم يجب فانهالت الطلقات على الزرع بإشارة صغيرة من القائد ثم فتشنى القائد بنفسه تفتيشا ذاتيا مهينا إلى حد جعلنى أبكى فابتسم قائلا كيف حال الزعيم الخالد أمازلت تحبه؟ ثم أردف قائلا إذهب إلى زميلك المختبئ فى الزرع وأحضر ما معه من الماء فذهبت وأنا لا أشك لحظة واحدة فى قتلى وعندما وصلت إليه كانت جثته ممزقة تماما بدون أن ينزل منها قطرة دماء واحدة .
اليوم الرابع من سحق عدونا
ترك لى قائد كتيبة العدو الراديو الصغير لأستمع إلى أخبار الزعيم الملهم وعرفت منه أن جيشهم قرر من كثرة أسرى جيشنا أن يأسر يوما من يجده ويقتل يوما وأن هذه الليلة كانت مخصصة للقتل ولكنه تركنى لأن طريقة استسلامى أعجبته غامزا لى بإحدى عينيه , أعطانى بعض الماء وقال لى أمش هكذا وستصل ومشيت كما قال لى تماما وأنا لا أعرف إلى أين سأصل ولكنى خفت أن أغير طريق السير التى حددها لى .
سرت من الليل مسافة طويلة لا أعرف لى اتجاها أو طريق حتى سقطت من الإعياء وما استيقظت إلا على مس الشمس الحارق على وجهى وأسراب كثيرة من الذباب الصغير تقف على وجهى أكملت المسير هائما على وجهى لاأدرى إلى أين أمضى وليس أمامى سوى السير إلى المجهول إستمعت إثناء إستراحة لى قصيرة إلى صوت الزعيم الملهم القوى القادر وهو يعلن للجماهير عن تنحيه عن الزعامة والنزول إلى صفوف الجماهير بكيت لماذا يتركنا الآن سنضيع تماما بدونه فهو الملجأ والملاذ كنت أريد أن أصرخ فى وجه قائد العدو بأننى أحبه نعم أحبه أكثر من أى شئ فى الوجود أعترف بأننى جبنت عن ذلك ولكنى أحبه ثم مسحت دموعى ووقفت لاستكمال سيرى إلى أين ؟ لا أدرى وبعد سيرى عدة خطوات رفعت يدى بجهاز الراديو وبكل ما تبقى لى من قوة قذفته بعيدا وأكملت سيرى.
اليوم الأول بعد إحساسى بشئ غير الانتصار
كان الماء قد نفذ تماما وقفت متهالكا على أربع يداى وركبتى ألعق بلسانى قطرات الندى من على النباتات الصغيرة المنتشرة حولى كنت فى حالة شديدة من الإعياء يرثى لها أجتمع على الجوع والعطش والحر والريح السموم المحملة بالأتربة الناعمة التى تخترق كل فتحة فى جسدى وتنحى القائد الكبير ... هل هزمنا؟ أنا لم أهزم ... أنا لم أقاتل أصلا لم أحمل سلاحى ... فى مواجهة عدو... من هزم ... القائد؟ ... وهل يهزم قائد فى مثل قوته... ؟ ألم يهزم ثلاث دول كبرى مجتمعة ؟ ألم يرسل جيوشه يمنة ويسرة للمساهمة فى تحرير الشعوب؟ من هزم إذن؟ ربما أنا لم أستمع جيدا لخطاب التنحى ونحن منتصرون .. نعم منتصرون ... شددت من قامتى وأكملت سيرى نحو المجهول .
اليوم الثانى بعد ماذا ؟ ..لا أدرى
هل أتوقف عن السير منتظرا الموت أم أظل سائرا بما بقى لى من قوة متهالكة لعلى أجد ماء؟ وأين أجده ؟ جفت شفتاى تماما فلم أعد أستطيع إغلاقها أو فتحها تحول لسانى فى حلقى إلى كتلة يابسة ولو صغرت الصحراء كلها بقسوتها لكانت فمى ... هذه الصحراء الممتدة أمامى .. أين سأجد فيها الماء ؟ توقفت عينى عند ربوة مشيت نحوها ربما وراءها الأمل قطعت نصف النهار بالضبط حتى أصل إليها وصعدتها بيدى وقدمى وما إن شارفت على قمتها حتى رأيت بحيرة هائلة من الماء .. ماء ؟ ..لا هذا سراب ... ماء ... سراب إنه الماء أرى وجه الشمس المنعكس على صفحته ... والسراب يفعل ذلك أيضا ... العطش يحرق جوفى ... هو ماء ... ماء ... وسقطت من أعلى الربوة متدحرجا حتى سقطت فى الماء وأخذت أحمل الماء بكفى وأضعه على رأسى ووجهى وأبكى من الفرح صارخا انتصرنا ... انتصرنا .... وأخذت أشرب وأشرب حتى أوشكت على الاختناق فقد كنت أعب من السراب.
لا أستطيع الآن أن أروى لكم شيئا واضحا .... كل ما عشت فيه بعد هذه اللحظات كان غائما .. مبهما .. لم أعد أرى شيئا له ملامح ... لم أعد حتى أدرى من أنا ... أين أنا ؟ .. لماذا أنا هنا فى هذا الفضاء اللانهائى .... هل أنا إنسان أم كائن آخر ؟ ... ميت أنا أم حى؟ ... من هو القائد الملهم الذى يطن صوته فى أذنى ... هل هو أنا ... أم شخص آخر؟ صور تتراءى لى غير محددة الملامح ... امرأة ... امرأة تبكى ...تبكى تدعو لى بالنجاة ... من هذه المرأة ؟.. أطفال صغار يتعلقون بكتفي يمطروننى بوابل من التقبيل ... من هؤلاء ... ؟ لا أدرى ... صور لقتلى يضحكون ... هل هم قتلى .. أم يضحكون ...؟ رجل يفتشنى تمتد يده الخبيثة إلى كل شئ وأى شئ لماذا أنا عاجز هكذا ؟... لماذا لا أستطيع دفعه ؟...ألا يوجد من يحمينى ؟ يدافع عنى...؟ لماذا كيانى كله مستباح لهذه الدرجة ... ؟ كل ما كنت أعيه فى تلك اللحظة ... شئ واحد فقط ... صفير الرياح الرهيب ... الذى يحمل معه العاصفة الترابية التى ستغمر كل شئ بعد قليل.
كانت الروح المعنوية لزملائى فى الوحدة عالية جدا بعد أن رأينا قائدنا المظفر فى لقاءه مع قيادته وجنوده على شاشة التلفاز واثقا قادرا على أى شئ , كل شئ ألم يمرغ أنف الاستعمار فى التراب ألم يدحر جيوش ثلاث دول دفعة واحدة وخرج منتصرا كنا نشعر دائما من خطب الزعيم الخالد أننا سندخل فى نزهة لا حرب وكان لنا زميل يحلم دائما بأن يسبى امرأة من جيش العدو فقد رأى فى الجريدة صورة لكتيبة من النساء فى جيش العدو وكان يحتفظ بها فى طيات ملابسة كان يتأمل واحدة منهن يتمنى أن يأسرها لم يعكر صفو هذه الروح المعنوية سوى أن التعيين جاء اليوم عبارة عن رغيف وبصلة صغيرة وحبة طماطم فقط .
أربعة أيام قبل الملحمة الكبرى
لم تنخفض روحنا المعنوية أبدا برغم أن التعيين لليوم التالى كان كما هو فقد كان صوت الزعيم يخترق جوانحنا وكأنه وحى من السماء كنا نشعر أحيانا كثيرة بأننا لو دخلنا الحرب فقط بصوته لكان كفيلا بدحر العدو الجبان , تأخرت عربة الماء اليوم وجاءت بالقليل من الماء مما جعل المزاج العام للجنود متقلب وخصوصا أن شهور الصيف قد بدأت والحرارة شديدة للغاية.
ثلاثة أيام قبل افتراس العدو
مازال صوت الزعيم يزأر والأغاني الوطنية تمجد بهدية الزمان لنا وللتاريخ وللعالم ونحن معه نحلق فى السحاب لم يحدث جديد سوى أن زميل لنا أخذ يبكى بشدة لأن حبة الطماطم سرقت من تعينه وأخذ يرجو سارقها أن يعيدها فإنه فى جوع شديد منذ ثلاثة أيام له ولما لم يجبه أحد منا أخذ يسبنا ويسب البلد وحضرة الصول وكأن صمتنا يحفزه ويستثيره أكثر فأخذ يسب الزعيم الملهم هكذا بدون خوف وفزعنا بشدة من كلامه لخوفنا من العواقب وأخذنا نهدئه وتطوع بعضنا بإعطائه بعض القطع من الطماطم المتبقية رجاء أن يسكت , وفى الصباح لم نجده ولم يسأل عليه أحد وجاء التعيين اليوم بدون حبة الطماطم.
يومان قبل إلقاء العدو فى البحر
المعسكر هذا اليوم فى حالة نشاط غير عادى , قائد الوحدة وقف فى طابور الصباح يتمم بنفسه على عتاد الجنود والأسلحة الخفيفة والثقيلة ثم ألقى على مسامعنا خطبة قوية دارت كلها حول قوة الزعيم وقدرته وحكمته وبلغنا تحية القائد والزعيم لنا و أنه كان يتمنى أن يكون معنا فى هذه اللحظات الحاسمة فى تاريخنا المجيد غير أن ظروف هذه الأيام الصعبة تحول بينه وبين تحقيق هذه الأمنية , صفقنا بشدة ولم يسكتنا إلا إشارة من قائد الوحدة إيذانا بالانصراف احتضنت بندقيتى الآلية وتأملت فى نفسى ملامح الزعيم أستلهم منها القوة والعزم.
لم يحدث جديد سوى أن عربة الماء لم تأت فحافظ كل فرد منا على جرعة الماء التى يمتلكها وكذلك على لسانه ,وسهرنا هذه الليلة وسهر الوطن كله على صوت الست تتغنى ( للصبر حدود ) .
يوم واحد وندوس بنعالنا رأس المحتل الغاصب
على عكس الأيام السابقة كانت قلة الماء سبب فى تجاوز الجميع حدودهم مع القيادات الوسطى من الشاويشية والصولات ولم يخرج علينا قائد الوحدة ولا أى من الضباط , أسر لى أحد الصولات بأنهم خائفين جدا من تذمر الجنود وأن أمرا سيصدر بعد قليل بسحب السلاح من الجنود لم أصدقه فهو معروف بنشر الإشاعات والكذب .
كان المعسكر هذه الليلة ساكن سكون العاصفة قبل هبوبها , لم يأت الماء وسحبوا السلاح خوفا من حالة تذمر بين لحظة وأخرى يمكن أن تحدث بين جنود أضناهم العطش والحر , فتحت الراديو الصغير وخفضت صوته ووضعته على أذنى لعلى أسمع شيئا من الزعيم لم يكن هناك سوى الأغانى الوطنية ومقابلات مع مسئولين راحوا يبثوا الطمأنينة فى قلوب المواطنين ويتكلموا عن قدرات قواتنا المسلحة القتالية وأننا قادرون على سحق العدو وأن الحرب بالنسبة لنا نزهة صغيرة سيعرف العالم بعدها أننا نمتلك أقوى سلاح وهو إيماننا بقائدنا وبقدرته وأن وجوده فقط فى صفوف الجماهير هو النصر لا محالة.
اليوم الأول من معركة المصير
استيقظ الجميع متحفزين لمشكلة قلة الماء وتجمع الجنود فى أرض الطابور بغير نظام وبعد لحظات خرج علينا قائد الوحدة مع الضباط وسط حراسة مشددة وأخذ يطمئن الجنود أن عربة الماء قادمة بعد قليل وأخذ يتكلم عن البلد وأمنها وحمايتها وأن العدو المتربص بنا يريد أن تنهار روحنا المعنوية وتكلم وأفاض وأطال الحديث عن الزعيم الملهم وبدأ الجنود يتململون من طول الوقوف والحر وفى لحظة خاطفة كان أزيز أسراب كثيرة من الطائرات يدوى فى السماء وقبل أن نسأل هذه طائراتنا أم طائرات العدو كانت الإجابات تنهال على رءوسنا وجرى كل واحد فى الكتيبة فى أى اتجاه بأقصى سرعة , ظللت أجرى وأجرى والطائرات لاتنتهى ولا تتوقف عن القصف ,لا أدرى كم من الساعات مر وأنا أعدو إلى أن تعثرت فى شئ .. يا للهول كان هناك عدد هائل من الجثث وقفت للحظة لاهثا مذهولا من هول المشهد , كان من السهل تماما التعرف على أن هذا الكم من القتلى وهذه الأسلحة المدمرة من جيشنا لم أحتمل فسقطت مغشيا على.
أفقت على أصوات قريبة منى هممت بأن أقف لأستنجد بهم غير أن الدماء تجمدت فى عروقى كانوا كتيبة من العدو يأخذون الأسلحة الخفيفة الملقاة بجوار القتلى ويضربون كل قتيل بعيار نارى ليتأكدوا من موته قلت فلتكن موتة شريفة ما على سوى أن أسحب أجزاء سلاحى وأقتل منهم ما أستطيع غير أنى لم أفعل فلم يكن معى سلاحى فقد سحبوه بالأمس وانتظرت الموت على هذه الحالة وتذكرت أمى وأبى وإخوتى الصغار حتى كدت أن أصرخ راجيا منهم أن يتركونى ولكنى لم أستطع الحركة ووصل أحد الجنود إلى وصوب مسدسه إلى رأسى وضغط على زناده فلم تخرج الطلقة فقد كانت آخر طلقة فى مسدسه ساكنة فى رأس الجثة التى بجوارى.
عندما حل الليل بدأت أتحرك وسط الجثث وتحت وطأة العطش اضطررت لأن أسلب القتلى زمزميات الماء وشربت وجلست بعيدا أفكر كيف أتصرف وجدت نفسى بلا شئ تقريبا بحثت فى جيوبى فعثرت على الراديو الصغير فوضعته على أذنى وأدرت مؤشر فإذا بصوت المذيع يعلن عن تقدم لقواتنا إلى ما وراء تحصينات العدو وأن مجموع ما أسقطناه من طائرات العدو بلغ أربعمائة طيارة فى اليوم الأول من الحرب , ظللت ساكنا لا أعرف كيف أفكر هل نحن منتصرون أم مهزومون ربما نكون مهزومون هنا ومنتصرون هناك ... هناك ... أين هناك هذه ؟
اليوم الثانى من الانتصار الكاسح
قابلت فى الصباح الباكر عددا من الجنود من كتيبتى وأخبرونى أن جميع من فى الكتيبة قد قتلوا وأن الأسلحة الثقيلة دمرت تماما , أخذتهم إلى كتيبة القتلى وعثرنا على كميات وفيرة من الطعام والماء والسجائر قال أحدهم أن هناك سيارة كبيرة صالحة للاستعمال وأنه يعرف الطريق إلى العودة فرحنا وحدانا الأمل فى النجاة .
كانت السيارة مسرعة غير عابئة بالجنود المحملين فوقها وكذلك كنا سعداء بهذه السرعة التى ستوصلنا الى مرادنا وجاءت كذلك طائرات العدو بأسرع مما نتخيل وصبت علينا وابلا من النيران بدد منا من بدد وقتل من قتل.
وفى الليل وضعت الراديو على اذنى مستمعا للبيانات العسكرية التى تصف قوات العدو بالجبن والهلع أمام تقدم قواتنا الباسلة وأن العدو يطلب الاستسلام ولكننا لن نقف حتى نحرر آخر شبر من أرضنا السليبة وأن عدد الطائرات التى أسقطناها تجاوز الألف , لا أدرى لماذا يذكرون أرقام الطائرات التى أسقطناها بالذات؟
اليوم الثالث من أيام النصر
عثرت على ستة أفراد من باقى كتيبتى الممزقة فوق السيارة واتفقنا أن نكمن بالنهار ونسير بالليل وفى الليل سرنا بغير هدى تائهين فى صحراء لا نهاية لها ولا بداية مزدحمة بالجثث والأشلاء الممزقة وفجأة وجدنا أنفسنا محاصرين بأضواء رهيبة من عدة سيارات حولنا وأمرا صادرا من مكبر للصوت بالتوقف فورا أسرع خمسة منا بالهرب تحت جنح الظلام وقفز السادس للاختباء داخل نباتات طويلة العيدان أما أنا فوقفت رافعا يدى لأعلى مستسلما , أخذنى الجنود إلى قائدهم فأوقفنى بجانبه مبتسما ابتسامة ساخرة وفى لحظات كانوا قد أتوا بالخمسة الهاربين وجعلوهم يخلعون ملابسهم كاملة وأمروهم بسب الزعيم فسبوه بلا تردد فانهالت عليهم الطلقات من كل جانب تمزقهم فصرخت فزعا فصفعنى القائد على وجهى صفعة أسقطتنى على الأرض ثم أمرنى بالوقوف فوقفت وأنا أنتفض من الخوف فقال لى أدع زميلك المختبئ فى الزرع فناديت عليه عدة مرات فلم يجب فانهالت الطلقات على الزرع بإشارة صغيرة من القائد ثم فتشنى القائد بنفسه تفتيشا ذاتيا مهينا إلى حد جعلنى أبكى فابتسم قائلا كيف حال الزعيم الخالد أمازلت تحبه؟ ثم أردف قائلا إذهب إلى زميلك المختبئ فى الزرع وأحضر ما معه من الماء فذهبت وأنا لا أشك لحظة واحدة فى قتلى وعندما وصلت إليه كانت جثته ممزقة تماما بدون أن ينزل منها قطرة دماء واحدة .
اليوم الرابع من سحق عدونا
ترك لى قائد كتيبة العدو الراديو الصغير لأستمع إلى أخبار الزعيم الملهم وعرفت منه أن جيشهم قرر من كثرة أسرى جيشنا أن يأسر يوما من يجده ويقتل يوما وأن هذه الليلة كانت مخصصة للقتل ولكنه تركنى لأن طريقة استسلامى أعجبته غامزا لى بإحدى عينيه , أعطانى بعض الماء وقال لى أمش هكذا وستصل ومشيت كما قال لى تماما وأنا لا أعرف إلى أين سأصل ولكنى خفت أن أغير طريق السير التى حددها لى .
سرت من الليل مسافة طويلة لا أعرف لى اتجاها أو طريق حتى سقطت من الإعياء وما استيقظت إلا على مس الشمس الحارق على وجهى وأسراب كثيرة من الذباب الصغير تقف على وجهى أكملت المسير هائما على وجهى لاأدرى إلى أين أمضى وليس أمامى سوى السير إلى المجهول إستمعت إثناء إستراحة لى قصيرة إلى صوت الزعيم الملهم القوى القادر وهو يعلن للجماهير عن تنحيه عن الزعامة والنزول إلى صفوف الجماهير بكيت لماذا يتركنا الآن سنضيع تماما بدونه فهو الملجأ والملاذ كنت أريد أن أصرخ فى وجه قائد العدو بأننى أحبه نعم أحبه أكثر من أى شئ فى الوجود أعترف بأننى جبنت عن ذلك ولكنى أحبه ثم مسحت دموعى ووقفت لاستكمال سيرى إلى أين ؟ لا أدرى وبعد سيرى عدة خطوات رفعت يدى بجهاز الراديو وبكل ما تبقى لى من قوة قذفته بعيدا وأكملت سيرى.
اليوم الأول بعد إحساسى بشئ غير الانتصار
كان الماء قد نفذ تماما وقفت متهالكا على أربع يداى وركبتى ألعق بلسانى قطرات الندى من على النباتات الصغيرة المنتشرة حولى كنت فى حالة شديدة من الإعياء يرثى لها أجتمع على الجوع والعطش والحر والريح السموم المحملة بالأتربة الناعمة التى تخترق كل فتحة فى جسدى وتنحى القائد الكبير ... هل هزمنا؟ أنا لم أهزم ... أنا لم أقاتل أصلا لم أحمل سلاحى ... فى مواجهة عدو... من هزم ... القائد؟ ... وهل يهزم قائد فى مثل قوته... ؟ ألم يهزم ثلاث دول كبرى مجتمعة ؟ ألم يرسل جيوشه يمنة ويسرة للمساهمة فى تحرير الشعوب؟ من هزم إذن؟ ربما أنا لم أستمع جيدا لخطاب التنحى ونحن منتصرون .. نعم منتصرون ... شددت من قامتى وأكملت سيرى نحو المجهول .
اليوم الثانى بعد ماذا ؟ ..لا أدرى
هل أتوقف عن السير منتظرا الموت أم أظل سائرا بما بقى لى من قوة متهالكة لعلى أجد ماء؟ وأين أجده ؟ جفت شفتاى تماما فلم أعد أستطيع إغلاقها أو فتحها تحول لسانى فى حلقى إلى كتلة يابسة ولو صغرت الصحراء كلها بقسوتها لكانت فمى ... هذه الصحراء الممتدة أمامى .. أين سأجد فيها الماء ؟ توقفت عينى عند ربوة مشيت نحوها ربما وراءها الأمل قطعت نصف النهار بالضبط حتى أصل إليها وصعدتها بيدى وقدمى وما إن شارفت على قمتها حتى رأيت بحيرة هائلة من الماء .. ماء ؟ ..لا هذا سراب ... ماء ... سراب إنه الماء أرى وجه الشمس المنعكس على صفحته ... والسراب يفعل ذلك أيضا ... العطش يحرق جوفى ... هو ماء ... ماء ... وسقطت من أعلى الربوة متدحرجا حتى سقطت فى الماء وأخذت أحمل الماء بكفى وأضعه على رأسى ووجهى وأبكى من الفرح صارخا انتصرنا ... انتصرنا .... وأخذت أشرب وأشرب حتى أوشكت على الاختناق فقد كنت أعب من السراب.
لا أستطيع الآن أن أروى لكم شيئا واضحا .... كل ما عشت فيه بعد هذه اللحظات كان غائما .. مبهما .. لم أعد أرى شيئا له ملامح ... لم أعد حتى أدرى من أنا ... أين أنا ؟ .. لماذا أنا هنا فى هذا الفضاء اللانهائى .... هل أنا إنسان أم كائن آخر ؟ ... ميت أنا أم حى؟ ... من هو القائد الملهم الذى يطن صوته فى أذنى ... هل هو أنا ... أم شخص آخر؟ صور تتراءى لى غير محددة الملامح ... امرأة ... امرأة تبكى ...تبكى تدعو لى بالنجاة ... من هذه المرأة ؟.. أطفال صغار يتعلقون بكتفي يمطروننى بوابل من التقبيل ... من هؤلاء ... ؟ لا أدرى ... صور لقتلى يضحكون ... هل هم قتلى .. أم يضحكون ...؟ رجل يفتشنى تمتد يده الخبيثة إلى كل شئ وأى شئ لماذا أنا عاجز هكذا ؟... لماذا لا أستطيع دفعه ؟...ألا يوجد من يحمينى ؟ يدافع عنى...؟ لماذا كيانى كله مستباح لهذه الدرجة ... ؟ كل ما كنت أعيه فى تلك اللحظة ... شئ واحد فقط ... صفير الرياح الرهيب ... الذى يحمل معه العاصفة الترابية التى ستغمر كل شئ بعد قليل.