تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : وردة ماتت



محمد الحامدي
17-06-2007, 05:05 PM
" وردة " ماتت
قصة قصيرة من تأليف : محمد الحامدي
سحب الكرسي مسافة نصف متر أو ما يزيد حتّى يتسنى لكرشه المترهل أن يثوي أمامه ، وجلس ... طفق يتمعن سطح الطاولة التي كانت خضراء قبل أن تصبح بلا لون ... أو على كلّ لون ... وكأنّه يكتشفها لأوّل مرّة : خطوط ورسوم وآثار حروق السجائر ، وحسابات " الدومنة " ، وبقايا من كل شيء : طعام وشاي وقهوة .. غرق في ذلك التأمل الأبله وكأنه غاب عن الوعي .. لم يوقظه من بلاهته سوى خرطوم " النارجيلة " يمتد إليه حتى لامس أرنبة أنفه الأحمر ، متآكل الأطراف ... مسك به كمن ظفر بكنز ... وألقمه فمه المقفر إلا من قاطعتين عاجزتين عن قطع الماء والهواء .. وكأنه طفل يستلم ثدي أمه . حملق في النادل المبتسم بعينين أحمرهما أكثر من بياضهما وسوادهما ، وسحب سحبة غرق بعدها في سعال أيقظ أحياء الحي وأمواته .. وصاح أحدهم : " اسحب موصّل الكهرباء وسيسكت .. " وصاح ثان : " لا لا بل السلف معطب فقط .. سيشتغل " وتعالت أصوات قهقهة ماجنة عابثة يصاحبها ضرب عنيف على الأفخاذ والركب ، وقرقعة الكراسي والطاولات .. ولم يعر جوابا سوى أنّه حك جانب بطنه بخرطوم " النارجيلة " في يسراه ،، ومسك بيمناه مسند الكرسي وطفق يسحب فيسعل فيسحب ...
- ورد يا ورد
انتبه لصوتها ، فانتفضت كلّ خلاياه .. حتى كاد يسقط من فوق الكرسي وقد غطاه جميعا فبدا وكأنه مقرفص في الهواء ...
واقترب النداء " ورد يا ورد " ، فتهللت أساريره ، ورفّ شارباه المبيضان تماما ‘ إلا من خضال " النارجيلة " ودهن الطعام عند أطراف شعيراتهما .
واقتربت " وردة " تمد له سلة ورد يانع .
" إنها طفلة ، طفلة . بكل ما في الطفولة من سكر وعسل ، جميلة جمال الصباح في الحقول المقمرة ، جميلة جدا إلى حد الرهبة .. شعرها ... يا لشعرها .. انظر إلى ذلك الشلال الثائر ضد كل نظام ...وأظفارها سوداء طويلة .. لكنها جميلة جدا جمال مخالب هرة يانعة .. ثوبها بلا لون ... لكنها إحدى تحف هذه المدينة .. أسنانها صفراء لم تنظف مذ ولدت ولكن ابتسامها من ضياء الشمس .. قدماها حافيتان .. لكنها فاتنة .. بل مرعبة .. روعة كما تكون الطفلة في مثل سنها .. حلوة لذيذة ... شهية كما الورد الذي تبيعه "
التقط السلة منها وهي تميل برأسها يمنة ويسرة كجرو صغير يتابع توارد اللقيمات على فم سيده ، وأخرج كلّ ما في جيبه ومنحها إياه .
أخذت الدريهمات دون عجب أو شكر ، وركضت ، فناداها بحنان كما ينادي أب ابنته : " وردة " خذي السلة .. سلة الورد .. هي لك ..
- ولكن ...
- خذي حبيبتي ، الرجال في مثل شكلي وسني لا يحتاجون الورد .
وضحك كل من كان حوله كما العادة ليتكرر مشهد العبث والمجون من جديد . ولكن وردة ، وقد تعودت على تلك المشاهد ، اكتفت بأن مدت يدها الحميراء إلى السلة ، وغادرت تنادي : " ورد يا ورد " .
وقفت عند حافة رصيف المقهى ، والشارع الكبير أمامه مكتظ بكل شيء : مارة وسيارات وعربات وحيوانات وعراك وسب وشتم وضحك وصخب ..
فجأة ، وقفت سيارة في منتصف العمر ، فخمة لكن فخامتها معتقة قديمة ،، كاد حديدها يلامس بلاط الشارع رغم عظم عجلاتها .. " دبابة " كما علق أحد زبائن المقهى .. فتح السائق النافذة بيد مرتعشة ونادى " وردة " .. أخذ منها وردة حمراء وضعها خلف أذنه ومدّ لها ورقة نقدية خضراء .. نظرت فيها " وردة " نظرة الخائف منها ومن الرجل ... لم تفرح بها رغم أنها أحست بقيمتها .. وأرادت أن تستدير إلى " صاحب الكرش " في المقهى ،، ولم تكد تفعل حتى ارتجت الدنيا ، واسودّ كلّ شيء .. وانقلبت الأرض كما تقلب إناء به أشياء مختلفة في الهواء .. كل شيء طار .. وكل شيء تحطم .. رؤوس الناس كما سلة الورد .. وإذا صراخ وعويل وركض في كل اتجاه .. هرب من الهرب ولجوء إلى العراء ...
جثا صاحبنا " صاحب الكرش " على ركبتيه وسيارة الإسعاف توقع الصراخ والعويل .. جثا مكان ما انفجرت " وردة " حتى لم يبق منها ما يدل على انفجارها ... كان يبكي بصمت رهيب .. فقط شارباه يرفان كما طير عجز على أن يجتث جسمه من الأرض ..
- ماله ؟ ! ماذا دهاه ؟! كم كان يحبها ؟!!
- يقال إنه يقسم أنها ابنته .. تعرفون أمها ...
- أستغفر الله .. وهل هذا وقته ؟
وقرفص أحدهم بقربه يحاول أن يوقفه .. فنظر إليه وبيده بقايا إحدى ورود " وردة " قائلا : " أتموت وردة ؟ "
- كلنا نموت ..
وسكت كل شيء فيه .. وعجزوا عن رفعه إلا بعد عناء .

كتبها : محمد بن الطيب الحامدي

سعيد أبو نعسة
17-06-2007, 05:58 PM
أخي الكريم محمد الحامدي
قصتك مرآة تعكس واقعنا المهترئ بكل تناقضاته حيث المقهى و النراجيل تكركر على وقع الإنفجارات التي تخطت في القصة حدود المكان و الزمان حيث تموت الورود تماما كما تموت القيم و المبادئ و الثوابت القومية و الوطنية و الناموس و الشرف و العزة و الكرامة و خلينا ساكتين أحسن .
صدق رسول الله صلى الله عليه و سلم : يوشك أن تداعى عليكم الأمم ... كثير و لكنكم غثاء كغثاء السيل .
سرد ماتع يضع القارئ مباشرة في عمق الحدث ممسكا بتلابيبه حتى الحرف الأخير مجرّعا إياه الأفكار على طبق من التشويق و الإثارة .
دمت مبدعا

محمد الحامدي
17-06-2007, 06:26 PM
شكرا على هذا العمق في الفهم الذي زاد نصي ثراء ..
بس لا تسكت ... قل ... فالقول قد يجدي أحيانا ... ودعنا نقول ففي القول بعض العزاء
دمت بألف خير

محمد سامي البوهي
17-06-2007, 06:30 PM
الأستاذ / محمد

أراك هنا تتعامل بأسلوب المراوغة الحدثية ، تنقلنا من الحاضر للماضي ، ومن البسيط للصعب ، ومن القديم للجديد ، ثم تأتي المفارقة بحضورها ، وإذا بها الطفلة الصغيرة بائعة الورد ، ويأتي وصفك لها بطريقة يسيل لها لعاب القارىء ، وكانه يتوقع العاقبة ، لكن ننخدع مرة اخرى لنجد الرجل اباً حنوناً ، ويأتي الحدث الأكبر ،والفاصل الواضح ، حدث الإنفجار ، وندخل بعدها لنهاية مفتوحة نتساءل من خلالها مع الناس أكانت بنته حقاً ؟

محمد

محمد الحامدي
17-06-2007, 06:55 PM
ألقي السلام أولا ،،، وأثني على هذا الجد في المتابعة والتتبع ...ثانيا ,,
أما ثالثا : فما على من يتعثر في خطوات الإبداع الأدبي مثل حالي سوى أن يضع بين أيدي الأحبة إنتاجه ولهم أن يروا فيه ما يرون ... وأنت أعلم مني بأن النص يولد مع كل قراءة وبحث وتدقيق
شكرا صديقي ( وأسمح لنفسي بهذه الصداقة ) تبهرني قدرتك على الحفر فيما تقرأ

د.مصطفى عطية جمعة
18-06-2007, 02:10 AM
القاص المبدع محمد الحامدي
السلام عليك ورحمة الله وبركاته

إننا أمام نص زمنه يقف عند لحظات أو دقائق ، فهو على المستوى الزمني محدود ، وعلى المستوى المكاني أيضا محدود : بين المقهى والشارع ، ولكن يمتد بنا في دلالاته إلى آفاق فسيحة من تاريخ الشخصيات ، ونحن أمام شخصيتين أساسيتين ، في القصة ، هامشيتين في المجتمع : وردة وأبوها المفترض ، وقد جاء موتها ليكشف النقاب عن هذه العلاقة بينهما .
لا شك أن القصة فيها كم كبير مما يسمى المسكوت عنه ، وهو هنا : أن وردة تبدو غير شرعية بدليل أنها فتاة شارع بائعة ، وأن أباها شخص عفوي ، يعيش في المقاهي ، وغير مهتم بها من حيث الرعاية والنفقة .
نرى في القصة بنية وصفية مشهدية ، يمتزج فيها الحوار بالسرد ، وقد لاحظنا أن السرد متدفق ، نقلنا لجو المقهى صوتيا وحركيا ، وكذلك جو الشارع ، وتفاعلنا مع الأزمة كثيرا .
أتحفظ على :
- العنوان : فهو شارح وملخص للقصة ، ومباشر .
- شيوع النقاط دون ضابط بين الجمل ، و معلوم أن النقاط المتفرقة تشير إلى حذف كلمات ، وهذا غير موجود .
القصة جيدة ، وتعبر عن قاص جيد .
تحياتي وحبي وتقديري

محمد الحامدي
18-06-2007, 09:17 AM
شكرا سيدي على إمعانك في النص وتجشمك مشقة النقد ... قد تكون تحفظاتك في محلها غير أني أوضح فقط أن :
- النقاط التي تدل على قطع في النص هي كما أشرتم سيدي للتنبيه إلى المسكوت عنه ...
- العنوان الذي لخص القصة : نعم هذا ما أردته حتى لا يبقى القارئ في حدود حدث الموت بل يتعداه إلى دلالته .. أقصد أن السيناريو ليس هدفا هنا بل هو دال من دوال القصة ... هذا ما أردته وقد أكون عجزت عن ذلك فنيا فأرجو العذر ...
عموما في القصة القصيرة أعتقد أن الحدث دال من دوالها ولهذا يكون واحدا واضحا جليا ... التشويق بالحدث هو في نظري من مشمولات الرواية .. هكذا بدا لي والله ولي التوفيق
مرة أخرى شكرا سيدي على نقدكم وتوجيهكم وما أحوجني إليه

د. نجلاء طمان
18-06-2007, 10:11 AM
القاص الرائع: الحامدى

قصة رائعة امتلك فيها القاص كل أدواته القصية , بدءا من عنوان لافت مميز , وتوغلا متمكنا فى الحبك القصى, وانتهاءا بخاتمة قوية معبرة.القصة بدأت بافتتاحية رائعة تعتمد على السرد السلس الشيق , ولقد وجدت أن الافتتاحية طالت قليلا لكن كانت تلك الإطالة لازمة تماما للتعبير عن بيئة البطل الفجة, فى ايحائية ذكية من القاص لعرض بيئة الوردة...أو البطلة المقهورة. يمتلك الكاتب لغة قوية جدا وشيقة استولت على انتباه المتلقى كاملا, وغوص الكاتب فى كلا المشاعر الجوانية والبرانية لشخوصه- كان رائعا. هدف القصة من وجهة نظرى هو إلقاء ظلال على أطفال الشوارع ومعاناتهم , واستعراض لكل البيئات التى يتعرضون لها , وقدعبرت القصة عن هدفها فى روعة لا مثيل لها. بقى أن أذكر أنه أعجبنى أنا شخصيا دس القاص لشارب بطله فى القصة ووصفه المكنى الرائع له , فى ايحائية عبقرية منه , تعبرعن الفضول السمج الذى كان حاضرا وبقوة لشخوص القصة فى ثنايا الجو العام للقصة.


شذى الوردة لهذا الإبداع

د. نجلاء طمان

جوتيار تمر
18-06-2007, 01:53 PM
الحامدي..
العمق الانساني في النص ظاهرة قلما نجدها في النصوص العادية،ولكن مما لاشك فيه ان هذا العمق هو الان مايجذب الانفاس لها لكونها تحكي وبصورة مباشرة هموم الشارع، وتلامس عن قرب المآسي الواقعية التي تمر بها المجتمعات الانسانية الحديثة.
وقد مثلت وردة هذه الصورة الانسانية في زمننا الاصفر هذا، حيث هي تمثل الشريحة الاكثر داخل المجتمعات، وصاحب الكرش بعيدا عن مدلولات الشرعية واللاشرعية في منادته لها بابنتي، فانه يمثل الضمير المراقب المتعذب الذي يرى ولايستطيع حراكا، وصاحب الورقة الخضراء، انما يمثل التعبنت الانساني والتجبر داخل هذه المجتمعات المضطهدة، والانفجار ربما تمثل في الرؤية المستقبلية للمصير الذي يتوقعه القاص لهولاء..والنهاية جاءت تعبر ان المستقيبل حتى لو حصل فانه لن يكون الا على اعناق البراءة.

محبتي لك
جوتيار

محمد الحامدي
18-06-2007, 02:32 PM
يسعدني جدا هذا التحليل الذي " يوهمني " بأني فعلتُ شيئا وكتبتُ نصا يستحق أن يقرأ ...
لا مفرّ من هذا الواقع الذي يسكننا وتنضح به مسامنا الأدبية ... شكراللأخت نجلاء والأخ جوتيمار أضأتما جوانب هامة من حكاية " وردة " ...

خلود محمد جمعة
07-01-2015, 07:49 AM
مقهى وحالة من اللامبالاه في مقهى شعبي وبائعة ورد محذوفة من ملف الانسانية وصورة حية بكل تفاصيلها المشبعة بالطبقة الشعبية
وسرد قصي ماتع وحبكة متينة وذكية الى نهاية أعلنها عنوان القصة
جميلة ومؤثرة
بوركت و كل التقدير

ربيحة الرفاعي
10-01-2015, 10:19 PM
نص ينتمي لحقول دلالية إنسانية البعد، باعادة صياغة رموزة وفق منظور تصويري يمتح من معطيات متوارية خلف ظاهر بسيط يتحرر من المباشرة ولا يشطح لأنسة غير البشري وإنطاق غير الحي
وبتمكن القاص من أدواته، وحسن سبكه وأدائه قدّم رسالته بتدرج مائز من عنوان قوي الدلالة ودخول في النص وضع القارئ في صورة البيئة لفهم تأثيرها، وحوار داخلي رسم ملامح الشخصيات وخارجي عرض لقسوة الظروف المؤثرة فيها، بدلالاتها، وما يترتب عليها حتى الوصول للحدث العنيف يطرح شأنا آخر ليس في معزل عن ما تقدم وإن بدا منفصلا عنه ..
كانلكل شخصية في النص دورها ودلالتها للتعبير عن مجموعة المواضيع والقضايا التي حملتها القصة بين السطور

دمت ورعة الحرف أديبنا

تحاياي

آمال المصري
15-06-2015, 10:12 AM
غالبا يدفع ثمن أخطاء المجتمع الفئة الضعيفة وهنا نص اجتماعي هادف توافر فيه مقومات القصة القصيرة بجدارة جعلت المتلقي يحبس الأنفاس حتى النهاية الصادمة المحيرة التي تركت سؤالا يحفر استفهاماته ويجبرنا على التفاعل والتعمق فيما وراء أحداثه
راق لي بلغته وحبكته وما استتر خلف النقاط
تحاياي

سحر أحمد سمير
18-06-2015, 09:36 PM
قصة قصيرة رائعة ..قرأتها بإسقاط سياسي ..و ذلك يرجع لكلمات تخفي الكثير من الرمزية ..


"
انظر إلى ذلك الشلال الثائر ضد كل نظام ...وأظفارها سوداء طويلة .. لكنها جميلة جدا جمال مخالب هرة يانعة .. ثوبها بلا لون


سلمت يمناك أستاذي الفاضل ..محمد الحامدي..

دمت و دام قلمك الباذخ بالرصانة ..رمضان مبارك ..

تحاياي.

نداء غريب صبري
24-09-2015, 01:40 PM
أسلوب ذكي جدا تلاعبت فيه بالقارئ ذهابا وإيابا في الزمان والحدث والتوقع لتعيده إلى واقعنا الدموي
القصة رائعة والسرد مشوق

شكرا لك أخي

بوركت

ناديه محمد الجابي
28-09-2015, 09:19 PM
قصة بديعة وأسلوب قصصي متميز ووصف للشخصيات وللمكان رائع وملفت
نصا امتاز سبكا وطرحا وحبكا .. جذبني سردك المتدفق الشيق للمتابعة إلى النهاية
دام هذا الألق. :001: