تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : من عبق البادية



محمد الحامدي
28-06-2007, 03:09 PM
من عبق البادية
قصة كتبها : محمد بن الطيب الحامدي
عاد مزهوا ، شارباه العريضان يخفقان كجناحي نسر يافع والزمام في يمناه يلوّح به كمن يلوح بسيف بعد نصر . وكان يتبختر وراءه في خيلاء وكأنه قد فهم أن الاحتفال يعقد من أجله . وزغردت المرأة . وتحلّق الأولاد في حذر وتردد حول تلك الدابة الضخمة في كل شيء واللطيفة في كل شيء : عينان سوداوان واسعتان ، وأذنان كلما تقدمت إحداهما تراجعت الأخرى ، ورقبة كرقبة الإبريق ( هكذا وصفها ولده الأوسط فنهره أبوه خوفا من العين ) وذيل طرفه شعر كـأنه فرع غادة ضمخته الحناء .. لمسه أصغر الأولاد وأكثرهم جرأة فأدار الجمل له رأسه محذرا . وقالت البنت :
- أبي ، لماذا رقبته طويلة هكذا ؟
- لو كانت مثل رقبتك لا تكاد تظهر لما استطاع إلى الأكل سبيلا .
فغمغمت والضحك من حولها يلفها إحراجا : لكني آكل بسهولة .
- أبي ما هذه القبة فوق ظهره ؟ كيف نركبه ؟ فردت الزوجة ضاحكة لسعادتها لا لقول ابنها :
- ذاك سنام يا غبي .. كأنك لم تر جملا إلا اليوم !
وصاح الأب : لا تقولي جملا ، إنه حولي ، للتو أتم عامه الأول
وطفق الأولاد يقدمون لجملهم كل ما كانوا يأكلون منه فينهرهم الأب : إنه دابة ويأكل ما تأكله الدواب .
قد استراح الآن من تدلل " أبي نقص " ( وقد حرف اسمه " أبا كامل " فاشتهر التحريف ونُسي الأصل ) . وسيحرث أرضه كيفما يشاء ، ومتى يشاء وبالقدر الذي يشاء . إنه حرّ الآن ، ولن ينتظر حتى " يستعيد جمل أبي نقص الهرم عافيته " . سيصرخ في جمله ليسرع كما يشاء ، بل سيضربه إن استحق ذلك ، بل سيضغط على المحراث حتى يبلغ قلب الأرض كما يشاء ، بل سيسب جمله ويلعنه كيفما يشاء .. إنه جمله وهو حر فيه .
انكسر حر الشمس قليلا بأن مالت عن قبة السماء ، فأخرج المحراث من حظيرة مهجورة وطلب زيتا ورمم ما بلوازم الحراثة من نقص ، وبمهارة فائقة نسقها بشكل توضع به فوق ظهر الجمل فتمسك بسنامه بإحكام .أناخه فأطاع ، ووضع المحراث معلقا بسنامه فواصل اجتراره دون مبالاة ، وأمره أن ينهض فانتفض واقفا . وعاد ابنه الأكبر يسأله : سبحان الله هذا الجمل تبلغ قوته أضعاف قوتك يا أبي فكيف يطيعك وينصاع إليك ؟
- يقال يا عزيزي إن أحد الأنبياء عليه السلام ، لا أدري أيهم ، قد أمر الإبل بأن تطيع من يملكها . وأخفى الولد ابتسامته حتى لا يراه أبوه فتقوم القيامة لحظتها .
وسار الركب : الأب من الأمام وخلفه الجمل بل الحولي متهاديا وخلفهما الأولاد والزوجة باتجاه الحقل ، هناك قرب البحر . وعند شجرة التين العجوز توقف الجميع . وذهبت المرأة تجمع بعض القش لتوقد النار وتعد الشاي المركز ( إذا وضعت فيه عود ثقاب يقف ،، هكذا يعجبه الشاي وإلا فلا ) .. وتحلق الأولاد حول جذع شجرة التين يطاردون يربوعا قفز هناك .. أما هو فقد أنزل المحراث ، وربط كل شيء إلى الحولي وهو يترنم بنغم ( من علاك يا جمل ) ، والحولي يجتر بلا أي اهتمام .. ثم وقف خلف المحراث ويداه تضغطان عليه بشدة ، وصرخ ( زع ) فانطلق الجمل متهاديا والمحراث يشق الأرض في حفيف مطرب .. وصاح الكبير والصغير ( الله أكبر ، ما شاء الله ) .
بلغا آخر الأرض من الجهة البعيدة في مقابل البحر ، وعليه أن يعود الآن بأخدود آخر محاذيا للأول ، وسار الجمل قليلا هادئا كما بدأ .. وفجأة انتفض وجفل وهاج وصار يركض في كل اتجاه ... ذكروا الله كثيرا وصلوا على رسوله حتى جفت الحلوق . ولكن الجمل كان ما إن يواجه البحر ويرى موجه حتى يجفل ويضطرب ويخرج عن طوره ولا يهدأ .
فصاحت المرأة " عين أصابته " .. وبلغ الجهد من الأب مبلغه وهو يقوده ويصرخ ويضرب ويسب ويشتم .. ولكن دون فائدة .. أوقفه عند شجرة التين والبحر من خلفه حتى لا " يطير " وذهب مسرعا إلى البيت وعاد لاهثا يده خلفه ، ثم وقف قبالته ومسك بشدة ملتقى الزمام تحت الفكين قرب الرقبة وذكر الله ثم نحره قائلا : أيها الغبي عندما كان النبي يوصي الإبل بطاعة أربابها ، في أية ربوة كنت ترعى فلم تسمعه .. "
وذهب إلى البحر ليغسل يديه والصياح خلفه ، خطا خطوتين ثم وقف ليقول : لا يأكل الأولاد من لحمه حتى لا تنتقل إليهم عدوى العناد والغباء . " .
________

( زع ) كلمة تقال للجمل حتى يسير في بادية تونس ، ولعل شباب اليوم لا يعرفها

محمد بن الطيب الحامدي

علاء الدين حسو
28-06-2007, 05:51 PM
كنت اظن ان من صحراء تونس هناك فقط ابراهيم الدرغوثي وها ما اسعدني اكتشف مبدعا اخر سأعتز بصداقته التي ستستمر باذن الله تعالى واشكرك على المعلومات التي تعرف من لا يعرف حال الجمال .. تحياتي

محمد الحامدي
28-06-2007, 06:14 PM
مرحبا أهلا وسهلا ... صداقتك شرف لي
شكرا على مرورك الكريم
وإلى لقاء

علي أسعد أسعد
28-06-2007, 06:22 PM
أديب كبير أنت ...

أراك متوجاً على كل العروش

بارك الله بك

محمد الحامدي
28-06-2007, 06:58 PM
شكرا سيدي قد أخجلت صفحتي بقولك ... التاج الحق هو التشرف بلقائكم في هذه الواحة الغناء
تحياتي الصادقة وإلى لقاء

سحر الليالي
28-06-2007, 07:53 PM
استاذي "محمد الحامدي":

قصة جميلة
سعدت بقراءتهاسلمتـ ودام نبضك

لك خالص إحترامي وتقديري وباقة ورد

محمد الحامدي
28-06-2007, 09:10 PM
شكرا سيدتي أنا السعد بمروك الكريم وتقييمك المشجع
دمت بألف خير

خليل حلاوجي
01-07-2007, 03:21 PM
ولكن الجمل كان ما إن يواجه البحر ويرى موجه حتى يجفل ويضطرب ويخرج عن طوره ولا يهدأ .

وكان الانسان العربي مثل هذا الجمل لايعرف غير الصحراء ... وثاراته التي استنزفت بني يعرب

حتى جاء نور المشكاة محمد فأخرجهم من الظلمات الى النور

فركبوا البحر فاتحين مبشرين بقانون العدل الرباني ....

وأقاموا لهذا العدل الرايات فوق شطر الارض ففازت الانسانية رحمة من الله

ولكننا اليوم .... أضعنا البوصلة وعدنا الى تصحر الروح .... وثاراتها

فيالفجيعتي

محمد الحامدي
01-07-2007, 03:45 PM
أخي خليل ... أراك مسكونا بهذا الواقع الذي يمزقنا من كل جهة وناحية ... لن أقول لك هون عليك فالأمر حقا لا يهون ... ولن أنحر الجمل لأنه يأبى رؤية البحر ... ولكن سأبحث لك في شعري عما يشفي غليلك من هذا الواقع الذي لا يرضي كبار الهمم أمثالك ... ( لعلك قرأت قصيدتي : والأرض تبكي وتنتحب المنشورة هنا في الواحة )
إلى لقاء فاللقاء معك له طعم خاص

سعيد أبو نعسة
01-07-2007, 04:48 PM
أخي الكريم محمد الحامدي
جمالية القصة تكمن في رمزيتها التي ربما لم تصل إلى ما استنتجه الأخ خليل حلاوجي .
هكذا هو الأدب حمّال أوجه
سرد مشوق ماتع أعادني بالذكرى إلى مشاهد من قفصة يوم كانت أقرب إليّ من بلد كنت أعيش فيه غربتي الثانية .
دمت مبدعا

محمد الحامدي
01-07-2007, 06:54 PM
شكرا أخي أسعد ... أما الرمزية ... فكل همي أن تكون وحدة الدلالة في القصة هي أحداثها وبقية عناصر القص فيها .. لا اللغة ... أقصد الحدث في القص هو حامل الدلالة ( سواء رمزية أم غير ذلك : فلنا في ذلك رأي نعود إليه لاحقا ) لاأن تكون المفردات والصور والخيال ... هذه غايتي . أما ما ذهب إليه الأخ خليل فهو وجه من وجوه القراءة فقط ... قد لا أكون قصدته وقد أكون قصدته هذا غير مهم المهم أن القصة تتيح تلك القراءة .. ماإن يخرج النص من بين أصابع كاتبه حتى يصبح ملكا مشاعا للقارئ يفهمه كما يشاء . ويستخدم معه أدوات القراءة التي يشاء على أن تكون تلك القراءة في النص لا فيما حوله وعلى ألا ينطقه بما لا يحتمل ...
شكرا ..

جوتيار تمر
02-07-2007, 09:23 PM
الحامدي...
هذا هو النص الثاني الذي اقرأه اليوم عن الجمل...في الاول تعلمت منه بان الجمل لايعرف الغيرة فقط انما الحقد ايضا، وفي هذه تعرفت على نظرة الناس في البادية الى الجمل،وكيف يتعاملون معها.
والغريب اني في المرتين ادركت ان الجمل لايمثل الجمل بما هو جمل،انما لايمثل الواقع الذي يعيشه الناس حيث سرى الحدث، وهذه الحوارية التي قرأتها لك هنا بين الاب والابناء والام ربما هي تحكي لنا عن امور نتجاهلها عمدا، وربما لاننا بالفعل لانعيها على حقيقتها.
أي كان الامر فالنص جاء مفعما بالحيوية منذ البدء لنهايته، جاء معبرا عن حالة ربما تثير الكثير من الاحتمالات في القارئ، فبين من يرى بان الجمل يمثل الانسان الخاضع المطيع لسيده، وما ان يتمرد يكون نهايته كنهاية الجميل.
وبين من يرى بان التعامل مع الجمل جاء وفق مفهوم مسبق مستنبط من الاحاديث او المآثر، لذا كان الامر مله اشبه باداء دور وعندما لم ينجح في اداء دوره كانت المهاية معلومة وسريعة ولاتحتاج الى تفكير.
وربما يرى اخر بان اسئلة الاطفال جاءت موافقة لسير احداث القصة والحياة اليومية للانسان، بحيث يخضع القوي في عقله وادراكه لسلطة المال او الحكام مثلا.

انها احتمالات وربما تزيد عن ما ذكرت بكثير...لكني اوجزت هنا.
النص عمل ادربي راقي جدا فيه من التلميحات الكثير، وفيه من التمازج بين بين الحياة في البادية..والرؤية الناصحة للاشياء وربما الرؤية الاخرى الاكثر اجمالا للحياة.
دمت بخير
محبتي لك
جوتيار

محمد الحامدي
02-07-2007, 09:52 PM
مرحبا أخي جوتيار ... أوافقك فيما قلت تماما .. فالقصة قطعة من الحياة ... والكاتب يقص من سير الحياة مشهدا يعرضه على قرائه من بعد ما يعمد إلى إضاءة بؤر معينة يحاول أن يوجه الترميز أو الدوال إليها بأن يكثفها حول تلك البؤرة ... وهكذا تنفتح أبواب القراءة وكل يقرأ في القصة ما تتيحه له أدواته ... وفي كل قراءة أو اختلاث بعث جديد للعمل وإنما بذلك يحيا ويعيش ...
دمت بخير وإلى لقاء

ناديه محمد الجابي
17-12-2016, 07:59 PM
يافرحة ما تمت أخذها الغراب وطار
من عبق البادية جاءت هذه القصة اللطيفة بسرديتها المتماسكة ورمزيتها الرائعة
نص رائع ـ بسيط جدا، عميق جدا ـ قصة معبرةبأسلوب متميز فيه إبداع
كل تقديري ـ وبالغ امتناني. :001: