تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : الراس



ياسر عبدالباقي
03-07-2007, 07:01 PM
الرأس
ياسر عبدالباقي*

أخفاك والدك في سلة من القش ورماك في النهر. هكذا بدأت تحدثني أمي , بصوتها الهادئ الجميل , أردت أن أتفوه بشيء إلا أني عجزت . بقي ثغري مفتوحاً بدهشة ممزوجة بعدم التصديق , وسألتها :
وأنت من تكونين ؟
ابتسمت , ووضعت يدها على ذقني بلطف وتمتمت :
أنا امرأة عجوز , أخذت على عاتقي أن أربيك وأجعلك أفضل رجال قريتك , ها أنت لم تبلغ بعد العشرين , لكنك أقواهم وأشجعهم .
قلت غير مصدق :
لم أشعر يوماً أنك لست أمي , لماذا أبي رماني في البحر.
نظرت إلى وجهي طويلاً , وكأنها تتفرس وجهي , ثم نهضت فجأة , ودخلت المطبخ وأحضرت وعاءً مليئاً بالدقيق , وقالت بصوت حزين ويدها تدلك الدقيق بالماء :
ليحميك من الثأر , بني هي قصة طويلة مؤلمة , قبل عشرين سنة كانت هناك عائلتان في القرية المجاورة لنا , كل عائلة تكره الأخرى . إحدى هذه العائلات هي عائلة والداك ، عائلة ذات نفوذ وقوة والعائلة الأخرى كانت ضعيفة جدا , وطمعت العائلة الغنية بأرض العائلة الأخرى , وحدث بينهم اقتتال و..
وسكتت أمي العجوز وراحت لتحضر الماء وتصبه على الدقيق وكنت أراقبها , والقلق قد تملكني, قالت وهي تنظر إلى الدقيق :
ستصبح العصيدة التي تحبها جاهزة بعد دقائق .
لم أعد أحتمل الانتظار فصرخت :
ماذا حدث بعد ذلك يا أمي .
نظرت إلي مبتسمة , ابتسامتها التي تشعرني بالدفء والاطمئنان , قالت : فقدت العائلة الفقيرة كل شيء , قتل أبناؤها الصغار الثلاثة , والزوج , أما الزوجة فإنها استطاعت الهرب.
قدمت لي أمي العصيدة :
كلًّ يا ابني العزيز.
ثم تابعت تقول ورأسها إلى سقف البيت :
أنت أخفاك والدك في سلة من القش ووضعك بالقرب من النهر, حتى لا يقتلوك .
هتفت بذهول :
ولماذا لم يخفِ إخوتي معي .
قدمت وجهها نحوي وقالت بصوت محشرج ومؤلم :
ألم تفهم بعد ؟ ! أنت ابن العائلة الغنية الوحيد. لقد أخفاك والدك حتى لا يصل إليك أحد .
كادت العصيدة أن تخنقني , تحركت في مكاني , وقلت في كلمات متلعثمة : يا الله .. أنا ..
بقيت جالساً في مكاني. كانت الصدمة قوية , بدأت أشعر بصعوبة التنفس والجفاف في حلقي , توقفت عن أكل العصيدة ورحت أشرب الماء بكثرة , وكانت أمي واقفة ووجهها نحو جدار .. سألتها والكلمات تخرج من فمي بصعوبة :
لماذا إذاً لم تأخذيني إلى أبي .
قالت وفي صوتها رنة غريبة لم أسمعها من قبل :
لقد أقسمت الأم بالانتقام .
أعدت إليها السؤال وكانت الكلمات تتحشرج في حلقي :
لماذا .. لم تأخذيني إلى أبي.
استدارت وتقدمت راكضة نحوي , وكاد وجهها يلتصق بي , أخافني شكلها وأخافتني وهي تتكلم , كانت تقذف الكلمات على وجهي :
كل يوم ومثل هذا الوقت يذهب والدك للبحث عنك في النهر , كانت الأم تراقبه وتتلذذ وهي تراه يبكي ويتعذب , لقد أقسمت بدماء أولادها وزوجها بالانتقام .
أحسست بأن جسدي كله مقيد لم أستطع التحرك , وكأن الشلل قد أصابني, أردت أن أتكلم , لكن فمي بقى مفتوحاً دون أن أتفوه بكلمة واحدة .
قالت وهي تنظر إلى العصيدة :
إن العصيدة طعمها اليوم مختلف جداً.
وضحكت.
وسقط جسدي على الأرض , حاولت أن أجر نفسي إلى خارج البيت , لكني لم أستطع . بقيت في مكاني وكأني مقيد بجبل , سمعتها تقول :
أكثر مما تتمنى الأم , وهي ترى وجه والدك وهو يرى جثه ابنه بين ذراعيه.
أدرت عنقي نحوها بصعوبة , شاهدتها تذهب بخطوات ثقيلة إلى الدولاب وتخرج منها لفافة قماش قديمة , كنت قد سألتها منذ سنوات :
ماذا تخفين في هذه اللفافة يا أمي, ابتسمت لي ابتسامة ساحرة, قبلتني وقالت: إنها هديتك, عندما تكبر سأعطيك إياها.
ها هي الآن, تفرش اللفافة أمامي وتسحب منها هديتها لي . سيف طويل ,التمعت عيناها على صفيحة السيف , وتقدمت مني بنفس الخطوات البطيئة, حيث كنت جالساً عاجزاً عن الحراك , سوى عيني أتحكم بهما ,رأيتها ترفع السيف عالياً , حاولت أن أحرك جسدي بعيداً عن السيف, لكن جسدي المشلول , قيدني في مكاني , توسلت إليها بعيني أن تبقيني حياً , وجهها كان متجهماً , حدقت بي للحظات بقسوة , ثم.. هوى السيف للأسفل, وتدحرج رأسي في الغرفة مبعثراً العصيدة.





اليمن/

د. محمد حسن السمان
03-07-2007, 08:28 PM
سلام الـلـه عليكم
الأخ الفاضل الأديب ياسر عبد الباقي

" الرأس " قصة جميلة , تتراوح بين أدب الواقعية والفنتازيا القصية , فالبناء بدأ بسهولة وتشويق , وبلغة ذات مستوى عال , ثم استمر البناء بتشويق روائي , يرسم صورا حميمية بين الأم وابنها , ليرفع التوتر بفتح باب التفكير والخيال أمام القارئ , ثم جاءت النهاية غير متوقعة , بشكل يخالف المنحى النفسي والتقليدي , ليقدم رمزا للأم وقد تملكها ألم الماساة , فتتحجر بقسوة منافية لشعور المرأة الأم المربية , لتحمل سيفا , وهو أحد المفاتيح الرمزية في القصة , وهو سيف الثار المسلط على الرقاب , لتضرب به عنق الفتى الأبن , بتراجيديا تعكس معاناة ظاهرة الثار , باسلوب لافت جدا .
والقصة قوية مؤثرة , محكمة الحبك , وتقدم رسالة مجتمعية هادفة .
تقبل احترامي وتقديري

أخوكم
د. محمد حسن السمان

جوتيار تمر
03-07-2007, 11:16 PM
المبدع ياسر عبد الباقي..

قدرة فائقة على السرد، وعلى الحفر في واقع انساني متفجر بمآسيه ،وبما تحمله الارادة الانسانية على التحدي والتجاوز بغض النظر عن السبل والطرق المؤدية لهذا التجاوز والتحدي،وبالرغم من اختلاف املاءات الواقع، القصة اتت تؤكد لنا هذه الفكرة ، وربما عالجت في طياتها احدى المشاكل التي بقيت ترافق الوجود الانساني في مجتمعاتنا، من حيث بقاء نقمة ولعنة الثأر، وقد ابدعت في استغلال الرمز من اجل الابقاء على التناسق المطلوب للفكرة من حيث الوصول الى لحظة الذروة في الانفعال الداخلي للشخوص..بالاخص بين العواطف التي تناثرت بين الام والابن، ولقد اعجبتني النهاية لكونها كسرت النمط التراجيدي التقليدي بحيث اتت مغيرة لسير الاحداث تماما.
النص يؤكد لنا قدرتك الفائقة على السرد والجمل بين الخيال والواقع في صورة تلاحمية مميزة.
محبتي لك
جوتيار

صبيحة شبر
03-07-2007, 11:25 PM
قصة قد نسجت احداثها بعناية للتدليل على عادة الثأر
التي ما زالت سارية في مجتمعاتنا العربية
كنت وانا اقرا القصة أتوقع ان المرأة المربية سوف لن تقوم بما قررت القيام
به من اجهاز على حياة من ربته وان تحاول غرس بذور الكراهية من الأب الحقيقي
في نفس الابن ، ولكن خاب ظني ، لان عادة الثار متمكنة في ريفنا بشدة
قصة ناجحة ، كتبت باسلوب مميز

خليل حلاوجي
05-07-2007, 02:51 PM
مرحبا بالاديب العزيز الاستاذ ياسر عبد الباقي

الحقيقة ان سر نجاح الاسلام كان يتمثل في احد جوانبه ... في نجاح المصطفى بانشاء وعي جديد يستبدل به الناس ثقافة الثأر بمنهج القصاص ... الذي سماه القرآن .. حياة


ولكننا اليوم ... أضعنا هذا المنظور المجدي وغرقنا بدم قسوتنا

\

بالغ التقدير

د. نجلاء طمان
08-07-2007, 02:11 PM
الأديب الرائع: ياسر عبد الباقى

"الرأس " عنوان لافت مميز وصفعة على وجه التقاليد البالية المستشراه كمرض سرطانى رهيب فى أجساد بعض العناصر. المدخل الإفتتاحي كان رائعا , وتدرج البناء الحبكى فى روعة حتى وصل الى نهاية غير متوقعة, أتت كصدمة قوية للمتلقى لكنها كانت لازمة جدا لزم صفة عقيمة أراد الكاتب التنفير منها, وهى الثأر. امتلك القاص الخيط الحبكى برغم من تناوله نوعين من الحكاء الفنتازي مع الواقعي, لكن مال الحوار كثيرا الى المسرحية التى لم تكن مناسبة هنا. أما غوص الكاتب فى نفسية الأم المربية فكان فوق حدود الروعة, والعجيب هنا كيفية تحمل الأم الحاملة لفيروس الثأر القاتل داخل مخها ودمها- كيفية تحملها لتربية ابن عدوها كل تلك السنوات , فأحبها كأمه, وأحبته كإبنها فى شكل مرضى عجيب. أما قتلها له فى النهاية فكان مفرزا لجميع مشاعر القسوة المرضية لها, ومستثيرا لمشاعر المتلقى المنفرة من موقفها ومن مرض الثأر القاتل لبراءة نفوس كثيرة. " الرأس"واسقاط اجتماعى ناجح لقضية من أهم القضايا فى كل الأوطان .

شذى الوردة لهذا الرقى.

د. نجلاء طمان

علاء الدين حسو
08-07-2007, 03:07 PM
ما هذا الحقد الذي يحول حنان الام الى جلاد ..هو الثأر اذا يدعمه الجهل والتخلف ..سلمت اخي المبدع على نص وجه لنا طريقة اخفاء الرضيع بان هذه العادات ممتدة عبر التاريخ ومتكررة ومازالت ..

نص يندد بقوة فهل من اذن صاغية ؟ شكرا ..

سعيد أبو نعسة
10-07-2007, 05:08 PM
أخي الكريم ياسر عبد الباقي
قصة مشوقة صيغت بأسلوب جذاب ماتع رسم لوحة عربية بامتياز رغم بروز الثأر فيها كبعد أول بغيض .
أهم عنصر في بناء الحبكة أن تكون متماشية مع ما وقر في ذهن القارئ من مسلمات و منطق و هنا كانت النهاية غير متوقعة سرديا و واقعيا فلا يعقل أن تمثل الأم المربية هذا الدور الشرير طيلة عشرين عاما و لا يلحظ الإبن منها أي نأمة تفضح مراميها . لذا فهذه الفكرة بحاجة إلى إعادة نظر حتى تستقيم القصة .
دمت مبدعا

آمال المصري
24-05-2013, 03:21 PM
الرأس ...
ومازالت عادة الثأر من سمات بعض المجتمعات
نص توافرت فيه كل عناصر القصة بسرد ماتع شائق وتصاعد للأحداث يأخذنا لنهاية مباغتة غيرت مسار النص
بوركت أديبنا الفاضل واليراع الجميلة المبدعة
ومرحبا بك في واحتك
تحاياي

فائز حسن العوض
30-05-2013, 05:22 PM
الأستاذ الأديب المبدع /
ياسر عبد الباقي أعجبتني قصتك وأدهشتني بك معاني الكلمة
سأظل أحفظ اسمك لأقرأ لك، كما أتنبأ لك بمستقبل في فن القصة
ويوماً ما وقريب جداً سيشار إليك بالبنان إذا سرت بهذه الخطوات .
أشكر قلمك المبدع حد الدهشة .

ناديه محمد الجابي
28-03-2014, 07:10 PM
قصة رهيبة .. مخيفة .. مؤثرة .. قوية السرد
قصة جمعت بين شد الإنتباه ببراعة ولغة شيقة
وتشويق وإثارة ووصف باهر
بين الواقع والخيال تناولت القصة قضية الثأر البغيضة
نص شائق منحني قراءة ممتعة.

ربيحة الرفاعي
12-04-2014, 09:18 PM
بدءا من العتبة الأولى كان النص موفقا في شد القارئ لحبكة قويّة وبناء درامي تصاعد فيه الانفعال وتصاعد معه التفاعل وصولا للصاعقة في سيف الثأر المرفوع بيد الأم ليزيح رأس ابنها في مشهد عنيف حمل الرسالة بوضوح انتصر على رمزية السيف وفانتازيا القص.
العرض القصي للصراع ببعدية الجوّاني والبرّاني كان جميلا

جميل حرفك وماتع

دمت بخير

تحاياي

خلود محمد جمعة
14-04-2014, 06:25 PM
الراس
الذي يحفظ الحقد كصندوق مصفح بلا اكسجين ليتنفس الطلمة والحقد
سلاسة في السرد وعمق في الموضوع وتكثيف في الطرح
اسجل اعجابي
دمت بخير
مودتي وتقديري

نداء غريب صبري
11-06-2014, 12:30 AM
العنوان جذبني
والبداية كانت مشوقة
والقصة كانت متسارعة رغم بساطة أحداثها

قصة جميلة
امتعتني قراءتها

شكرا ك أخي

بوركت