تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : رحلة قديمة جداً..



بثينة محمود
11-06-2007, 06:34 PM
هواء البحر يملأ صدرى.. أقف فى مقدمة "القارب الضخم" وأفتح ذراعاى على اتساعهما فيأتينى صدى الضحكات والموسيقى المنغّمة من رفاق الرحلة.. إنها ليست تيتانيك يا عزيزتى .. فيهبط ذراعاى بخجل.. "القارب الضخم" هو الوصف الذى يطلقه صديق زوجى على اليخت الصغير الذى يملكه.. جلس يوماً يؤكد لنا أن كلمة يخت أكبر من اللازم وكلمة قارب أصغر من اللازم على بيته الثانى .. الذى يدعوه "سهم"..
تركت الهواء يتخلل مسامى .. وجلست على حافة القارب أرقب الخشب المدهون بلون زاعق البياض..

كانوا قديماً يطلقون عليه"الغزل".. لم أسمع هذه الكلمة منذ زمن.. جيراننا فى الطابق الأرضى الذين يعملون بالصيد ولا يغلقون باب بيتهم أبداً.. يفترشون جميعاً صالة البيت وتتوسطهم كومة الغزل.. تلك الكومة الكبيرة من الشباك التى يزين أطرافها كرات بنية اللون من الفلّين.. يمسكون بأيديهم آلات رفيعة تشبه الملاقط وينهمكون فى ترقيع الشباك المتقطعة.. حتى أطفالهم.. منهمكين جميعاً فى هذا العمل فى سرعة ودقة شديدة.. أهرب من أمى ..لأختفى وسط الصغار الكثيرين وأحاول تقليدهم فيزداد القطع اتساعاً..

ـ هواء البحر منعش.. هل يمكننا تعبئة بعضاً منه فى زجاجات نستمتع بها بعد العودة؟
تمنيت للحظة أن أنزع غطاء رأسى..أود لو تخلل الهواء شعرى.. لكن كل الرفاق يحيطون بى .. وينادوننى للمساعدة فى إعداد مائدة الطعام وفتح المعلبات..

كانت الجارة تطهو طعاماً غريباً عن طعام أمى.. يجتمعون على الأرض وتضع لهم فى منتصف الحجرة طبقاً كبيراً كالذى تغسل فيه أمى الثياب.. المكرونة الحارة وجبتهم الرئيسية.. ينقضون جميعاً كباراً وصغاراً عليها.. فيتحول جبل المكرونة إلى بقايا صغيرة فى لحظات.. تطعمنى الجارة القليل حتى لا أمرض وتنال توبيخاً من أمى.. لكن وجبة الأسماك الصغيرة المشوية بالردة على قطعة من الصاج كانت تروقنى كثيراً

طعم التونة المعلبة يتناسب مع القارب الضخم.. سمك نظيف.. مجهز.. لا يلوث يديك وأنت تتناوله .. تماماً ككل ما فى القارب.. كل شىء لامع.. بارق.. جديد..

الرحلة فى اللنش العتيق الذى يتشارك فيه جارنا مع ثلاثة من إخوته لا تُنسى.. وافقت أمى بعد نضال على ذهابى معهم.. كان البحر ضخماً .. واللنش المتشقق الكالح اللون أشد ضخامة.. كنا نجرى كالمجانين ونلعب الاستغماية بين أروقته الكثيرة.. وكنت من الصغر بحيث كنت أجد العديد من الأماكن للإختباء..

أدقق النظر فى المياه الصافية من مكانى على حافة القارب الضخم فأجد أسراباً من السمك الصغير جداً قريبة من السطح..
ـ هل يمكن أن نصطاد القليل من هذا السمك؟
ـ أظنه ممنوع صيد السمك الصغير..
ـ سنطلقه فوراً.. فقط نصطاده ونلقيه..

كان الرجال يلقون بالغزل فى البحر من طرف وأطراف أخرى بين أيديهم .. وتظل حركة الشد والجذب طويلاً حتى يقرر أحدهم رفع الغزل.. وتسقط الكومة الكبيرة على أرضية اللنش مليئة بالأسماك المتقافزة.. صراخى الفَزِع أضحكهم جميعاً.. بكيت .. فقط عندما اخترق ذلك المسمار اللعين قدمى.. كان ناتئاً من قطعة خشب ملقاة.. وأعادتنى الجارة لأمى محمولة على يديها وبرباط أبيض كبير يلف قدمى..
ـ منظر الغروب رائع.. كم هى خانقة حياة المدينة..

جوتيار تمر
12-06-2007, 01:28 PM
بثينة..
لقد داهمني منذ الوهلة الاولى صور ربما طمرتها الايام في لاوعي، لكن ما ان رايت العنوان حتى عادت حية تشاطرني الفكرة هنا، وانا اعيش هذه الصور دخلت النص، اقرأه، فوجدته يمزج بين الوان الماضي، القديم، بالجديد الذي لم يعد يماثل روعة تلك الالوان، ربما عندما تغلب الطبيعة اجواء اللوحة ثم تطعمها ببعض العمارات والمصانع والبيوت الاسمنتية وضجيج الشوارع، تجد بان الطبيعة من نفسها تتخذ لونا رماديا اسودا، وتذبل في لحظتها..وهذا ما وجدت ترسمينه هنا، مع غوص في افاق الانا الداخلية واسترجاع محموم ،ذاكرة توالت عليها الاحدث فاكسبتها توجها خاصا في التحليل والتحديث، تحليل الامور التي اوجبت وجوده الحالي، ومحاولة تحديث آلية الزمن من العودة الى الوراء القريب، مما ادخل الامر هذا الذات في صراح آحادي في البدء صراع الذات مع نفسها ومن تطور الصراع ليشمل افقا اوسع وذلك ليدخل ضمن اطار الصراع ، ولعل الروعة في النص تمثلت في هذا الترابط الوشيج بين الذاكرة التي كانت تسير بين رحى الحاضر وتسترد عذوبة لحظتها من غيابات الماضي، وهذا ما جعل النص يشبه رحلة ذاتية عبر الزمن وخرق للمكانية، من اجل استرداد الروح التي كانت انذاك هي ما تضيف للانسان حياة ليست كهذه.
نص اقول عنه بانه ادى واجبه
محبتي لك
جوتيار

مأمون المغازي
15-06-2007, 12:48 AM
أديبتنا : بثينة محمود

لا أعرف من أين أبدأ ، لكن قبل الدخول إلى فنيات القصة ، دعينا أحيي هذه الذاكرة التاريخية التي احتفظت بهذه الذكريات ، كنا نزور ( البرلس ) ، ومناطق أخرى اشتهر أهلها بالصيد أو أنه الحرفة الأساسية ، وكنا نعيش هذه المشاهد ، لكنكِ ببراعة نقلتنا إليها وكأننا أمس وليس اليوم ، الآن أحاول بشدة أن أتذكر اسم هذه الآلة الصغيرة التي يرتقون بها غزلهم ، الجميل أكثر يا سيدتي أنكِ أوردتِ الاسم الشائع بينهم ( الغزل ) وهذا من باب الرصد والتوثيق لفترة من الفترات ، إنهم لا يستبدلون به اسمًا آخر مهما تناوبتهم السنون ؛ لذلك توقفت أمام القصة كأنني أمام المشهد التاريخي .

اعتمدت القاصة على المصاحبة في الدخول إلى عملها القصصي المعتمد على الحكي ، فقد حاولت أن تستدرجنا إلى عالمين في آن واحد ، لكن فلت منها هذا الغرض عندما أغراها الحكي في الحاضر ، ربما أرادت من ذلك إحداث التوازن والتناسب بين الفترتين ، لكن الاسترجاع لا يقتضي ذلك خصوصًا والهدف هنا هو الماضي ، مما جعل الحاضر هو اللمحة السريعة بمعطياته التي تربطه بالماضي العميق في نفس القاصة ، ولو أن القاصة اعتمدت هنا على ما يوثق الحاضر بالإشارة أو المثال لكان الأثر أبلغ ولكانت المصاحبة ناجحة ، حيث تنجح عملية الرصد والاسترجاع ، والتنامي الحدثي المتصل بالماضي .

القاصة اعتمدت اللفظ البسيط والتتبع الاجتماعي ورصد الثيمة الاقتصادية من خلال المفارقة التي أحدثتها على طول القصة بين أسرتها وأسرة الصيادين وكانت موفقة في هذا ومنطقية ومحايدة ، فهي ترصد الطفولة ، لذلك كانت قمة نجاح القاصة في الحكي بما يناسب الطفولة ، بحيث تلمح درجة فارقة في اللغة بين الحكي في الماضي والحاضر ، من حيث بناء النسق ، وبناء الصورة ، وبناء الكلمة ذاتها ، والرائع أنك تشعر بنبرة الحكي وتعبيرات الوجه في كل مرحلة من مراحل القصة بما يتناسب والفترة التي تصطحبنا القاصة إليها ، وأنا أثني على هذه المهارة التي أبدعتها القاصة ، بحيث وازنت بين المتلقي والحدث في الماضي من حيث المعطيات ، المأكل ، البيوت ، التصوير البسيط ، حال الصيادين على المراكب ، مسميات السفينة حسب الحالة الاقتصادية والغرض منها .

أقول : إن هذه القصة لو أعيد بناؤها بحيث تستغل أدوات القص بما يتناسب والعنوان والغرض لتعاطينا عملاً قصيًا راصدًا جميلاً جدًا ، اما ما ينجح القصة فعلاً هو واقعية العرض .

بقي أن أهمس للقاصة البارعة بأن تراجع اللغة وبعض التعبيرات مصل : صارخ البياض

أديبتنا : صاحبة السنبلة

محبتي وتقديري واحترامي

مأمون

بثينة محمود
15-06-2007, 05:07 PM
النص يشبه رحلة ذاتية عبر الزمن وخرق للمكانية، من اجل استرداد الروح التي كانت انذاك هي ما تضيف للانسان حياة ليست كهذه

عزيزى جوتيار
اختصرت كل الأمر فى تلك العبارة التى اراك محقاً فيها.. فهى محاولة للاسترداد..لا أظنها نجحت بالقدر الكافى ما دام النص فى النهاية فقط...أدى واجبه
أحياناً يقتص منى الحكى بطريقته
:002:

تحياتى وشكرى على تعليقك الرائع

بثينة محمود
15-06-2007, 05:24 PM
الأستاذ مأمون المغازى
أولاً لك الشكر على التعليق والتحليل الوافى واسمح لى بالرد على ما توقفت امامه من ملاحظات
أستاذى الفاضل.. ذاكرتى ليست بتلك القوة مطلقاً لكنها تلك الطفولة التى نقشت فيها الأحداث على الحجر..أما ما يستجد فهو كالنقش على الماء تماماً
تلك الحياة التى عشتها هامشياً وسماعياً لطالما أسرتنى كونها مخالفة لحياتى الخاصة أيام الطفولة حيث يشيع فيها الهرج والانطلاق وهو ما كانت عينى القاصرة تراه.. ولطالما أحسست أنى بحاجة للإفصاح عن تلك الذكريات ولو كان الأمر فى نص صغير كهذا
سيدى الفاضل لقد تفضلت بالقول:
لكن فلت منها هذا الغرض عندما أغراها الحكي في الحاضر ، ربما أرادت من ذلك إحداث التوازن والتناسب بين الفترتين ، لكن الاسترجاع لا يقتضي ذلك خصوصًا والهدف هنا هو الماضي ، مما جعل الحاضر هو اللمحة السريعة بمعطياته التي تربطه بالماضي العميق في نفس القاصة ، ولو أن القاصة اعتمدت هنا على ما يوثق الحاضر بالإشارة أو المثال لكان الأثر أبلغ ولكانت المصاحبة ناجحة ، حيث تنجح عملية الرصد والاسترجاع ، والتنامي الحدثي المتصل بالماضي
ولا أدرى ما الذى يدفعنى للدفاع عن طريقتى التى لم أرها تخل بما أردت غير غيرتى على وليدى-النص- وعلى الرغم من الهدف بالفعل كان هو الاسترجاع وكان هو الماضى الكثيف التواجد إلا أننى ارى اننى استخدمت الحاضر فى مكانه المنطقى.. لم أجعله إلا بوابة دخول لذلك الماضى ولم أشر إليه إلا بعبارات صغيرة لفتح مزيد من بوابات قديمة
تأتى بقية ملاحظاتك فى إطار يدفعنى لشكرك على ما أثنيت عليه.. ولو ان هذه العبارة تجعلنى فى حالة تأمل:
إن هذه القصة لو أعيد بناؤها بحيث تستغل أدوات القص بما يتناسب والعنوان والغرض لتعاطينا عملاً قصيًا راصدًا جميلاً جدًا
فهذا الرأى أيها العزيز يطيح بنصى تماماً.. ولا بأس
فأنا أتقبل رأيك برحابة صدر
وأتمنى أن أكون أفضل فى نص قادم..وأن أحظى بتواجدك الكريم أستاذى الفاضل
لك كل التحية والاحترام

محمد سامي البوهي
15-06-2007, 05:24 PM
رائع يا بثينة

الروعة القاتلة حد الثمالة ، فتسكر عقولنا الذكريات الحميمة ، بعصائر من اللحظات المعتقة ...

رايتك هناك بين الصيادين ، خلف باب الجيران المفتوح دائماً ، تتوسدين الشباك الجاذبة للخير ، لتاخذينا في رحلة لم تترك لنا فراغات تائهة دون امتلاء ، فكانت التفاصيل الدقيقة تحدد لنا معامنا ، وأين نحن الىن من أرض النسيان ، فكان قاربك بوصلة نحدد بها اتجاهتنا نحو المشرق ، لنرى المغرب من هناك ، رحلة ذاتية طوفتنا كالــــــ(دردارة) نطيح في الهواء دون سقوط ، ونتخلل الحوارات الصامتة بين شقوق المحارات ، وخلف مصدات الامواج ، شممت معك رائحة السمك الطازج ، وتنسمت معك عبق البحر وضحكات التنزه ، قصتك كانت مثل قطار يسبح نحو الخلف ، يعيد المحطات الماضية ، ويصفر في آذاننا بقدوم محطة فائتة ، لنصعد من جديد نجلس وجهاً لوجه مع أجساد الماضي ، ونخوض رحلتنا في أنفاق العتمة المؤنسة ...

رائع ما قرأت هنا ... ملاحظات بسيطة على النهاية ، كانت من الممكن ان تغلق بحبكة اكثر ...
أشيد بقراءة الاستاذ جتيار ، والأستاذ المغازي .

تحيتي

د. سمير العمري
11-11-2007, 01:16 AM
سنبلة الواحة:

لا زال حصاد حرفك وفيرا بالخير والغنى في المعنى والمبنى.

قرأت القصة فراق لي فيها المضمون الراقي والحرف المرهف المميز.

أهلا بك دوما في أفياء واحة الخير.



تحياتي

سحر الليالي
14-11-2007, 11:57 AM
الغالية " بثينة "
ما أروع قصتك ...!!
رائع ــة بــ حق ...
اشتقنا لك يا حبيبة
أرجو أن تكوني بــ خير
لك حبي وتراتيل ورد

ربيحة الرفاعي
02-08-2014, 11:45 PM
مما لا شك فيه أننا في حضرة يراع يعرف صاحبه جيدا ماهية البناء القصّي ومحاورة الحبكة بالتنقل الذكي بين الكائن والمسترجع من الحدث
وحذق في شحن النص بالبعد الإنساني الغامر يحتوي المتلقي ولا يكتفي بشده

اللغة احتاجت لشئ من المراجعة وضبط ما شابها

دمت بخير أيتها الرائعة

تحاياي

ناديه محمد الجابي
27-03-2021, 04:48 PM
ملأ هواء البحر صدرها ففتح باب الذاكرة على ذكريات الجيران القدامى الذين
يعملون بالصيد ـ واستمر العقل الباطن في مزج بين الحاضر والماضي في رحلة
عبر الزمن ليفصح عن ذكريات منذ الطفولة حفرت واستقرت وسكنت ...
فعشناها معها واستمتعنا بها.
صور متلاحقة ورائعة جعلتنا ننطلق معك لنقتطف أزاهير الإبداع.
أحسنت الفكرة والطرح.
:v1::nj::001: