مشاهدة النسخة كاملة : مع د. أحمد زلط
د. حسين علي محمد
15-06-2007, 08:48 AM
أ. د. أحمد زلط
...............
*أحمد علي عطية زلط.
*من مواليد: شنبارة الميمونة ـ شرقية 1952م.
*أحد مؤسسي سلسلة "أصوات مُعاصرة" ومجلة "القاقلة الجديدة" المحتجبة.
*ماجستير (1985م) من كلية الآداب ـ جامعة الزقازيق.
*دكتوراه (1990م) في الأدب الحديث ـ من كلية الآداب (بنها) ـ جامعة الزقازيق.
*أستاذ بقسم اللغة العربية ـ كلية الآداب ـ الإسماعيلية ـ جامعة قناة السويس.
(أ) كتب في الأدب العربي ونقده:
1-الدكتور هيكل بين الحضارتين الإسلامية والعربية، ط1، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1986م، ط2-دار الوفاء لدنيا الطباعة، الإسكندرية 1999م.
2-قراءة في الأدب الحديث، ط1، دار الشرق، 1986م، ط2-دار الوفاء لدنيا الطباعة، الإسكندرية 1999م.
3-في جماليات النص، ط1، الشركة العربي للنشر والتوزيع، القاهرة 1996م. ط2-الشركة العربية للنشر والتوزيع، القاهرة 1997م.
4-دراسـات نقدية في الأدب المعاصر، ط1، دار المعارف، القاهرة 1993م، ط2-دار الوفـاء لدنيا الطباعة، الإسكندرية 1999م.
5-مدخل إلى علوم المسرح، ط1-دار الوفاء لدنيا الطباعة، الإسكندرية 1999م.
6-تراجم مصرية وعربية، ط1-دار الوفاء لدنيا الطباعة، الإسكندرية 1999م.
7-نظرات نقدية في ثلاث مسرحيات شعرية لحسين علي محمد، الشركة العربية للنشر والتوزيع، القاهرة 2001م.
(ب) كتب في الأدب العربي
(فرع أدب الطفل ونقده):
8-ديوان السنهوتي للأطفال، ط1، الفارس العربي، الزقازيق 1992م.
9-رواد أدب الطفل العربي، ط1، دار الأرقم، الزقازيق 1993م.
10-أدب الأطفال بين أحمد شوقي وعثمان جلال، ط1، دار الجامعات المصرية، القاهرة 1994م.
11-أدب الطفولة بين كامل كيلاني ومحمد الهراوي، ط1، دار المعارف، القاهرة 1994م.
12-أدب الطفوله .. أصوله ومفاهيمه، (الطبعات 1-5) الشركة العربية للنشر والتوزيع، القاهرة 1997م.
13-أدب الطفل العربي: دراسة في التأصيل والتحليل، ط1-هبة النيل، القاهرة 1998م. ط2-هبة النيل، القاهرة 1998م. ط3-دار الوفاء لدنيا الطباعة، الإسكندرية 1999م.
14-الطفل مبدعاً، ط1-دار الوفاء لدنيا الطباعة، الإسكندرية 1999م.
15-الخطاب الأدبي والطفولة، ط1، الهيئة العامة لقصور الثقافة، وزارة الثقافة، القاهرة 1997م.
(ج) كتب في ثقافة الطفل وبحوثه:
16-الطفولة والأمية، سلسلة «اقرأ»، ط1، دار المعارف، القاهرة 1995م.
17-أدب الطفل وثقافته وبحوثه في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، (بالاشتراك مع د. محمد بن عبد الرحمن الربيع) نشر جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض 1998م.
18-مدخل إلى أدب الطفولة (أسسه، أهدافه، وسائطه)، ط1، نشر جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية 1421هـ-2001م.
(د) كتب في الأدب المقارن:
19-من روائع القصص الخيالي الشرقي، ط1-دار الوفاء لدنيا الطباعة، الإسكندرية 1999م.
(هـ) كتب في المعاجم:
20-معجم مصطلحات الطفولة، ط1، القاهرة ـ الرياض (بالاشتراك) 2001م.
(و) كتب في الأدب القصصي (قصص قصيرة):
21-وجوه وأحلام، ط1-سلسلة «أصوات معاصرة»، الزقازيق 1982م، ط2-الفارس العربي، الزقازيق 1988م.
22-المستحيل، ط1، الشركة العربية للنشر والتوزيع، القاهرة 1997م.
23-عفاريت سراي الباشا، ط1، هبـة النيل، القاهرة 1999م.
24-أصابع متوحشة، ط1، هبة النيل، القاهرة 2001م.
25-شهد وأخواتها، ط1، هبة النيل، القاهرة 2007م.
(و) كتب تحت الطبع:
26-حسين علي محمد شاعراً.
27-محمد جبريل وعالمه القصصي.
28-أروع أشعار المواطنة والمُقاومة.
29-القصيدة السياسية العربية.
د. حسين علي محمد
15-06-2007, 08:53 AM
"أصابع متوحشة " للدكتور أحمد زلط
رؤية نقدية بقلم : مجدي محمود جعفر
...............................................
الأصابع هي أداة الفعل ، وعندما يكون الفعل وحشياً تكون الأصابع وحشية ، وبالتأكيد ما فعله الفاتح الشراري – مع نجلاء النجلاوي – فعلاً مزرياً، فلم يقف د. أحمد زلط عند حدود امتهان جسد العروس الجميلة القوية فى ليلة العُرس ، بل تجاوز الامتهان الجسدي إلي الامتهان المعنوي .
ود.زلط يذكر حوادث واقعية ، حدثت في زمن مضي، وقد تحدث فى الزمن الآتي ، ولكنه لا يقصد الحادثة لذاتها .بل يذهب إلي حادثة أعم وأشمل ، فنجلاء النجلاوي – أجمل صبايا القرية – التي تتزوج مرغمة بفاتح الشراري ، الضعيف والمريض ، تاركة الأصحاء وذوي الحسب والنسب - هي المعادل الموضوعي لبلاد يغتصب حكمها المرضي وذوي العاهات ، مما يجعل مصير هذه البلاد علي أيدي هؤلاء الحكام المرضي والحمقى ، مثل مصير نجلاء النجلاوي .ومن ثّم نجد أن( أصابع متوحشة ) " التي تحمل المجموعة اسمها – لا تقتصر على أصابع فاتح الشراري ، ولكننا نجد هذه الأصابع موجودة فى معظم قصص المجموعة – بطريقة أو بأخرى وبنسب مختلفة 0
فزوَّار الفجر الذين يخطفون الشيخ الجليل والشاعر الجميل سالم الزهراني من حضن زوجته وأولاده ويقتادونه إلي السجن ويسومونه سوء العذاب – كما فى قصة " من أوراق أبي سالم الزهراني " – أصابع متوحشة !! والأصابع التي تغتال براءة الأطفال فى فلسطين ، وتجرف البيوت وتحرق الزروع ، وتهدم المساجد ، كما فى قصتي ( مشاهد من غابة النار) ( عدسات لاهية ) أصابع متوحشة !
والأصابع التي تبيع القطاع العام باسم الخصخصة ، والعولمة ، والجات كما في قصة ( مائدة لكائنات البر ) أصابع متوحشة !!
والأصابع التي تقدم من بضاعتهم القدم والخصر والحنجرة على من بضاعتهم العلم والفكر والأدب كما في قصة ( نوافذ من أمن سدود من خوف ) أصابع متوحشة !!
وهذه الأصابع المتوحشة تتمدد فى صفحات المجموعة ، وتتوغل فى حياتنا لتغتال كل شئ جميل فى الإنسان ، وفي الكون ، ومن هنا – يظهر د. أحمد زلط – الفنان – الذي يري ما لا يراه الآخرون ، ويكشف بمهارة وذكاء عن هذه الأصابع . وهو لا يكشف عن الأصابع المتوحشة فى الداخل – التي نجدها فى العسس والبصاصين ورجالات الحكم المحلي والطبقة الطفيلية الجديدة ، ونواب الشعب الجُدد ..الخ ، ولكنه يكشف أيضاً عن الأصابع الأكثر وحشية – خارج حدود الوطن ، والتي تحاصره بدءاً من أصابع الصهيونية وانتهاء بأصابع القطب الواحد الذي يحكم العالم الآن .
... القصص فى عمومها لها أبعاد سياسية ، وتنطلق من رؤى فكرية جادة وعميقة ، والكاتب قريباً من المفكر وقريباً من السياسي ، وكان موفقاً في اختيار شخصية الصحفي بطلاً لأكثر من قصة – لقُرب الصحفي من بؤرة الأحداث – كما كان موفقاً في اختيار أسماء شخوصه ، فلكل من اسمه نصيب فى شخصيته .
المجموعة تتجاوز فى مجموع قصصها ..حدود الذات ، وتعانق هموم الأمة ومشاكلها ، والقصص فى معظمها تنتمي إلي المدرسة الواقعية .
- ليست الواقعية التي تعني بالرصد ، وتقنع بظواهر الأشياء ، ولكنها الواقعية التي توغل في العمق ، وتستقرئ باطن الأشياء ، واستخدم الرمز فى بعض قصصه – والرمز قد يكون فى جانب من جوانب القصة مثل " شهيق وزفير " أو ينتظم القصة كلها مثل قصة ( سؤال إلي فضاء المسألة ) .. فمثلاً طيور الغرب الجوارح التي تحط على أشجار الشرق هي محاولة ترميزية للغرب بصفة عامة – الطامع فى احتلال الشرق ، والرمز الدال – بصفة الخصوص ..لشتات اليهود – الذين جاءوا بحثاً عن وطن لهم مزعوم فى فلسطين ، أما قصة " شهيق وزفير ) التي يتوحد فيها الراوي مع المصعد ، فالمصعد وسيلة والإنسان فى رحلته للحياة لابد له أن يمتطي وسيلة ، وعليه أن يتخير الوسيلة الجيدة والمريحة ..ويري د.زلط – أن كل الوسائل من الممكن أن تؤدي الغرض وتصل بالمرء إلي الهدف ، إذا أحسنا استخدامها ولم ندنسها بأفعالنا المشينة فتعيق حركة السير وتأتي قصة " مقاس شاذ" وهي من القصص الرمزية العبثية والتي تدين بخبث فعل السلطة ممثلة فى جهاز الشرطة – الذي ينشغل كبيرهم فى تجنيد الجهاز بأكمله ويستعين بقوات الجيش أيضاً – للبحث عن مقاسات الأحذية الشاذة – التي تبدأ من مقــاس (50 ) وهي نسبة واحد فى المليون فى حين يترك آلاف البلاغات من المواطنين عن جرائم القتل والسرقة والمخدرات ومن المفارقات الطريفة – أنه بعد البحث والتحري –براً وبحراً وجواً ، ووضع الخطط ، لم يعثروا – إلا علي مقاس واحد شاذ – كان فى قدم أحد الركاب الذين يركبون البحر ، أما المقاس الشاذ الآخر – فكان فى قدم كبير الشرطة ! والدلالة لا تخفي على القارئ الحصيف .
** ولأن الواقع مرير – يحاول د.زلط أن يخفف من مرارته بشيء من السخرية ، ولكنها سرعان ما تتبدد أمام جهامة الواقع وقسوته ووحشيته ، حتى في قصة ( أحزان ضاحكة ) – لاحظ ثنائية الاسم ، ودلالته– نجد في النهاية من يغتال ضحكة الحسيني وهدان فى المطار ، بفقد جواز سفره ، مما يعني فقد شخصيته – ولاحظ الارتباط الشرطي الغريب – الذي أقامه د.زلط بين ثلة المصريين العائدين من الخارج وهم فى فرح ومرح – واغتيال هذا الفرح فى المطار ، وكأن بي أقرأ على لافتة بالمطار مرحي بالجهامة وأهلاً بالعبوس أو كأنهم قد أمموا الضحك في المطار ، والسارد يستكثر على الحسيني وهدان وزملائه الضحك بقوله بين الحين والآخر عند كل ضحكة أو نكتة– اللهم اجعله خيراً – وتتحقق نبوءة السارد التراثية والموروثة عند المصرين عند وصولهم إلي المطار!
وثمة اغتيال آخر – نلمح وراءه أيضاً – أصابع متوحشة خفية ممثلة فى الدش والستالايت والقنوات المفتوحة التي أفسدت عقول الأولاد ، وجعلت الصبي يدس لأبيه حبوب الأقراص المنومة فى الشاي- ليحرمه من ممارسة الحب المشروع مع أمه فى الليل فى قصة " الليل الكذوب "
والتفاوت الطبقي الواضح في قصة " ولد بنت ...بنت ولد" والخلل الاجتماعي فى المقابلة الجميلة بين الحياة فى الريف والحياة فى المدينة ، بين الحياة في الزمن الماضي، والحياة المعاصرة – التي لا تنتج غير أطفال مبتسرين ، يموتون ، رغم الرفاهية والترف ، ورغم مستشفيات التوليد المرصع على واجهاتها النجوم السبعة فى حين أن السيدات الفلاحات كن يضعن وهن يعلمن في الحقول ويلدن وهن يمارسن أعمال الفلاحة الشاقة ، وموضوعات القصص هي التي فرضت الشكل الفني على الأديب ، فلم يتخير الشكل مُسبقاً ، ثم يصوغ أفكاره ، ولكنه ترك أفكاره لتحدد الشكل ، فالشكل الفني لقصة " مشاهد من غابة النار" اختلف عن الشكل الفني لقصة " أصابع متوحشة " واختلف عن قصة " مقاس شاذ"..والقراءة المتأنية قد تحتاج إلي صفحات ، ونرجو أن نعود إليها في وقت لاحق ، ونشكر د.أحمد زلط – الذي أتاح لنا – متعة قراءة هذه المجموعة الجميلة 0
مجدى محمود جعفر
د. حسين علي محمد
15-06-2007, 08:54 AM
حواران مع الدكتور أحمد زلط:
الموهبة وحدها لا تصنع مبدعاً
حاوره: أ. د. حسين علي محمد
.....................................
(القسم الأول)
أدب الطفل في أدب اللغات العالمية من تخصصات الأدب الدقيقة والمتجددة، وقد شهد القرن الأخير اهتماما متزايداً من الدول والمبدعين بغية تحقيق الأهداف الإنسانية المرجوة من ذلك الفرع الأدبي الحيوي من فروع شجرة الأدب الكبرى. وفي الأدب العربي ظهرت كواكب لا يُستهان بها من المُسهمين في دفع مسيرة ذلك اللون الأدبي، وقد برز اسم الدكتور أحمد زلط (المولود عام 1952) كأول أكاديمي عربي تخصص في أدبيات الطفولة من كليات الآداب، وقد أصدر عدداً من الكتب في هذا المجال الخصب، منها: "أدب الطفولة: أصوله، مفاهيمه، رواده" (أربع طبعات)، و"أدب الأطفال بين أحمد شوقي وعثمان جلال"، و"أدب الطفولة بين كامل كيلاني ومحمد الهراوي"، و"الطفولة والأمية"، و"رواد أدب الطفل العربي"، و"أدب الطفل العربي: دراسة في التأصيل والتحليل"، و"الخطاب الأدبي للطفولة" .. وغيرها، وقد انتهى مؤخراً من إعداد أول قاموس مصطلحي لأدب الطفل العربي (في فنونه، وتربيته، وأدبه، وثقافته) .. وقد حاورته حوارين عن تجربته الإبداعية قاصا، وتجربته النقدية في أدب الطفل:
1-الأديب( ):
...............
*ما القضايا التي تؤرقك كأديب؟ وهل انعكس ذلك على إبداعاتك ؟
-من المؤكد أن بؤرة اهتمامات الأديب تتركز بداية حول ذاته قبل أن تؤرقه قضايا الآخر أو هموم المجتمع وتطلعاته؛ فالكتابات الأولى للأديب لا تكون محملة في مجملها بالقضايا المحفزة للإبداع أو الإنجاز، وإنما تجمع بين الفعل الإبداعي المعلن عن موهبة المبدع وبين الأنا المتمايزة في ذاتيتها للمبدع في ذاته. وعندما ينغمس الأديب مع الآخر تتبدّى الخبرات والمواقف والعوالم التي لا مناص منها .. هنا تؤرق الأديب بعض قضايا المجتمع، فينفعل بها، ويختزنها، وتظل تؤرقه إلى بدء عملية الشروع في التعبير الإبداعي.
وتجربتي الخاصة مع ما يؤرقني أجدها لخطة استشعاري أوجه الظلم أو القبح في شتى صنوف الأفعال الشريرة للبشر، وعلى وجه الخصوص الأنموذج الناهب، بكل ما يحمل هذا الأنموذج من فساد وإفساد. وكان من المنطقي في ظل تلكم الرؤية أن أرسم بقلمي صوراً مغايرةً تهدف إلى الإصلاح .. إصلاح الفرد في سياق المجتمع ككل، ومنه يشتم في قصصي الرؤية الأخلاقية المبررة بالفن مع اعترافي أن قصص البدايات لديَّ غَلَّبت الطابع الأخلاقي على حساب مصلحة الفن، وبتمرس الكتابة والوعي بأدوات أدب القص عقدت مزاوجة بينهما .. إذن فرؤاي تنبعث من منطلق أخلاقي وحضاري يطرق الواقع في وعي وإحساس اجتماعيين .. والأحداث والشخصيات والأماكن والأفكار في قصصي صدى لكل ذلك، ولعل مجموعتي القصصية الثانية "المستحيل" أكثر فنية حول ذلكم المفهوم.
*ما أهم سمات أبناء جيلك ؟ وهل أنتم تتميزون عن الجيل السابق؟
-سمات أبناء جيل السبعينيات شائكة بمنجزاتها وانكساراتها، فالسمات غير فارقة بسبب التشرذم والشتات، وتغليب قضايا "الأدباء" على قضايا "الأدب" ، وانقطاع التواصل الحقيقي بين الأجيال بسبب "الأنا الضيقة" تارة، وسيادة أصحاب الصوت العالي في وسائط الثقافة والإعلام تارة ثانية. لكن تبقى بعض السمات الواضحة في نتاج بعض أدباء السبعينيات، من مثل: محاولة الجمع بين القديم والجديد، والمغامرة والتجريب في الأنواع، وقراءة المدارس أو المذاهب المعاصرة في أدب اللغات الإنسانية .. وغيرها.
أما السلبيات فتبدو في انسحاب بعض الأصوات الأصيلة الجادة من الساحة، واستغراق الحداثيين التام في الأنموذج الحداثي مع العداء للتراث، وطغيان الغموض، أو الوقوع في براثن الأساطير الغريبة عنا، والتطاول على الرموز المقدسة … وغيرها.
إنني مؤمن بإمكان إعادة دراسة ظاهرة الإبداع في الربع قرن الأخير بمنهج محايد يرصد الذخائر في أعماق البحر، بمثل ما يكشف الزبد الذي يُغطّي سطحه المضطرب واللاهث. إن جيلي لا يمكن أن يتمايز عما سبقه إذا استمرأ الحداثة لذاتها، وهي فكرة تنفي تواصل أي إسهام لمنظومة الأجيال في الإبداع الخلاق.
*ألاحظ انشغالك بقضايا النقد. ألا يجني ذلك على عملك كقاص؟ ثم ما مبررات انشغالك بالنقد؟
-اعترف بطغيان انشغالي بالنقد الأدبي على حساب الإبداع القصصي، وبخاصة من ناحية "الكم"، والواقع أريد إلقاء معاذيري هنا بهدف إيجاد تفسير أو دفاع مُعلَّل لذلك.
اكتشفت بعد سن الأربعين أنني لست أحد رموز أدب القص، بينما عرفتني الحلقات الأدبية ناقداً أكثر من كوني مبدعاً في الأساس، فتوفرت على الإبداع النقدي في توجه جمالي يفيد من إبداعية الأدب ونظريات العلوم الإنسانية، وربما كان في مخيلتي ـ دون قصد ـ تحول "النقاد الكبار" من الإبداع إلى النقد، أمثال الأساتذة الدكاترة: عبد القادر القط، ويوسف خليف، ومحمد زكي العشماوي … وغيرهم. فهل أنتظم لأحاول اللحاق بأول أثر لخطاهم الباقية؟
ربما كانت تربيتي في الطفولة تربية ناقدة تطلق العنان لحرية التعبير بالرأي من وراء اتجاهي ـ فيما بعد للنقد. ومن العوامل التي يمكن إضافتها تعضيد جماعة "أصوات معاصرة" لقلمي الناقد من ناحية، ومحاولات في بعض الدوريات لكتابة المقالات الناقدة من ناحية أخرى .. ناهيك عن دور (صالون د. صابر عبد الدايم) في تقديمي المتواصل لجمهور رواده كناقد.
.. لقد تضافرت مثل تلك العوامل، وعملت جميعها مع استغراقي المطوّل في منهج أساتذتي بالدراسات العليا، ومحاولة التعرف على الدور الحقيقي للنقد بدراسة مناهجه ومذاهبه وأعلامه، ومن ثم فقد حاولت المزاوجة بين الاتجاه الأكاديمي والاتجاه الصحافي في أسلوبي لنقد الأعمال الإبداعية .. في ضوء ذلك تراكمت المقالات الأدبية، وتزايدت المؤلفات النقدية بينما تقلّصت القصص. تلك جناية الصحافة والتخصص الأكاديمي في الالتفات إلى النقد دون الإبداع القصصي.
إن المبررات التي طرحتها قد تتغير في القادم من الأيام، وإن كنت أشك في تغليب أدب القص على النقد ذلك لمثيرات، منها أني أشعر بفرحة الكتابة، وبوعي بريقها، وسبر أغوارها عندما أتأمل نصوص الآخر، خصوصا أن فن القصة القصيرة في النثر يظل كالشعر المسرحي في الشعر، يظل في ذيل قائمة الفنون المجمّعة، والتي تلتقط الأدب الروائي في الأعمال التمثيلية في معظم الأحوال، وإن لم تكن كل الأحوال.
إن فن "السيناريو" يتجه للرواية أو القصة الطويلة، ولا أظن أن للقصة القصيرة نصيباً في ذلك، أضف لذلك متطلبات أنهر الصحف للقصة القصيرة جدا، أو قبول الكتابة حسب الطلب! ويبقي القول إنني أبوح بين الحين والآخر بتجربة قصصية خصوصاً إذا كنت في حالة حفز إبداعي أو حالة تأزم مع الآخر، وهي قليلة في الأعم الأغلب.
*ما رأيك في مقولة "نحن جيل بلا أساتذة" التي طرحها القاص محمد حافظ رجب في الستينيات؟
-لا أوافق الكاتب على تلك المقولة لأنها تحمل الشكوى ومرارة الانكسار والتشاؤم، كما يبدو في ظاهرها بعض المغالطات؛ لأن من يعمل في حقل الكلمة له أساتذته ممن قرأ لهم وعنهم، ومن الإنصاف القول إن الأديب يتكون مخزونه الثقافي من رصيد قراءاته، ولأن الموهبة وحدها لا تصنع أديبا مبدعا، فأدواته وتشكيل رؤاه، ونمو محصوله اللغوي مرهونة بالتأثر بمن يقرأ لهم من الأساتذة، و"كم" ما يقرأ، حتى لو لم يلتق بهؤلاء الأساتذة في الواقع.
أما إذا كان مقصد القاص الكبير محمد حافظ رجب من مقولته تلك: الشكوى من عدم متابعة النقاد لنتاج الأجيال المعاصرة، فإن المناخ الثقافي عامة والنقدي خاصة يشهد العديد من الأمراض التي تؤثر بالسلب على مسار الحركة الأدبية والنقدية، وهذا يعني أن ينحت كل جيل أو كل عقد من العقود نقاده، لأن هذا مطلب ضروري، ولكن مع ذلك سيظل تأثير الشيوخ والأساتذة يعمل جيلا بعد جيل، وإن توهم البعض عدم المتابعة بالإهمال، فقد يكون حرصا على سدِّ ذرائع الهالوك أو البعد عن الضجيج من ناحية، وتناوُل الشهد المصفّى في مراحل لاحقة من ناحية أخرى.
*ما رأيك في المطبوعات الأدبية (الماستر) التي يصدرها بعض أبناء جيلك مثل "عالم القصة"، و"أمواج"، و"فاروس" و"أصوات معاصرة" وغيرها؟
-مثلت مطبوعات التصوير الضوئي (الماستر) مرحلة أو فترة من حياة أدباء السبعينيات، كانت صرخة ودليل احتجاج في وجه منافذ النشر الرسمية، وأرى في التجربة بعض النجاحات الجزئية أو الحل المؤقت لإبلاغ الأصوات المحتجبة إلى قاعدة الجمهور القارئ مهما كانت محدودة! لكنني أرى وجوب تطوير شكل الطباعة مثلما طوّر الأدباء تجاربهم، واستوى عودهم، ورسخت أصوات بعضهم.
وليت دراسات تاريخ الأدب المعاصر تتناول بالتأريخ وتحليل المحتوى مثل تلك الإصدارات. إن تكريس دور مثل تلك الإصدارات يجب أن يستمر مع التجويد الطباعي والفني، ومراعاة نبذ التكرار .. وألمح في الثوب الجديد من "أصوات معاصرة" صورة لما يجب التأكيد عليه شكلا ومضمونا .. وبالتالي تتسع القاعدة، وتثبت الظاهرة بما ينشأ حولها من دراسات ورؤى ومراجعات واقتراحات.
*هل تعتقد أن الظروف الأدبية ملائمة لأن تقدم ما تريد تقديمه؟
-على المستوى الوطني أشك في إمكانية أن تتسع دوريات القاهرة العامة والمتخصصة لإسهاماتي أو إسهامات أمثالي ممن ارتبطوا بالأرض في الأقاليم، بينما يُتيح "صندوق البريد" ـ ويناسب ـ الإسهام على المستوى العربي (البحثي والصحافي)؛ فالدار الوطنية للنشر في مصر تحوّلت إلى "هالوك" و"عناكب" و"شبه ملكية لأصحاب الأيديولوجيات المادية، والشلل التي تُسيطر على قنواتها هي ذات الأسماء المتحوِّلة كسلاحف (النينجا)، تمرّر، وتُقدِّم، وتؤخِّر، وتُجيز؛ فالتأشيرات علاقات، والعنوانات التي تصدر تُشير إلى أسوأ ما في المناخ الثقافي من ظواهر سلبية!! لم يبق سوى "الهلال": الأصالة والعصرية والتفرد، وأرى أن المستقبل يحمل على أجنحته تعاظم دور النشر الخاصة مع حركة العلم والأدب في الأقاليم ومراكز الثقافة بها في المحليات، بالإضافة إلى اتساع صوت وصدى "البرنامج الثاني الثقافي"، وهي أوعية جديدة يُمكن إضافتها إلى أدوار دور النشر الكبرى كدار المعارف وهيئة قصور الثقافة المركزية، ودور النشر الخاصة.
إن تجربة أندية الأدب في مدن المملكة العربية السعودية كفيلة بإحداث تغير ثقافي ملحوظ في المناخ الأدبي في مصر لو طُبِّقت في شكلها ومضمونها وغايات أنشطتها وتواصل رسالتها.
إنني، وبطريقة مدروسة، أستطيع نشر نتاجي بعناية دار المعارف ومؤسسات النشر الخاصة دونما تعجل للصدام مع الآخر المسيطر على منافذ الدار الوطنية، وأنهر الصحف أو الدوريات "الملاكي".
*لماذا لم تلجأ إلى المغامرة الأسلوبية كما لجأ بعض معاصريك من أبناء جيلك في مصر والعالم العربي؟ ثم ألا ترى أن مساحة القصص الموباساني تتقلص الآن؟
-المغامرة الأسلوبية تحديث في التشكيل اللغوي في العمل الأدبي بما يُثري التجربة، ومع ذلك لا ألجأ إليها عن عمد في قصصي، وإنما تجيء عفوية من مرجعية الذهن، ومحاولة تطويع الأسلوب لفكرة تلاقح الأنواع: الشعر والنثر وفنونهما. الأسلوب عندي لغة حية متجددة، مدعمة بمنجزات وسائط الاتصال الحديثة والمعاصرة، وبقدر تأثري برواد الأسلوبية الأدبية، فالكاتب هو ما يكتب، وهو ثمرة لما يقرأ ويسمع ويرى.
إن تأثير قصص جي دي موباسان في الأدب المعاصر لا يُمكن أن يُحيل الأداء اللغوي للكاتب إلى "صور باهتة"للمحاكاة، فاللغة التي يعبر بها بالأساليب يظل مصدرها أو نبعها الأساس الجهاز اللغوي الدماغي للكاتب ذاته دون غيره، وإن تأثر أو اقتدى بنهج الآخر تبقى العلامات الدالة على كل، مثل الألفاظ المستعملة (القاموس الخاص)، الجمل القصار "التلغرافية"، تيار الوعي اللغوي الداخلي … إلخ.
إن تقلص محاكاة موباسان، أو بوتزاتي، أو ألبرتو مورافيا، أو هوجو … وغيرهم، يدل على ما ذهبنا إليه من أهمية مقولة سقراط قبل أن تُعرف الأسلوبية: "تحدث .. أعرف من أنت".
*ما مفهومك للخيال والحداثة في الأدب؟
-الخيال في تصوري قدرة أو استعداد ذاتي لدى الفنان، ويتمايز الفنان على رصيفه في طبيعة الخيال ومستواه، وبقدرة قوة التعبير الخيالي نلمح روعة النص الأدبي وعمق تأثيره .. فالخيال في ضوء ذلك رسم للصور. والصورة التي تستغرق النص أو تسري مادتها بين ثناياه. هي صور الخيال في حيويته وتدفقه غير المتعمد من الفنان، بينما تطل الصورة الجزئية الثانوية معجونة بتعمِّد اختيار الفنان ورسمه، فالخيال في جوهره طبع ورقش كذلك. والخيال بالنسبة للقاص اختزان للمدركات الحسية الإنسانية، ثم إعادة تقديمها في قالب السرد التصويري أو في جملة الأفكار المتخيلة. إنها عملية بنائية في صوغ أدب القص من خلال تنظيم مجموعة من الخبرات الماضية أو الملتقطة من الواقع ذاته، وفي حالة اختيار مفردات الخيال وعناصره يتحول العمل الأدبي إلى توهم. والخيال والتخيل والتوهم والإيهام جميعاً تنتظم عقل المبدع وأحاسيسه: قصديته ورؤاه، خبراته وتحليقاته وموهبته .. بتدفق الصورة المتخيلة ونفاذها، أو بمحدوديتها وجفاف مادتها. تلكم العناصر والأشياء هي التي ترسم للمبدع خياله الفني: الأساس منه والثانوي، بل يتفاوت الخيال في قيمته وفقا لقدرة المبدع على الاتحاد مع عناصر ذلك الخيال.
أما الحداثة في نظري فأراها مشروعة شريطة ألا تنفصل عن أصول الأنواع الأدبية، بل لكل العلوم والفنون التي تُعبِّر عنها. الحداثة التي أعرفها هي التحديث أو التجديد، هي تجريب أو تجاوز لما هو مألوف .. أما إذا كانت الحداثة بدعة في ذاتها أو مطية لدعاتها أو أنصارها بهدف هدم الأسس الباقية من أصل كل شيء، فذلك تعطيل لإرث الفكر البشري وتراكم ثقافاته. فمن غير المعقول أن يروِّج أنصار الحداثة لمفهوم ضيق مؤداه: "الحداثة هي المستقبل، والماضي لا يشغلنا"!!، إن التحديث أو التجديد في سائر الفنون يقوم على المادة الخام، وهي: الثوابت، القواعد .. قواعد الانطلاق للتجربة، والتجاوز كذلك. أشبه بالشجرة التي ينمو حولها بعض النباتات المتطفلة والمتسلقة (أو "الهالوكية") .. لكنها لا تُطاول أو تثمر كالشجرة الأم، فتسقط كما يسقط من الشجرة ذاتها الفروع الهشة أو الأوراق الضعيفة، وجديد اليوم هو الماضي بالنسبة للغة المستقبل وأفكاره.
إن الحداثة تنفي ذاتها إذا ما أسقطت التأمل في الأصول، أو نقدها المعلل لتلك الأصول التي تشتجر معها تحت فوضى الحداثة لا التحديث. هل رأينا ظاهرة العدوى المرضية المنتشرة بين الحداثيين في أدبهم لغة بمثل انتشارها الفج في أدبنا المعاصر ؟! في أدبنا الآن: الغموض المطبق في النص الحداثي، الألاعيب اللغوية وغيرها؟!
إن تجديد الأدب يرتبط بالوقوف عند أدبيات الأدب وتأمل قواعده، ثم الانطلاق للتجريب والتحديث، ولا أظن أن دعاة الحداثة يدركون أنهم يشيدون مفهومهم للحداثة أو نصوصهم المحملة بالظواهر المرضية إلا في عوالم فقدت الإحساس بالجذر .. الأساس، إنهم كمن يبنون "الأدوار المخالفة، أو يزينون مبانيهم التي تنتصب في الهواء دون أساس ثابت يحملها. إنني مع كل جديد متجدد لا يتنكّر للثوابت السديدة الراسخة في القديم .. والجديد في النهاية إسهام وفعل حضاريان.
*ما موقف النقد منك ومن أبناء جيلك؟
-النقد الآن في أدبنا المعاصر هو الانعكاس الصادق لمناخ الحياة الثقافية بعامة، فالإبداع يسير في خط مواز مع النقد والعكس صحيح، توقفت رحى النقد أو تكاد لعوامل كثيرة، وجيل السبعينيات لم يحظ بالدرس النقدي لمتابعة الثراء في بعض تجارب ذلك الجيل، وما تلاه.
نحن بحاجة إلى "غربال" متعدد النوافذ للهضم والفرز. القضاة النقاد مازالوا في أبراجهم الأكاديمية طوعاً وكرهاً، يخشون موجات التطرف الحداثي وفوضويته والغثاء الذي ينسحب على نتاج رموز معروفة من الحداثيين، فينسحب هؤلاء النقاد، تتوارى مؤقتاً كلمة "العلم" لأن الوسائط مشغولة "بالأقدام" أو "الأجسام" البشرية دون عقولها، أيضاً النقد الصحافي وعلله ـ أو إرثه الأيديولوجي ـ لملاك الدوريات .. ولو أضفنا إلى ذلك توقف الأسماء الناقدة الكبيرة عن العطاء بحكم الظروف الصحية وغيرها، لاكتشفنا ما يُعاني منه المبدعون المعاصرون، من إهمال في النقد!
في ضوء ذلك اضطر الأدباء إلى تحقيق مقولة "على كل جيل أن ينحت نقاده"، هنا تحوّل المبدع إلى ناقد أو للدورين معاً .. وحدثت عمليات الإقصاء والإزاحة والتقديم والتأخير والمجاملة في أحيان كثيرة.
هناك أسماء مبدعة في الفنون الأدبية جميعاً بحاجة إلى نقد محايد مهما اختلفت منافذه. إن جيل السبعينيات ظُلِم كثيراً بإهمال متابعة الأصلاء من مبدعيه في الشعر والقصة القصيرة والمسرحية الشعرية وغيرها .. وبالقطع يزداد الأمر خطورة وسوءاً مع أدباء الثمانينيات والتسعينيات.
لقد كان من المأمول أن تتطوّر سلسلة "نقاد الأدب" التي كان يُشرف عليها الراحل النبيل الدكتور علي شلش، لتشمل تكوين مدرسة معاصرة من الأحياء، كان ذلك ثمرة لحوار مطوّل معه، وافق عليه بعد اكتمال التكليفات التي وُجِّهت لتقديم قدامى النقاد الراحلين، والأمل في دوريات "كتابات نقدية" و"علامات" و"فصول" وغيرها بهدف الكشف والتقويم والحكم والإضاءة.
أما عن موقف النقد مني فلا أراني قدّمت شيئاً إبداعيا يستأهل التناول أو الإهمال .. لأن مجموع نتاجاتي إلى زمن كتابة هذا الحوار عبارة عن مجموعتين قصصيتين، واحدة صدرت في طبعتين وهي "وجوه وأحلام"، والثانية تناولها بالدرس النقدي الدكاترة والأساتذة: صابر عبد الدايم، وحسين علي محمد، ومحمد جبريل، وزينب العسال، ومصطفى عبد الشافي( ). في "وجوه وأحلام" ترى بكارة التجربة وطزاجة الفن، مع ذلك نشرت عنها خبريات إعلامية متنوعة، وبخاصة لقاء في البرنامج التليفزيوني ذائع الصيت "أمسية ثقافية".
الأهم أنه بين أبناء جيلي بعض الأسماء التي أهملها النقد، وهي أسماء تملك الموهبة والأداة، فهل يلتفت النقاد إلى ما نشروه في كتب أو فوق أعمدة الصحف؟!
(يتبع)
د. حسين علي محمد
15-06-2007, 08:56 AM
حواران مع الدكتور أحمد زلط:
الموهبة وحدها لا تصنع مبدعاً
حاوره: أ. د. حسين علي محمد
.....................................
(القسم الثاني)
2-الناقد:
*متى كانت البداية .. بداية اهتمامك بالتخصص في دراسات أدب الطفولة؟ وما العقبات التي قابلتك في هذا الطريق؟
-بدأت من صيف 1983م أهتم بالقراءة البحثية حول أدبيات الطفولة عربيا وعالميا، وكانت ميولي ناحية ذلك الاتجاه تسبق محاذير البحث حول فرع شائك ومُستحدث، بل فرع له صلات وثيقة بالعلوم الإنسانية المعاصرة، مثل التربية وعلم النفس.
ولم تكن بدايات الاهتمام أثناء مرحلة الدراسات العليا سهلة، إذ وقعت بين فريقين أحدهما يدفعني لدراسة بيْنية (بين التاريخ والأدب)، والآخر يوجهني لدراسة الفكر الحضاري، ومنه التربوي لأنطلق من قاعدة أو رؤية حضارية لأدبيات الطفولة، وكانت ميولي مع الاتجاه الثاني مُمثلة في إشراف وتوجيه أساتذة الأدب الكبار الدكاترة: محمد زغلول سلاّم، والطاهر أحمد مكي، ومحمود ذهني، ورشدي طعيمة، ورجاء عيد. واستغرقت مدة الإعداد العلمي نحو عقد من الزمان. وأظن أن بحوثي كانت ثمرة ناضجة لدفعهم لي وتوجيههم إياي. وكان من قبل ومن بعد عون الله لي ومدده الوفير.
*ما رأيك في الدراسات السابقة في أدب الطفل التي مهّدت الطريق أمام الباحثين، وحاولت أن تكتشف آفاقه؟
-أنا من الذين يؤمنون بوحدة العلم وأن تراكم مجهوداته يُضيء الطريق أمام الباحثين، لكن دعني أقل لك إن الدراسات السابقة في ميدان أدب الطفل العربي ـ إلى بداية انشغالي الأكاديمي بها ـ لم تكن سوى بعض البحوث الجزئية في مصر وسورية والعراق ولبنان واليمن، بالإضافة إلى الكتب المستقلة التي أفدت منها، مثل: "في أدب الأطفال" (الذي ظهرت طبعته الأولى بعنوان "الأدب وبناء الإنسان") لأستاذنا الدكتور علي الحديدي، و"أدب الأطفال علم وفن" للأستاذ أحمد نجيب، وآخر الكتب إلى بداية الثمانينيات هو "أدب الأطفال: فنونه ووسائطه" للأستاذ هادي نُعمان الهيتي، وهذه الدراسات السابقة على قلتها، وندرتها كانت المرجع الأساس لعشرات العناوين الأخرى التي بدأت تملأ الساحة في عقدي الثمانينيات والتسعينيات، وأحمد الله تعالى أن جهدي في هذا المجال ـ بعد تكريس التخصص ـ قد أضاف لمجهودهم الثر في المعلومات والوسائط.
وقد ناقشتُ الدراسات السابقة والموازية في كتابي "أدب الطفل العربي: دراسة في التأصيل والتحليل" بحياد وموضوعية، فبينتُ مالها وحدَّدتُ ما عليها.
*كانت إسهامات الروّاد في أدب الطفل (محمد عثمان جلال وأحمد شوقي، وإبراهيم العرب، وعلي فكري، وكامل الكيلاني .. وغيرهم) تخلط الأدب بالعظة والتعليم ـ كان ذلك في المسرح والرواية وأدب الطفل ـ فهل جنى ذلك على أدواتهم الفنية أو قدرتهم على تقديم الإبداع الأدبي المحلق للطفل؟
-أرى أن إكساب الطفل الخبرة التعليمية والعظة والعبرة أحد أهم الوظائف، أو إحدى الغايات المقصودة من أدب الطفل، ولا يُقلل ذلك من شأنه إذا كان مستكملاً أدواته الفنية. والرواد الأوائل أمثال: محمد عثمان جلال، وأحمد شوقي، وإبراهيم العرب، وعلي فكري .. وغيرهم من الأجيال التالية مثل: علي عبد العظيم في الشعر، وبرانق ومحمد فريد أبي حديد والعطار وشاهين في النثر، هم الذين تحمّلوا ـ باقتدار فني ـ إرساء دعائم أدب الطفل: دعوةً نظريةً وتعريباً وترجمةً وتأليفاً، وأزعم أن تغليب النصح والإرشاد ـ أو التعليم في نتاجهم ـ كان سبباً ونتيجةً لحماس دعوتهم، ومحاكاتهم لأدب الغرب، مثلما صنع الرائد رفاعة رافع الطهطاوي في كتابه "النصح المبين في محفوظات البنين"، كما ترك لنا أحمد شوقي جملة من الحكايات الرمزية الخيالية، وكذلك بعض مقطوعات إبراهيم العرب، ومنظومات عبد الله فريج وعلي عبد العظيم. وقد انتهت تلك المسحة الوعظية مع بداية عقد الأربعينيات من القرن الحالي.
ولم يجن هذا الاتجاه التعليمي (أو الوعظي) ـ في رأيي ـ على إبداعهم للصغار (أو الكبار)، بل بقي إبداعهم للطفولة ـ بين آثارهم جميعاً ـ يؤدي وظيفته ودوره في سياق المرحلة الزمنية من القرن، والمرحلة العُمرية للناشئين كذلك.
*كتبت كتاباً عن "روّاد أدب الطفل العربي"، فهل ترى في كتابة الرواد حيوية وقدرة على تجدد العطاء؟ أو بمعنى آخر: هل يفيد منها الطفل اليوم وغداً؟
-الرواد العرب في ميدان أدب الطفل أسهموا بنصيب هائل في معركة التأليف ـ وقبلها الترجمة والتعريب ـ ورصيد هؤلاء الرواد باق في المكتبة العربية للطفل، وفي ذاكرة القارئين، وهو "الأنموذج" أو المثال المنشود في الكتابة المأمولة لبناء الطفل العربي وجدانياً ومعرفيا.
إن إسهامات كامل كيلاني وحدها كافية للرد على تساؤلكم، إذ غطّى بمادة قصصية متفوقة، ووافرة ومتنوعة المراحل العمرية التي يمر بها الطفل، ولم يكتب قصصاً فقط بل كتب شعراً يُنمي اللغة، ويُدرِّب الذائقة.
ولقد آمن هؤلاء الرواد بأهمية علاقة الشكل بالمضمون، فكانت كتبهم متميزة في الإخراج الفني، والحروف الطباعية وشكلها وضبطِها وحجمها، ومادتها المعرفية والوجدانية، ومناسبتها لعُمر المتلقي. وظهور عشرات الطبعات من كتب الرواد إشارة مستمرة ـ بل إنذار ـ لمن يتجاهلون آثارهم الباقية، ويلجأون إلى الأجنبي أو الوافد الغربي لكونه "بضاعة جاهزة".
فليتنا نفيد من تجارب هؤلاء الرواد في كيفية طرح الأفكار والأساليب، وضبطها، ورسمها، وإخراجها، ويجب أن يظل للكتاب دوره، وأن يكون قادراً على منافسة الوسيط العجيب المثير "التلفاز".
*كيف تنظر إلى إنجاز مُعاصرينا في "أدب الطفولة"؟
-إن ما حققه المبدع العربي والباحث العربي في أدب الطفولة في العقدين الأخيرين يعدل نتاج أدب الطفل العربي في القرنين الماضيين.
لقد كان نتاج الرائد كامل كيلاني طوال النصف الأول من القرن العشرين كفيلاً بسدِّ حاجة الطفل العربي على مستوى النتاج القصصي، وتسهم الآن عشرات الأقلام العربية المتميزة والواعدة في بناء شخصية الطفل تأليفاً وبحثاً.
لدينا قاعدة علمية وإبداعية في الجامعات والهيئات المعنية، مثل: مركز بحوث أدب الأطفال بمركز تنمية الكتاب العربي، وإدارة الثقافة والنشر بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ودائرة ثقافة الطفل ببغداد، والمجلس العربي للطفولة والتنمية، والمجلس القومي للطفولة والأمومة، والأقسام والمراكز العلمية بالجامعات والمعاهد. وقبل ربع قرن لم تكن هناك أية قواعد علمية بحثية متخصصة في مجال أدب الطفل! وقد برزت أسماء جديدة في مجال البحث والإبداع، ففي مصر والسعودية على سبيل المثال: أحمد سويلم، وفريد معوض، واحمد زرزور، وحسن شحاتة، وسعد أبو الرضا، وعلوي الصافي، ونعمة حويحي، وحبيب المطيري، ومحمد بن علي الهرفي، وهدى باطويل .. وغيرهم. وهي أسماء بدأت في تكريس جهودها البحثية ـ أو الإبداعية ـ في هذا المجال، وهي كوكبة لها نظائرها في سائر البلاد العربية.
لم يعد أدب الطفل حكراً على أسماء معينة، أو مترجمات عن لغات بذاتها، بل أينع الحقل وأزهر وأثمر، والأهم أن يصل نتاجه إلى أيدي قارئيه.
*في ضوء تجربتك وإسهامك في الميدان، ما مستقبل أدب الطفولة؟
-تجربتي لا تنفصل عن الآخر ـ الباحث أو المتلقي ـ، والرؤية آملة ومُبشرة، لأن الأقلام المبدعة أو الباحثة يتنامى عددها، وتتنافس نحو الأفضل، ولدينا الآن قواعد أكاديمية وتربوية ومعلوماتية خصبة ومتنامية، ولدينا استراتيجية تربوية متكاملة. وكلها منظومات تُعدُّ النشء لمستقبل أفضل على هدى من بناء روحي ومادي متلازمين. وهناك بعض معوِّقات تقف في طريق النهضة المأمولة، منها: الأنانية، والذاتية البغيضة (أقصد أن يحب الشخص ذاته ولا يرى غيرها، مما يجعله يقلل من شأن الآخرين، ويحاول أن يهدم إنجازاتهم)، ومن الأمور السلبية في هذا المجال: تكاثر أمراض التطفل وادّعاء الكتابة البحثية من غير ذوي الاختصاص، بالإضافة إلى قلة لا تؤمن إلا بفرديتها وهيمنتها، فلا تسمح للورود أن تتفتح، فإلى متى يؤخر وخز الأشواك مسيرة أدب الطفل، هذا المجال النبيل الذي أثق يقيناً، أنه سينطلق، ويزهر دائماً رغم المثبِّطات.
د. حسين علي محمد
15-06-2007, 08:58 AM
ثلاثة نماذج للإنسان المأزوم
في مجموعة «وجوه وأحلام» لأحمد زلط
بقلم: أ. د. حسين علي محمد
..............................
القسم الأول
.............
(1)
أحمد زلط في مجموعته الأولى «وجوه وأحلام»(1) ـ كاتب أخلاقي، وهو في ذلك يتوافق مع طبعه الشخصي، وميوله الخلقية، ومكوّناته الفكرية التي درسَت جيل الرواد، وتعاملت مع فكرهم وأدبهم.
ولقد كان جيل الروّاد يعي هذا الدور جيداً وهو يتعامل مع الفنون الأدبية الوافدة. فالكاتب الرائد محمد عثمان جلال حينما أراد أن يترجم روائع مسرحيات الغرب، قال في مقدمة ترجمته: «ليكن في علم العامة، وليخلد في أذهان تلك الأمة، أن التياترات موضوعة للتعليم والتأديب، والتربية والتهذيب، وأن … ذلك لما فيها من تعليم للصبيان، وتدريب للشبان، وأنها تورث الجرأة عند المكالمة، وتُلهم الحجة لدى المخاصمة»(2).
وقد مضى الجيل التالي ومن أعلامه: أحمد شوقي، والمنفلوطي(3) في نظرتهم للأدب على هذا المنوال، فجدلوا من الأدب والأخلاق فرائد في الأدب العربي. وعلى نفس المنوال كانت إبداعات وكتابات كثيرة لأحمد حسن الزيات، ومصطفى صادق الرافعي، ومحمد حسين هيكل، ومحمود تيمور .. وغيرهم.
ويقف أحمد زلط هذا الموقف الأخلاقي في قصصه؛ فنراه في قصصه ينتصر للفضيلة، حتى وبطله مأزوم، وربما لو تخفف البطل قليلاً من التزامه الخلقي لحُلت بعض مشاكله، ولكن دون ذلك «خرط القتاد» كما يقول أسلافنا.
فصابر أفندي في قصة «آمال من هناك» مأزوم، وسر أزمته أن ابنته «أمل» مخطوبة من ست سنوات للنقيب «ثروت الكفراوي» الذي لا يقدر أن يجهزها إلا بمعاونة أبيها، لكن أباها غير قادر على المساعدة، رغم أنه لو تنازل قليلاً لاستطاع أن يُساعد ابنته، فهو من العاملين في هيئة الإسكان.
ويكون الذروة حوار الخطيب مع خطيبته:
ـ سنين انتظار الشقة طالت .. طالت قوي.
ـ الصبر طيب يا ثروت.
ـ لا طيب ولا خبيث .. حبالكم طويلة .. طويلة.
ـ الأمل .. الأمل.
ـ أحب أعرفك أن مثالية أبيك طريقها مسدود مع المقاولين(4).
ولكن إيمان أمل الذي رضعته من صلابة أبيها لم تهتز لحظة، حتى حينما تصلها ورقة الطلاق «وقفت بين تلاميذها في فناء المدرسة التي تعمل بها، أميرة تنتصر على ظروف طلاقها .. »(5).
وكان من الممكن أن تنتهي القصة عند هذه النهاية الرائعة، ولكن الاتجاه الأخلاقي عند أحمد زلط، يأبى إلا أن ينتصر للفضيلة، وأن يأخذ الجاني جزاءه.
فقد جاءتها دعوة من أختها «دعاء» للعمل في مدرسة العريش النموذجية، وبينما هي متجهة مع والدها للعريش «جذبت من أحد الركاب في غير وعي جريدة «الأخبار»، حيث تصدر صفحة الحوادث المصورة تعليق مثير يقول: «أصدرت المحكمة العسكرية العليا حكماً بالسجن المؤبد على النقيب ثروت الكفراوي ومساعديه بتهمة التلاعب في مواد البناء الخاص بإحدى الوحدات العسكرية» شهقت أمل شهقة طويلة مفعمة باللوعة والسكينة، بينما راح بصرها يقرأ في صفحة السماء خاتمة المشهد المهيب»(6).
و«صابر أفندي» هنا نموذج للإنسان المأزوم، وأزمته متمثلة في محاصرة الخارج / للداخل. الخارج هنا ثروت الكفراوي، والداخل / ابنته أمل، لكن الإيمان ينتصر في النهاية، والبطل يحس باستقراره حتى لو وقف الخارج كله ضده.
*النموذج الثاني للإنسان المأزوم من الداخل يتمثّل في «نجوان» التي يصفها الراوي المحب «أشرف» بقوله: «تذكرت يومئذ عينيها الضاحكتين، فرط نشوة الفرحة، بدت كملاك(7) يُعطِّر الوجود بشذاه .. العود قد استقام واستبانت أناقته، يبرز مفاتنها خصر طري يعلوه صدر ناهد ثائر. أما شعرها فقد تهدّل على كتفيها في سواد لامع، مع براءة رسمت بسمة صافية وديعة، فازدانت هذه الخميلة … إلخ»(8).
ما مأساتها؟ .. أمها لعوب، فاتنة غاوية، في الرابعة والأربعين، اسمها «هانم الشهواني» (لاحظ دلالة الاسم واللقب: هانم: محاولتها التجمل والتشبه بالهوانم، والشهواني: الواقع الذي تمثله هذه الأنثى الجامحة المنفلتة).
يقول عنها صاحب الراوي:
« ـ أم أربعة وأربعين .. جارتك يا سيدي. تطلبني لألعب معها الورق .. ولد وبنت»(9).
هنا الحصار من الداخل / في مواجهة الداخل:
تُزوِّجُها أمها من عشيقها «مرعي الدنف». ولكن العشيق الذي كان سادراً في غوايته مع الأم لا يُبالي بإعراض زوجته عنه.
وتذهب للمستشفى فيظن الراوي أنها ذاهبة لتلد، ولكن «سنة كاملة أو يزيد مضت على زواجها، ومازالت نجوان بكراً.
قطع جدار الصمت كبير الأطباء الذي خرج لتوه من غرفة العمليات ليُعلن الكارثة:
ـ البقية في حياتكم، بنتكم ماتت. الورم الخبيث سمم دماءها. كان أكبر من جسمها النحيل»(10).
حينما يكون الصراع من الداخل في مواجهة الداخل، فإن الموت يكون هو الحل، والورم الخبيث هنا ليس إلا تعبيراً عن سوء العلاقة بين الأم والابنة، حيثُ يُفضي بالأخيرة إلى الهلاك.
والإنسان المأزوم في هذا الإطار ينتهي موتاً، ولا يكون قادر على المقاومة، ربما لأنه جزء من هذه الظروف التي يُريد مقاومتها، فيكون الموت هنا نهاية مبررة، وربما يكون عند المؤلف انتصاراً، لأن إنسانه استطاع أن يُحقق التوازن الداخلي ـ المفقود في الواقع ـ في هذه الحياة، بموته.
*النموذج الثالث لإنسان أحمد زلط المأزوم، هو ذلك الإنسان الذي يُطارده قدره، ونلمح ذلك في «بلية» بطل قصة «انكسار القاعدة» ـ وأحسب أن هذه القصة من أروع ما كتبه أحمد زلط ـ مع قصة أخرى لم تُنشر بعد، ولم تضمها هذه المجموعة بعنوان «المستحيل».
البطل هنا: قصير ودميم، يحاصره القصر وتُطارده الدمامة وهما قدره، فهل يستطيع أن يفر من قدره؟
أطلقت عليه الحارة لقب «بلية».
في عمله ـ كاتباً للجلسات في محكمة بالزقازيق ـ يتعرف على «ليلى فؤاد»، ويصف الكاتب العلاقة بينهما في جمل سريعة موحية:
«مست «ليلى فؤاد» من بين الشاكيات شغاف قلبه، لم ير في حارة الصيادين مثلها دلاً وأبهة وبهاء. طار عقله، بهرته أناقة آسرة، وجمال قتّال. قتله أكثر هدوؤها في طلب إجراءات طلاقها من زوجها المغترب في دول الدولار.
لقد عرف صاحبنا «بلية» أن الزوج الثري كان قد وفد إلى المدينة في عطلة الصيف، وغرّر بها، وتركها لوحيدها الصغير، ثم راحت تنتظره، وهو يخدعها بالرسائل غير المنتظمة، ودون عنوان … تكررت صوب صاحبنا غمزات ليلى فؤاد، عيون عطشى وجريئة في آن واحد .. لم يدر سرها بعد .. حسناً .. اختصر بريق عينيها المسافة بين مرّات ترددها إلى المحكمة، وبين محكمة الأحوال الشخصية .. المزيد من الظلمة والعزلة، فمضى يقتل ساعات نهار يومه بين أكوام الورق الصفراء»(11).
وتدعوه «ليلى فؤاد» لحضور حفل عيد ميلاد ابنها، ويبتسم «بلية» ـ هذا المطارد بقصره ودمامته ـ هاهي الدنيا تبتسم له بعد طول نَكَد، وهاهو قد رُقِّي منذ عدة أيام، وهاهي «ليلى فؤاد» تدعوه لحضور حفل عيد ميلاد في قصرها الكبير الغارق في الخمر والعطر والدخان.
ويذهب إلى الحفل فتقابله «ليلى فؤاد» مقابلة يحسن أن نترك القاص يرويها لنا:
«الكأس على حافة البار، واستدارت في رشاقة تتلوّى في خطوات لعوب، واتجهت نحوه وأمسكت بذراعه:
ـ تفضل .. أهلاً بالباشكاتب. قلت لي اسمك؟
لم يدر .. انحنى قليلاً والتقط الصندوق، وانسحب خارجاً تتبعه بفستان عاري الصدر .. وربتت على كتفه في إشفاق، وقالت:
ـ تبقى خدمتني قبل ما تسخن الحفلة .. ابني يشم معاك هوا في الجنينة.
ـ حفلة .. وهوا؟
ذابت أفكاره، وانعقد لسانه، وراح لتوه يداعب الطفل البريء خارج الحلبة، وخيوط المشهد تروح وتغدو، وشريط من طموحات مدمرة بعيدة عميقة تجثم فوق صدره كوخز الشوك. وبقية من نجوى تأسره، فيتنفس الصعداء، والصمت المطلق يحتويه.
ـ ولا يهمك، سأكون معها بطلاً لليلة عيد الميلاد .. سيخرجون بعد قليل، وأولد من جديد»(12).
ولكن الحفل ينتهي، ويخرج المدعوون، ويراها تصعد السلم شبه مخمورة إلى الطابق العلوي مع شخص آخر لتمضي بقية الليل، وينظر إليها «بلية» وهو يفكر في «هيئة الرجل الذي صعد معها إلى أعلى، هناك .. قامته المديدة، وصدره الواسع، وصوته الواثق. كلها أشياء تنقصه»(13).
ويعود محبطاً، وكأنما طفل حارة «الصيادين» القديم هو الذي يعود، والحارة في شرف استقباله بنداءٍ باقٍ:
ـ روح يا بلية .. تعال يا بلية(14).
إن أزمة الإنسان في «انكسار القاعدة» هي أزمة قدرية، لا يملك «بلية» منها فكاكاً، فهو قصير قبيح، وسوف يقابله القصر والدمامة والقبح في كل مكان.
وعليه أن ينطوي، وألا يعمل على تغيير عالمه، لأنه لا يُفلح في تغيير عالم متآمر، وقدر قاهر.
(يتبع)
.........
الهوامش:
(1) الطبعة الأولى صدرت في سلسلة «أصوات معاصرة» 1983م، والطبعة الثانية صدرت عن مؤسسة العصر الحديث، الزقازيق 1991م، ونحن سنحيل إلى الطبعة الثانية.
(2) محمد عثمان جلال: المسرح العربي، اختيار وتقديم: د. محمد يوسف نجم، دار الثقافة، بيروت 1964م، ص3.
(3) انظر في معالجة هذه الفكرة «عدنان مردم بك شاعراً مسرحيا»، رسالة ماجستير مخطوطة للباحث، كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة 1985م، ص ص426 ـ 428.
(4) أحمد زلط: وجوه وأحلام، ص27.
(5) السابق، ص27.
(6) السابق، ص31.
(7) الصواب: مَلَك.
(8) السابق، ص38.
(9) السابق، ص40.
(10) السابق، ص44.
(11) السابق، ص12.
(12) السابق، ص16.
(13) السابق، ص17.
(14) السابق، ص17.
د. حسين علي محمد
15-06-2007, 08:59 AM
القسم الثاني
..........
(2)
لا يتوقف بطل أحمد زلط ـ المأزوم غالباً ـ أمام أزمته، بل يُحاول أن يتعمّقها، يعرف ملابساتها، وكيف وقعت، وهل يتجاوزها، أم تكون نهايته منها؟
ولعل قصته «الرجل والشمس» توضح ذلك؛ فالبطل ـ عبد الله كأنه رمز للإنسان المأزوم عند أحمد زلط الذي هو محور قصصه جميعاً. هذا البطل محام يسكن في قرية مجاورة للزقازيق، ويعي مقولة قديمة لجده «اضبط ساعتك يا عبد الله، لا بل اضبط مواقفك على حقيقتين: نظام السكة الحديد، ونظام المحكمة»(1).
إنه إنسان جاد، يريد أن يصل في موعده، ويدرس قضيته جيداً ليترافع وينتصر للمظلوم، ويصل المحامي إلى المحكمة ..
«أشعل سيجارته بين أصابعه، وبدّل نظارته غير مرة وهو يتفحّص أوراق القضية. احتشد جمع غفير في أروقة(2) الجلسة .. الانتظار يطول .. وفجأة أعلنت سكرتارية هيئة المحكمة تأجيل النظر في قضايا اليوم لتعذر وصول الهيئة الاستشارية، صدم الجميع، غمغم عبد الله:
ـ أيصل أتوبيس قريتي المتهالك في موعده ويتعثّر قطار القضاء؟
سقطت أبعاد مقولتك يا جدي .. يرحمك الله»(3).
ويدور حوار طويل داخل نفس البطل بينه وبين خلية من خلايا مخه، يصفها بأنها الخلية الأم، يستغرق أكثر من صفحتين، لنجد في نهايته نصيحة الخلية الأم «أبوح لك يا صاحبي بآخر طوق نجاة: كن كالنحل في مملكته الجادة، وإلا فالسقوط ينتظرك على الحلقة»(4).
إن هذا البطل الإيجابي يتجاوز المثبطات والمعوقات التي تملأ طريقه، وكأن شعاره «انفراج حالنا اليوم مقرون بأن نسعى ونؤمن، يومئذ نجتاز المسافة بين إسار الدوائر إلى آفاق الضياء»(5).
(3)
في هذه المجموعة ـ كما يرى الدكتور صابر عبد الدايم ـ بحق ـ يستفيد أحمد زلط من خصائص «الأسلوبية الحديثة الممتزجة بالواقعية، وتتمثَّل في التركيب والتركيز والتكثيف والتجزيء، والجمل القصيرة المتوازنة ذات الإيقاعات الداخلية المتعلقة بنسيج العمل الفني ـ الأداء الشاعري ـ الحوار المعبر برغم ندرته ـ .. الأسلوب السينمائي»(6).
لكن هذه المجموعة تُثير ـ فنيا ـ عدداً من الملاحظات:
1-أن فن القصة القصيرة عموماً يميل إلى التركيز والتكثيف، ومن ثم فإن التكرار الأسلوبي ـ غير المبرر ـ يجب بتره، بلا رحمة.
ومن أمثلة ذلك قوله في قصة «الرجل والشمس»:
«ـ آه .. لكم تحملين إلينا أيتها الشمس ملايين المعاني المليئة .. المليئة بالدفء .. المليئة بالوضوح و…»(7).
وكان من الممكن التوقف بالجملة عند كلمة «المعاني»، فتصير: «آه .. لكم تحملين لنا أيتها الشمس الملايين من المعاني»، فهو هنا حزين، ويتعجب لأن البشر يتغزلون في القمر، ولا يتغزلون في الشمس، أو على حد قوله بعد ذلك: «إنه غزل بلا زحام لا يُشاركني فيه أحد»(8).
وإذا أراد الإبقاء على عجز الجملة، فكان من الأجمل أن تكون هكذا: «المليئة بالدفء والوضوح». فماذا أفاد تكرار «المليئة مرتين، وماذا أفادت «الواو» وبعدها «النقط»؟ هل يفيد التوكيد والكثرة؟ .. لقد فهمنا هذا .. فما الداعي لكثرة الكلمات؟
وعدم التركيز هذا يتضح في أكثر من صفحة ونصف في مقدمة قصة «عفواً حواء آثمة» وفي قصة «وداع في موسم الحصاد».
2-استرفاد أحمد زلط للتراث ملمح من ملامح هذه المجموعة، وهو يستخدمه لإثراء تجربته، وإعطائها آفاقاً أكثر رحابة، مثلما استخدم نصوص «كتاب الموتى» و«الفلاح الفصيح» في قصته «وداع في موسم الحصاد» ليُعطي التراثُ آفاقاً متجددة لمصرع «نجوان الغزاوي»، وأنه منذ القديم تتصارع الفضيلة والرذيلة، ومن هنا فإن هذه المقاطع:
«احذر. إن الأبدية تقترب».
«في مكان الصدق هذا، لم آت ذنباً، ولم أعرف أية خطيئة، أو أي شيء خبيث».
«لم أغتصب لبناً أو خبزاً من فم طفل، ولم أرتكب الزنا قط»(9).
هذه النصوص التراثية تُمارس دورها في بنية جديدة، هي نص قصصي معاصر، وتكون قادرة على الإيحاء، بالتناص المثري للتجربة، المعمق لها.
لكن هذا «التناص» يكون أحياناً مُعيقاً للتجربة مُفسداً لها، إذا لم يكن الكاتب واعياً لمفردات نصه، ومثال ذلك استدعاء نص الهوية لصابر عبد الدايم:
اسمي: صابرْ
عمري: سنواتُ الصّبّارِ جهلتُ بدايتَها
أوْ حتّى كيفَ تُسافِرْ
بلدي: مصْرُ ـ القريةُ ـ والموّالُ السّاخرْ
والمهنةُ: شاعرْ
وهواياتي فكُّ الأحجبةِ وهدْمُ الأسْوارْ
والبحْثُ عن الخِصْبِ المُتواري خلفَ الأمطارْ
والتّنقيبُ بصحراءِ النفسِ عن الآبارْ
وقراءةُ ما خلْفَ الأعْيُنِ من ْ أسْرارْ(10)
فالبطل اسمه «صابر أفندي» وهو رجل شريف يرفض السرقة، ويرفض أن يتنازل عن بعض مبادئه، حتى تطلق ابنته من أجل ذلك، فكيف يُمكن أن «يقتبس» ـ كما يقول القاص ـ نصا لشاعر آخر دون أن يسميه .. فيكون سرقة؟
بمعنى آخر: كيف يسرق «صابر أفندي» ـ البطل الشريف في النص ـ قصيدة صابر عبد الدايم «الهوية»؟ وهو ـ أي البطل ـ في النص يرفض السرقة، ويقدمه القاص لنا مثلاً للطهر والفضيلة.
وهناك خطأ فني وقع فيه القاص أنه كتب الشعر السابق كتابة نثرية في سطور متتالية دون المحافظة على جماليات كتابة السطر الشعري التفعيلي، مما يجعل القارئ العادي يقرأه وكأنه يقرأ النثر. ومعروف أن «معرفة السياق وإدراكه عملية ضرورية لتذوق النص وتفسيره، وهذه هي معرفة «الجنس الأدبي» للنص. وكل عمل أدبي تختلف قيمته بناء على جنسه .. حتى الجملة اللغوية تختلف قيمتها بين نص وآخر حسب جنس النص …»(11).
وهكذا فنص «الهوية» لصابر عبد الدايم، يتحول إلى نثر داخل نص قصصي، ويفقد بذلك القدرة على الإيحاء والتأثير والنفاذ.
3-تكثر أحداث القصة أحياناً، وتطول تداعياتها حتى يمكن أن تُشبه رواية، وليس قصة قصيرة، ومن حسن الحظ أننا لا نجد ذلك إلا في قصتي «آمال من هناك»(12) و«وداع في موسم الحصاد»(13)؛ ففي القصة الأولى أحداث وأماكن متعددة، وفي القصة الثانية أحداث تستغرق أكثر من عام.
ولعل الذي أوقع القاص في هذا ميله إلى الاهتمام بالحدث في القصة، أو لعل رغبة تستحوذ عليه أن تتحول قصصه في المستقبل إلى أفلام ومسلسلات، فسيجد كتاب السيناريو والحوار مادة ثرية تُعطيهم إمكان تحويلها إلى أفلام ذات أحداث ثرية وعريضة.
4-أفسد تذوقنا بهذه النصوص الجميلة كثرة الأخطاء التي لا تكاد تفلت منها صفحة واحدة من المجموعة، وهي آفة انتشرت بكثرة في النتاجات المطبوعة في دور النشر الرسمية، فكيف تسللت إلى دور النشر الخاصة.
***
أحمد زلط قصاص واع، يجرب بتأن.
قرأ وأفاد من إنجازات القصة الحديثة والمعاصرة.
أفاد من إنجازات محمود تيمور ومحمد عبد الحليم عبد الله ومحمود البدوي، فأخذ منهم طلاوة الأسلوب وثراء الحدث.
وأفاد من إنجازات نجيب محفوظ في رصد العلاقة بين البطل وبيئته من جهة، والقاص وبيئته من جهة أخرى.
فأبطال أحمد زلط من «الصيادين» (أحد الأحياء الشعبية بمدينة الزقازيق)، أو من القرية (أكاد أقول من القرية التي أنجبت أحمد زلط، وهي قرية «شنبارة الميمونة»: هذه القرية التي ولد فيها الكاتب، ويعشق اسمها فيضعه دائماً مع اسمه في مقدمة مؤلفاته).
وإذا كانت المجموعة الأولى لأحمد زلط بهذا الثراء .. وتُثير هذا القدر من المتعة والفكر والملاحظات، فالمستقبل له مشرق، والأمل فيه ـ قاصاً ـ كبير بإذن الله.
(انتهت الدراسة)
.............
هوامش القسم الثاني:
(1) السابق، ص115.
(2) في النص «أوراق»، ولعل الصحيح ما أثبتُّه.
(3) السابق، ص115 ، 116.
(4) السابق، ص119
(5) السابق، ص120.
(6) تُنظر مقالة د. صابر عبد الدايم عن مجموعة «وجوه وأحلام»، وقد نشرت في جريدة «الندوة»، العدد (8739)، وفي كتابه «التجربة الإبداعية في ضوء النقد الحديث»، مكتبة الخانجي، القاهرة 1990م، ص227.
(7) أحمد زلط: وجوه وأحلام، ص113.
(8) السابق، ص47،48.
(9) هذه النصوص وغيرها في السابق، ص33 ، 34.
(10) د. صابر عبد الدايم: المسافر في سنبلات الزمن، مطبعة الأمانة، القاهرة 1982م، ص4.
(11) د. عبد الله الغذامي: الخطيئة والتكفير: من البنيوية إلى التشريحية، ط1، النادي الأدبي الثقافي، جدة 1985م، ص11.
(12) السابق، ص ص19-21.
(13) السابق، ص ص33-44.
.................................................. .
*من كتاب "جماليات القصة القصيرة"، د. حسين علي محمد، ط1، الشركة العربية للنشر والتوزيع، القاهرة 1996م، ص ص33 ـ 44.
د. حسين علي محمد
15-06-2007, 09:00 AM
قراءة في مجموعة «أصابع متوحشة» للدكتور أحمد زلط
بقلم: أ.د. حسين علي محمد
..............................
هذه هي المجموعة الرابعة للقاص الدكتور أحمد زلط، وقد صدرت عن دار هبة النيل للنشر والتوزيع بالقاهرة (2001م)، وتضم أربع عشرة قصة قصيرة كتبها جميعاً خلال العام الدراسي 2000/2001م، وهو عام دراسي خصب للدكتور أحمد زلط، أتمَّ فيه معجمه للطفولة، وكتب مسوّدة كتاب عن «نظرية الأدب»، وأنجز كتاباً آخر في المطبعة الآن.
وكان الدكتور أحمد زلط قد أصدر ثلاث مجموعات قصصية قبل هذه المجموعة، هي: وجوه وأحلام (1982م)، والمستحيل (1997م)، وعفاريت سراي الباشا (2000م).
ومن الواضح أن لغة السرد عند الدكتور أحمد زلط قد تطورت في مجموعته هذه ـ عن مجموعاته السابقة ـ فقد كانت لغته السابقة سردية بسيطة مُباشرة، ولكنه في هذه المجموعة أقرب إلى الشعرية المكثفة، يرتقي بها حيناً، ويتوارى خلف سطور الحوار التي تبدو أقرب إلى الحوار المعتاد مرة أخرى.
ومن الملاحظ على هذه المجموعة أنها تلجأ في تشكيلها الفني إلى استخدام عدد من الأدوات أهمها المفارقة، ونلمح هذه المُفارقة في قصص المجموعة جميعاً. ففي القصة الأولى «مائدة لكائنات البر» نرى مائدتين كبيرتين؛ الأولى أقامها صاحب شركة توظيف أموال، و«المناسبة توقيع عقد بيع مشروع ثروة حجرية خاسرة إلى شركة توظيف أموال كبرى»، والمائدة الثانية «لنائب برلماني وسعته قلوب أكبر المدن اتساعاً ومساحةً» ( ).
ويتسع السرد لرصد المُفارقة بين المائدتين، مائدة المظاهر الكاذبة التي قصدها البشر والكلاب «من أين جاءت جموع الكلاب؟ ما سر احتشادها مع جمهور الحفل؟» إن السارد يسأل صديقه فيرد عليه «بسخرية تغلفها بسمة تعلو لحيته البيضاء: جاءوا مثلما جئنا، أخبرني المشرف على موائد الحفل أن وفود الكلاب بدأت في الوصول من ليلة الأمس، كانت طلائعها الأولى حولنا مع ظهور روائح الذبح والطهو وإعداد الموائد»( )، وإذا كانت هذه هي كما يصفها القاص «مأدبة القرن» ( )، لما أنفق فيها فإن «المأدبة الحقيقية» ( )، والتي نرى فيها الكرم الحقيقي ـ لا المظهرية الكاذبة ـ «مشاعر حب تملأ وجوه المدعوين، والفرحة الحقيقية مرتسمة على الأوجه والشفاه».
ويلخص السارد المفارقة بين الحفلين في فقرته الختامية: «خرجت عن صمتي ولساني يلهج: مرحى لأهل البر، وويل للناهبين، وويل للمتطفلين، وآه يا كائنات البر».
الخاتمة ضرورية لتأكيد المقولة التي تطرحها القصة، والعنوان «مائدة لكلاب البر» سيُشير من بعيد لرواية حيدر حيدر «مائدة لأعشاب البحر» التي أثارت ضجة في مصر في مطلع عام 2000م، قبل كتابة القصة بعدة أشهر، والقاص حر في اختيار عنواناته، لكني أرى هنا أن القاص أراد أن يعمل مُفارقة مع عنوان حيدر حيدر. فإذا كانت رواية حيدر تُسف في تعاملها مع اللغة، وتستخدم الألفاظ التي تعف الأقلام عن كتابتها، فهنا قصة تكتب لغة موحية راقية، وإذا كان حيدر حيدر ينعى على الثوار القدماء ابتعادهم عن ثوريتهم، فهاهنا السارد يُمارس ثوريته من غير أن يقول خطبة عصماء، ولكن من خلال مشهد مؤثر لمائدة، يستدعي مائدة أخرى. والقصة عند أحمد زلط ترصد مشاهد الكرم المُفرط الذي يُساق ـ في اللوحة الأولى ـ لغير وجه الله، وإنما يُساق في إطار «البيزنس» والدعاية!
وفي قصة «شهيق وزفير» نرى المُفارقة التصويرية بين صورة المصعد الذي نتمثّله في أذهاننا، وهذا المصعد الذي يُصوره في جمالية شفيفة: «ضج منه كل زبائنه ... سئم دورات الصعود والهبوط المتكررة طوال الوقت، بات يئن في غدوه ورواحه من السلوكيات والأحمال، بل من اللعب والعبث، من فتح وإغلاق بلا رحمة! أُصيب كالبشر»( ).
إنه يجعلنا نرثي لهذا المصعد الذي صوره لنا بصورة المريض «هو كهل متهالك ... له صوت أشبه بدوّامة ماء عاتية تشفط غريقاً، أو أنات ساقية لا تعرف للصيانة سبيلاً»( ) .
وتبلغ المُفارقة مداها حينما يضرب له المصعد موعداً، ويحدثه بقضيته، ويكون وفيا، فيهبط به أمام مسكنه.
*وفي قصة « ولد .. بنت .. بنت .. ولد» يرُينا مُفارقة بين الولادة الماضي التي عرفناها مع «الداية» أو «الطبيب» في سهولة ويُسر، والولادة الآن في المُستشفيات الخاصة التي تقترب من الفنادق ذات النجوم الخمسة!
فبينما تجلس زوجة السارد في المستشفى / الفندق تنتظر الولادة بعد خمسين ساعة، يتذكّر «أم إبراهيم البدري التي ولدت وهي تعمل وسط الماء والطين وشتلات حقل الأرز بكل حيوية .. لن يغيب مشهد الولادة عن الخيال .. سقوط الوليد في قلب الماء والطين .. والتقاط أمه القوية له والحنو عليه، تابعتها إلى رأس الحقل، حيث استقرت تُرضعه تحت شجرة التوت»( ).
ويتذكّر امرأة أخرى هي ابنة درويش أبو سويلم «التي كانت تضرب بالفأس مربعات ومستطيلات أرضكم عقب كل حصاد، وحين باغتها المخاض استمرت يومها صابرة تستأصل بقايا محصول سابق، وتمهد بفأسها التربة لمحصول جديد، وحين سقط وليدها على مشهد من الجميع وتصايحوا في نداء رائع ابتسم، وابتسمتْ معه»( ). بينما زوجة السارد ـ بعد فترة الانتظار ـ رُزقت مولوداً، لكنه وُلِد مبتسراً، فنقل إلى الحاضنة الاصطناعية»( ).
وتتضح أطراف المُفارقة في نهاية القصة حينما يموت المولود، وكأن السارد يريد أن يقول: إن أمهات الجيل الماضي كن يلدن الحياة وهن يصنعنها ويُشاركن فيها، بينما نساء الجيل الحالي المترفات لا يلدن إلا الخواء. وهي نظرة متشائمة، وليست حقيقية على إطلاقها.
لكن من قال إن الفن يعنى بحقائق الحياة؟ إنه تصوير من إحدى الزوايا، وقد تكون الزاوية ضيقة، ويجتهد المبدع في تصويرها، كأنها حقيقة.
*وفي قصة «قمر الزمان يتماوت» يُقدم مُفارقة كبرى طرفها الأول مُضمر، وهو ما نعرفه عن الأستاذ الجامعي، الذي يكون قدوةً وكريماً على نفسه، وطرفها الثاني «قمر الزمان المحاقي» ـ لاحظ المفارقة بين قمر ومحاق ـ أستاذ الكيمياء الحيوية، الذي يُعار إلى إحدى الجامعات، ويمتهن التسول من أصدقائه، ويكفي أن نقدم سطوراً قليلةً من قول القاص عنه: «زاحم البسطاء في شهر رمضان الماضي على موائد الرحمن، جمع شعره تحت طاقيته كي لا يذهب للحلاق، لم يذهب منذ جاء إلى المدينة لقصّاب أو سمّاك، أو فاكهي، أو ورّاق، أو حائك ... أو غيرهم»( ).
وتنتهي القصة بهذا المقتر الممسِك وهو يُصارع «سكرات الموت في مستشفى المدينة»( ).
وهكذا لم ينفع قمرَ الزمانِ تقتيرُه وإمساكُه، وبموته كأن السارد يعبر عن رغبته في اختفاء أمثال هذه النماذج الشائهة من حياتنا.
وفي قصة «نوافذ من أمن .. سدود من خوف» يذهب السارد / المُعِدُّ للحلقات الناجحة إلى مبنى الإذاعة والتليفزيون ليقف أمام صرّاف الخزينة، وتكون المفارقة أن أجور المعدين وأساتذة الجامعة أقل الأجور، ويخرج السارد وهو يردد «أخطأتُ كثيراً في تقدير حكمي على فئات الطوابير المُجاورة، فئات بضاعتها القدم والخصر والحنجرة؛ فرسان اليوم .. وربما الغد»( ).
وفي قصة «الليلة الكذوب» يُريد الأب العامل أن يتمتّع بليلة مع زوجته المتشوقة إلى لقائه، ولكن أبناءه يضعون له المنوم، فينام دون أن يقضي وطره!
وهي قصة تتماس مع التيّار الجنسي الذي بدأ يغزو أفقَنا مع الأقمار الاصطناعية، والفضائيات وقصص شباب التسعينيات التي يحتفي بالجنس، ولكن يُحمد للقاص أنه لم يكتب كلمةً نابية في هذه القصة التي تختلف كثيراً عن قصص يوسف إدريس التي تحتفي بالجنس في مجموعته «بيت من لحم»، مثل قصتي «بيت من لحم» و«أكان لا بد يا لي لي أن تضيئي النور؟».
وكل ما عند أحمد زلط إشارات في ألفاظ مهذبة، مثل قوله «أطفأت الزوجة أزرار الكهرباء .. شعرت أن كل ما حواليها قد تهيأ لإسعادها، غلّقت الأبواب والمنافذ، تأكّدت وهي تستبدل بملابسها ملابس النوم أن زوجها قد شرب كوب الشاي عن آخره، حلمت بفارس الليلة أحلاما مُنتظرة وشيكة الوقوع، الجو العام يُشير بإمكان التحقيق ... إلخ»( ).
لقد قدّم لنا أحمد زلط عالماً فنيا ثريا من خلال مفارقة تصويرية تحتويها كل قصة، لتؤكّد عنوان المجموعة «أصابع متوحشة»، ولترينا أن عالمنا هذا يقع فريسة للأشرار، فها هي الأصابع المتوحشة تملأ فضاء المجموعة
................................
د. حسين علي محمد
15-06-2007, 09:03 AM
مسرحية «سهرة مع عنترة» لحسين علي محمد
الصمتُ / الموت، والقولُ / الفعل
بقلم: أ.د. أحمد زلط
الأستاذ بكلية الآداب بالإسماعيلية ـ جامعة قناة السويس
.................................................. ......
مدخل:
تحصي العينُ البصيرة الراصدة قلة الأعمال الإبداعية في مجالي الشعر المسرحي وفنون أدب الطفولة، بالقياس إلى ازدهار بعض الأنواع الأدبية المستحدثة في أدبنا الحديث والمُعاصر، وليس من شك أن جيل الرواد قد مهّد التربة الصالحة، بل أرسى الدعائم الأولى لهذين الفنين تنظيراً وتطبيقاً، فمسرحيات أحمد شوقي (1868-1932م) الشعرية كانت حافزاً لأجيال المبدعين في مصر وبعض الأقطار العربية لتقديم تجاربهم الشعرية في القالب المسرحي الشعري الجديد، ومن بين هؤلاء ظفر المسرح الشعري بنتاج ملحوظ لعزيز أباظة، وعدنان مردم بك، وعلي أحمد باكثير، وعلي عبد العظيم، وصلاح عبد الصبور، وعبد الرحمن الشرقاوي، ومحمد مهران السيد … وغيرهم.
وفي الربع الأخير من القرن العشرين الميلادي ظفر الشعر المسرحي المعاصر في مصر بإسهامات إبداعية لجيلي الستينات والسبعينات، وهي إسهامات لا بأس بها، أفادت من الشكلين الخليلي والتفعيلة في معمارية نصوص المسرحيات التي صاغها محمد إبرهيم أبو سنة، وأحمد سويلم، وأنس داود، وفاروق جويدة، ومحمد سعد بيومي، و حسين علي محمد، مع نظراء لهم في الأمصار العربية.
أهمية النص:
مع فاتحة العام الأول من الألفية الثالثة للميلاد أصدر الشاعر حسين علي محمد مسرحيته الشعرية الخامسة «سهرة مع عنترة»، ولأهمية المسرحية في رصد مهمة البطل في المسرح الشعري وتنوع أدواره، وتعددية وجوه ملامحه بين الغنائية والدرمية، فقد وقع اختياري على هذه المسرحية، للقراءة الناقدة لنصها، وذلك أن الصدق الفني وأصالة التصوير كفيلان بأن يُكسبا العمل الشعري المسرحي ـ متى أجيد بناؤه ـ قيمته الفنية والدورية في الحياة.
وأرى أن مسرحية «سهرة مع عنترة» على قصرها وتكثيفها تحمل دلالة رئيسة تومئ إلى البطل، ومن ثم تتفرع عن النص مقاصد أخرى شتى؛ ففي الأساس يسترفد الشاعر من تراثنا شخصية البطل الفارس عنترة بن شداد العبسي، ويُجري على لسان هذه الشخصية وباقي شخصيات النص الإسقاط المعاصر، ذلك أن حاضر الأمة يحتاج في الواقع إلى تضحية وجهاد وفروسية، بديلاً عن الصمت، والاستغراق في حمل أغصان سلام، لا جدوى منها إلا الإذعان الواقعي المفروض.
إن تنميط البطل في «سهرة مع عنترة» يعد نمطاً غير مألوف، فهو البطل الحائر بين الإقصاء المغيِّب لدوره الفاعل، وبين إحجام لدوره في مناخ متقاعس، وقد ألمح أحمد شوقي في مسرحيته الشعرية «مصرع كليوباترة» إلى ذلك الدور غير المرغوب فيه، فأورد على لسان «أنوبيس» إذ يُحاور «حابي»، في تساؤل حيوي يتفق وروح الشرق، فيقول:
وأينَ كنتَ يا فتى؟ وأينَ فتيـــانُ الحمى؟
وأينَ فـرسانُ المقا ل؟ هل مضوْا إلى الوغى؟
وأعتقد أن استرفاد شخصية «عنترة» يعد من محاسن رسم الشخصية، لأن «عنترة بن شداد» شخصية تاريخية مثيرة للحماس والقدوة والفروسية، لذلك عاشت ملامحها في الوجدان الجمعي للأمة، بينما يرى الغرب «الديالكتيكي» العكس من ذلك، فلا يسترفد الشخصيات الفاعلة الخيرة، وحول تلكم القضية يقول د. محمد غنيمي هلال: «أما تقديم شخصيات تثير الإعجاب، وتمثل البطولة في معناها العام، فهذه نظرة قديمة كانت سائدة في الأدب الكلاسيكي حين كان جمهور القراء يحرص على أن يلتقي في المسرحيات أو في القصص بشخصيات لو صادف مثلها في الحياة كانت مثار الإعجاب بها، والشفقة عليها، والخوف من أجلها. وقد تغيّرت هذه النظرة في الآداب العالمية وبخاصة منذ القرن التاسع عشر، فأصبح تصوير الشر سبيلاً إلى تحديد الموقف الإنساني منه»( ).
واسترفاد حسين علي محمد لشخصية «عنترة بن شداد» في مسرحية «سهرة مع عنترة» ليست استرفاداً لنموذج شرير، بقدر ما هي تمثيل للنموذج الكامل للبطل، فصمته وتقاعسه يجيء من الواقع الشائك في قهره وقسوته، لأن «الفروسية شيمة عربية أصيلة استمرّت حتى العصور الوسطى، وشهد بها الأوربيون، واعترف بعض المستشرقين أن الغربيين تعلموها منهم. والفروسية تعني قهر الخوف من الموت في سبيل القيم والمثل العليا»( ).
وإن أهمية هذه المسرحية الشعرية القصيرة «سهرة مع عنترة» تكمن في ابتكار مؤلفها لمحددات جديدة للشخصية الرئيسة، فالنموذج البطل هو الحي الميت، والحقيقة والخيال، والواقع والحلم، فيتحرك فوق خشبة مسرح الواقع المعيش في طيف من ذكرى، وإقصاء لفروسيته، وطمس لشاعريته، ولعل تقديمه بين شخصيات المسرحية في تلكم الصورة يدل دلالة حاسمة على سخرية الراوي / الشاعر ممّن لا يرغبون في البطل والبطولة.
ومؤلف المسرحية في ضوء تلكم الابتكارية التي لعب بها البطل أدواره أراه أحد الشعراء الذين «تركوا الأمانة التاريخية والعلمية للعلماء والمؤرخين والنقاد، وانصب اهتمامهم الوحيد على الأمانة الفنية والحقيقة الإبداعية، لذلك نجدهم لا يعنون كرجال التاريخ، بما كان أو بما هو كائن، ولكنهم يعنون ـ كشعراء مبدعين ـ بما ينبغي أن يكون. وهم بذلك يؤكدون الرؤية النقدية المبكرة التي قام بموجبها أرسطو بالتفريق بين الشعر والتاريخ، وبين الشاعر الروائي والمؤرخ النزيه، أي بين الحقيقة والخيال، والواقع والحلم»( ).
وليس من شك أنه لا يوجد فصل تعارض بين استدعاء الشخصية التاريخية وبين إعادة تنميط ملامحها لسبر الواقع وتشخيص علله، والبحث عن دواء يخلص النفس والجسم من أدرانها.
ذلك ما قصد إليه حسين علي محمد وهو ينسج خيوط الحقيقة والخيال على ألسنة الأبطال.
***
«سهرة مع عنترة»: مقاربة ناقدة:
تعد المسرحية الشعرية «سهرة مع عنترة» قطعة تاريخية ذات فصل واحد، وهي بمادتها ومضمونها وثيقة الصلة بالواقع المعيش، فالقطعة التاريخية Historical Drama هي «التي تتخذ مادتها من التاريخ، وقد مال بعض النقاد إلى القول بوجود التزام الكاتب المسرحي بالخطوط الأساسية للحقيقة التاريخية التي يُعالجها دون التقيد بالتفاصيل الجزئية. بينما مال البعض الآخر إلى التصريح للكاتب بأن يُعمل خياله في المادة التاريخية مثلما يُعملها في واقع الحياة»( ).
وقد لعبت شخصيات المسرحية أدوارها وفقاً لخيال الكاتب ومنطق تسلسل الحوار، فالشخصيات المكونة للحمة النص هي: (الراوي ـ عنترة ـ شيبوب ـ المتفرج ـ الضابط ـ الجندي). ويرى بعض النقاد أن المادة التاريخية «قد لا تنجح في بلورة الشخصيات التاريخية بما يتواءم مع عقلانية التفكير المعاصر، ويتوقف التجسيد عند حدود بناء الحوارات، وإظهار الشخصيات بمظاهر بطولية زائفة غير مقنعة، في زمن غابت فيه البطولات والانتصارات الفردية»( ).
والمرجح عندنا أن حسين علي محمد نجح في التوظيف الإبداعي لأغلب شخصيات مسرحيته بما تحمله من أهداف ونوازع وملامح من خلال إسقاط مُعاصر، مما عمّق الصراع بين معظم الشخصيات بما يتناسب وروح «العصر من خلال الإفادة من «الميراث الفكري» الموجود في المادة التاريخية، بحيث يبقى التاريخ واحداً من أهم المصادر الفنية للكتابة الدرامية، وحيثُ يرتبط الماضي بالحاضر في صياغة فنية جديدة قوامها عناصر المسرح، ولغته، وتقاليده»( ).
واستقراء النص المسرحي المتأني عند رسم الشخصيات وأدوارها، يجدها شخصيات مقنعة لدرجة ملحوظة، فيما عدا الرسم الأحادي «للمتفرج» قبالة خشبة مسرح الواقع المعيش، وكنت أود تحويل المتفرج إلى متفرجين كثر، فالشعب متعدد الشرائح والطبقات الاجتماعية، ولا ينوب عنه متفرج واحد بالإسقاط الفرد، بل بجموع تمثل قطاعات الحياة.
إن غياب تنوع الشخصيات من شريحة «المتفرج» يعد المعادل الموضوعي للتجاوب أو التفاهم أو الاختلاف (كذلك، والعكس صحيح)، ومن ثم فإن إبراز دور البطل التاريخي في خط مواز مع الراوي أو الشخصيات المساعدة لا يسوغ للشاعر إهمال الجموع التي يمثلها البطل، وإن قولبة «المتفرج» الأحادية قلّلت من كمال الجانب الفني في النص؛ وليس معنى ذلكم الرأي أن جوهر النص قد فقد معماريته ومغزاه، على نحو ملحوظ.
أما فكرة المسرحية فمؤداها الإلماح الرامز إلى مدى حاجة الأمة العربية إلى فروسية البطل الغائب، بعد استعذابها تقاعسه عن لعب أدواره في الشجاعة والإقدام، فعنترة الغائب لا يقبل الحياة التي مازجها الذل والهوان، كما لا يقبل انتظار سلام لا يجيء، وقديماً قال عنترة:
سكَــتُّ فغرَّ أعدائي السكوتُ
وظنُّوني لأهْـلي قدْ نسِيـــتُ
… وإن دارتْ بهم خيْلُ الأعادي
ونادوني أجبْـــتُ متى دُعِيتُ
وقال:
لا تسقني ماءَ الحيَــــاةِ بذلَّةٍ
بـلْ فاسْقِني بالعزِّ كأْسَ الحنْظَـلِ
ماءُ الحيَــــاةِ بذلَّةٍ كجهنمٍ
وجـهنمٌ بالعزِّ أطيَـــبُ منزلِ
ونستطيع من خلال القراءة المتأنية للنص التقاط محتوى أو مضمون صراع الشخصيات، من خلال قول الراوي (الشاعر / المؤلف) إذ يتساءل في نشدان وإلحاح:
الراوي: إني أشعرُ بالحسرة والضيقْ
أصرخُ في كل طريقْ
في هذَيانْ :
أين الفتيانْ ؟
أين الفرسانْ ؟
بينما يكشف «عنترة» عن أغوار مضمون النص، وهو يشير إلى العوامل المقيدة لدوره، والظروف غير المناسبة لفروسيته. يقول المؤلف على لسان «عنترة»:
يا ولدي .. أرضكمو ضيِّقةٌ خَرِبَهْ
أضْيَقُ من ثقبِ الإبرةْ
وعقولكمو تتفلسفُ في الأقوالِ الفارغةِ الجوفاءْ
تتغنّى بالحريةِ بيْنا تصطنعُ الأغلالْ
ولقائي برجالكمو الجوفِ .. مُحالْ
وتنتهي فكرة المسرحية بانسحاب البطل المنشود، واستغراق الواقع المعاصر مع مثيرات الحياة ولذائذها.
ومن الفأل الطيب أن أكتشف ـ مصادفة ـ ثمة علاقة جوهرية في «اللاوعي الإبداعي» لدي الشاعر، وهي البحث الاستفهامي الدءوب منه عن ملامح بطل منشود كان يلح عليه في مسرحية أخرى أقدم زمناً، وهي مسرحية «الرجل الذي قال» (1983م)، ومنها سأنتخب تساؤلات قديمة متجددة، تشكل ملامح البطل الفارس، المقيد بأغلال العصر.
يقول حسين علي محمد على لسان «ميمون»:
هلْ هذا عصْرُ السيْفْ ؟
لا أدري
هل هذا عصْرُ الخوْفْ ؟
ويقول أيضاً على لسان «شهاب»:
كيف عزيزي الجنرالَ تريدُ النومَ
وأنتَ الساهرُ يحرسُ حقلَ الغيمْ
ماذا يبغي الجنرالْ ؟
ويقول:
منْ أخْفى عنْ أعْيُنِنا ضوْءَ الروحِ القدْسْ
منْ أشعلَ في الأكْواخِ النّارْ
منْ باعَ القُطْرَ بثَمَنٍ بخْسْ
منْ عشِقَ الرِّجسْ
…
وفي مسرحية «سهرة مع عنترة» أفاد من ذلك التساؤل الموسع إلى تكثيف رامز، يشي بالحل، أو الإجابة الشافية.
«سهرة مع عنترة» والتأثر بالتجارب المماثلة السابقة:
تعد شخصية «عنترة بن شداد» أو سيرته «أثراً هاما من آثار ثقافة العرب،وأسفاراً حفل بها الناس في كل مكان، كما عدها الفرنجة من بدائع أدب العرب، فترجموها إلى الألمانية والفرنسية، كما أن فيها من مظاهر البطولة والشهامة وأحاديث العزة والكرامة ما يُحببها إلى كل فئات الشعب»( ).
وفي الأدب العربي الحديث نثره وشعره، احتفى الكتاب والشعراء بعنترة، الفارس الشاعر، ونسجوا القصص من حياته وبطولته، ومن السيرة الشعبية كذلك، ومن أقدم الكتاب الذين عالجوا قصة عنترة محمود تيمور في «حواء الخالدة»، ومحمد فريد أبو حديد في «عنترة بن شداد» و«أبي الفوارس». ولقد احتفى الشعراء أيما احتفاء بفارس بني عبس عنترة الشاعر والفارس، «فهذا أمير الشعراء أحمد شوقي يهدي العربية إحدى نفائسه الغراء وروائعه الكبرى مسرحية «عنترة» الشعرية، التي يقدم فيها لوناً شائقاً من ألوان القصص الشعري الساحر الذي اشتُهِر به شوقي، مشيداً بمناقب فارس بني عبس الذائد عن حماها، ومصوراً قصة غرامه أبرع تصوير وأشجاه»( ).
وقدم الشاعر المعاصر أحمد سويلم (1942- ؟ ) رائعته المسرحية الشعرية «الفارس» في معالجة فنية لسيرة عنترة الشعبية، إذ اقتفى جوانب من مسيرة عنترة بن شداد، فمزج بين التاريخ والشعر والسيرة، من خلال أربع عشرة شخصية في المسرحية من زمن عنترة في الجاهلية إلى العصر الفاطمي، ولم يفلت منه الإسقاط المعاصر بإقحام فئات و«كورال» من الزمن الحاضر في لحمة النص وغاياته.
أيضاً هناك إسهامات للفنون المجمعة في وسائل الإعلام المسموعة والمرئية دارت حول شخصية «عنترة» حياةً وبطولةً وشعراً.
وليس من شك أن حسين علي محمد قد تأثر بالنماذج السابقة على تجربته «سهرة مع عنترة»، فأفاد منها وعكس رؤيته الفنية وهو يتناول «عنترة» بين الإقدام والإحجام، وبين الحرب والحب، وبين الإقصاء والإبقاء، أو بين الواقع والحلم.
ولا يُخامرني أدنى شك في «أن التأثر لا يمحو الأصالة، ومن الخطأ أن يُنظَر إلى هذا التأثر كما ينظر دارسو السرقات الأدبية في القديم. فالشاعر أو الكاتب يفيد من الأعمال الأدبية السابقة عليه، على أن يحتفظ بأصالته في البنية العامة لعمله الفني. والأعمال الفنية العميقة هي التي تستمد جذورها من آثار السابقين التي لولاها لما خرجت إلى الوجود»( ).
سمات فنية وأسلوبية في النص:
جمع النص الشعري المسرحي «سهرة مع عنترة» بعض الملامح الفنية والأسلوبية في الشكل والمضمون، أو في البناء والمحتوى وفقاً لاهتمام الشاعر بذيوع كل ملمح.
ونبدأ في إلقاء الضياء حول تلكم الملامح الفنية والأسلوبية:
تجمع لغة حسين علي محمد في المسرحية بين اللغة الفنية الراقية، واللغة الفصحى الميسرة، فالمزج بين السهولة الفصحى والشعرية الراقية يتفق وطبيعة الشخصيات المتحاورة في السياق، لكن شخصية (الراوي) من بين شخصيات المسرحية هي التي لم يثبت لسانها اللغوي على مستوى لغوي واحد في منطق الأداء (النص / العرض) لأنها شخصية جمعت بين الراوي الحكّاء والراوي (العريف / المقدِّم / الرابط بين الشخصيات) والراوي الشاعر في حقيقة الأمر (ينظَر ص ص 9،11، 19،27،30،31 وغيرها، وفيها تمثيل لما ذكرناه).
أما الأساليب فجاءت معبرة عن سرعة تصعيد صراع الحدث الدرامي، فتراوحت بين الخبر والإنشاء، وبرز الأسلوب الاستفهامي أكثر ذيوعاً طوال النص، وبين أيدينا تحليل لذلك :
(يتبع)
د. حسين علي محمد
15-06-2007, 09:05 AM
(أ) المستوى المعجمي:
حمل عنوان المسرحية لفظة «سهرة» التي تحمل في مدلولها الليل والسهر، والليل البهيم، أو الليل بما فيه من شوق وأرق وهموم، ومنه خطاب الراوي لعنترة:
لكنَّك كنتَ تُؤجِّلُ وتسوِّفْ
فالتأجيل والتسويف استدراك مقصود من الراوي لاستنفار البطل (يُنظَر التكرار ص11،13) ومنه أيضاً مثال آخر للمستوى المعجمي
الراوي: رحلوا للصحراءْ
ما قالوا قولةَ حقٍّ في سلطانٍ جائرْ
بلْ قالوا نعتزلُ الفتنةَ
لا نرضى أن نغمِسَ أيديَنا في طبقِ الدَّمْ
وانطلقوا للصحراءْ
يرعونَ الأغنامَ ، يصبونَ القهوهْ ..
ويصيرونَ عبيداً … عصريينْ( )
الرحيل: سفر وتنقل واغتراب وعزوف عن المجابهة، أما الانطلاق فسرعة الاندماج مع حياة قديمة متجددة وعزوف أيضاً عن مجابهة العصر اللاهث والصموت في آن.
(ب) المستوى الصوتي:
برع الشاعر مؤلف المسرحية في تطويع المستوى الصوتي للألفاظ والتراكيب لتتناغم مع الخط المساوي للروي في القوافي وخواتيم الأسطر الشعرية بما يتفق والدلالات المحددة للشخصيات الناطقة، فحركات السكون لها الصدارة، ثم يليها حركات الكسر (الجر)، ثم حركات الفتح، ولا نجد حركات التصويت بالمد الدال على الفخر إلا مع استدعاء نماذج فعلية من شعر عنترة بن شداد (أمثلة لذلك يُنظر ص8،10،11،12،17،18،19،،20،22، 23، 25) ومنه هذا الذي يقوله المؤلف الشاعر: نجمهْ، غيمهْ، بسمهْ، حلمهْ، مرّهْ (ص31). أو صوت المتفرج / الشاعر (يُنظر ص18).
(ج) المستوى البلاغي:
من بين شخصيات المسرحية ينفرد صوت «الراوي» / الشاعر، أو «متفرج» / شاعر، أو شعر «عنترة» كأمثلة بلاغية في سياق حوار الشخصيات، فهم فقط ـ دون سواهم ـ الذين عبروا عن مستويات بلاغية تفاوتت بين الجيد والمألوف الشعري، وبرز المستوى البلاغي في صورته الراقية من استرفاد شواهد من شعر «عنترة» الذي أورده من شعره (يُنظر نص المسرحية ص2،3) وإسهام جديد من مؤلف المسرحية جاء من الشعر الخليلي أو التفعيلة (يُنظر ص9،11) وهي أمثلة لفصاحة اللفظة في تآليفها، لتُدرك بالعقل والحواس، فتصير حروف الألفاظ نماذج ماثلة تجري من السمع مجرى الألوان من البصر ومنه قول «المتفرج» / الشاعر / المؤلف:
رأيتك بين الرمـل والمـاءِ وردةً
تضيءُ دمائي أول العشقِ ، يا سنا
ربيعٍ يشقُّ الأُفـقَ هـاتي إلى الذي
أحبكِ منذُ البدءِ غُصناً وسوسنا( )
(د) المستوى الإيقاعي:
تنوّع الإيقاع الموسيقي في مسرحية «سهرة مع عنترة» تنوعاً ملحوظاً، وذلك أن المستوى الموسيقي الخارجي جمع بين الشعر الخليلي وشعر التفعيلة، ولقد نجح الشاعر في إحداث عملية مزج وتآخ بين الشكلين فحدث الإيقاع (الموسيقا) على درجة من الانسجام (تُنظَر صفحات5،9،11) أما الإيقاع الذي أراه باهتاً، فهو التكرار الإيقاعي:
المتفرج: بالروح .. بالدم .. نفديك يا عنترهْ
بالروح .. بالدم .. نفديك يا عنترهْ( )
(هـ) الإيقاع التركيبي:
سبق أن ألمحنا إلى أن بؤرة فكرة المسرحية تقوم على استقراء الحوار المتباعد بين «الراوي» و«عنترة» (ص8-18)، فالحوار يشي بتعددية أساليب الخبر والإنشاء، ودوران الاستفهام طوال المسرحية، لأن أسلوب الخبر كان الخطاب الموضوعي، أما أسلوب الإنشاء فمثل التعبير عن المتحاورين وما يُحيط بهم من نوازع وشعور، لكن أسلوب الاستفهام ظل طوال المسرحية يبحث عن إجابة شافية ترسم نشدان مهمة البطل الغائب، ليُعيد تنظيم سكون الحاضر.
***
الشخصيات تصنع الحدث وجوهر الصراع:
إذا كانت مسرحية أحمد شوقي الشعرية الرائدة ـ زمناً ـ حول «عنترة» عبارة عن ملهاة، وعند أحمد سويلم عبارة عن ملهاة ومأساة معاً، لمزج الشاعر بين عناصر السيرة والتاريخ فإن «سهرة مع عنترة» لحسين علي محمد مأساة مكثفة لقطعة تاريخية ذات إسقاط مُعاصر.
لقد نجحت الشخصيات الرئيسة ـ إلى حد كبير ـ في صنع الحدث والبناء المعماري للنص، وتبدّى ذلك في شخصيتين رئيستين، هما: «الراوي» (الشاعر)، و«عنترة»، ثم يلي ذلك شخصية «المتفرج» الممثل لقطاعات الحياة، وكان بإمكان المؤلف الشاعر أن يُعدد الأصوات الممثلة لقطاعات المتفرجين، مما يثري النص المسرحي، لكن للمؤلف معاذيره، فـ«متفرج واحد» يعني استرفاد «الكل في واحد» على نحو رؤية المسرحي الكبير توفيق الحكيم.
وحسين علي محمد كان على وعي بذلك الأمر، ومنه رد شخصية «المتفرج» على قهر الضابط الآمر.
الضابط: اسكتْ يا وغْد
أنت تُثيرُ العامةَ والدَّهْماءْ
المتفرج: يا سيدُ .. نحنُ الليلةَ نلعبْ
فوقَ الخشبَةْ!
خشبةِ هذا المسرحْ
والنظارةُ ليسوا العامةَ والدهماءْ
فأمامكَ يجلسُ صفوةُ هذا الشعبْ:
القاضي، والتاجرُ، والواعظُ،
والطالبُ، والعالمُ، والأستاذْ
يا سيدُ، إنك تُفسدُ لُعبتَنا( )
لاحظ استعمال الشخصية لصيغة الجمع «نحن» و«النظارة = الشعب = النخبة»، أي أن الشخصية يتم تكثيفها في «متفرج» مثقف، ممثل للصفوة إزاء القيود والسدود والأغلال داخل خشبة (النص / العرض)، والإلماح لخارجها الواقعي.
وقبل أن يطل «عنترة» الرمز/ عنترة البطل فوق خشبة المسرح، مهّد مؤلف المسرحية لظهوره باستدعاء شيم الفروسية والبطولة وقيمة الحرية، ولم ينس التعقيب لرسم الشخصية في إطار أخلاقي عُرِف عن «عنترة»، فيستدعي طيفه القديم
«أغشى فتاةَ الحيِّ عندَ حليلِها
وإذا غزا في الحربِ لا أغْشاها
وأغُضُّ طرفي ما بَدَتْ لي جارتي
حتى يُـواري جـارتي مأْواها
إني امرؤً سمحُ الخليقةِ ماجِدً
لا أُتبعُ النفسَ اللجوجَ هواها»( )
ومن السمات الجيدة الحواريات الثنائية في المسرحية بين الشخصيتين: البطل المأمول والراوي (الشاعر الباحث عن الخلاص الجهادي، مقابل السكوت .. السكون)، ومنه نثبت تلكم الحوارية التي يشتم منها سبر الواقع، وتحريك الصمت / الكسل بالعمل اللافت، يقول الشاعر على لسان «عنترة» ولسان الراوي:
عنترة: ما أقسى أن تقف وحيداً في هذا التيهْ
إذ نفَضوا أيديَهمْ
وانفضُّوا من حولكْ
لكنكَ تقدرُ أن تعملَ وحدكْ
حتى إذ أبصرت الأعينُ أعمالَك
التفَتتْ لكْ
الراوي: أصحابي جلسوا في مائدة الضوءْ
أكلوا .. حتى تخموا
شربوا .. حتى ثمِلوا
وقضَوْا أوقاتا ممتعةً في أرصفة الميناءاتْ
يلهون بحسْوِ اللذةِ ومرافقةِ الحسناواتْ
وأنا في كل صباحٍ أسألُ نفسي
هلْ تمضي وحدكْ؟( )
بقيت من الشخصيات المتحاورة شخصية «شيبوب» و«الضابط»، أما الجندي فلا نشعر بوجوده الحواري إلا لتنفيذ أوامر الضابط ضد جمهور القاعة، وفوق الخشبة نلمس استدعاء شخصية «شيبوب» كرمز للطبقات المسحوقة التواقة للحرية، أما «الضابط» فهو أداة القهر فوق خشبة المسرح، لمُمارسة القمع الداخلي لا لصدِّ الطغيان والعدوان.
ومهما يكن من أمر فإن تبرير حسين علي محمد لمقولة يتيمة واحدة ـ أراها غير مناسبة ـ لا يُعفيه من الخطأ الفني هنا، يقول الراوي في تلك المقولة المُشار إليها:
الراوي: الضابطُ لمْ يُضمر شرا ..
بل قد جاء ليحمينا
منْ إرهاب الغوغاء
من إرهابٍ يتخفَّى حولَ اللحيةِ والدينْ( )
فمن الناحية الموضوعية قد أجمع الرأي العام على نبذ مثل هؤلاء الإرهابيين. نحن إزاء فكرة البطل المأمول في فروسيته وشجاعته ضد الآخر، وليس هؤلاء الأدعياء الجهال؛ ففي موقفهم صراع آخر لا يتسق مع الصراع الأساسي في «سهرة مع عنترة»، وأما عن غياب «عبلة» فقد نجح المؤلف في تعويض الغياب الحواري، واستحضر طيفها غير مرة باقتدار فني ملحوظ، كأنما يؤكد على أنه لا وقت للعشق والحب والنساء، بل للبطولة المرجوة، مثلما عبّر شعر «عنترة العبسي» عن المعنى ذاته في قوله:
«تُعيِّرني العدا بسوادِ جلْـدي
وبيضُ خصائلي تمحو السوادا
سلي يا عبلُ قوْمَكِ عن فعالي
ومن حضَرَ الوقيعةَ والطِّرادا»( )
وينفرج صراع الشخصيات المتحاورة عن إقصاء للبطل، فالزمان اختلف، والمكان تُعربد فيه البوم، مع بطش الطغاة، وتدخُّل الآخر الوافد حول المكان، أما الإنسان الفرد فقد أضحى ضحية للعدوان والطغيان والأغلال، وهي مثبطات سبق أن تجاوزها البطل. يقول المؤلف:
عنترة: قد قلتُ كثيراً في الزمنِ الغابرْ
حققتُ بأفعالي ، أكثر منْ أقوالي، ما كنتُ أُريدْ
الراوي: لمَ تمْضي الآن؟
عنترة: أمْضي حيثُ الصّمتْ
أقبعُ في وادي الموتِ( )
إن أروع المميزات الفنية في «سهرة مع عنترة» دقة الحبكة، والنهاية غير المتوقعة، بل النهاية غير المألوفة، فقد نجحت الشخصية المحورية الموازية للبطل «عنترة» ـ وهي شخصية «الراوي» ـ التي تعكس تعددية الصراع، كما تُحرِّك خيوطه لوضع نهاية تدمغ الواقع، وتُفسِد السهرة أمام النظارة، لكنها نهاية تُثير فيهم التأمل والبحث عن ملامح مأمولة وعصرية في البطل ذي الأفعال لا الأقوال .. ومنه قول «الراوي» إذ يودع طيف «عنترة»:
فليذهبْ حيثُ الصمتْ
محتفياً بالموتْ ..
ولنستكملْ نحن السهرةْ
سهرتَنا الليلةْ
يُمكن أن نقرأَ شعره
في عبلةْ
أو تتحفُنا الراقصةُ البدويَّةُ "مُهرةْ"
بالرقصاتِ الشيطانيَّةْ
حتى منتصفِ الليلْ
وليهْنأ عنترةُ العبسيُّ بنومتِهِ الحلوةِ
والصمتْ
في وادي الموت!!( )
وإسدال الستار مع تلكم الخاتمة الشعرية للنص المسرحي يُفصح عن نهاية كاشفة لزوال البطل الفردي التقليدي، وانغماس الجموع في لهاث الواقع ولذاته، بينما أتت نهاية مسرحية «الرجل الذي قال» والتي تقتفي مهمة النخبة الثقافية أو العسكرية في إحداث منجزات واقعية في قول المؤلف على لسان الصحفي:
(لعفت) وأنا لم يخدعْني الذهبُ الرّنانْ
(لميمون) أوْ يُرهبني حدُّ السيفْ
عنْ صدقِ اللهجهْ
مازالَ النبْضُ يزمجرُ فيّْ
لم تصعدْ روحي بعدْ
فأنا حيٌّ .. حيّْ( )
***
إضاءة مُجملة:
نستطيع القول في اطمئنان ـ بعد أن ألمحنا إلى جوانب «سهرة مع عنترة» أنها مسرحية شعرية قصيرة ناجحة؛ فمن حيثُ مستواها اللغوي أوضحنا السهولة الفنية الفصيحة، واللغة في المسرح «جوهر فني، يه يشف الأدب المسرحي عن أثمن مقوماته، وقديماً رفع أرسطو من مكان الصياغة فجعلها سبيلاً إلى استساغة المُحال، متى صدرت عن شاعر صناع يُطوِّعها لفنه، وكثير من المواقف تضعف صياغتها فلا تستساغ، وإن كانت هي ذاتها محتملة من حيث الواقع»( ). وقد تأكّد من استقراء النص جميعاً اعتماد حسين علي محمد لغة شاعرة غير محلقة، لكنها فنية ميسرة، سديدة، ومجموع لغة المسرحية يحوي فيما يحتوي على إحالات سمعية وبصرية ووجدانية، فالإحالة الوجدانية بدت للقارئ حين يجيء الحديث حول «عبلة» محبوبة البطل، فنراه يسترفد المشاعر بديلاً عن إسقاطها كعنصر من عناصر البناء في شخصيات المسرحية، ومنه هذا المقطع الوجداني على لسان الراوي حينما يمر طيف «عبلة»:
الراوي: حينَ رأيْتُكِ غنَّيْتُ :
لماذا أخفيْتِ الوجْهَ ملِيًّـا
يا فاتنةَ العيْنيْنْ
بينَ الكفَّيْنْ ؟( )
ومنه أيضاً ذروة الحس الوجداني في ألفاظ دالة عليه، كتبها مؤلف النص وترنَّم بها «عنترة» من شعر التفعيلة، يقول المقطع:
عنترة: (مترنما) تعودينَ
أفتحُ صدري لبوْحِكِ
تولدُ في الأُفقِ نجْمَهْ
دُموعُكِ تُمْطِرُني باللآلئِ
تَدْخُلُني ألْفُ غَيْمَهْ
أنا الآنَ في لحظةِ البوْحِ
في رعشةِ الجرْحِ
أخشى رياحَ السَّمومِ
عِتابَ النجومِ
تعودينَ ـ يا ليْتَ ـ بسْمَهْ !
تعودينَ
أملأُ بالبوْحِ هذي الشواطِئَ
يُشرقُ تحتَ سنابِكِ خيْلِ الهزيمةِ وجْهي
يُعانِقُ حُلْمَهْ !( )
وأيضاً ألفيْنا مؤلف النص المسرحي يتصرّف في الشخصيات التاريخية وفقاً لرؤيته أو خياله الفني، فشيبوب في الواقع التاريخي هو الشقيق والساعد الأيمن للبطل الفارس الشاعر عنترة بن شداد؛ لكن حسين علي محمد وظفه توظيفاً إضافيا جديداً، إنه يئن ويشكو من القيود والأغلال والعبودية، فيُثير النظارة ـ أو ينبه القراء ـ إلى استمرار إشكالية الذل والهوان والقهر بين ماض وحاضر، وعلى وجه الخصوص حين يغيب البطل.
يقول «شيبوب»:
فلقدْ ذُبتُ .. تواريْتُ
(يُشير إلى عنترةَ) وراءكَ يا عنترةُ
ولمْ أشعرْ أبداً بكياني ..
عشتُ العبدَ المهضومَ الحق
لم أحمل ـ أبداً ـ سيفا
لم أنطق ـ أبداً ـ حرفا ..
في حضرةِ أسيادي( )
ولو أجملنا جوهر البناء في الصيغة المسرحية لـ«سهرة مع عنترة» ستُطالعنا الحركة السريعة لقطعة تاريخية من الأدب الموضوعي على ألسنة الشخصيات القليلة، والمسرح الصيفي فيما حرّك المؤلف فوق خشبته شخصياته، ليدل على الفضاء والاتساع والحركة لا السكون، مما أشرك الجمهور في لحمة النص، لذلك كله ألفينا انتقال المؤلف في عجالة من حدث إلى آخر، وفي نتاج بنائي ملحوظ يُعطي شمولية للأدب المسرحي الشعري غير التقليدي، فالخطابة والملال ليس لهما وجود تصريحي أو إلماحي.
كما نجح مؤلف «سهرة مع عنترة» في تلوين الشخصية المحورية الموازية للبطل «عنترة»، وهي إيجاد معادل موضوعي على لسان «الراوي»، ليُفصح عن مكنون استدعاء شخصيات التاريخ والواقع ، ذلك أن «الإبداع الدرامي من خلال الهياكل التاريخية الجاهزة أكثر سهولة من الإبداع الذي يبتكر الهياكل من مادة التجربة الدرامية، اللهم إلا إذا أعاد الكاتب صياغة المادة التاريخية صياغة أساسية يغير رؤياه ومنحاه وتجربته، وبكلمة أخرى يتعاطى الكاتب مع المادة التاريخية، فهو أمام موقعين:
(أ) إما أن يخضع لجاهزية الهياكل.
(ب) وإما أن يُعيد صياغتها أو خلقها، أي إما أن يُسيطر عليها أو تُسيطر عليه. فبدلاً من أن يقرأ التاريخ قراءة نقدية مُعاصرة، ويُخضع الماضي للحاضر، يُخضع الحاضر للماضي، فتستوعبه نماذجه البشرية، غافلاً عن النموذج الإنساني الذي يُعايشه، ويتطلب منه أن يُصوره ويُعبر عنه»( ).
ومن تكرار القول التنويه بما صنعه حسين علي محمد هنا، وهو اللجوء إلى إعادة الصياغة وخلقها.
***
البطل بين الصمت / الموت، والقول / الفعل:
إن البطل الصموت غير المرغوب فيه في الواقع المعيش، سيبقى كامناً إلى أن تنهض الجماعة، فيخرج عن صمته وتقاعسه، ليقود الجماعة إلى عالم منشود. وإذا كانت «سهرة مع عنترة» قد آلت نهايتها إلى ما أوضحناه، فإنني أستعير هنا توارد الفكرة (مع اختلاف التناول الفني) من مسرحية أحمد سويلم «الفارس» حيثُ يقول على لسان «الكورال» في نهايتها:
هل يملكُ سيفٌ مأفونْ
تغييرَ الحلمْ
هل تملكُ كفٌّ سوداءْ
إخمادَ العزمْ
هلْ يملكُ وجْهٌ مذْمومْ
إسقاطَ النجمْ
الفارسُ يحيا محموداً
لا يرضى الظلمْ
الفارسُ يبقى يقظاناً
لا يرضى النومْ( )
.. إن الحرية بمعناها الواسع هي المدخل السديد لميلاد البطل، بل المناخ أو التبيؤ الصحيح الفاعل الذي يحتضنه ويشكل ملامحه المرجوة، ولكم تمنى حسين علي محمد ذلك غير مرة، بأساليب فنية في جل مسرحيته، ووصل به الإلحاح إلى أسلوب مباشر، أو هتاف شعري بسيط دال، أورده على لسان شخصية المتفرج الذي يعكس الجمع / الجمهور، ومنه قوله:
المتفرج: الحريةْ
الحرية
يحيا عنترةُ العبسيّْ
أولُ من غنّى للحقِّ وللحريةْ( )
***
وهكذا كانت مسرحية «سهرة مع عنترة»، كأختها الأخريين «الفتى مهران 99» و«بيت الأشباح » تطمح إلى تأسيس مسرح شعري عربي، يتغنّى بالحق والحرية والجمال، من خلال أدوات المسرح: اللغة البسيطة السهلة، والأحداث التي تأتي متناسقة مع البطل / النموذج، الذي يحمل رسالةً نحو شعبه. ومن خلال تقديمه نماذج إنسانية جديرة بالتأمل والدراسة.
د. حسين علي محمد
15-06-2007, 09:06 AM
صدور مجموعة «شهد وأخواتها» لأحمد زلط
..................................................
صدرت عن دار هبة النيل العربية للنشر والتوزيع بالقاهرة المجموعة القصصية الخامسة للدكتور أحمد زلط، أستاذ الأدب الحديث ووكيل كلية الآداب ـ جامعة الإسماعيلية بمصر بعنوان: «شهد وأخواتها».
أصدر الدكتور أحمد زلط أرع مجموعات قصصية قبل هذه المجموعة، على امتداد ربع قرن (حيث ظهرت مجموعته الأولى عن سلسلة «أصوات مُعاصرة» عام 1982م).
والمجموعات التي أصدرها من قبل هي: «وجوه وأحلام» و«المستحيل»، و«عفاريت سراي الباشا»، و«أصابع متوحشة».
وقد كتب عن مجموعاته السابقة الأساتذة والدكاترة: حلمي محمد القاعود، صابر عبد الدايم، وخليل أبو ذياب، ومجدي جعفر، وحسين علي محمد ... وغيرهم.
د. حسين علي محمد
15-06-2007, 09:10 AM
قصة قصيرة جدا، للدكتور أحمد زلط:
..............................
«سمكتان» (1)
قالت السمكة الأسيرة لجاراتها:
ـ لماذا أتى بنا الصيّاد من البحر الواسع إلى هذا الحوض الزجاجي الضيق؟
ردّت عليها الجارة في ثقة:
ـ الحوض يا صديقتي واسع كالبحر .. لكننا نركض ونعدو داخله، أو نرقص رقصاتنا الأخيرة حول جدرانه.
ـ كيف؟!
ـ تأملي من يطل علينا من روّاد المطعم! .. ألم تسمعي عن العيون الإنسية من قبل؟!
ـ بلى، يا صديقتي! .. لقد فهمت أن الحوض واسع، لكن عيون من يروحون ويجيئون .. يحدقون، و.. هي العيون الضيقة حقا!
فجأة .. ارتعد مجموع الأسماك المتقافز في حوض الأسر، لفت انتباه روّاد المطعم إلى الزاوية التي تعج بثورة الأسماك من داخل الحوض. لقد كانت أعين الناس طوّافة، لا تهدأ وهي ترمق أشتات الأسماك وأصنافه بالنظرات، و.. ، وأخيراً قال أحدهم للنادل:
ـ هات هذه مع تلك، أريد لحمها الطري مشويا على طاولتي بعد قليل.
نظرت السمكة لجارتها في صمت أسيف:
ـ إنا لله وإنا إليه راجعون .. النادل هو الآخر يشير إليك وإليَّ!
قالت السمكة الكبيرة للسمكة الأصغر:
ـ لكل أجل كتاب .. عرفت أخيراً قسوة العيون حين تصيد، فمن شرورها ما قتل!
ـــــــــــــــــــــــــ ـــ
(1) من كتاب: "الأدب العربي الحديث: الرؤية والتشكيل"، لحسين علي محمد، ط4، مكتبة الرشد، الرياض 2002م.
د. حسين علي محمد
15-06-2007, 09:12 AM
عفاريت سراي الباشا..الرؤية والفن
بقلم: أ.د. خليل أبوذياب
........................
تقف هذه المجموعة شامخة مع مجموعاته الأخرى "وجوه وأحلام" و"المستحيل" و"أصابع متوحشة" وغيرها، لتؤكد الطاقات الإبداعية التي يختزنها الأديب الفذ الأستاذ الدكتور "أحمد زلط"، ورسوخ قدمه في مجال فن القصة القصيرة، إضافة إلى إبداعاته الأكاديمية في مجال أدب الطفولة خاصة والدراسات النقدية والأدبية عامة.
وتضم مجموعة"عفاريت سراي الباشا" خمس عشرة قصة، إحداها سبق نشرها في مجموعة "المستحيل" وهي "الطريق إلى القنطرة"، وقد أفصح القاص عن دافع نشرها هنا، بل ونشرها في أية مجموعة تصدر له، وذلك "لكونها واقعية، وتمثل الحقيقة الكاملة التي شهدها في القرن العشرين" كما يقول (ص122).
كما يلفت النظر في هذه المجموعة الإهداء الذي طرز صدرها به، وما يتجلى فيه من فيوضات الوفاء والدعاء والتقدير لروح الأديب الكبير الدكتور نجيب الكيلاني، وهي لمسة وفاء تُحسب للقاص، وتنمّ عمّا يتمتع به من أخلاق رفيعة.
والمتأمل لهذه المجموعة يتبيَّن أنَّ القاص أقامها على ثلاثة محاور رئيسية: محور الثنائية أو التقابلية، سواء أكانت عامة تتعلق بفكرة الطبقية الاجتماعية، أم خاصة تتمحور حول همومه الذاتية.
وقد التقط القاص في هذه المجموعة طائفة من الثنائيات المتناثرة في الحياة مركِّزاً على ما يسودها من ظاهرة التقابل أو التناقض والتباين، وقد وفق توفيقاً بعيداً في اقتناص تلك الثنائيات المتناقضة هادفاً إلى تقديم طروحات فكرية ونفسية واجتماعية مستقرة في أعماق نفسه، وقد عاشها بكل أحاسيسه ومشاعره ووجداناته، ورغب أن يشاركه الآخرون فيها ويعيشوها على نحو ما عاشها هو، ويحسّوا فيها ما أحسّه هو؛ فيفيدوا منها ما أمكنهم ذلك!
وكانت أولى تلك الثنائيات؛ تلك التي تجسِّد الطبقية البغيضة حتى على مستوى القرية البسيطة المحدودة من خلال قصة "عش العصافير" التي تتناول فكرة التكافؤ في الزواج بين طبقات المجتمع القروي المحدود وما يعمِّقها من فوارق أظهرها الانتماء العائلي والفقر والغنى.. فقد رفضت عائلة "الرشيدي" ذات المكانة الاجتماعية المتميزة في القرية مشروع زواج أحد أفرادها من فتاة فقيرة تنتمي إلى طبقة متواضعة يعمل أبوها "محولجي" ولا ينتمي إلى عائلة ذات مستوى اجتماعي مناسب يمكن أن تتشرَّف به عائلة الرشيدي تلك.. ويجاهد الشاب ويقاوم تيَّار الطبقية الذي تمارسه عائلته بكل عنف في محاولة جريئة ويائسة لحماية حبه.. وينجح في المقاومة ويتمم الزواج مضحياً بالأمن والاستقرار والثراء في حمى العائلة الكريمة.. ويتلاحم الزوجان المقهوران عبر مشوار طويل ومحفوف بالمشاق، وينجحان في بناء عش هادئ يغمره الحب والحنان والسعادة.. ويضاعف ذلك عصفوران جميلان كانا ثمرة هذا الزوج هما "هاني" و"أماني".
ويواصل الشاب مشوار الجهاد من أجل الوطن والدفاع عنه، ويصاب بشلل كامل، وتمضي الزوجة المحبة المخلصة كاشفة عن أصالة عجيبة في رعاية زوجها المقعد وتربية ولديهما إلى أن يحققا تفوقاً ظاهراً ونجاحاً باهراً.. ويقضي الزوج نحبه غبّ "رحلة أيوبية الصبر" كما يقول القاص، وتبادر الزوجة بمشاركة ولديها بنقل جثمانه إلى القرية ليوارى في ترابها الطاهر قريباً من عائلته.. ويتم اللقاء والتعارف بين الأسرة وابني فقيدها في مشهد عاطفي مثير.. حتى إذا انتهت مراسيم الدفن عادت الأم برفقة ولديها ليواصلوا مسيرة حياتهم في عشهم الهادئ الحزين.. ويتجسَّد العطاء النبيل الذي غرسته الأم الصابرة المكافحة في نفوس ولديها البارين عندما أعلنا تكريمها بمنحها "الدكتوراه الفخرية للأم المثالية"!
وهكذا استطاعت هذه المرأة التي لم تتقبلها عائلة الرشيدي بما أوتيت من صبر وإخلاص ووفاء، أن تحطم أسطورة الطبقية البغيضة التي تكرِّس الفوارق بين الناس وتقطع الروابط والوشائج التي تقربهم، مرسخة مفاهيم جديدة تقوم على الأصالة والشرف والإخلاص والوفاء والحب!
ثم كانت الثنائية الثانية بعنوان "الفيومي والرومي" التي التقطها من عالم الطيور الداجنة، ماضياً في تكريس فكرة الطبقية البغيضة بكل فوارقها وملابساتها، هادفاً إلى تقديم الوحدة كمطلب يحقق شخصية الأمة وكيانها، وقد رصد القاص ذينك الديكين "الفيومي والرومي" منذ لحظة لقائهما في الأقفاص قبل بزوغ الشمس على طول الطريق إلى السوق ليعرضا مع سائر الطيور والفراخ للبيع، بمناسبة الاحتفال بنهاية العام التي ترتبط أساساً بالديك الرومي، ممَّا أثار حفيظته على قرينه "الفيومي" ليخوضا معركة ضارية شهدت وحدة الفراخ البلدية بقيادة "الفيومي" في مجابهة "الرومي" الغريب الذي خابت مساعيه وخسر المعركة، ولكنه لم ينكص عن التأهب لمعركة أخرى تعيد له هيبته الضائعة!
وتوشك السوق أن تلفظ أنفاسها الأخيرة مع شمس الظهيرة المحرقة دون أن ينجح البائع في الخلاص من "الرومي" لإصاباته البالغة.. ووجدها فرصة طيبة ليحقق لأسرته وليمة فاخرة بهذه المناسبة التقليدية! وهنا يتزامن فرح الأسرة وفرح الديك البلدي الذي أخذ يصيح في غير موعد الفجر وقد أحاطت به أوانس الدجاج البلدية من كل لون مشكِّلة وحدة جماهيرية ظاهرة!
ومن عالم الدجاج أيضاً يلتقط ثنائية أخرى تمثِّل نوعي الدجاج "البلدي" و"المهجَّن" أو "المعملي"، أو كما يقول "بنت مزارع"! وربما كان القاص يهدف من وراء هذه المناظرة تكريس فكرة الانتماء الوطني إزاء تفشي ما يعرف بعقدة "الأجنبي" أو "الخواجة" التي سادت الحياة الاجتماعية في هذه المرحلة.
ويدع القاص الدجاج إلى الحمام ليعالج قضية التزاوج بين حمام أمريكي وافد من الغرب وحمام بلدي ينتمي إلى الشرق؛ بغية تحسين النسل أو تطوير السلالة أو التكاثر على الأقل.. بيد أنَّ هذه المحاولات التي بذلها محمد الشرقاوي في طول البلاد وعرضها لم تنجح.. حتى إذا أعيته الحيلة وجد الحل في مقولة زوجته التي تدور حول "اختلاف الدم وعدم القبول".
كذلك تمثل قصة "البقرة الحرون" في صراعها الأهوج وعدوانها الهجمي على الجمل رافداً جديداً لفكرة الثنائية أو التقابلية يسعى من خلاله إلى تصوير هذه الطائفة أو النوعية من الناس الذين ينتشرون في المجتمع، ويصبون أذاهم على غيرهم.. ولكنه لا يغفل عن المصير السّيء الذي ينتظرهم والذي يشبه المصير الذي آلت إليه البقرة الحرون تحت أظلاف الخراف التي اجتاحت المكان فغدت جيفة تنهشها أسراب الغربان!
أمَّا المحور الثاني من محاور المجموعة فهو محور القرية وحديثها وهمومها التي جسَّدها من خلال أحاسيسه الخاصة، وقد تناول هذا المحور في عدد من أقاصيصه منها "عش العصافير" و"عفاريت سراي الباشا" و"بوح الأشجار المعمرة" و"أول قطفة" و"أحزمة وأقنعة" و"أوجاع".. وقد وقفنا آنفاً عند "عش العصافير" كمثل لتكريس الفوارق الطبقية في المجتمع، أو مجتمع القرية، فلا نعيده ولكن نشير إلى صلته الحميمة بالقرية بطبيعة الحال.
ثم كانت "عفاريت سراي الباشا" والتي تجسِّد من طرف ثنائية العفاريت القديمة والحديثة، أو الجنية والأنسية.. كما أنها تكرس فكرة الخوف أو "الفوبيا" المستقرة في نفوس الأطفال من لدن عهد الطفولة المبكرة عبر حكايات الأجداد والجدات المعروفة والتقليدية، ودور الظلام في تضخيم الأوهام وتصوري الخيالات واختراع الحكايات المرعبة (ص19)، كما تكشف عن دور فصل الشتاء ومظاهره الخاصة في تنمية تلك الخيالات والأوهام، وكذلك فصل الصيف بلياليه المقمرة الصافية حيث يحلو السمر، وتغدو كلها مواسم للحكايا الشعبية، ثم تتحوَّل الحكايات الخرافية عن أمنا الغول والعفاريت والبغال الأسطورية وغيرها مصادر متنوعة للفوبيا وما ينجم عنها من سلوكيات متباينة، وإن أفادت القاص الفاضل فوائد جليلة لا يني يشيد بها وأبرزها خوفه من الاغتسال في الترعة وما وفرت له من سلامة الإصابة بالبلهارسيا، ويبيِّن لنا القاص أنَّه افتقد هذا المخزون من حكايا جدته في عصر البث التلفزيوني حيث أخذت تختفي مع الأمهات والأجيال الجديدة، ولكنه وجد رافداً مهماً من روافد حكايات الجنّ والعفاريت، أو حكايا الظلام بعد غروب شمس جدته القديمة عبر شيخ عجوز ألف الجلوس خلف بيتهم، والذي أكد له قلة العفاريت واختفاءها من فضاء القرية بسبب النور الذي غمر كل مكان فيها، ولم يترك لها سوى الخرائب والأماكن المهجورة والمقابر.. "فالنور عدوّ العفاريت الأوَّل"!!
على أنَّ عفاريت جدة القاص لم تستطع ـ إذا استطاعت ـ تجنيبه الاغتسال في الترعة ليسلم من البلهارسيا، أن تزرع في نفسه الخوف من الأماكن المغلقة والتعرض لعفاريتها، ممَّا جعله يفكِّر في ممارسة المخاطرة لمجابهة العفاريت المزعومة بحثاً عن مصادر جديدة للرعب على اختلاف الزمان والمكان؛ لتحديد الفوارق بين الحقيقة والوهم انطلاقاً من سراي الباشا المهجورة بصفتها الموطن المناسب للعفاريت!!
وهكذا استطاعت سراي الباشا أن تشكل محكَّاً للتحدي لدى القاص لتحديد العلاقة بين العفاريت القديمة والحديثة.. وقبل التحدي غير عابئ بالشائعات التي تؤكد سكنى السراي بالعفاريت برغم سماعه بعض الأصوات الغريبة تصعد منها "مثل الأنين.. صفير ريح.. خبط.. تأوهات.. أنفاس غير مفهومة.." وتمكن من الدخول إلى السراي وتعرف على ما بداخلها من أثاث.. حتى تكشَّفت له الحقيقة المذهلة، ولم يقو على مقاومتها، فانطلق يعدو إلى الخارج وهو يتساءل عن هوية هؤلاء العفاريت الجدد الذين استوطنوا هذه السراي بعد رحيل أسلافهم من العفاريت القديمة!!
وهكذا تولَّدت عفاريت سراي الباشا من عفاريت حكايا الجدة القديمة التي استكنت في نفوس الأطفال عبر محاولة للتحدي في زمن النور والبث التلفزيوني الذي لاحق العفاريت القديمة وطردها حتى من الأماكن المهجورة والخرائب والمقابر!!
ثم كانت أقصوصة "أحزمة وأقنعة" التي حملت طرفاً مهماً من حياة القرية وما يسودها من جوع وفقر وبؤس عبر نموذج من بيوتاتها.. وفي غمرة المعاناة والمقارنة مع جياع الأمة العربية والإسلامية ودعوة الأب العاجز عن توفير أبسط مقومات الحياة لربط الأحزمة على البطون الخاوية، تأييداً لأصحاب هذه الدعوة وغيرها من مصطلحات حادثة كالعولمة والخصخصة والهيمنة والجدولة، وغيرها ممَّا يردده سادات المجتمع الجديد.. تنجد بنت الجيران الأسرة الجائعة بصينية بطاطس بالفرن، وفي سرعة البرق كانت الأيدي ممتدة والأسنان تمضغ والمياه تروي والجـــوع يخــف سعاره والشفاه تتمتم بالشكر، ولسان حالهم يقول: "نار فرن الخبيز ولا نار الهيمـنة.. ليت أمثالنا يدركون"97.
وواضح أنَّ القاص يهدف من وراء هذه القصة إلى التخفف من لغة المثالية والشعارات الزائفة التي لا تسمن ولا تغني من جوع، وأن يعي السادة أنَّ الجائع لا يسمع إلا من خلال معدته!
ونصل إلى خاتمة حكايات القرية التي تسجل طرفاً من مشكلاتها وهمومها، وهي قصة "أوجاع" التي عالج فيها مشكلة المهن المنقرضة في القرية بسبب الغزو الحضاري الذي اجتاحها مثل "طلاء الأوعية النحاسية.. وصناعة الطرابيش.. وعمل الحواة.. وغير ذلك، وهي تسجل أطرافاً من هموم أصحاب هذه المهن وما غرقوا فيه من بطالة قاتلة دفعتهم إلى التفكير في الاغتراب بحثاً عن عمل يوفر لهم ما يستعينون به على حياتهم.. ولكنهم يفاجؤون بالرفض والمنع من السفر؛ لتجاوزهم سن العمل المطلوب، ولأنَّ مهنهم لم تعد صالحة لهذا الزمن!
أمَّا المحور الثالث والأخير من محاور المجموعة فهو محور الوطن، وإن لم يظهر هذا المحور إلا من خلال قصة "الطريق إلى القنطرة"، وكنا نتمنى على القاص أن يعضدها بأقاصيص أخرى تكرِّس أبعاد هذا المحور وتبرز ملامحه.. على أية حال فهذه القصة ـ كما ألمحنا ـ تجسِّد مشاركة القاص في أحداث معركة "العبور" في محاولة جادة لرد الاعتبار وحماية الكرامة المهدورة في "نكبة حزيران" الفاجعة!
وتكمن أهمية هذه القصة فيما تمثله للقاص من منعطف نفسي بالغ دفعه إلى إعلان رغبته وعدم تحرجه من نشرها في أية مجموعة قصصية تصدر له؛ لواقعيتها وتمثيلها للحقيقة الكاملة التي عاشها بكل ذرة من كيانه.. وقد نشرها للمرة الأولى في مجموعة "المستحيل" التي عرضنا لها في دراسة سابقة.
على أننا كنا نتمنى على القاص أن يشفع هذه القصة بقصة أو قصص أخرى تكرِّس هذا المحور الوطني وتبرزه، وتشارك في قضاياه ومشكلاته التي لا تنتهي؛ لتتساوى على الأقل مع محور القرية التي تجذَّرت في أعماق نفسه كل ذلك التجذر المذهل الفريد.
كل قصة، بل كل مجموعة قصصية يطالعنا بها القاص المبدع "د.زلط" تكرِّس إبداعه المتميز وموهبته الفذة واقتداره العجيب على توظيف الفن القصصي للتعبير عن أفكاره وآرائه وطروحاته المتنوعة التي تلحُّ عليه إلحاحاً لا يملك منه فكاكاً أو خلاصاً، وإذا كنا رأينا مبلغ اقتداره على نشر آرائه وطروحاته التي شغلته في مختلف أقاصيص المجموعة، سواء منها ما تعلق بالقرية وبالوطن وبالثنائيات التقابلية المتنوعة، فإنَّ الجانب الفني التشكيلي فيها قد تجاوز كل توقع ولا غرو؛ فنحن أمام قاص مبدع ملك ناصية الفن وسيطر على أدواته، وتغلغل نسيج نفسيته، وطاع له عصيّه، وأسلس له قياده، حتى إنَّك لتحس أنَّه لا يجد أدنى مشقة أو معاناة في سرده وحواره وتطوير أحداثه ورسم ملامح شخوصه التي يحسن التقاطها وانتقاءها، إضافة إلى ما تجده فيها من تلقائية باهرة، وعفوية بالغة!
وقد يكون من الصعوبة البالغة الإحاطة بكل مظاهر التشكيل الفني في هذه المجموعة، مما يجعلنا نقبل ـ كارهين ـ الوقوف عند أطراف متناثرة منها، على ما يشوبها من فوضى التنسيق وعشوائية التداعي!
بيد أن أول ما يلفت النظر في تقنيات القصة القصيرة في هذه المجموعة خاصة: ظاهرة الإحساس الهائل بعامل الطفولة، أو روح الطفولة المتغلغل أو المتجذر في وجدان القاص، والذي انعكس من وجه على إبداعه الفني والعلمي من خلال المؤلفات الأكاديمية التي وضعها في هذا المجال الصعب، والذي سجلته قائمة مؤلفاته ودراساته الملحقة بالمجموعة (126ـ129)، ويحس قارئ المجموعة بأنَّ قوة سحرية عميقة تدفعه إلى عالم الطفولة، حيث يجد ذلك في حكايا جدته عن أمنا الغولة والأشباح والعفاريت، وما تولده في نفوس الأطفال من مشاعر الخوف والرعب، كما يجد ذلك في خياله الخصب وقدرته الفائقة على ابتكار الثنائيات الفكرية واختراع الحوادث الخاصة بها، وإقامة الحوار الطريف بين عناصرها أو شخوصها.. بل إنَّه يلمس قدرته البالغة على استغلال كل ما يقع تحت بصره وبصيرته من حيوان وطير وشجر وجماد، في محاولة جادة وناجحة للترميز عمَّا يجول في عقله من أفكار وقيم وطروحات؛ وكل هذا يتجلى بوضوح وعمق في كافة ثنائياته في المجموعة..
كذلك سادت أقاصيصه تقاليد الحكي الشعبي التي تلقانا في أقاصيص "ألف ليلة وليلة" و"كليلة ودمنة" وحكايات الحيوان والطير، كما تمثل ذلك بدقة "عفاريت سراي الباشا" التي افتتحها بإحدى حكايات جديته مستخدماً العبارة التقليدية التي ارتبطت بالحكي الشعبي"كان يا ما كان، لا يحلو الكلام إلا بالصلاة على النبي العدنان" (ص18)!
كذلك استخدم الترميز في جوانب من أقاصيصه كما في "الفيومي والرومي" التي تكرس فكرة القومية أو الوطنية والأجنبية، أو ما عرف بعقدة "الخواجة" في المجتمع المصري خاصة والعربي عامة كأثر للاستعمال الغربي للأقطار العربية، كما تكرس القصة قضية الوحدة وتبرزها كمطلب جماهيري للأمة كلها!
كذلك يبرز البعد الرمزي في قصة "البقرة الحرون" التي ربما اتخذها القاص رمزاً واعياً حصيفاً لاسرائيل، كما اتخذ "الجمل" الذي اشتهر بصبره واحتماله رمزاً للعرب الذين لا يكفون عن الصبر على عدوان اسرائيل الذي لا ينقطع، ومن هنا يؤكد القاص إنَّ ذلك إلى حين، وعليها إلا تنخدع أو تغترَّ بما تجد من صبر العرب واحتمالهم حماقاتها، وتغاضيهم عن عدوانها السافر!!
ومن الملاحظات التي تلقانا في المجموعة تناثر بعض الآثار الدينية المحدودة جداً في جوانب من أقاصيصه كما في ختام أولى أقاصيصها "عش العصافير" المتمثل في صوت الكروان في وقت السحر يهتف في جوف السكون بعبارة "الملك لك"، وقد يكون هذا التوظيف لصوت الكروان أفاد القاص من رائعة الدكتور طه حسين "دعاء الكروان" على سبيل التناص!
وقد كنا نتوقع من القاص توسيع هذه الدائرة الفكرية والفنية لما شهر عنه من عناية بالجانب الخلقي التهذيبي في إبداعه، وحرصه على تكريس القيم والفضيلة ومحاربة الرذيلة، كما تجلى ذلك في مجموعة "المستحيل".
ومن مظاهر التناص الأخرى في المجموعة: الإفادة من المأثور الشعبي، حيث أخذ المقولة المشهورة: "في طالع الأنثى الرزق والبركة" (ص69)، كما نستطيع أن نلمح في قصة "البقرة الحرون" وما حشد فيها من ضروب الحيوان والطير صورة مصغرة جداً لرسالة "الصاهل والشاحج" لأبي العلاء المعري، على ما بينهما من فروق هائلة بطبيعة الحال في الطرائق والأساليب والمناهج والغايات.. وإن كان يمكنه أن يطورها لتقترب من رسالة المعري لو شاء!
كذلك يحاول القاص بين حين وآخر الإشارة إلى تزامن بعض أحداث أقاصيصه مع أحداث الأمة الكبرى، كما في "عش العصافير" حيث ربط بين طرد عائلة الرشيدي لابنها الذي تمرَّد على تقاليدها وتزوَّج من فتاة فقيرة لا تتكافأ مع عائلته، وبين طرد الخبراء الروس من مصر (ص8)، كما ربط بين نكبة حزيران التي مزَّقت أوصال الأمة العربية كافة، وأصَّلت الوجود الإسرائيلي في المنطقة، وبين تمزّق أوصال فريقه الكروي الذي كان يرأسه (ص29).
وعلى هذه الشاكلة تبيَّنت لنا ملامح الرؤى الفكرية، كما تجسَّدت أطراف من أبعاد التشكيل الفني في مجموعة "عفاريت سراي الباشا" التي أبدعتها عبقرية الأديب الكبير الدكتور أحمد زلط، وإذا كان لهذه المجموعة من مزية أخرى فإنَّها خطوة جادة على طريق الإبداع في مجال القصة القصيرة، تؤكد رسوخ قدمه في تربة هذا الفن الرائع الماتع، وتؤكد نضجه على مستوى التشكيل والرؤية، وتبشِّر بمجموعات أخرى آتية على طريق الإبداع والفن.
............................................
*عن موقع: لها أون لاين ـ في 21/5/2002م.
Powered by vBulletin® Version 4.2.5 Copyright © 2025 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved, TranZ by Almuhajir